الصفحة 109
وما لم نفعله، ليبغّضونا الى الناس، وكان عُظم ذلك وكبره زمان معاوية بعد موت الحسن(عليه السلام)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نهب ماله، أو هُدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد الى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين(عليه السلام)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنّة، وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال: شيعة عليّ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صادقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع (1).

إنّ هاتين الوثيقتين المهمتين تكشفان عن حال الشيعة في العصر الاُموي، إلاّ أنّ سقوط الدولة الاُموية بعد أكثر من قرن وربع من الزمان، وقيام الدولة العباسية، لم يكن بأقلّ شدّة وسوءاً على الشيعة، فإنّ العباسيين الذين قاموا بثورتهم على الاُمويين باسم الدعوة للرضا من آل محمد(صلى الله عليه وآله)، سرعان ما كشفوا عن نواياهم في الاستئثار بالسلطة التي تحولت الى امتداد للملك الاُموي، فقلبوا لأهل البيت(عليهم السلام)ظهر المجن وهم أبناء عمومتهم، إذ إنّه وبعد فترة

____________

1- شرح نهج البلاغة: 11/43.


الصفحة 110
وجيزة من الانفراج في أواخر عهد الاُمويين وبداية عهد العباسيين، تنفّس فيها أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم قليلاً من نسائم الحرية، سرعان ما أحسّ العباسيون ـ وبخاصة في زمن المنصور ـ بخطورة اتساع قاعدة التشيع، بسبب التفاف الجماهير حول أهل البيت(عليهم السلام)عندما بدأوا يلمسون تنكّر العباسيين لمبادئهم المعلنة، وراحوا يقتفون أثر الاُمويين في الطغيان والارهاب على سبيل تدعيم ملكهم الغاشم، فبدأُوا بالتضييق على أئمة أهل البيت(عليهم السلام)وشيعتهم، مما أدى الى قيام انتفاضات شعبية تزعّمها عدد من السادة العلويين، من بينهم محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية، والذي أشار في رسالة بعثها الى الخليفة العباسي المنصور الى الاُسلوب الذي اتبعه العباسيون في استلاب حقّ آل البيت عن طريق إعلان الثورة على الاُمويين باسمهم ثم الاستئثار بالسلطة دونهم، فكان ممّا قال فيها:... فإنّ الحقّ حقّنا، وإنّما ادّعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإنّ أبانا عليّاً كان الوصيّ وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللّعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بني هاشم بمثل الذي نمتُّ به من القرابة والسابقة والفضل... إنّ الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين

الصفحة 111
محمد(صلى الله عليه وآله)، ومن السلف أوّلهم إسلاماً علي، ومن الأزواج أفضلهنّ خديجة الطاهرة، وأوّل من صلّى القبلة، ومن البنات خيرهنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة(1).

وعندما خاب المنصور بالظفر بالنفس الزكية، وجّه سهام حقده الى أهله وعشيرته الأقربين، وقد وصف الجاحظ ما فعل المنصور بهم، فقال: ومضى المنصور ببني حسن الى الكوفة فسجنهم بقصر ابن هبيرة، وأحضر محمد بن إبراهيم بن حسن وأقامه، ثم بنى عليه اسطوانة وهو حيّ، وتركه حتى مات جوعاً وعطشاً ثم قتل أكثر من معه من بني حسن، وكان إبراهيم الغمر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فيمن حُمل مصفّداً بالحديد من المدينة الى الأنبار، وكان يقول لأخويه عبدالله والحسن: تمنّينا ذهاب سلطان بني اُمية، واستبشرنا بسلطان بني العباس، ولم يكن قد انتهت بنا الحال الى ما نحن عليه(2).

وبعد فشل ثورة النفس الزكية ومقتله في المدينة، ومصرع أخيه إبراهيم بن عبدالله الذي ثار في البصرة وقُتل في باخمرى

____________

1- تاريخ الطبري: 7/567.

2- النزاع والتخاصم: 74.


