"والأقربون أولى بالمعروف"، ثم لم يكفه أن يلقي في الأرض السيف ويفرّق بين الآباء والابناء حتى اضرمها ناراً، فقال كما في (12) لوقا: جئت لألقي ناراً على الأرض فأين هذا ممن يقول: (وَ مَآ أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(4) إلى كثير من أمثالها.
ثم نظرنا فوجدناه بحسب تلك الأناجيل خائناً حيث كان قد أئتمن الخائن كما في (12) يوحنا: يهوذا الاسخريوطي كان سارقاً وكان الصندوق عنده، وافظع من ذلك، درؤه الحد عن الزانية كما في (8) يوحنا: قدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أُمسكت في زنا ولما اقاموها في الوسط، قالوا له: يا معلم هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا ان مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت؟ إلى أن قال: فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحداً سوى المرأة قال لها: يا امرأة أين هم اولئك المشتكون عليك أما دانك أحدٌ فقال: لا أحد يا سيد، فقال لها: ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضاً.
فأنت أيها الناظر تجد المسيح بنص هذه الأناجيل، يجلس الغلام في حضنه تارة، وتمسح النساء قدميه المطيَّبين بشعورهن اخرى، ويأتمن الخائن السارق طوراً ويدرأ الحدّ عن الزانية ضد الناموس، طوراً آخر، فأين هذا من المسيح
____________
1- عاشر متى 34.
2- النساء: 1.
3- الانفال: 75.
4- الأنبياء: 107.
وكأنه لتلك الأحوال والخلال الفظيعة اسلمه تلميذه إلى اليهود ليقتلوه ويصلبوه بعد ان كان من خاصته وبطانته، وأهل ثقته وأمانته.
ثم بعد هذا كلّه نظرنا في القرآن الكريم فوجدناه يرفع المسيح إلى أوج العظمة والكرامة، والتقديس والنزاهة، فيقول في أمر صلبه، وكيفية انتقاله من هذه الدار إلى ربه، وتطهير ذيل والدته، وتنزيهها مما قُذفت به، مندّداً على اليهود (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْم إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(2).
أمّا الذي نجده في تلك الأناجيل فهو على الضدّ من ذلك كُلّياً، فانها تصور لك لصاً جباناً متشرّداً، قد أُخذ مهاناً حقيراً، وجعل هُزُؤاً ومسخرة لليهود، يبصقون في وجهه، ويضربونه صفعاً على رأسه، إلى أن صلب نصب العين، بين لصين، انظر إذا شئت هذه المضحكة في (27) متى بعد ان ذكر في الاصحاح السابق عليه، صورة جزعه وفزعه من الموت، وقوله: (28) نفسي حزينة جداً حتى الموت، ثم فزع إلى تلامذته قائلا: امكثوا ههنا واسهروا معي، (29)، ثم تقدم قليلا وخرّ على وجهه، وكان يصلي قائلا: يا ابتاه إن أمكن فلتعبُر عني هذه الكأس، وفي (27) منه: فأخذ عسكر الوالي يسوع إلى دار الولاية وجمعوا عليه كل الكتبة (28) فعرَّوه والبسوه رداء قرمزياً (29) وضفروا أكليلا من شوك، ووضعوه على رأسه، وقصبة في يمينه، وكانوا يجثون قدامه ويستهزؤون به قائلين: السلام يا ملك اليهود (30)، وبصقوا عليه، وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه، إلى أن قال (38): حينئذ صلب معه لصان واحد عن اليمين وواحد عن اليسار (39)، وكان
____________
1- مريم.
2- النساء.
وما أحسن قولهم: ان كان هو ملك اسرائيل وابن الله فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به (44) وبذلك أيضاً كان اللصان اللذان صلبا معه يعيّرانه.
وعلى مثل هذا فاشدّ، نصَّت الأناجيل الاخرى، ففي (14) مرقس (65) فابتدأ قوم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ويقولون له: تنبأ، وكان الخدام يلطمونه إلى أن قال: في (15) وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا أَلوي ألوي لما شبقتني الذي تفسيره الهي الهي لماذا تركتني؟
أما يوحنا فحيث كان انجيله آخر الاناجيل لذلك تحاشى عن عبارة اللصين اللذين نصَّ عليهما متى فغيّرها وخففها حيث قال في (19 ـ 18) وصلبوا اثنين آخرين معه من هنا ومن هنا ويسوع في الوسط.
وفذلكةُ حساب ما تقدم انك إذا امعنت النظر في مسيح القرآن، ومسيح هذه الأناجيل الدارجة، وجدت بونا شاسعاً لا يلتقي طرفاه.
