الصفحة 133
ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة.

وقال البغداديون قاطبة ـ قدماؤهم ومتأخروهم ـ كأبي سهل بشر بن المعتمر، وأبي موسى بن صبيح، وأبي عبدالله جعفر بن مبشر، وأبي جعفر الاسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم عبدالله بن محمود البلخي وتلامذته: إنّ علياً(عليه السلام) أفضل من أبي بكر.

والى هذا المذهب ذهب من البصريين، أبو علي محمد بن عبدالوهاب الجبّائي أخيراً، وكان من قبل من المتوقفين، كان يميل الى التّفضيل ولا يصرّح به، وإذا صنّف ذهب الى الوقف في مصنفاته. وقال في كثير من تصانيفه: إن صحّ خبر الطائر فعليٌّ أفضل(1).

____________

1- قال ابن كثير في البداية والنهاية: 7/387، وهذا الحديث قد صنّف الناس فيه وله طرق متعددة، ثم أورد الروايات التي جاءت فيه، فعن الترمذي بإسناده عن أنس، قال: كان عند النبي(صلى الله عليه وآله) طير فقال: "اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير"، فجاء علي فأكل معه، ثم يورد ابن كثير روايات متعددة في هذا الشأن بطرق مختلفة، وقال إنها تصل الى بضع وتسعين، وقال: وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة منهم أبو بكر بن مردويه والحافظ أبو ظاهر محمد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبدالله الذهبي، ورأيت فيه مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر بن جرير الطبري المفسر صاحب التاريخ، ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم، وبالجملة ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه...

لكن ردّ هذا الحديث رغم كثرة طرقه كان بسبب مخالفته لعقيدة الجمهور في التفضيل، لأن الحديث يدل على أفضلية علي(عليه السلام) على جميع الخلق بعد النبي(صلى الله عليه وآله)، وقد أخرج الحديث بألفاظ متعددة عدد كبير من الحفاظ والمحدثين، مثل: الترمذي: ح3721، الطبري: 1/226، 7/96، 10/343، الذهبي في ميزان الاعتدال: 2280، 2633، 7671، 8506، وابن حجر في لسان الميزان: 1/71، 85، والحديث مذكور أيضاً في كنز العمال: 46507، 3964، والمشكاة: 6085، مجمع الزوائد: 9/125، والاتحاف: 7/120، والتذكرة: 9696، وتاريخ دمشق: 5/222، 7/342، تاريخ جرجان: 176 وغيرها.


الصفحة 134
ثم إن قاضي القضاة (رحمه الله)، ذكر في شرح المقالات لأبي القاسم البلخي، أنّ أبا علي(رحمه الله) ما مات حتى قال بتفضيل علي(عليه السلام)، وقال: إنّه نقل ذلك عنه سماعاً، ولم يوجد في شيء من مصنّفاته.

وقال أيضاً: إنّ أبا عليّ (رحمه الله) يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، وكان قد ضعف عن رفع الصوت، فألقى إليه أشياء، ومن جملتها القول بتفضيل علي(عليه السلام).

وممّن ذهب الى تفضيله(عليه السلام) من البصريين: الشيخ أبو عبدالله الحسين بن علي البصري(رضي الله عنه)، كان متحقّقاً بتفضيله ومبالغاً في ذلك، وصنّف فيه كتاباً مفرداً.

وممّن ذهب الى تفضيله(عليه السلام) من البصريين: قاضي القضاة أبو الحسن عبدالجبار بن أحمد(رحمه الله)، ذكر ابن متّويه عنه في كتاب (الكفاية) في علم الكلام أنّه كان من المتوقّفين بين عليّ(عليه السلام)وأبي بكر، واحتجّ لذلك وأطال في الاحتجاج. فهذان المذهبان كما عرفت.