الصفحة 112
قرب الكوفة في الوقعة التي أسماها الناس: بدر الصغرى(1).

واستمرّت الثورات ضد العباسيين، ففي عهد المهدي بن جعفر المنصور، خرج عليّ بن العباس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب [(عليهم السلام)]، ولكن المهدي نجح في القبض على الثائر العلوي، ثم أطلق سراحه بشفاعة الحسن بن علي له، ولكنه دسّ له السم في شربة عسل، فعملت فيه، فلم يزل ينتقض عليه في الأيام حتى قدم المدينة، فتفسّخ لحمه، وتباينت أعضاؤه، فمات بعد دخوله المدينه بثلاثة أيام(2).

وفي عهد الخليفة موسى الهادي خرج الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام) ثائراً، وانتهت ثورته بمصرعه في فخ، وهو المعروف بشهيد فخ.

وعندما تولى الرشيد الحكم بعد الهادي، ألقى القبض على يحيى بن عبدالله بن الحسن، فبنى عليه اسطوانة وهو حيّ(3).

وعندما تولى المأمون بن الرشيد الحكم تظاهر بمحبة العلويين، ودعا الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) وأسند إليه ولاية

____________

1- مقاتل الطالبيين لأبي فرج الاصفهاني: 365.

2- المصدر السابق: 403.

3- مقاتل الطالبيين: 403.


الصفحة 113
العهد قسراً، ثم دسّ له السَّم فمات منه.

وتوالت أعمال العباسيين الفظيعة تجاه أئمة الشيعة، وتجاوزوا الأحياء الى الأموات، حين كرب المتوكّل قبر الحسين(عليه السلام)وأغرقه بالماء، ومنع الناس من زيارته، وأقام المسالح(1) على طريقه للقبض على كل من تسوّل له نفسه بزيارة قبر الإمام الحسين(عليه السلام).

واتّبع المتوكل سياسة التجويع مع أهل البيت(عليهم السلام)، فقد استعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج، فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس، ومنع الناس من البرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ، إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقّعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر(2).

وعندما قام المستعين بالأمر قتل يحيى بن عمر بن الحسين، الذي قال فيه أبو الفرج الإصفهاني: وكان (رضي الله عنه) رجلاً فارساً شجاعاً شديد البدن، مجتمع القلب، بعيداً عن رهق الشباب وما يُعاب به مثله. ولما اُدخل رأسه الى بغداد، جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له. ودخل أبو هاشم على محمد بن عبدالله بن طاهر، فقال:

____________

1- نقاط تفتيش مسلّحة.

2- مقاتل الطالبيين: 403.


الصفحة 114
أيها الأمير، قد جئتك مهنّئاً بما لو كان رسول الله حياً يعزّى به! وأدخل الاُسارى من أصحاب يحيى الى بغداد، ولم يكن رؤي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً، فمن تأخّر ضربت عنقه(1).

لم ينعم الشيعة بشيء من الراحة والأمان على مدى قرون عديدة حتى جاء البويهيون في سنة (320 هـ)، فتولوا مقاليد السلطة في بعض أرجاء الدولة الإسلامية، وكانت سيرتهم حسنة جداً، وازدهرت الثقافة في عصرهم، حتى إذا جاء السلاجقة واستولوا على بغداد سنة (447 هـ)، قام زعيمهم طغرل بك باحراق مكتبة مرجع الشيعة وزعيمهم الشيخ الطوسي(رحمه الله) وكرسيّه الذي كان يجلس عليه للتدريس، وأحرق المكتبة التي انشأها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة البويهي، وكانت من دور العلم المهمة في بغداد، بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة (381) هـ على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد، وكانت مهمة للغاية، وقد جمع فيه هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق، واستكتب تآليف أهل الهند والصينوالروم،ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار، وأكثرها

____________

1- مقاتل الطالبيين: 403.