وكيف وأنّى. وانت تجد القرآن العظيم يصوّر لك المسيح رجلا مباركاً وديعاً باراتقياً، لا جبَّاراً ولا شقياً، عبداً موحّداً خاضعاً لله غير مجدف ولا مدّع لشيء غير معقول، من الوهية أو اتحاد أو حلول، ثم تجده عزيزاً محترماً، مرفوعاً إلى السماء مُصاناً بالعزة الإلهية عن مقارنة اللصوص والأوباش، مقدساً عن هزوء المستهزئين، وسخرة الساخرين، غير مضام ولا مهان، بما انه روح الله وكلمته وصنيعة عينه، وربيب قدرته، ومستودع اسراره وحكمته، وتعالى الله أن يضع
____________
1- يشيرون بذلك إلى دعاويه وتجديفاته التي كان يجدفها عليهم.
أما رأيت كيف نجَّى الله نوحاً من الغرق، وَجَعلَ النَّار بَرْداً وسلاماً على إبراهيم، وخلَّص موسى وقومه من غاشمة فرعون، ونصر محمداً حبيبه على جبابرة المشركين، تلك سنة الله في الذين خلوا من أنبيائه (وَ لَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا)(1)، نعم قد قتل بعض الجبابرة، بعض الكرام من الأنبياء، كزكريا ويحيى وأمثالهم، ولكنها شهادة شريفة، وقتلة كريمة، ميتة بالسيف في سبيل الله، حياةٌ سعيدة عند الله، وتلك هي السعادة والكرامة، والعزة والرفعة، لا التعليق والصلب، والصفع والضرب.
فما ظنك بتلك الأساطير التي تُصوِّر لك المسيح رجلا دجالا محتالا خائناً جباراً عاقاً قاطعاً مفرّقاً سكيراً شريب خمر(2) يغازل الغلام في حضنه، ويتكي والفتاة تمسح بشعرها رجليه، ويحابي الزانية في درء حدود الناموس عنها، ثم يؤخذ كلصّ متشرد هيَّاب جبان خوّار، فيصلب ويصفع، ويبصق في وجهه ويعلق على الخشبة متدلّياً بين اللصوص ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر، ثمّ يُنزل ويُقبر، ثمّ تزعم امّه وخالاته انه شق القبر وصعد إلى السماء، فهلا صعد قبل تلك المهانات والماجريات (ما كان اغناها عن الحالين).
أفهل بعد هذا كله، يظنُّ ذو شعور انّ هذا الشخص هو الذي قصّ علينا القرآن قصصه وحدّثنا الوحي المبين حديثه.
وهل من سبيل أو محيص إلاّ الركون والطمأنينة بأنّ هناك رجلان ادّعيا المسيحية في عصر متقارب وقاما بالدعوة في لحن مُتشابه، ولكن أحدهما صادق، تصدقه دعواه المعقوله، ومجته الاحبه، وسيرته الوديعة، ثم جاء القرآن
____________
1- فاطر: 43.
2- حادي عشر متى ـ 19.
وأنت أيها الضليع باساليب البلاغة العربية ـ تعرف جيداً ـ انّ التأسيس في قيود الكلام خير من التأكيد، وانّ الاحتراز أولى من التوضيح.
وقد تلخّص من جميع تلك الشواهد البيّنه، انّنا معاشر المسلمين لا نعترف بالمسيح الذي تعبده النصارى اليوم وندلّ بالحجج القاطعة انه رجل كاذب دجّال، خمير سكير، جبار شقي، خوّار جبان، إلى آخر ما نصَّت عليه أناجيلهم من وصفه، والعجب كلّه، كيف غفل علماء المسلمين منذ ثلاثة عشر قرناً عن هذه الحقيقة الراهنة، التي هي بعد ادنى بيان، أجلى من عين الشمس للعيان، ثم لا غرابة إن تعددت دعوى النبوة وبالاخص (المسيحية) فكم ادّعاها محتالون دجَّالون، يعترف النصارى والمسلمون بكذبهم؟
وها هو بالأمس قد قام رجل في الهند يعرف (باحمد القادياني) وادّعى أنّه هو المسيح، واتّبعته أمةٌ من الناس يُقال انها تزيد على المليون وقد مات وقام اليوم ابنه مقامه، وحديثه شائع ذائع لا حاجة بنا إلى شرحه، وإذا جاز ذلك ووقع في مثل هذه العصور التي يُسمونها (عصور النور) فكيف لا يجوز في تلك العصور (عصور
ثم لا يذهبنّ عنك أيها الناظر، ان الغربيين لما تخلصوا من استبداد الكنيسة، وخلعوا نير التقاليد القديمة، وتملصوا من اغلال أرباب السلطة الدينية، وأخذوا يفتكرون في الحقيقة كعلماء احرار، اصابوا جوهر ما قلناه، ونبغ فيهم نوابغ، رفضوا الثالوث وانكروا سر الفداء، وعقيدة الصلب وتكفير الخطيئة وأصابوا ان هذه التي تسمى بالأناجيل، صحف قصصية وأحاديث خرافية، وهم طوائف كثيرة، وأفراد شهيرة فمن الفرق، فرقة (السوشنيين) ويسمون بالموحدين أيضاً وهم أعداء الثالوث ومنكروا الوهية المسيح، ومنهم طائفة (العقليين الإلهيين) الذين انكروا هذه الأناجيل عامة، وهم كثيرون عسى ان نأتي على ذكر بعضهم في سوى هذا الموضع.