الصفحة 135
وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله الى التوقف فيهما; وهو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء، وأبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاّف، من المتقدمين، وهما ـ وإن ذهبا الى التوقف بينه(عليه السلام)وبين أبي بكر وعمر ـ قاطعان على تفضيله على عثمان.

ومن الذاهبين الى الوقف: الشيخ أبو هاشم عبدالسلام بن أبي عليّ رحمهما الله، والشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري (رحمه الله).

وأما نحن فنذهب الى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله(عليه السلام)، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل، وهل المراد به الأكثر ثواباً، أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبيّنا أنه (عليه السلام) أفضل على التفسيرين معاً(1).

ب ـ التشيّع بالمعنى الخاص

وهو القول بتفضيل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) على الاُمة كلّها بعد النبي(صلى الله عليه وآله) مع القول بوجود نصّ صريح من النبيّ(صلى الله عليه وآله) على إمامته، وبأمر من الله سبحانه وتعالى، وأنّ الإمامة من بعده في عقبه.

وهذا هو المفهوم الذي تكوّن منذ عهد الرسالة النبوية

____________

1- شرح نهج البلاغة: 1/7.


الصفحة 136
الشريفة وحمل أعباءه عدد من الصحابة المقرّبين للنبي(صلى الله عليه وآله)وأوصلوه الى غيرهم وامتدّ خطّه بعد ذلك وتعاظم على مرّ الأيام وكُتب له الخلود الى يومنا هذا والى ما شاء الله، قد تمثّل في الشيعة الإمامية الاثني عشرية التي تتلخّص اُصول عقائدها فيما يأتي.

عقيدة الاثني عشرية:

يعتقد الشيعة الاثنا عشرية بإمامة الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام)، وهم: علي بن أبي طالب، ثم ابنه الحسن بن علي، ثم أخوه الحسين بن علي، ثم ابنه علي بن الحسين السجّاد، ثم ابنه محمد بن علي الباقر، ثم ابنه جعفر بن محمد الصادق، ثم ابنه موسى بن جعفر الكاظم، ثم ابنه علي بن موسى الرضا، ثم ابنه محمد بن علي الجواد، ثم ابنه علي بن محمد الهادي، ثم ابنه الحسن بن علي العسكري، ثم ابنه محمد بن الحسن المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ويستندون في عقيدتهم هذه الى النصوص المتفق عليها من الفريقين على ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأمر من الله ورسوله، والتي مرّ بعضها فيما سبق، وأهمّها حديث الغدير، وكذلك حديث الثقلين الذي نصّ فيه النبي(صلى الله عليه وآله) على ضرورة التمسك بأهل بيته.

وقد بيّنا فيما سبق من هم أهل بيته، وأما باقي الأئمة، وتمامهم

الصفحة 137
اثنا عشر إماماً فيعتمدون ـ فضلاً عن النصوص التي ينفردون بها ـ على النص المتفق عليه عند الفريقين، والذي أخرجه كبار أئمة الحديث من الجمهور، وفي مقدمتهم الشيخان البخاريومسلم، فضلاً عن باقي أصحاب الصحاح والمسانيد والمعاجم الحديثية وغيرها، فقد أخرجوا ـ واللفظ للبخاري ـ عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيّ(صلى الله عليه وآله)يقول: "يكون اثناعشر أميراً" فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي، إنّه قال: "كلّهم من قريش"..

وأخرجها غيره من المحدثين بألفاظ، منها: "يكون اثنا عشرخليفة"،"ويكون اثنا عشر رجلاً" و "اثنا عشر قيّماً"(1).

وقد تحيّر علماء الجمهور في المقصود بهؤلاء الاثني عشر، فقال ابن كثير في باب: "الإخبار عن الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) الذين كلّهم من قريش": وليسوا بالاثني عشر الذين يدّعون إمامتهم الرافضة، فإنّ هؤلاء الذين يزعمون لم يلِ اُمور الناس منهم إلاّ عليّ ابن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر الذي غاب بسرداب في سامراء، وليس له وجود، ولا عين، ولا أثر، بل هؤلاء من الأئمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث: الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومنهم

____________

1- انظر صحيح البخاري: 9/101، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، جامع الترمذي: 4/501، سنن أبي داود: 4/106، المعجم الكبير للطبراني: 2/196 وغيرها.