الصفحة 115
نسخ الأصل بخطوط المؤلفين، وكان من جملتها مصاحف بخط ابن مقلة(1).

ووصفها ياقوت الحموي قائلاً: ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة واُصولهم المحررة(2).

وفي عهد العثمانيين لم يكن الأمر أقلّ ضرراً على الشيعة، فقد كان تناهى الى مسامع السلطان سليم العثماني أنّ بعض تعاليم المذهب الشيعي قد انتشرت بين رعاياه، وقد تمسك بها بعض الأهالي، فأمر السلطان سليم بقتل كلّ من يدخل في هذه الشيعة(3). فقتلوا نحو أربعين ألف رجل، وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنه يؤجر على قتل الشيعة واشهار الحرب ضدهم(4).

وقد ذهب آلاف من الشيعة في مذبحة اُقيمت لهم في مدينة حلب بفتوى أصدرها الشيخ نوح الحنفي في جواب من سأله عن السبب في وجوب مقاتلة الشيعة وجواز قتلهم، قال: اعلم أسعدك الله أنّ هؤلاء الكفرة والبغاة الفجرة جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد وأنواع الفسق والزندقة والالحاد، ومن توقف في كفرهم

____________

1- خطط الشام 3/185، الكامل في التاريخ: 10/3.

2- معجم البلدان: 2 /342.

3- كذا في المصدر.

4- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر: 1/244.


الصفحة 116
وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم فهو كافر مثلهم.. (الى أن قال): فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفّار تابوا أو لم يتوبوا. وحكم باسترقاق نسائهم وذراريهم(1).

هذا غيض من فيض ممّا لقيه الشيعة على مرّ تاريخهم من الاضطهاد والقهر، أوردناه على وجه الاختصار، للكشف عن بعض الأسباب التي دفعت بالسلطات الحاكمة ومن يلفّ لفَّها الى تشويه صورة الشيعة في أذهان الناس، لأنّ الشيعة كانوا على مرّ التاريخ شوكة في أعين سلاطين الجور والحكام الظالمين، كما وأنّ ذلك يعطينا فكرة عن المقدمات التي أدت الى تفرّق الشيعة في بعض الأحيان تبعاً لهذه الظروف الضاغطة ممّا كان يؤدي بالكثير منهم الى الوقوع في الحيرة، الأمر الذي كان يهىّء الظروف المؤاتية لنشوء بعض الفرق المنحرفة عن خط التشيّع الأصيل، والذي كان في بعض الأسباب الموجبة لنشوئها دخول بعض المنحرفين والمشبوهين في صفوف الشيعة وإظهار بعض المقالات الفاسدة وإلصاقها بالتشيّع بهدف تشويه صورته أمام

____________

1- الفصول لمهمة في تأليف الاُمة للسيد عبدالحسين شرف الدين: 195 ـ 196، عن الفتاوى الحامدية: 1/ 104، تاريخ الشيعة للشيخ المظفر: 147، التقية في فقه أهل البيت: 1/51.


الصفحة 117
الناس بما يتيح الفرصة للحكام الغاشمين وأعوانهم في القضاء على هذا الخطّ الإسلامي الثوري الأصيل، الذي يريد المحافظة على القيم الإسلامية التي جاء بها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وتولّى حفظها وصيانتها أهل بيته الطاهرون الذين اعتبرهم الرسول(صلى الله عليه وآله) أعدال القرآن وقرناؤه.