أما الأفراد المشاهير فأكثر مثل (توماهوبس) و(شارل بلونت) و(جوهن تولند) و(تولستوي) و(رينان) و(فولتير) و(جان جاك روسو) النابغان الشهيران وقد تبرز في ذلك (لسينغ الالماني) فقد صاحر بالحقيقة وجاهر بالصواب، وذكر ان هذا المسيح الذي في هذه الأناجيل، إن هو إلاّ رجل ماكر خداع، إلى كثير من أمثال هذه الكلمات الصائبات، من أمثال هؤلاء الأعلام.
ثم سوف ندعم هذه الحقيقة الراهنة بدعامات من الدلائل المحكمة، تلو هذا الجزء ونسجل مصارحين بأنّ المسيح بنص هذه الأناجيل الدارجة قد كذب في أكثر من عشرين مورداً، كذباً صراحاً قحَّاً لا غبار عليه ولا ستار، ونكشف الغطاء عن كل واحدة واحدة، ثم نُعقب ذلك بذكر التلامذة والرسل وأحوالهم من
حرر 9 ابريل 1912
التوضيح في بيان حال الانجيل والمسيح
(وبعد) فقد كنّا وعدناك في أخريات الجزء الأول من (التوضيح) ان نتحفك بجزء ثان له، وأشرنا هناك إلى بعض الملاحظات التي نريد أن نتعرّض لها من البحث عن الأناجيل، وكيف هي في توافق بعضها مع الآخر وتناقض بعضها مع بعض، ومع العهود القديمة المعبّر عنها عندهم بالناموس، ونعقب ذلك بذكر التلامذة والرسل وفلذة من أحوالهم، كبطرس، وبولس، ويعقوب ويوحنا ابني زبدي، وأمثالهم، ثم عاقت دون ذلك العوائق وشغلتنا الشواغل عامة وخاصة، وقلنا داء دفين لا نثيره، وضب ساكن لا نحرشه، حتى توفر على اسماعنا النقل في عواصم العراق من تهاجم اولئك الطغمة المسمين أنفسهم بالمبشّرين، وتعرّضهم لبسطاء المسلمين بالاغواء والاضلال، والتمويه والتعميه وانهم يعيثون الفساد في عراقنا كصنيعهم في مصر وعواصمها حتى بلغت بهم القحة والصلف والجرأة والاستهوان انهم دخلوا للتبشير في بلدان الاسلام المقدّسة والمشاهد المشرّفة، على حين ان ليس عند اولئك السود الغرابيب، من بضاعة سوى الأكاذيب، والأعاجيب والقحة والصلف، والخداع والمكاشرة مع الجد والمثابرة، فقد علم حتى الأعمى والأصم، ان اولئك السفالة مستأجرون على تلك الأعمال، ومدفوعون اليها بعظائم الأموال، من جمعيات في أوربا وأمريكا، لقصود وغايات لا يتسع الوقت المرصود لابدائها، وأسرار لا يفسح المجال لافشائها، وقد علموا هم وكل أحد انهم يبيعون
حين انك لا تجد من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، على اختلاف مشاربها ومذاهبها، وتباين عناصرها وأواصرها، ومن يدافع عن دين الإسلام الكريم بدواعي الاستيجار والاستعمار، لا تجد فيهم من يحامي عن دينه بالدواعي السافلة، والغايات الساقطة، والمقاصد الدنية، بل ان حصل فيهم من يذب ويحامي فانما يأتي ذلك الصنع، ويعاني تلك المهنة، لغاية شريفة، وعاطفة كريمة، ودافع روحي وسائق الهي، مجرّد عن شوائب الاطماع، وسقط المتاع.
وحيث ان الله عزّ شأنه قد أعدني وارصدني منذ أول نشأتي، وبدأ فطرتي، للمنافحة عن دينه القويم، وفرقانه الكريم، بل عن الحق والحقيقة، وشرف الصدق والواقع، لذلك وجدت من الحتم اللازم الوفاء بما وعدت من إصدار الجزء الثاني حيث تبدّه لنا ان السكوت عن اولئك السفلة الأوباش، موجب لتجريهم وشدة طمعهم في المسلمين.
