الصفحة 559

الفصل الخامس عشر
كيف يكون المنسوخ من كتاب الله أضعاف غير المنسوخ؟!


الصفحة 560

الصفحة 561

المســألة: 108
اخترعوا نسخ التلاوة لتبرئة أئمتهم من القول بالتحريف!

اخترع علماؤهم مقولة (نسخ التلاوة) لتخليص أئمتهم ومصادرهم من القول بتحريف القرآن!

ومعناها أن كل الآيات التي زعم أئمتهم مثل عمر وأبو موسى وعائشة وغيرهم أنها من القرآن، قد كانت منه بالفعل، لكنها نسخت تلاوتها بعد ذلك، ورفعت من القرآن وبقي حكمها!

لكن نسخ التلاوة لا يعالج بقية مقولاتهم في القرآن، كقول عمر وغيره إنه ذهب ثلثا القرآن بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو كثير منه، وبدعته في الأحرف السبعة، وفتواه بجواز تغيير ألفاظ القرآن، وغيرها!

وحتى في الآيات المزعوم أنها من القرآن، فإن نسخ التلاوة لايعالج إلا جزءً ضئيلاً منها، فعائشة مثلاً تقول عن الآيات التي أكلتها السخلة إنها كانت مما يقرأ من القرآن حتى توفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنفت أن تكون منسوخة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا نسخ بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)!

وكذلك نصوص أكثر الآيات الأخرى المزعومة تأبى عليهم أنها نسخت، وحتى تلك التي لا يأبى نصها نسخ تلاوتها، لم يرد نص بنسخها، فيكون قولهم بالنسخ قولاً بغير علم ولا دليل!

وقد عدد ابن الجوزي في مقدمة كتابه نواسخ القرآن أقسام النسخ، وحاول

الصفحة 562
تطبيق نسخ التلاوة على مقولات أئمتهم! قال في ص33:

فالقسم الأول: ما نسخ رسمه وحكمه. وروى له مثلاً عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رهطاً من أصحاب النبي (ص) أخبروه أنه قام رجل منهم من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها، فلم يقدر منها على شئ إلا بسم الله الرحمن الرحيم! فأتى باب النبي (ص) حين أصبح يسأل النبي (ص) عن ذلك، وجاء آخر وآخر حتى اجتمعوا فسأل بعضهم بعضا:ً ما جمعهم؟ فأخبر بعضهم بعضاً بشأن تلك السورة، ثم أذن لهم النبي (ص) فأخبروه خبرهم، وسألوه عن السورة؟ فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئاً، ثم قال: نسخت البارحة فنسخت من صدورهم، ومن كل شئ كانت فيه!!

وروى مثلاً آخر عن أبي موسى الأشعري قال: (نزلت سورة مثل براءة ثم رفعت! فحفظ منها: إن الله يؤيد الدين بأقوام لاخلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب...

وروى عن مجاهد قال: إن الأحزاب كانت مثل البقرة أو أطول!

وعن أبيّ بن كعب أنه قال: (والذي أحلف به لقد نزلت على محمد (ص) وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها).

وعن ابن مسعود أنه قال: (أنزلت على رسول الله (ص) آية فكتبتها في مصحفي فأصبحت ليلة فإذ الورقة بيضاء! فأخبرت رسول الله (ص) فقال: أما علمت أن تلك رفعت

الصفحة 563
البارحة). انتهى.

ولايمكننا تصديق هذه الروايات، فإنها في أحسن حالاتها أخبار آحاد لاتنهض لإثبات أمر كبير، لو كان لبان، ولرواه غير هؤلاء!!

*  *  *

ثم قال ابن الجوزي: القسم الثاني ما نسخ رسمه وبقي حكمه:

وطبقه على آية عمر: فالرجم حق على من زنا.. وآية عمر الأخرى: فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، وقد تقدمتا من البخاري ومسلم.

وروى قول عمر: (وأيم الله لولا أن يقول قائل زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في القرآن....وأنها قد أنزلت وقرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ولولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي).

ثم روى ابن الجوزي عن أبيّ بن كعب أنه قال عن سورة الأحزاب: (إن كنا لنقرأها كما نقرأ سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم).