الصفحة 118

الصفحة 119

الفصل الرابع
مسيرة التشيّع


لقد أدرك أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بعد استشهاد الحسين(عليه السلام)، أنّ من بقي من الشيعة ـ بعد ذهاب الجيل العقائدي الأوّل ـ لم يصلوا إلى مرحلة من النضج في العقيدة تؤهّلهم للقيام بدورهم المطلوب، وتحمّل التضحيات الجسيمة التي يتطلبها ذلك، فانصرفوا إلى مرحلة جديدة تتولى تثقيف هؤلاء الشيعة، وترسيخ العقيدة في نفوسهم وحمايتهم من الخطوط المنحرفة، التي بدأت تغزو الساحة الإسلامية في ظلّ حكم الاُمويين، فبدأ الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام)هذه المهمة عن طريق بثّ التعاليم الإسلامية الحقيقية، ومحاولة الحفاظ على المسار الصحيح للإسلام، والسنّة النبوية الشريفة، إلاّ أنّ صعوبة الظروف التي تلت استشهاد الامام الحسين(عليه السلام)، وتضييق

الصفحة 120
الاُمويين الخناق على الشيعة ورصد تحركات أهل البيت(عليهم السلام)، جعلت مهمته صعبة بعض الشيء، حتى إذا تولى الإمامة إبنه محمدبن علي الباقر (عليه السلام)، كانت الاُمور قد انفرجت قليلاً، وبدأت قبضة الاُمويين بالارتخاء بعض الشيء ممّا مكّن الإمام من نشر العلوم الإسلامية عن طريق الالتقاء بالشيعة بشكل أكثر من ذي قبل، حتى إذا حان عصر إمامة ابنه جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)كانت شمس دولة الاُمويين قد آذنت بالمغيب، وكان انشغال الاُمويين باخماد الثورات الداخلية وظهور خطر العباسيين قد أتاح فرصة جيدة للإمام الصادق(عليه السلام)للبدء بحملة واسعة لبث العلوم الإسلامية، فكان يجلس في المسجد النبويّ ويأتيه طلاب العلم من مختلف البلاد حتى بلغ عدد تلاميذه الاُلوف، وكانت تلك فرصة جيدة للشيعة للالتقاء بالإمام والانتهال من علوم أهل البيت(عليهم السلام)، وبثّها في مقابل ما كان يفعله أتباع المدرسة الاُخرى في بث الانحراف الذي نشره الاُمويون في الشريعة.

لقد كان الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) قد قرّروا الابتعاد عن الثورة المسلّحة للاطاحة بأنظمة الحكم المنحرفة، بسبب قناعتهم أن الشيعة في تلك المرحلة لم يكونوا على درجة كافية من الوعي

الصفحة 121
المطلوب، لتحمّل مسؤولية الثورة والحفاظ عليها، وما يترتب على ذلك من تضحيات، فكان الانصراف للتوعية والتثقيف أكثر أهمية من الثورة غير المتكاملة الشروط، وقد تأكّدت صحة هذا الرأي عند قيام زيد بن عليّ بثورته المسلّحة على الاُمويين والتي انتهت بمقتله، بعد أن تخلى عنه أهل الكوفة، كما تخلّوا عن آبائه من قبل، ممّا يؤكد أنّهم لم يكونوا على درجة من الوعي كافية لتحمل أعباء الثورة.

لقد تحقق الانفراج النسبي في بداية قيام الدولة العباسية، وكانت تلك الفترة مؤاتية بالنسبة للشيعة لتلقي العلوم الإسلامية من أئمة أهل البيت(عليهم السلام)،وبخاصة من الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) الذي سمّي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) باسمه (المذهب الجعفري). إلاّ أنّ ذلك الانفراج قد بدأ بالاُفول من جديد بسبب قلق العباسيين من ميل الناس إلى أهل البيت(عليهم السلام)، خاصة بعد ما تكشف زيف الدعوة العباسية، التي قامت أساساً في ظاهرها على الدعوة إلى الرضا من آل محمد.

ولمّا انكشف للناس زيف دعواهم وخافوا من انقلاب الناس والثورة عليهم تحت راية أهل البيت(عليهم السلام)، بدأُوا يشددون الخناق

الصفحة 122
على أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم، وقمعوا بقسوة جميع الثورات التي قام بها بعض السادة العلويين، وشدّدوا الخناق على الشيعة وراقبوا أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) مراقبة شديدة حتى أودعوهم السجون سنوات طويلة، كما فعل الرشيد مع الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام)، أو فرضوا الحجر عليهم من خلال فرض الإقامة الجبرية عليهم في عاصمة الدولة العباسية، بعد حملهم من منازلهم في المدينة المنورة، كما حدث لباقي أئمة أهل البيت بدءاً بالإمام الرضا(عليه السلام)، وانتهاءً بالإمام الهادي والحسن العسكري(عليه السلام).