واني وان كنت على يقين من أن تلك الشرذمة الرعاع بمقام من رداءة الجوهر، وخباثة العنصر، بحيث كأن الله سبحانه ان لم يخلق في طباعهم ذرة من الحياء والانصاف، وانهم مع كل ما أوردناه غابراً وما سنورده في هذا الجزء من الفظايع والشنايع على أناجيلهم التي يزعمونها كتباً مقدّسة وموحيات إلهية، وسوف ترى انها بحيث لا يليق ان تصدر من الصبية والمجانين، ومع ذلك لا يخجلون ولا يرتدعون عن أعمال الدعاية والتبشير بتلك الكتب المشحونة بالتناقضات الواضحة، والأكاذيب الفاحشة، وما ذاك إلاّ لأنهم مستأجرون على تلك الأعمال، حقّاً كانت أم باطلا، صدقاً كانت أم كذباً، تنصر المسلمون في العراق أم لا، فهم يستوفون على جميع تلك الفروض أجورهم من الجمعيات بالكيل الأوفى،
ونفتح لهذا (الجزء) ثلاثة أبواب (الأول) في تناقض الأناجيل كل واحد بعضه مع بعض وكل واحد مع الإنجيل الآخر، وتناقضها أجمع مع العهود القديمة (التوراة) (الباب الثاني) في الوهية المسيح التي هي تمام ديانة النصرانية وحجرها الأول والآخر (الباب الثالث) في أحوال تلامذة المسيح ومن اتبعه في حال حياته وأحوال الرسل والحواريين ومن يليهم خاصة مثل (متى) و(مرقس) و(لوقا) و(يوحنا) و(بولس) وقد سبكنا الكلام في بعض هذه الأبواب على طريقة التعليم الجدلي لخواص المسلمين وعوامهم بحيث يقتدر حتى العامي بعد مراجعة هذا الوجيز على افحام المبشر وإبطال دعوته ودحض حجته، وتشخيص موضع مكره وخديعته، وبذاك يتّضح لكل ذي حس شأن المخلص الذي يبشرونك به والكتب المقدّسة التي يدعون الناس إليها، وحظ ذلك الدين من القداسة والكرامة، وقسطه من الصدق والأمانة، وأنا على وثيق علم من ان الحرب لا تزال سجالا بيننا وبينهم، وانهم لا يعترفون ولا يكفون، بل يحرصون ولا ينكصون، فان شمس الحقيقة قد اعمت أبصارهم في تجليها، كما اعمت بصايرهم اشعة البيض والصفر في تتابعها عليهم وتواليها ولكننا انما نكتب هذه الكتب وننشر هذه المنشورات حفظاً وبقياً على إخواننا المسلمين من تلك الذئاب العادية، وشرورها السارية، قياماً بالوظيفة، ونصرة للحقيقة، واتماماً للحجة، و(لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَة)(1)، وليميز الله الخبيث من الطيب ويستبين صوب الصواب من الصيب، ثم اننا نكتفي في الأكثر بشاهد أو شاهدين لما اتضح لديك من ان بناء
____________
1- الأنفال: 42.
ولابدّ قبل النظر في الأبواب ان تستحضر على بالك، تلك الحقيقة الراهنة التي اوضحناها لك بما لا مزيد عليه في الجزء الأول من هذا الوجيز، وهي ان المسيح الذي نجعله موضع كلامنا، وموضع نقدنا وتفنيدنا، هو المسيح الذي نوّهت به أناجيلهم، وأهلته للالوهية أسفارهم، وجعلته جزء من الاله المركب من ثلاثة أقانيم، رسلهم ورسائلهم: لا المسيح الواقعي الذي نوّه به الفرقان المحمدي، فان له منا كل كرامة وتبجيل، وقداسة وتجليل، ذاك العبد الصالح الذي قال عزّ شأنه له: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ)(1).
ذاك الذي تكلم في المهد صبياً قائلا (إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيّاً)(2) ولم يقل اني انا الله أو جزء مقوم لله.
ذاك الذي قال (يَا بَنِي إِسْرَ ائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)(3).
وبعد استبانة تلك الحقيقة وأنا لا نمس كرامة المسيح الحي، وحينئذ فلنا حرية النظر وسراح القول وفسحة البحث والنقد فيما اشتملت عليه أناجيل القوم وكتبهم التي يزعمون انها مقدّسة، ولسنا بمسؤولين إلاّ عن صحّة النقل فيما نورده من تلك الكتب، ونحكيه عن تلك الأسفار، ومن الحق جل شأنه نستمد، وعليه نعتمد، واليه نرغب فى ان يجعل عملنا هذا خالصاً لوجه الكريم، وان ينفعنا به يوم العرض عليه، والوقوف بين يديه ان شاء الله.
____________
1- المائدة: 116.
2- مريم: 30.
3- المائدة: 72.