الصفحة 138
عمر بن عبدالعزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنّة في تفسير الاثني عشر.

ثم ينقل ابن كثير أقوال العلماء كالبيهقي ـ بعد إيراد نصوص الحديث ـ ولكن العدد لا يستقيم لأنّهم يحاولون إلحاق بني اُمية بالخلفاء الراشدين فيضطرون الى ادخال يزيد بن معاوية، والوليد ابن يزيد بن عبدالملك، الذي يصفه ابن كثير بقوله: "الفاسق الذي قدّمنا الحديث فيه بالذم والوعيد"، كما وأنّ العدد يربو على اثني عشر فيضطرون الى حذف بعضهم بحجة عدم الاجتماع عليهم دون الوصول الى نتيجة حاسمة، وأخيراً يقرر ابن كثير أنّ رواية أبي الجلد هي الأقرب الى الصحة لأن أبا الجلد كان قد نظر في الكتب القديمة، وفي التوراة وجد ما معناه: إنّ الله تعالى بشّر إبراهيم بإسماعيل، وإنّه ينمّيه ويكثره ويجعل من ذريّته اثني عشر عظيماً!

ثم ينقل ابن كثير قول شيخه ابن تيمية الحراني الذي مفاده: وهؤلاء المبشّر بهم في حديث جابر بن سمرة، وقرّر انّهم يكونون مفرّقين في الاُمة! ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا، وغلط كثير ممّن تشرف بالإسلام من اليهود فظنّوا أنّهم الذين تدعو إليهم فرقة

الصفحة 139
الرافضة فاتّبعوهم(1).

وفي هذا اعتراف منهم بأنّ أهل الكتاب قد عرفوا من كتبهم أنّ هؤلاء الاثني عشر هم الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) كما تقول الشيعة الاثنا عشرية، فدخلوا في الإسلام وتشيّعوا. ولا عبرة بمزاعم ابن تيمية وغيره حيث قالوا بأن اُولئك الخلفاء يكونون مفرّقين في الاُمة، إذ ليس في الحديث ما يدل على ذلك، كما أن عدّة اُولئك لم تتّم لحين هذه الساعة بعد سقوط الخلافة الإسلامية.

وينقل ابن حجر العسقلاني آراء عدد من العلماء كابن الجوزي وابن البطال وغيرهم في هذا الحديث الذي قال فيه ابن الجوزي: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلّبت مظانّه، وسألت عنه، فلم أقع على المقصود به; لأنّ ألفاظه مختلفة، ولا شك أنّ التخليط فيها من الرواة(2).

ويتّضح من ذلك: إنّ اضطراب القوم في تفسير الحديث يعود الى ألفاظ، مثل: (خليفة وأمير) وغيرها فيه، فظنّوا أنّ المقصودين بذلك هم خلفاء بني اُمية وبني العباس وغيرهم من الطواغيت، وقد فاتهم أنّ الخلافة والإمارة المقصودة هي الإمامة التي هي أوسع اُفقاً من الحكم.

____________

1- البداية والنهاية: 6/278 ـ 280، 2/176 ذكر مولد إسماعيل (عليه السلام) من هاجر.

2- فتح الباري: 13/181.


الصفحة 140
وأما باقي عقائد الإمامية واُصولهم فتتركز في:

أولاً: التوحيد، ويعني أنّ الله واحد لا شريك له ولا ند، وأنه واجب الوجود لذاته، لم يلد ولم يولد، منزّه عن الآفات والنقصان، غيرمحدود بمكان ولا زمان، وأنه ليس كمثله شيء فهو منزّه عن الجسميّة والحدوث، لا تدركه الأبصار في الدنيا والآخرة، وأنّ جميع صفاته الذاتية من حياة وقدرة وعلم وإرادة وغير ذلك هي عين ذاته.