لقد كانت تلك الفترة عصيبة جداً، حيث لم يكن باستطاعة الشيعة الالتقاء بأئمّتهم(عليهم السلام)بحرية تامة، بسبب الأرصاد التي وضعها العباسيون عليهم، وقد استمرت تلك الفترة حتى واغتيال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، حيث جدّ العباسيون في الوقوف على خبر ولده المهدي(عليه السلام)، الذي غاب عن الأبصار بتدبير ربّاني، واستمرت غيبته الاُولى مدة قاربت السبعين عاماً وكان الاتصال بينه وبين شيعته يتمّ عن طريق وكلائه الأربعة الذين تناوبوا على الوكالة، حتى وقعت الغيبة الكبرى، وأصبح الفقهاء هم مراجع الشيعة علمياً ودينياً وسياسياً بعد أن أرسى الأئمة الأطهار(عليهم السلام)قواعد هذه المرجعية الشامله بشكل كامل.


الصفحة 123

الفرق الإسلامية وانحرافات الغلاة:

لم تكن مسيرة التشيّع خالية من العقبات والمصاعب، إذ إنّ تضييق السلطات على الشيعة وأئمتهم ـ كما مرّ ـ واضطرارهم للتقية إبقاء على أنفسهم، وعدم قدرة الأئمة على التصريح بكلّ الحقائق دائماً وبشكل علني ـ نتيجة للرقابة الحكومية الشديدة ـ خوفاً على شيعتهم من الملاحقة والاضطهاد، قد أدى الى وقوع بعض الشيعة أحياناً في الحيرة والارتباك، وقد استغلها بعض أصحاب النفوس المريضة والأهداف المشبوهة، بالإضافة الى أسباب اُخرى كجهل بعض العوام، ممّا أدى الى ظهور خطوط منحرفة عن المسيرة الصحيحة للتشيع، تماماً كما حدث لباقي المسلمين، حيث ظهرت فرق الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة وغيرها بسبب اختلاف المسلمين في تأوّل بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، فضلاً عن الدور الخطير الذي لعبه بعض المتمسلمين من أهل الكتاب والديانات الاُخرى وإدخالهم الاسرائيليات وبثّها بين المسلمين، الى جانب انتشار الوضع في الحديث، والذي تفاقم بعد ظهور هذه الفرق حيث كان بعض أفرادها يضع الأحاديث ويتأوّل الآيات انتصاراً لمذهبه، مع تطرّف البعض في دعواه، واعتقاد أنّ فرقته هي الفرقة

الصفحة 124
الوحيدة المحقّة وأنّ باقي الفرق كلّها في ضلال.

وانطلاقاً من هذا الاُفق الضيّق قام بتكفير جميع المسلمين وأباح أعراضهم بالسيف وقَتلَ الذريّة وسبى النساء، واشتدّت المعارك الكلامية أيضاً بين هذه الفرق، وأدى التعصب البغيض الى اختلاط الكثير من المفاهيم والتباس المصطلحات ممّا أدّى الى تسمية البعض باسماء لا تليق به.

وقد عانى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) أشدّ المعاناة من هذه المسألة، حيث اُلحقت كثير من الفرق وأصحابها من ذوي الاعتقادات الفاسدة، بالمذهب الحقّ، لا لسبب إلاّ لأنّ بعض هذه الفرق كانت تنتحل الولاء لأهل البيت(عليهم السلام)، رغم مخالفتها لمبادئهم بشكل كلّي، ومن هؤلاء فرق الغالية التي نسبت الى الأئمة(عليهم السلام) ما لا يقرّه الشرع والعقل ولا الأئمة أنفسهم، وقالوا فيهم ما لم يقولوا هم في أنفسهم.