ثم روى عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: (ألم تجد فيما أنزله الله علينا أن: جاهدوا كما جاهدتم أول مرة؟ فإنا لا نجدها؟! قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن!

وروى عن حميدة أنه كان في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي، والذين يصلون في الصفوف الأولى).


الصفحة 564
وعن أنس: (أن رسول الله (ص) بعث حراماً خاله في سبعين رجلاً فقتلوا يوم بير معونة، قال فأنزل علينا فكان مما نقرأ فنسخ: أن بلغوا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، وقال ابن الجوزي: انفرد بإخراجه البخاري). انتهى.

وهذا القسم لايمكن قبول رواياته أيضاً، لأمور:

الأول: أن أحاديثه كلها أخبار آحاد أيضاً، ولو كان مثل هذا الأمر صحيحاً لانتشر خبره، وكثرت رواياته عن الصحابة وأهل البيت (عليهم السلام).

والثاني: أن آياته المزعومة كلها ركيكة، لا تشبه آيات القرآن ولو بقدر من بلاغتها!

والثالث: أن آية عمر: (جاهدوا كما جاهدتم أول مرة) قد فسرها عمر بأن ذلك إذا كان الأمراء من بني أمية والوزراء من بني مخزوم!

فقد روى السيوطي في الدر المنثور:4/371: نفس رواية ابن الجوزي عن ابن عوف، وتتمتها: (قلت بلى، فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء)! وقال السيوطي: (أخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة). انتهى.

ونحن نوافق على هذا المعنى، لأنه ورد في أحاديث صحيحة عندنا وعندهم، توجب على المسلمين جهاد قريش على تأويل القرآن كما جاهدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أول مرة على تنزيله، وأن

الصفحة 565
من يقوم بذلك هو علي (عليه السلام).

ومن أحاديثه في مصادرهم (حديث خاصف النعل) الذي رواه الترمذي:5/298، وصححه، وفيه: (يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الايمان. قالوا من هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها). (رواه الحاكم:2/138و:4/298وصححه على شرط مسلم)

ومن أحاديثه في مصادرنا مارواه العياشي:2/229، في تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ما تقولون في ذلك؟فقال: نقول هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فقال: بل هي قريش قاطبة، إن الله خاطب نبيه فقال: إني قد فضلت قريشاً على العرب، وأتممت عليهم نعمتي، وبعثت إليهم رسولاً فبدلوا نعمتي، وكذبوا رسولي). انتهى.

فمقولة الجهاد أول مرة وثاني مرة، أو الجهاد على تنزيل القرآن ثم على تأويله، مقولة إسلامية ثابتة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنسجمة مع اعتقاد أهل البيت (عليهم السلام)، لكنا لا نوافق على أنه نزلت فيها آية، ثم رفعت أو فقدت أو أسقطت، كما تقول روايتكم عن عمر.

والرابع: أن روايات هذه الآية المزعومة متعارضة، ففي بعضها أن مدعي الآية هو عمر كما تقدم، وفي بعضها أنه ابن عباس كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور:5/197، وذكر حواراً دار فيها بين عمر وبين ابن

الصفحة 566
عباس، وكأن عمر لايعرفها أو يشك فيها ويقرر ابن عباس بها:

قال السيوطي: (وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن عمرسأله... فقال عمر: مَنْ أمرنا أن نجاهد؟ قال: بني مخزوم وعبد شمس!). انتهى.

وهذا التعارض يوجب الشك في أصل وجود آية كانت ثم نسخت!

والخامس: أن الحكم بأنها من القسم الثاني ما نسخ رسمه وبقي حكمه، وإن كان يناسبه تعبير أنها نسخت، أو رفعت من القرآن كما في بعض رواياتها، لكن رواية ابن الجوزي ورواية المسور بن مخرمة (في كنز العمال:2/567 وغيره) تعارض ذلك وتقول إنها أسقطت فيما أسقط من القرآن! ومعناه أنها لم تنسخ بل أسقطت من المصحف الفعلي، عمداً، أو سهواً، أو لضياعها! وليس شئ من ذلك نسخاً!

والسادس: أن آية عائشة المزعومة ليس لها معنى معقول مفهوم، حتى نقبل أن تكون نزلت آية ثم رفعت! فما معنى أن الله تعالى يقرن الصلاة على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة على المصلين في الصف الأول؟!