ثانياً: العدل، قد لخّص الشيخ المفيد هذا الأصل بقوله: إنّ الله عدل كريم خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وعمّهم بهدايته، بدأه بالنعم والتفضّل عليهم بالاحسان، لم يكلّف أحداً دون الطاقة، ولم يأمره إلاّ بما جعل له عليه الاستطاعة، لا عبث في صنعه ولا تفاوت في خلقه، ولا قبيح في فعله، جلّ عن مشاركة عباده في الأعمال، لا يعذّب أحداً إلاّ على ذنب فعله، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه (لا يظلم مثقال ذرة فإن تكن حسنة يضاعفها ويؤتي من لدنه أجراً عظيماً)(1).

هذا في الوقت الذي تقول معظم الفرق الإسلامية الاُخرى، بأنّ الله قد يعذّب المحسن دون ذنب جناه، وينعم على المسيء ويدخله

____________

1- أوائل المقالات: 24.


الصفحة 141
الجنة، وفي هذا ما فيه من نسبة الظلم إليه، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، ووافق المعتزلة الشيعة في هذا الشأن، لذا أطلق عليهما مصطلح العدلية.

ثالثاً: النبوة، وهي أنّ إرسال الأنبياء الى الخلق مبشرين ومنذرين واجب، وأن الله قد أرسل أنبياءه منذ خلق آدم، وختمهم بسيّدهم وأفضلهم سيد الخلق أجمعين، محمد بن عبدالله(صلى الله عليه وآله)وبه ختمت النبوة، وأنّ شريعته خالدة الى يوم القيامة، وهو معصوم عن الخطأ والنسيان وارتكاب المعاصي والرذائل قبل البعثة وبعدها، وأ نّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى، وأنّه قد أدّى رسالته كاملة، وبيّن للمسلمين حدود شريعتهم، وأنّ القرآن الذي اُنزل عليه غير قديم ـ لأن القديم هو الله تعالى وحده ـ وأنّ الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو مصون من التحريف.

رابعاً: الإمامة، ويعتقد الإمامية بأنّ الإمامة لطف من الله لا ينبغي للنبيّ(صلى الله عليه وآله) أن يغفل عنه، وأنّ نبيّنا(صلى الله عليه وآله) قد أقام علي بن أبي طالب في غدير خمّ، ونصبه إماماً ودعا الى التمسك به واتّباعه في أحاديث كثيرة، كما دعا الى التمسك بالأئمة من أهل بيته(عليهم السلام).

خامساً: المعاد، وهو أن الخلائق كلّها تبعث يوم القيامة، ليجازي الله كلاً منهم على عمله، فمن أحسن فجزاؤه الحسنى، ومن أساء عاقبه الله، وأنّ الشفاعة حقّ وأنّها لأهل الكبائر من المسلمين، وأنّ

الصفحة 142
الكفار والمشركين مخلّدون في النار.

هذه هي اُصول عقائد الشيعة الاثني عشرية باختصار شديد(1)، أوردناها ردّاً على الذين يدّعون على الشيعة ما ليس فيهم، كقولهم بالتجسيم وغير ذلك بهدف التشنيع عليهم ليس إلاّ.