وكان السبب في نسبة هؤلاء الى التشيع تظاهرهم بالتمسّك بمذهب أهل البيت(عليهم السلام)، رغم عقائدهم المنحرفة التي نشأت نتيجة الغلوّ وفي ظروف خاصة من القمع والقهر لأهل البيت(عليهم السلام).

لقد أدت هذه الأسباب مجتمعة بالإضافة الى أسباب اُخرى منها الصراع على السلطة الى خلط في المفاهيم، كان من نتيجتها تضارب كبير في أقوال المؤلفين في الفرق، وبخاصة فيما يتعلق

الصفحة 125
بالشيعة، حيث إننا لا نكاد نجد اتفاقاً بين هؤلاء المؤلفين حول عدد فرق الشيعة، فبعضهم يقلل العدد الى ثلاث فرق وآخر يربو بهم عن العشرين فرقة وهكذا دواليك. وبعض هذه الفرق لا وجود لها أساساً، وبعض المؤلفين جعل من بعض الأفراد فرقاً، فالشهرستاني مثلاً يخترع فرقاً للشيعة باسم الهشامية واليونسية والزرارية نسبة الى هؤلاء الأشخاص مع كونهم أفراداً لم يُعرف أنّ لهم فرقاً قائمة بذاتها لها نظرياتها الخاصة بها، وبعض المؤلفين يدفعه التعصب لمذهبه الى الحطّ من الآخرين وتجريدهم من كلّ فضل أو علم، كالبغدادي مثلاً الذي يقول: ولم يكن ـ بحمد الله ومنّه ـ في الخوارج، ولا في الروافض، ولا في الجهمية، ولا في القدرية، ولا في المجسّمة، ولا في سائر أهل الأهواء الضالة، إمام في الفقه ولا إمام في رواية الحديث ولا إمام في اللغة والنحو، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتاريخ ولا إمام في الوعظ والتذكير ولا إمام في التأويل والتفسير، وإنمّا كان أئمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنّة والجماعة!!(1) وهذا الكلام الذي يحمل كلّ معاني التعسف والاجحاف بحقّ الآخرين لا يقرّه أيّ مطّلع على التراث الإسلامي وهو يعجّ

____________

1- الفَرق بين الفِرَق: 282.


الصفحة 126
بمؤلفات علماء المسلمين ومحدّثيهم ومؤرّخيهم من جميع الفرق والطوائف.

ومن الأمثلة على الخلط الشديد ـ لدى بعض المؤلفين: التقسيم الذي وضعه الإمام أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري المتوفى سنة (324 هـ) في كتابه: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) الذي يقسم الشيعة ابتداءً الى ثلاث فرق رئيسية، ثم يفرّع فيها فرقاً اُخرى، فيجعل فرقة الغلاة خمس عشرة فرقة، ثم يذكر الإمامية ويرمز إليها بالرافضة ويقسّمها الى أربع وعشرين فرقة، ويعد الكيسانية من فرق الإمامية بينما هي من فرق الغلاة في الحقيقة ولا علاقة لها بالإمامية، ثم يذكر الزيدية ويقسّمها بدورها الى ثلاث طوائف هي الجارودية والبترية والسليمانية، ثم يقسّم هذه الفرق الى فرق اُخرى، وقد وقع الكثيرون في خطأ عدّ السليمانية من فرق الزيدية، بينما عقيدتهم مشابهة تماماً لعقيدة جمهور أهل السنّة، كما سوف يتّضح فيما بعد.

ومن المؤسف أنّ الكثير من المؤلفين المعاصرين قد ساروا على نفس النهج، واعتمدوا على كتب هؤلاء القدامى دون تمحيص أو تحقيق، ودون الرجوع الى مصادر كلّ فرقة أو طائفة لمعرفة منهجها الفكري من لسان أصحابها، بل اكتفوا بمقالة خصوم كل فرقة وما لفّقوه عنها.