وكيف يصح حينئذ أن يفرع عليه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)؟! فلو صحت إضافة عائشة للزم القول إن معنى الآية كان غلطاً أو ضعيفاً، حتى رفع الله من الآية الجزء الذي زعمته عائشة!

والسابع: أن آية أنس عن قراء بئر

الصفحة 567
معونة الذين قتلهم أهل نجد: (أن بلغوا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا)، هي الوحيدة من هذه الآيات المزعومة التي نصت روايتها على أنها كانت مما يقرأ من القرآن ثم رفعت، أو نسخت.

وحيث صحت روايتها عندكم (البخاري:3/204 و208 و:4/35 و:5/42، وغيره من صحاحكم) فتكون هي المثال الوحيد الصحيح عندكم على نسخ التلاوة، لكن أين حكمها الذي بقي؟! بل أين رائحة بلاغة آيات القرآن فيها؟!

*  *  *

ثم قال ابن الجوزي: فصل ومما نسخ رسمه واختلف في بقاء حكمه:

وروى فيه آيات عائشة التي أكلتها السخلة، ونقل أقوالهم المختلفة فيما يحرِّم من الرضاعة هل هو المصة أو خمس رضعات أو عشر؟!

وقال: (وتأولوا قولها: وهي مما يقرأ من القرآن، أن الإشارة إلى قوله (وأخواتكم من الرضاعة) وقالوا: لو كان يقرأ بعد وفاة رسول الله (ص) لنقل إلينا نقل المصحف، ولو كان بقي من القرآن شئ لم ينقل لجاز أن يكون ما لم ينقل ناسخاً لما نقل، فذلك محال!

ثم قال: ومما نسخ خطه واختلف في حكمه ما روى مسلم في إفراده عن عائشة أنها أملت على كاتبها (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) وقالت: سمعتها من رسول الله (ص) وقد اختلف الناس في الصلاة الوسطى على خمسة أقوال بعدد الصلوات الخمس، وقد شرحنا ذلك في التفسير). انتهى.


الصفحة 568
وضعف هذا القسم من النسخ واضح، لأنهم اعترفوا بأن بقاء حكمه مختلف فيه، والحقيقة أن اختلافهم في أصل إنشاء حكمه لا في بقائه! ومعناه أن منهم من يشكون في أصل آيتي عائشة في الخمس رضعات وصلاة العصر!

وقد لاحظت أنهم لم يجدوا حلاً لتناقض كلام عائشة: (وقد توفي رسول الله وهي مما يقرأ من القرآن)، إلا بأن يجعلوه كلاماً عن آيات أخرى! وهو تهافت منهم، واتهام لعائشة بالتهافت!

*  *  *

وختاماً، نذكر بكاء ابن المنادي والزركشي على سورتي الحفد والخلع العمريتين!

قال في البرهان:2/37: (وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه الناسخ والمنسوخ مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه! سورتا القنوت في الوتر، قال:

ولاخلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب، وأنه ذكر عن النبي (ص) أنه أقرأه إياهما!! وتسميان سورتي الخلع والحفد!!

وهنا سؤال: وهو أن يقال: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟!

وأجاب صاحب الفنون فقال: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون

الصفحة 569
بأيسر شئ كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي)!! انتهى.

فتراهم جعلوا من أخبار الآحاد مستنداً شرعياً لإثبات قرآنية جميع زيادات عمر وعائشة وأبي موسى، ومن تبعهم، ومجموعها يبلغ أكثر من نص القرآن الفعلي! وحكموا بأنها جزء من القرآن!

ثم اخترعوا لتخليص أصحابها من القول بالتحريف، بدعة نسخ التلاوة وبكوا على تلك النصوص الركيكة التي أشربوا حبها لحب أصحابها، وقالوا إنها: (مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه)!!

ثم اخترعوا حِكَماً وأسراراً لما تخيلوه من أن الله تعالى أنزل أضعاف هذا القرآن ثم نسخه!!

في حين أنهم توقفوا في قرآنية البسملة والمعوذتين، تبعاً لأئمتهم أيضاً!