الخطوط المنحرفة:

لقد أدّت الظروف التي نشأت بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ من استيلاء خطّ الاجتهاد على مجريات الاُمور ـ الى تحوّل الشيعة الى خطّ معارض للسلطة خصوصاً بعد استيلاء الاُمويين على مقاليدها، ومن ثم تبعهم العباسيون وغيرهم ممّن أخذوا على عاتقهم مهمة التصدي لمناوءة التشيّع الأصيل بمختلف الوسائل بهدف القضاء عليه، ولما تبيّن أنّ ذلك ليس بالأمر الميسور، وبعد فشل جميع ممارسات القمع والتنكيل للقضاء على الشيّع، لجأت هذه السلطات الى مختلف الوسائل لتشويه صورة التشيّع في أذهان المسلمين بعد عجزهم عن القضاء عليه فعليّاً، فكان من تلك الأساليب إدخال عناصر مشبوهة في صفوف الشيعة لتتولى هذه العناصر بثّ الأفكار المسمومة في صفوف البسطاء منهم بهدف اعطاء انطباع

____________

1- انظر عقائد الإمامية للشيخ المظفر: 36، وما بعدها.


الصفحة 143
مؤداه أنّ التشيع يتبنّى هذه الأفكار المنحرفة فيتحقق الهدف وهو تنفير الناس منه، وبالتالي اضعاف شوكته وتسهيل القضاء عليه، أو على الأقل تحجيمه ومنع انتشاره والحيلولة دون تحوّله الى قوّة تهدد كيان السلطة.

ومن هنا ظهرت فرق أو شراذم من المنحرفين القائلين ببعض الآراء الفاسدة التي لا تمتّ الى الإسلام بصلة، مع زعم الانتساب الى أهل البيت(عليهم السلام)لاضفاء طابع الشرعية على أفكارهم وحركاتهم وترويجها في صفوف العوام والجهال، وقد حقّقت الكثير من تلك الشراذم بعض الأهداف الموكلة إليها في جرف البعض في ذلك التيار، ممّا دعا أئمة أهل البيت(عليهم السلام)الى التصدي بحزم لتلك الاتجاهات وفضحها وتحذير الناس منها، حتى أصبحت مسيرة التشيع تستمر في خطّها الأصيل الواضح المعالم رغم محاولات الدس والتشويه التي تعرضت لها، ولكن جهود اُولئك المنحرفين قد أثمرت نسبياً بسبب توفر بعض الظروف، ومن أهمّها دعم السلطات لها سرّاً بهدف تمزيق صفوف الشيعة، فظهرت فرق مخالفة لخط التشيّع الأصيل بدرجات متفاوتة، إضافة الى ظهور أفراد أو شراذم من الغلاة حاولت الاساءة الى التشيّع مدفوعة باغراض مختلفة سنحاول بسطها باختصار فيما بعد من خلال استعراض بعض آراء الأئمة(عليهم السلام)من أهل البيت في اُولئك الغلاة.


الصفحة 144
وقد عرفت أن التمسّك بالأئمة الاثني عشر(عليهم السلام)هو التعبير العملي للالتزام الحرفي بالنص النبوي في أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

فهو الذي يمثّل الاستمرار على خطّ النصّ وعدم الخروج عنه الى خط الاجتهاد.

غير أنّ البعض منهم لم يبق ثابتاً على ذلك فاتّجه الى من سواهم في وسط الطريق كالزيدية والإسماعيلية الذين يشتركون مع الاثني عشرية في جملة من المعتقدات ثم يفترقون عنهم في جملة اُخرى.

وإليك ملخّصاً من عقائدهم:

1 ـ الزيـديــة: وهم القائلون بأفضيلة عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) على كافة الصحابة، ولكن مع الاعتراف بصحة خلافة الشيخين أبي بكر وعمر، وجواز تقدم المفضول على الفاضل، وأنّ الإمامة من بعد الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) هي في كلّ رجل من ولد فاطمة عالم زاهد شجاع يخرج بالسيف.

ومن تفرّعات الزيدية: (الجارودية) الذين قالوا بتفضيل علي(عليه السلام) ولم يروا مقامه يجوز لأحد سواه، وزعموا أنّ من دفع عليّاً عن هذا المكان فهو كافر، وأن الاُمة كفرت وضلّت في تركها بيعته، وجعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي(عليه السلام)، ثمّ في

الصفحة 145
الحسين(عليه السلام)، ثم هي شورى بين أولادهما، فمن خرج منهم مستحقاً للإمامة فهو الإمام(1).