الصفحة 127
إنّ ما يهمّنا من هذا كلّه أن نتعرف على تكوّن فرق الشيعة المرتبط بموضوعنا (نشأة التشيّع)، لذا سوف نحاول استقصاءها جهد الإمكان لتوضيح أثر الظروف العصيبة التي مرّت على الشيعة من جهة، والكشف عن الخلط الذي وقع فيه المؤلفون في عقائد الشيعة حين عدّوا منهم من ليس منهم، ومن لا يعتبره الشيعة أنفسهم جزءاً منهم من جهة اُخرى.

وسنبدأ أولاً بمفهوم التشيع نفسه. ثم نشير الى أهم الاتجاهات الشيعية بايضاح، ثم نعرّج على بيان موقف الشيعة وأئمتهم من الغلوّ والغلاة.

مفهوم التشيّع

لقد أورد المؤلفون عن الشيعة والتشيّع عدة تعاريف، نحاول استعراض أهمّها:

1 ـ قال أبو الحسن الأشعري: إنّما قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1).

2 ـ أما ابن حزم فيحدّد مفهوم التشيع بقوله: ومن وافق الشيعة في أنّ علياً أفضل الناس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأحقّهم بالإمامة، وولده

____________

1- مقالات الإسلاميين: 1/65 ط القاهرة 1950 م.


الصفحة 128
من بعده، فهو شيعيّ وإن خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيّاً(1).

3 ـ وعرّفهم الشهرستاني بقوله: الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً(رضي الله عنه)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصيّة، إما جليّاً وإمّا خفيّاً، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقيّة من عنده، وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة، وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية اُصولية، هي ركن الدين، لا يجوز للرسل(عليهم السلام)إغفاله وإهماله ولا تفويضه الى العامة وإرساله.

وأضاف قائلاً: ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت العصمة للأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولّي والتبرّي، قولاً وفعلاً وعقداً، إلاّ في حالة التقية(2).

4 ـ وقال محمد فريد وجدي: الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً(عليه السلام)في إمامته، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج عن أولاده، قالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة، بل هي قضية اُصولية، هي ركن الدين، ولابدّ أن يكون الرسول قد نصّ على ذلك صريحاً،

____________

1- الفصل في الملل والأهواءوالنحل: 2/113 ط. بغداد.

2- الملل والنحل: 131.


الصفحة 129
والشيعة يقولون بعصمة الأئمة من الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبرّي قولاً وفعلاً، إلاّ في حال التقية إذا خافوا بطش الظالم(1).

5 ـ ومن المؤلفين الشيعة الذين حدّدوا مفهوم التشيع، النوبختي، الذي يقول: فأول الفرق الشيعة، وهم فرقة علي بن أبي طالب(عليه السلام)المسمّون بشيعة علي(عليه السلام) في زمان النبي(صلى الله عليه وآله) وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته، فهم: المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمّار بن ياسر، ومن وافق مودّته مودّة علي(عليه السلام)، وهو أوّل من سمّي باسم التشيع من هذه الاُمة، لأنّ اسم التشيّع قديم، شيعة إبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين(2).

6 ـ أما الشيخ المفيد فيعرّف الشيعة بأنّهم: من شايع عليّاً وقدّمه على أصحاب رسول الله صلوات الله عليه، واعتقد أنّه الإمام بوصية من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبإرادة من الله تعالى أيضاً، كما يرى الإمامية، أو وصفاً كما يرى الجارودية(3).

7 ـ أما الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، فيتناول الكلام عن

____________

1- دائرة معارف القرن العشرين: 5/424.

2- فرق الشيعة: 17.

3- هوية التشيّع، الشيخ أحمد الوائلي: 12، عن موسوعة العتبات المقدسة المدخل: 91.