*  *  *


الصفحة 570

الأسئلة

1 ـ هل تعتقدون أن نسخ التلاوة يعالج كل أحاديث مصادركم، وأقوال أئمتكم وعلمائكم التي يبدو منها تحريف القرآن!

2 ـ هل يجوز للمسلم أن يقول إن الفقرة الفلانية كانت يوماً ما آية من كتاب الله تعالى ثم نسخت، بغير دليل على الأمرين؟

3 ـ كيف جعلتم من الدليل على نسبة الآية إلى القرآن، دليلاً على نسخها لأنها لا توجد فعلاً فيه، بدون أن ينص حديثها أو أثرها على نسخها؟! بل قد نص كثير منها على أنها ضاعت أو فقدت، أو أنها مازالت من القرآن؟!

4 ـ ما دمتم تقبلون حديث عمر عن آية الجهاد في المرة الثانية، وتصححون أحاديث جهاد علي (عليه السلام) على تأويل القرآن، فما هو حكم الذين جاهدهم علي (عليه السلام)؟ وما حكم الذين تخلفوا عن الجهاد معه؟!

5 ـ كيف صارت قبيلة بني أمية التي أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين بجهادها إذا حكمت،صارت دولة إسلامية عادلة وصار حكامها أئمة وخلفاء؟!

6 ـ مارأيكم فيما رواه الحاكم:4/487 عن أبي سعيد الخدري: (قال رسول الله (ص) إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً، وإن أشد قومنا لنا بغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنومخزوم. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

وما رواه مجمع الزوائد:7/44 عن علي (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا

الصفحة 571
نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ.. الآية، قال: (نزلت في الأفجرين من بني مخزوم وبني أمية فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمرو ذو مر ولم يرو عنه غير أبي إسحاق السبعي، وبقية رجاله ثقات)؟!


الصفحة 572

الصفحة 573

الفصل السادس عشر
أسطورة رفع القرآن من الصحف ومن الصدور


الصفحة 574

الصفحة 575

المســألة: 109
زعموا أن القرآن سيرفع من الأرض وأن الكعبة ستهدم ومكة ستخرب!

ربَّى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين على الوعد الإلهي بأن الله سيفتح عليهم بلاد كسرى وقيصر، وأنهم آخر الأمم وأفضلها، وأنه سينزل في أمته عيسى المسيح (عليه السلام)، ويبعث فيهم المهدي (عليه السلام) فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وأوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته بالثقلين القرآن والعترة وأخبرها أن الله عز وجل أنهما باقيان في أمته، ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

هذه التأكيدات النبوية كانت على ألسنة الجميع حتى المشركين.. فمن أين جاءت مقولة أن الإسلام سينتهي، وأن الكعبة ستهدم، وأن مكة ستخرب، وأن قريشاً كلها ستفنى فلا يبقى منها أحد، وأن القرآن سيرفع من الأرض؟!

من أين جاءت هذه الأساطير إلى أذهان المسلمين فدونوها في مصادرهم على أنها أحاديث مقدسة.. إلا من تأثير اليهود؟!

لقد عمل اليهود ليلاً ونهاراً بكامل قدرتهم، مع زعماء قريش، للقضاء على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته، فخاب سعيهم ونصر الله دينه ونبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)!

لكنهم واصلوا عملهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده محاولين حرف مسار الإسلام، والتأثير في ثقافته!

وكان لأحبارهم الذين تظاهروا بالإسلام

الصفحة 576
أثر كبير في تخريب العديد من المفاهيم، خاصة كعب الأحبار! وقد ساعده في مهمته أنه حضي بمكانة خاصة جداً عند عمر، فكان يصدقه ويتلقى منه، فاستغل ثقة عمر به ونشر ما استطاع من ثقافتهم وخيالاتهم!

وبما أن أسطورة رفع القرآن مرتبطة بالأساطير التي أشرنا اليها، في المنبع والهدف، كان لابد من التعرض لها ولو بشكل مختصر.

*  *  *


الصفحة 577

المســألة: 110
كان عمر يتلقى من كعب الأحباركما يتلقى المؤمن من نبيه!

كان عمر يعتقد أن كتب اليهود فيها علم المستقبل، وأن كعباً متخصص فيها، فكان يسأله عن نفسه هل هو ملك دنيوي أم خليفة شرعي لنبي؟! ويسأله عن حالته ومسكنه في الآخرة، وعن الذي يحكم بعده، وعن تفسير القرآن، وعن الأحكام الشرعية..الخ.!!