والملاحظ أنّ عقيدة الزيدية قريبة من التشيّع بالمعنى العام الذي تميزّت به المعتزلة البغدادية وبعض البصريين منهم. كما مرّ فيما سبق.

2 ـ الإسماعيلية: وهؤلاء ساقوا الإمامة بعد الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) الى ابنه إسماعيل الذي توفي في حياة أبيه، ولكن هؤلاء ادّعوا أنّ إسماعيل لم يمت و لا يموت حتى يملك الأرض.

ومن عقائدهم أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، فالسموات السبع والأرضون السبع إشارة الى الأئمة السبعة، وقد جاء في كتاب قواعد عقائد آل محمد أنّ للشرائع باطناً لا يعرفه إلاّ الإمام ومن ينوب منابه، وكذلك كلّ ما ورد في الحشر والنشر وغيرها، فكلّها أمثلة ورموز الى بواطن، فمعنى الغسل تحديد العهد عليه، ومعنى الجماع مما لا عهد له في الباطن.. والصلاة الدعاء الى الإمام، والزكاة بعث العلوم لمن يتزكّى لها ويستحقها، والصوم كتمان العلم عن أهل الظاهر، والحج طلب العلم، والكعبة النبيّ، والباب عليّ، والصفا النبيّ، والمروة عليّ، والميقات الإمام، والتلبية إجابة الداعي الى

____________

1- تاريخ الفرق الإسلامية، الفَرق بين الفرق: 39.


الصفحة 146
باطنهم، والطواف بالبيت سبعاً هو الطواف بمحمّد الى تمام الأئمة السبعة... الى غيرها من العقائد الغريبة(1).

ويمكننا أن نلاحظ أنّ هذه الفرق لا تعبّر عن التشيّع الذي أسّسه النبي(صلى الله عليه وآله) وامتدّ الى يومنا هذا والذي حملت رسالته وهمومه الشيعة الاثني عشرية.

الغلوُّ والغلاة

لقد كان الباعث لكتابة هذا المبحث ـ رغم انقراض معظم الغلاة وفرقهم ـ هو الخلط الذي وقع فيه الباحثون قديماً وحديثاً بينهم وبين الشيعة الاثني عشرية ـ اما عمداً أو جهلاً ـ فنسبوا الكثير من عقائد الغلاة للشيعة عموماً، وقد اتّخذ البعض من لفظة (الرافضة) ستاراً للتعتيم عند الكلام عن الشيعة والطعن فيهم، فهم يجمعون بين عقائد مختلف الفرق الغالية وبين عقائد غيرهم تحت اسم الرافضة أو الروافض.

إنّ ابن تيمية ـ مثلاً ـ ذكر الكثير من العقائد الفاسدة والاُمور الغريبة ونسبها الى الرافضة بشكل عام بحيث يوحي للقارئ أنّ هذه هي عقائد الشيعة عامة، ولكنّه بعد أن يستغرق عدة صفحات

____________

1- قواعد عقائد آل محمد: 8 باختصار.


الصفحة 147
في ذلك يعود الى القول: وممّا ينبغي ان يُعرف أنّ ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة، وإن كان أضعاف ما ذُكر، لكن قد لا يكون هذا كلّه في الإمامية الاثني عشرية ولا في الزيدية، ولكن يكون كثير منه في الغالية وفي كثير من عوامّهم(1).