الصفحة 130
النص والوصية ويربط التشيّع بالاعتقاد بكون عليّ إماماً للمسلمين بوصية من الرسول، وبإرادة من الله، ثمّ يقسم النصّ الى نوعين: الجلي والخفي.

أما النصّ الجلي فقد تفرد بنقله الشيعة الإمامية خاصة، وإن كان من أصحاب الحديث من رواه على وجه نقل أخبار الآحاد.. أما النص الخفي فيرى الطوسي أيضاً أنّ جميع الاُمّة تلقته بالقبول وإن اختلفوا في تأويله والمراد منه، ولم يقدم أحد منهم على إنكاره ممن يعتد بقوله.

ويخرج الطوسي السليمانية من الزيدية من فرق الشيعة لأنّهم لا يقولون بالنص، وإنما يقولون إنّ الإمامة شورى، وأنّها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنّها تصلح في المفضول. ولما كان قول الصالحية والبترية من الزيدية في الإمامة كقول السليمانية، ينطبق عليهم ـ على رأي الطوسي ـ ما ينطبق على السليمانية(1).

هذه هي أهم الآراء التي استعرضت مفهوم التشيّع من بعض القدامى والمعاصرين من كلا الفريقين ويمكننا أن نستنتج من كلماتهم في تبيين مفهوم التشيع أنّ لهم اصطلاحين، أحدهما: التشيع بالمعنى العام، وثانيهما التشيع بالمعنى الخاص.

____________

1- د. عبدالله فياض: تاريخ الإمامية: 32 ـ 33.


الصفحة 131
وقد وقع الخلط بين هذين المفهومين عند كلّ من تطرق الى هذا الموضوع، ويمكننا من خلال مراجعتنا لأقوال المؤلفين الذين استعرضنا آراءهم، أن نعرف أنّهم يكادون يعبّرون عن التشيّع بمفهومه الخاص دون التطرق الى مفهومه العام، وهذا ما سنحاول توضيحه مع ذكر التقسيمات التي تتفرع عن كلّ من المفهومين:

أ ـ التشيّع بالمعنى العام

1 ـ من هذا الضرب القول بتفضيل علي بن أبي طالب(عليه السلام)على عثمان بن عفّان فقط، دون الشيخين أبي بكر وعمر.

وهذا النوع من التشيّع كان يضمّ شريحة كبيرة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، كما يعترف بذلك شمس الدين الذهبي في ترجمة "أبان بن تغلب" رداً على من اعترض على توثيقه مع تشيّعه، قائلاً: إنّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعُرفهم: هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة

الصفحة 132
ممّن حارب علياً(رضي الله عنه)وتعرّض لسبّهم(1).

2 ـ القائلين بتفضيل علي بن أبي طالب(عليه السلام) على جميع الصحابة، ومن بينهم الشيخان أبو بكر وعمر، ولكن مع الاعتراف بصحة خلافتهما وعدم الاعتراف بوجود نص على خلافة علي(عليه السلام)أو أحد غيره.

ويمثّل المعتزلة البغداديون وبعض البصريين منهم هذا الاتجاه بشكل واضح، وقد فصّل ابن أبي الحديد المعتزلي القول في ذلك في بداية شرحه لكتاب نهج البلاغة، قائلاً:

اتفق شيوخنا كافّة رحمهم الله، المتقدّمون منهم والمتأخّرون، والبصريّون والبغداديّون على أنّ بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص، وإنّما كانت بالاختيار الذي ثبت ـ بالإجماع وبغير الإجماع ـ كونه طريقاً الى الإمامة.

واختلفوا في التفضيل، فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عُبيد، وأبي إسحاق إبراهيم بن يسار النظام، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبي معن ثمامة بن أشرس، وأبي محمد هشام بن عمور الفُوطي، وأبي يعقوب يوسف بن عبدالله الشحّام، وجماعة غيرهم: إنّ أبا بكر أفضل من علي(عليه السلام)، وهؤلاء يجعلون

____________

1- ميزان الاعتدال: 1/6.