وكان كعب يجيبه كعب بما هبَّ ودب، بشرط أن يحلو لعمر!

لكنَّ لهجة كعب كانت دائماً لهجة العالم الواثق من علمه!!

ففي كنز العمال:12/567، عن نعيم بن حماد: أن عمر بن الخطاب قال لكعب: أنشدك بالله يا كعب أتجدني خليفة أم ملكاً؟ قال: بل خليفة. فاستحلفه فقال كعب: خليفة والله من خير الخلفاء، وزمانك خير زمان!).

وفي مجمع الزوائد:9/ 65: (عن عمر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب أرسل الى كعب الأحبار فقال: يا كعب كيف تجد نعتي؟ قال أجد نعتك قرن من حديد. قال وما قرن من حديد؟ قال أمير شديد لاتأخذه في الله لومة لائم. قال ثم مه؟ قال ثم يكون من بعدك خليفة تقتله فئة)!

وفي الدر المنثور:5/347: (وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة... في أن عمر قال: يا كعب ما عدن؟ قال: قصور من ذهب في الجنة يسكنها النبيون والصديقون وأئمة العدل).


الصفحة 578
وفي كنز العمال: 12/561، عن ابن المبارك والهروي في الجامع: (: قال عمر بن الخطاب: حدثني يا كعب عن جنات عدن. قال: نعم يا أمير المؤمنين، قصور في الجنة لايسكنها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حاكم عدل.

فقال عمر: أما النبوة فقد مضت لأهلها، وأما الصديقون فقد صدقت الله ورسوله، وأما الحكم العدل فإني أرجو الله أن لا أحكم بشئ إلا لم آل فيه عدلاً، وأما الشهادة فأني لعمر بالشهادة؟!). انتهى.

وفي بغية الباحث ص291: (قرأ عمر على المنبر جنات عدن قال هل تدرون ماجنات عدن؟ قصر من الجنة له خمسة آلاف باب على كل باب خمسة وعشرون ألفاً من الحور العين! لايدخله إلا نبي، هنيئاً لك يا صاحب القبر وأشار إلى قبر رسول الله (ص). أو صديق، هنيئاً لأبي بكر. أو شهيد، وأنى لعمر بالشهادة. وإن الذي أخرجني من منزلي بالحثمة قادر على أن يسوقها اليَّ)! انتهى. والحثمة محلة صخرية قاحلة وهي محلة بني عدي قرب مكة، وهذا الكلام يدل على أنه كان يتوقع الشهادة كما وعده كعب الأحبار!

فقد روى ابن شبة في تاريخ المدينة:3/891: (لما قدم عمر من مكة في آخر حجة حجها أتاه كعب فقال: يا أمير المؤمنين إعهد فإنك ميت في عامك، قال عمر: وما يدريك يا كعب؟ قال: وجدته في كتاب الله. أنشدك الله يا كعب هل وجدتني باسمي ونسبي عمر بن

الصفحة 579
الخطاب؟ قال: اللهم لا، ولكني وجدت صفتك وسيرتك وعملك وزمانك)!!

ومن أمثلة تأثير كعب على عمر: أنه أقنعه أن الجراد يولد من أنف الحوت!!

فقد كان عمر يحب الجراد، وربما أكله يابساً، ففي سنن البيهقي:9/257: (عن سنان بن عبد الله الأنصاري يقول سألت أنس بن مالك عن الجراد فقال خرجنا مع رسول الله (ص) الى خيبر ومع عمر بن الخطاب قفعة فيها جراد قد احتقبها وراءه، فيرد يده وراءه فيأخذ منها فيناولنا).

وفي ص258: (عن سعيد بن المسيب أن عمر وابن عمر والمقداد بن سويد وصهيباً أكلوا جراداً فقال عمر: لو أن عندنا منه قفعة أو قفعتين ونأكل منه). قال أبو عبيد: القفعة شئ شبيه بالزنبيل ليس بالكبير يعمل من خوص وليست له عرى.