إنّ المشكلة تتلخص في أنّ الكثير من اُولئك المنحرفين والغلاة كانوا يدّعون موالاة أهل البيت(عليهم السلام)، وبما أنّ مصدر معظم تلك الفرق والحركات كانت مدينة الكوفةوالتي كانت نقطة احتكاك مع كثير من أصحاب العقائد الموروثة من قبل أهل البلاد الأصليين كالمانوية والثنوية التي نشأت في كنف المجوسية، اضافة الى عقائد الحلول والاتحاد والتناسخ التي جاءت من ديانات الهند وغيرها من البلاد المتاخمة لها، فكان انتشار هذه العقائد يجد مجالاً بين البسطاء والمنحرفين خلقياً.

ونظراً لما كان يتمتع به أهل البيت(عليهم السلام)من مكانة مرموقة في نفوس المسلمين عامة وشيعتهم من أهل الكوفة خاصة، فقد ادّعى اُولئك الغلاة الانتساب الى أهل البيت(عليهم السلام) وأدّعوا أنّهم من شيعتهم لكي يستميلوا قلوب الناس إليهم فيسهل عليهم ترويج عقائدهم.

وقد نبّه أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الى تلك الخطط وحذّروا شيعتهم

____________

1- منهاج السنّة النبوية: 1/57.


الصفحة 148
والمسلمين عامة من مكائد الغلاة كما مرّ ويأتي.

إنّ المشكلة في الغلو هي عدم تحديد مفهومه أحياناً بشكل واضح ممّا يؤدي الى الخلط طبعاً. لذا فإنّ الأمر يحتاج الى بعض التوضيح.

فالغلوّ في اللغة: هو الخروج عن القصد وتجاوز الحد، وبهذا يكون كلّ خروج عن الاعتدال غُلوّاً.

قال ابن منظور: غلا في الدين والأمر، يغلو غلوّاً: جاوز حدّه.

وفي التنزيل: لا تغلو في دينكم... وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلواً وغلانية وغلانياً: إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطت فيه(1)...

أمّا اصطلاحاً فلم نجد تعريفاً جامعاً للغلوّ، ولكن يمكننا أن نستنتج ممّا وجدناه من أقوال العلماء في مصاديق الغلو أنّه: الخروج عن القصد في الاعتقاد بأشخاص ورفعهم فوق مراتبهم بما ليس فيهم.

فالغلوّ قد يتدرج من المبالغة في الفضائل وينتهي الى رفع الأشخاص الى مرتبة النبوّة والاُلوهيّة. ويمكننا أن نعتبر المبالغة في الفضائل نوعاً من الغلوّ، فكتب الحديث مشحونة بفضائل مفتعلة لبعض الصحابة، وضعت أيام بني اُمية بهدف طمس فضائل

____________

1- لسان العرب: 15/132.


الصفحة 149
علي(عليه السلام) والحطّ من مكانة بني هاشم ـ كما اعترف بذلك بعض ثقاة حفاظ الجمهور كالمدائني ونفطويه ـ كموافقات عمر بن الخطاب مثلاً، وكقولهم أنّ الله يتجلّى للناس عامة ولأبي بكر خاصة; واستحياء الملائكة من عثمان فضلاً عن مثل فضائل عائشة اُم المؤمنين وطلحة والزبير، ممن حارب علياً(عليه السلام) وهو الإمام المفترض الطاعة بالإجماع.

وهكذا غلوّ بعض المتصوفة في شيوخهم وادّعائهم اُموراً شنيعة فيهم ورفعهم فوق مراتب الأنبياء أحياناً، وما وضعه بعض أتباع أرباب المذاهب الأربعة في فضائل أئمّة مذاهبهم والغلوّ فيهم الى حدّ الشطط. كما وأنّ فرقة الروندية قد غلت في بني العباس الى حدّ الكفر، حيث ادّعت هذه الفرقة أنّ أبا هاشم أوصى الى محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب، لأنّه مات عنده بأرض الشراة في بلاد الشام، وأنه دفع إليه الوصية عن طريق أبيه علي بن عبدالله، لأن علياً كان لا يزال صغيراً، فهو الإمام وهو الله عزّ وجلّ، وهو العالم بكلّ شيء، فمن عرفه فليصنع ما شاء! ثم إنّ محمد بن علي أوصى الى ابنه إبراهيم بن محمد الملقب بالإمام، وهو أول من عُقدت له الإمامة من ولد العباس، وإليه دعا أبو مسلم الخراساني، ثم أوصى إبراهيم الى أخيه أبي العباس عبدالله بن محمد الملقّب بالسفاح، وهو أول الخلفاء العباسيين، وهو بدوره أوصى الى أخيه