وقد أُعجب عمر بفتوى لكعب بأن صيد الجراد حلالٌ للمحرمين للحج والعمرة، لأن الحرام عليهم صيد البر، والجراد من صيد البحر، لأنه يتولد من أنف الحوت، ويعطسه عطساً من أنفه كل ستة أشهر!!

ففي موطأ مالك:1/352: (عن عطاء بن يسار، أن كعب الأحبار أقبل من الشام في ركب حتى إذا كانوا ببعض الطريق، وجدوا لحم صيد فأفتاهم كعب بأكله قال فلما قدموا على عمر بن الخطاب بالمدينة. ذكروا ذلك له. فقال: من أفتاكم بهذا؟ قالوا: كعب. قال: فإني قد أمرته عليكم حتى ترجعوا.

ثم لما كانوا ببعض طريق مكة، مرت بهم

الصفحة 580
رجل من جراد فأفتاهم كعب أن يأخذوه فيأكلوه. فلما قدموا على عمر بن الخطاب ذكروا له ذلك فقال: ما حملك علىأن تفتيهم بهذا؟ قال: هو من صيد البحر. قال: وما يدريك؟ قال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده. إن هي إلا نثرة حوت ينثره في كل عام مرتين). (ورواه عبد الرزاق:4/435، وغيرهما)

ومع الأيام صار قول هذا الحاخام المقرب من عمر، حديثاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) روته مصادرهم مسنداً عن أبي هريرة، وابن عباس، وأنس، وجابر وخزيمة، وغيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! وقال بعض الرواة إنه رأى الحوت وهو يعطس جراداً كما في تفسير ابن كثير:2/106، وغيره!

وقال ابن كثير في تفسيره:2/ 105: (وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي (ص) بنحوه، وقد روى الامام أحمد وأ بو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن حماد بن سلمة حدثنا أبو المهزم هو يزيد بن سفيان سمعت أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله (ص) في حج أو عمرة فاستقبلنا جراد فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن فسقط في أيدينا فقلنا ما نصنع ونحن محرمون فسألنا رسول الله (ص) فقال: لا بأس بصيد البحر)!

وفي سبل الهدى:9/78: (وروى أبو داود وضعفه، وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: الجراد من صيد البحر.وروى ابن ماجه عن أنس وجابر أن

الصفحة 581
رسول الله (ص) قال: الجراد نثرة الحوت في البحر)!!

والهدف من هذه الأحاديث تحليل صيد الجراد للمحرمين! ولولا أن كعباً نفسه كان أفتى بأن الجراد من صيد البر، وجعل الكفارةعلى المحرم إن صاده درهمين واشتهر ذلك عنه، لنجح تحليله، وصار مجمعاً عليه عندهم!

قال ابن قدامة في المغني:3/534: (واختلفت الرواية في الجراد، فعنه (ص): هو من صيد البحر لاجزاء فيه، وهو مذهب أبي سعيد، قال ابن المنذر قال ابن عباس وكعب: هو من صيد البحر. وقال عروة: هو نثرة حوت، وروي عن أبي هريرة قال. أصحابنا ضرب من جراد فكان رجل منا يضرب بسوطه وهو محرم فقيل إن هذا لايصلح فذكر ذلك للنبي (ص) فقال: هذا من صيد البحر. وعنه عن النبي (ص) أنه قال: الجراد من صيد البحر. رواهما أبو داود.

وروي عن أحمد أنه من صيد البر وفيه الجزاء، وهو قول الأكثرين لما روي أن عمر قال لكعب في جرادتين: ماجعلت في نفسك؟ قال درهمان، قال بخ درهمان خير من مائة جرادة، رواه الشافعي في مسنده)!!

راجع كلام مفسريهم وفقهائهم المطول في تفسير قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (سورة المائدة:96)

أما فقهاء مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فقد أجمعوا على أن الجراد من صيد البر:


الصفحة 582
قال الصدوق في من لايحضره الفقيه: (ومر أبو جعفر (الإمام الباقر (عليه السلام)) على الناس وهم يأكلون جراداً فقال: سبحان الله وأنتم محرمون؟! قالوا: إنما هو من البحر، قال: فارمسوه في الماء إذن)!! (ورواه في تهذيب الأحكام:5/ 363) ومعنى كلام الإمام (عليه السلام) أنه لو كان الجراد بحرياً كما زعمتم، لما مات إن رمستموه في الماء وهو حي، لكنه يموت فارمسوه وانظروا!