الصفحة 150
أبي جعفر عبدالله بن محمد الملقب بالمنصور الذي أوصى بدوره الى ابنه المهدي محمد بن عبدالله الذي غيّر الوصية بعد تولّيه الخلافة وأنكر أن تكون الوصية من النبيّ(صلى الله عليه وآله) الى محمد ابن الحنفية، بل ادّعى أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أوصى الى العباس بن عبدالمطلب وقال: إنّ العباس كان عمه ووارثه وأولى الناس به، وأنّ أبابكر وعمر وعثمان وعليّاً وكلّ من دخل في الخلافة بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)غاصبون متوثّبون عليها! فأجابوه الى ذلك، فعقد الإمامة للعباس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم لعبدالله بن العباس، ثم لابنه علي بن عبدالله، ثم لإبراهيم بن محمد الإمام، ثم لأخيه عبدالله، ثم لأخيه أبي العباس، ثم لأخيه أبي جعفر المنصور، وهكذا...

وقالت الروندية ـ نسبة الى عبدالله الروندي ـ: انّ الإمام عالم بكلّ شيء، وهو الله عزّ وجل، وهو يحيي ويميت، وأنّ أبا مسلم الخراساني نبيّ مرسل يعلم الغيب، أرسله أبوجعفر المنصور وانّ المنصور هو الله، وانّه يعلم سرّهم ونجواهم، وأعلنوا دعوتهم ودعوا إليها، فلما بلغ المنصور ذلك عنهم أخذ منهم جماعة فأقرّوا بذلك، فاستتابهم وأمرهم بالرجوع عن قولهم ذلك، فقالوا: المنصور ربّنا، وهو يقتلنا شهداء كما قتل أنبياءه ورسله على يدي من يشاء من خلقه، وأمات بعضهم بالهدم والغرق، وسلّط على بعضهم السباع، وقبض أرواح بعضهم فجأة أو بالعلل كيفما يشاء، وذلك له، يفعل ما

الصفحة 151
يشاء بخلقه، لا يُسأل عما يفعل(1).

والغلوّ موجود بين أهل الأديان السابقة للإسلام، فاليهود ادّعوا الاُلوهية في عزير الذي تقول بعض الروايات أنّه الذي ذكره القرآن في قوله تعالى: (أو كالذي مرّ على قرية وهي خاويةٌ على عُروشِها قال أنّى يُحيي هذه الله بعدَ مَوتِها فأماته الله مائة عام ثم بعثه)(2).

ونقل الكتاب العزيز مقالتهم الشنيعة: (وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله...)(3)، وذلك لأنّ عزيراً كما تقول الروايات قد ظهرت فيه هذه المعجزة التي جعلت اليهود يعتقدون فيه الاُلوهية أو جزءاً منها.

وما حدث عند اليهود حدث مثله عند النصارى، إذ غلوا في نبيّهم عيسى وادعوا فيه الاُلوهية، فذكرهم الكتاب العزيز في نفس الآية السابقة بعد ذكر اليهود، فقال عزّ من قائل: (وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النّصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون)(4).

لهذا جاء ذمّ القرآن الكريم لهم وزجرهم عن تلك المقولات

____________

1- اُنظر فرق الشيعة للنوبختي: 46 ـ 50.

2- سورة البقرة: 259.

3- سورة التوبة: 30.

4- سورة التوبة: 30.