وفي التهذيب:5/364، أن معاوية بن عمار سأل الإمام الصادق (عليه السلام): الجراد يكون على ظهر الطريق والقوم محرمون فكيف يصنعون؟قال: يتنكبونه ما استطاعوا قلت: فإن قتلوا منه شيئاً، ما عليهم؟ قال: لاشئ عليهم. والسمك لا بأس بأكله طريه ومالحه، وكذلك كل صيد يكون في البحر مما يجوز أكله قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ)

وقال في مسالك الأفهام:2/248: (قوله: والجراد في معنى الصيد. لاخلاف في ذلك عندنا. وإنما نبه على خلاف الشافعي، حيث ذهب إلى أنه من صيد البحر، لأنه يتولد من روث السمك)!

*  *  *

أهل البيت (عليهم السلام) يقفون في وجه كعب وثقافته اليهودية

تقدم في المسألة الأولى من هذا الكتاب استنكار علي (عليه السلام) في مجلس عمر أساطير كعب الأحبار اليهودية عن الله تعالى وأنه كان قبل خلق الخلق يجلس على صخرة بيت المقدس...! فقال له:

(غلط أصحابك وحرفوا كتب الله وفتحوا الفرية

الصفحة 583
عليه!

يا كعب ويحك! إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ولا تسع عظمته، والهواء الذي ذكرت لايحوز أقطاره، ولوكانت الصخرة والهواء قديمين معه لكان لهما قدمته وعزّ الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه، والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولامكان بحيث لاتبلغه الأذهان، وقولي (كان) عجز عن كونه وهو مما عَلَّمَ من البيان يقول الله عز وجل (خَلَقَ الأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) فقولي له (كان) مما علمني من البيان لأنطق بحججه وعظمته، وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء محيطاً بكل الأشياء، ثم كَوَّنَ ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب.... الخ.)

ونورد هنا رد الإمام الباقر (عليه السلام) على أفكار كعب التي فشت في المسلمين!

ففي الكافي:4/239: (عن زرارة قال: كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر وهو محتب مستقبل الكعبة، فقال: أما إن النظر إليها عبادة، فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر فقال لأبي جعفر: إن كعب الأحبار كان يقول: إن الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة، فقال أبو جعفر: فما تقول فيما قال كعب؟ فقال: صدق، القول ما قال كعب!

فقال أبو جعفر: كذبت وكذب كعب الأحبار معك! وغضب ; قال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً بقول كذبت غيره! ثم قال:

ما خلق الله عز وجل بقعة في الأرض أحب إليه منها، ثم أومأ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم على الله عز وجل منها، لها حرم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض ثلاثة متوالية للحج:


الصفحة 584
شوال وذو العقدة وذو الحجة وشهر مفرد للعمرة وهو رجب). انتهى.

*  *  *

المســألة: 111
قال عمر: الإسلام كالبعير..سوف يهرم ويموت!

في مسند أحمد:3/463: (قال كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم: يا فلان كيف سمعت رسول الله (ص) ينعت الاسلام؟ قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إن الاسلام بدأ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديسياً ثم بازلاً! قال فقال عمر بن الخطاب: فما بعد البزول إلا النقصان)!!

(ورواه في:5/52، وقال في لسان العرب إن الرجل الذي سأله عمر هو العلاء بن الحضرمي.)

وقال الجوهري في الصحاح:4/1321: (والسلوغ في ذوات الأظلاف بمنزلة البزول في ذوات الأخفاف لأنهما أقصى أسنانهما).

وقال الزبيدي في تاج العروس:9/245: (وقال الأزهري: وأدنى الأسنان الإثناء وهو أن تنبت ثنيتاها، وأقصاها في الإبل البزول، وفي البقر والغنم السلوغ)

وقال أهل البيت: الإسلام كحديقة أطعم منها فوج عاماً وفوج عاماً

روى الصدوق في الخصال ص475: (عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أبشروا ثم أبشروا - ثلاث مرات- إنما مثل أمتي كمثل غيث لايدرى أوله خير أم آخره، إنما مثل امتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً، ثم أطعم منها فوج عاماً، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً