المسألة الثانية
زعمه أن زيارة قبر النبي غير مستحبة!
قال البدير: (زيارة المسجد النبوي سنة من المسنونات، وليست واجباً من الواجبات ليس لها علاقة بالحج ولاهي له من المتممات. وكل ما يروى من أحاديث في إثبات علاقتها وعلاقة زيارة قبر المصطفى (ص) بالحج، فهو من الموضوعات والمكذوبات. ومن قصد بشد رحله إلى المدينه زيارة المسجد والصلاة فيه، فقصده مبرور وسعيه مشكور، ومن لم يرم بشد رحله إلا زيارة القبور والاستغاثة بالمقبور، فقصده محظور وفعله منكور) !.
وقال: (أيها المسلمون! ويشرع لزائر المسجد النبوي من الرجال، زيارة قبر النبي (ص) وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر (رض) بالسلام عليهم والدعاء لهم. أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء!!)
وقال: (المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره (ص) ، كأن تكون زيارته بعد كل فريضه أو في كل يوم بعد فريضه بعينها، ففي هذا مخالفة لهدي النبي (ص) وفي هذا مخالفة لقوله (ص) : لاتجعلوا قبري عيداً) .
أولاً: أجمع المسلمون على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله
أفتى المسلمون على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، أنه يستحب للمسلم وخاصة الحاج، أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وآله في المدينة، ويصلي في مسجده الشريف، ويزور بقية المساجد والأماكن الطاهرة في المدينة وحولها.
وعلى ذلك جرت سيرتهم من صدر الإسلام الى عصرنا هذا.
لكن ابن تيمية جاء في القرن الثامن وخالف عامة المسلمين، وقال لايستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله، ولا زيارة المدينة! ولذلك قال البدير: "يُسَنّ" زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وآله، يقصد المسجد فقط، لاقبر النبي صلى الله عليه وآله ولا المدينة! وهذه نصوص فقهاء مذاهب المسلمين ترد على مقولتهم الشاذة!
1- قال الحافظ الممدوح في"رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة " ص51-54:
(كلام الأئمة الفقهاء في استحباب زيارة القبر الشريف: قال الإمام المجمع على علمه وفضله أبو زكريا النووي: (واعلم أن زيارة قبر رسول الله (ص) من أهم القربات وأنجح المساعي، فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استحب لهم استحباباً متأكداً أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته (ص) ، وينوي الزائر مع الزيارة التقرب وشد الرحل إليه والصلاة فيه. انتهى. (المجموع: 8 / 204) .
وقال أيضاً في الإيضاح في مناسك الحج:
(إذا انصرف
وعلق الفقيه ابن حجر الهيتمي على الحديث فقال في حاشية الإيضاح:
الحديث يشمل زيارته (ص) حياً وميتاً، ويشمل الذكر والأنثى، والآتي من قرب أو بُعد، فيستدل به على فضيلة شد الرحال لذلك وندب السفر للزيارة، إذ للوسائل حكم المقاصد. انتهى. (ص 214 حاشية الايضاح) .
وقال الإمام المحقق الكمال ابن الهمام الحنفي في شرح فتح القدير:
المقصد الثالث في زيارة قبر النبي (ص) قال: مشايخنا رحمهم الله تعالى من أفضل المندوبات. وفي مناسك الفارس وشرح المختار: إنها قريبة من الوجوب لمن له سعة، ثم قال بعد كلام ما نصه: والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النية لزيارة قبر النبي (ص) ثم إذا حصل له إذا قدم زيارة المسجد، أو يستفتح فضل الله سبحانه في مرة أخرى ينويهما فيها، لأن في ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله (ص) . انتهى. (3 / 179 - 180) .
وقال محقق مذهب الحنابلة أبو محمد بن قدامة المقدسي:
(ويستحب زيارة قبر النبي (ص) لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال قال رسول الله (ص) : (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي) . وفي رواية:
(من زار قبري وجبت له شفاعتي) . رواه باللفظ الأول سعيد، ثنا حفص بن سليمان، عن ليث،
2- وقال الحافظ السقاف في كتابه البشارة والإتحاف ص53:
فصل: ابن تيمية يمنع زيارة قبر سيدنا رسول الله (ص) والذهبي يخالف ذلك في (السير) ويرد عليه:
ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري شرح صحيح البخاري:3/66) عند الكلام على حديث: (لاتشد الرحال) : أن ابن تيمية يقول بتحريم شد الرحل الى زيارة قبر سيدنا رسول الله (ص) ! وذكر ابن حجر أنه أنكر ذلك على ابن تيمية، وأن ذلك من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية! وإليك نصه بحروفه من الموضع المشار إليه آنفاً: (والحاصل أنهم الزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل الى زيارة قبر سيدنا رسول الله (ص) وأنكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية! ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي (ص) ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول زرت قبر النبي (ص) ! وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدباً لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة الى ذي الجلال، وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع) . انتهى.
3- وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: 4/484 راداً على ابن تيمية ما نصه:
(فمن وقف عند الحجرة المقدسة ذليلاً مسلماً مصلياً على نبيه فياطوبى له، فقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحب، وقد أتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في صلاته، إذ الزائر له
ولكن من زاره صلوات الله عليه وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر أو فعل ما لايشرع، فهذا فعل حسناً وسيئاً، فيُعَلَّم برفق والله غفور رحيم. فوالله ما يحصل الإنزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء، إلا وهو محب لله ولرسوله، فحبه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب، وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء، لئن سلَّمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه: (لاتشدوا الرحال إلاإلى ثلاثة مساجد) فشد الرحال إلى نبينا (ص) مستلزمٌ لشد الرحل الى مسجده، وذلك مشروعٌ بلا نزاع، إذ لاوصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده، فليبدأ بتحية المسجد، ثم بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله وإياكم ذلك) .
ثانياً: محاكمة ابن تيمية وحكم قضاة الفقهاء الأربعة بانحرافه!
صورة الفتوى من خط القضاة الأربعة، وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة: (الحمد لله. هذا المنقول باطنها) جواب عن السؤال عن قوله (إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة) ، وما ذكره من نحو ذلك، وأنه لايرخص بالسفر لزيارة الأنبياء عليهم السلام!
باطلً مردودً عليه. وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء، ويمنع من الفتاوى الغريبة،
وكتب محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.
وكذلك يقول محمد بن الحريري الأنصاري الحنفي، لكن يحبس الآن جزماً مطلقاً. وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي، ويبالغ في زجره حسب ما تندفع به هذه المفسدة وغيرها من المفاسد.
وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي.
ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي (ص) وقبور الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوع بها! وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، فلما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه فغاروا لرسول الله (ص) غيرة عظيمة، وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته، وللزائرين من أقطار الأرض، واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه، وأهانوه ووضعوه في السجن. انتهى من كتاب ابن شاكر الكتبي) . (التوفيق الرباني لجماعة من العلماء ص20)
ثالثاً: زملاء البدير يحرفون الكتب ويحذفون منها زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله
قال الحافظ الممدوح في رفع المنارة ص 57:
(قال الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء:64) ،
الى أن قال الممدوح: وقد فهم المفسرون من الآية العموم، ولذلك تراهم يذكرون معها حكاية العتبي الذي جاء للقبر الشريف، فقال ابن كثير في تفسيره:2/306: وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو النصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال: كنت جالساً عند قبر النبي (ص) فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله. سمعت الله يقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:
ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني فرأيت النبي (ص) في النوم فقال: ياعتبي إلحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له) . انتهى.
وقال الممدوح في هامشه: (وقد ذكر قصة العتبي الإمام المجمع على فضله وعلمه يحيى بن شرف النووي الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه "الأذكار" ولكن خلع "المحقق" ربقة الأمانة! فحذف قصة العتبي في الطبعة التي حققها لحساب دار الهدى بالرياض سنة 1409!!
ولم يكتف بهذا التحريف فله نظائر أخرى منها: قال الإمام النووي في الأذكار: (فصل في زيارة قبر رسول الله (ص) وأذكارها:
فانظروا الى انعدام الأمانة العلمية عند هؤلاء، وجرأتهم على تحريف مصادر المسلمين، وتزوير كتاب الأذكار للنووي، مع أنه كتاب مطبوع ومؤلفه فقيه معروف! وهذا مثلٌ من تحريفاتهم، ولها أمثال أخرى!
رابعاً: لماذا التفريق في حكم زيارة القبور بين الرجال والنساء؟!
فتوى مذهب أهل البيت الطاهرين عليهم السلام أنه لافرق في استحباب زيارة القبور بين الرجال والنساء، ومن الطبيعي أنه يجب على النساء والرجال في هذه الحالة وكل الحالات أن يراعوا الأحكام الشرعية في الستر والآداب. وهي فتوى عامة المذاهب الإسلامية، إلا من شذ وندر.
بل هذه هي فتوى إمام المذهب الوهابي الشيخ ناصر الدين الألباني الذي يعتبرونه محدث العصر، ويمدحه ابن باز وغيره من أئمتهم.
قال الألباني في أحكام الجنائز ص 180:
(والنساء كالرجال في
الثاني: مشاركتهن الرجال في العلة التي من أجلها شرعت زيارة القبور: (فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة) .
الثالث: أن النبي (ص) قد رخص لهن في زيارة القبور، في حديثين حفظتهما لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
1 - عن عبد الله بن أبي مليكة: (أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت لها: أليس كان رسول الله (ص) نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم ثم أمر بزيارتها. وفي رواية عنها: أن رسول الله (ص) رخص في زيارة القبور أخرجه الحاكم:1/ 376 وعنه البيهقي: 4/ 78 من طريق بسطام بن مسلم، عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن عبد الله بن أبي مليكة.
والرواية الأخرى لابن ماجه:1/475: قلت: سكت عنه الحاكم، وقال الذهبي صحيح، وقال البوصيري في الزوائد:1/ 98:إسناده صحيح رجاله ثقات. وهو كما قالا. وقال الحافظ العراقي في تخريج
فانظر كيف يفتي لهم أئمتهم ويستدلون بصحاحهم وبعمل عائشة، وبعمل فاطمة الزهراء÷، ولكنهم يخالفونهم ويصرون على التشديد على المسلمين، والتمييز بين المرأة والرجل بدون دليل من الشرع!
خامساً: تأكيد مذهب أهل البيت على زيارة قبور النبي وآله صلى الله عليه وآله
روى الكليني في الكافي ج4ص272عن الإمام الصادق عليه السلام بسند صحيح قال: (لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده. ولو تركوا زيارة النبي صلى الله عليه وآله لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين) وروى أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: (إن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وزيارة قبور الشهداء وزيارة قبر الحسين عليه السلام تعدل حجةً مع رسول الله صلى الله عليه وآله) .
وروى في ج 4 ص548: عن الإمام الصادق عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة، ومن مات في أحد الحرمين مكة والمدينة لم يُعرض ولم يُحاسب، ومن مات مهاجراً إلى الله عز وجل حُشر يوم القيامة مع أصحاب بدر) .
فتوى المرجع السيد الخوئي (قدس سره) في استحباب الزيارة
قال (قدس سره) في البيان في تفسير القرآن ص470:
(وعلى هذا جرت الصحابة والتابعون خلفاً عن سلف فكانوا يزورون قبر النبي صلى الله عليه وآله ويتبركون به ويقبلونه ويستشفعون برسول الله صلى الله عليه وآله، كما كانوا يستشفعون به في حياته. وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة الدين عليهم السلام وأولياء الله الصالحين، ولم ينكر ذلك أحدٌ من الصحابة، ولا أحد من التابعين أو الأعلام، إلى أن ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، فحرم شد الرحال إلى زيارة القبور، وتقبيلها ومسها والاستشفاع بمن دفن فيها، حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي صلى الله عليه وآله إن تبرك به بتقبيل أو لمس، وجعل ذلك من الشرك الأصغر تارة، ومن الشرك الأكبر أخرى.
ولما رأى علماء عصره عامة أنه قد خالف في رأيه هذا ما ثبت من الدين وضرورة المسلمين، لأنهم قد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله حثه على زيارة المؤمنين عامة وعلى زيارته خاصة بقوله: "من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي" وما يؤدي هذا المعنى بألفاظ أخر، تبرأوا منه وحكموا بضلاله، وأوجبوا عليه التوبة، فأمروا بحبسه، إما مطلقاً، أو على تقدير أن لايتوب. والذي أوقع ابن تيمية في الغلط، إن لم يكن عامداً لتفريق كلمة المسلمين، هو تخيله أن الأمور المذكورة شركٌ بالله وعبادة لغيره! ولم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأعمال يعتقدون توحيد الله وأنه لا خالق ولا رازق سواه وأن له الخلق والأمر، وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله، وقد علمتَ أنها راجعةٌ إلى تعظيم الله والخضوع له والتقرب إليه سبحانه
وصفوة القول:
أن التقبيل والزيارة وما يضاهيهما من وجوه التعظيم لاتكون شركاً بأي وجه من الوجوه وبأي داع من الدواعي، ولو كان كذلك لكان تعظيم الحي من الشرك أيضاً، إذ لافرق بينه وبين الميت من هذه الجهة. ولا يلتزم ابن تيمية وأتباعه بهذا! للزم نسبة الشرك إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وحاشاه فقد كان يزور القبور، ويسلم على أهلها، ويقبل الحجر الأسود كما سبق! وعلى هذا فيدور الأمر بين الحكم بأن بعض الشرك جائز لامحذور فيه، وبين أن يكون التقبيل والتعظيم لابعنوان العبودية خارجاً عن الشرك وحدوده، وحيث أنه لا مجال للأول لظهور بطلانه، فلا بد وأن يكون الحق هو الثاني) .
المسألة الثالثة
زعمه أن المشي لزيارة النبي صلى الله عليه وآله ولو خطوة واحدة حرام!
وهي المسألة المعروفة بـ"مسألة شد الرحال" ومعناها أن ينوي المسلم من بلده زيارة قبرالنبي صلى الله عليه وآله، فإن ابن تيمية حكم بالشرك والكفر على المسلمين، لأنهم ينوون من بلادهم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله!
بل شملت فتواه من يقصد زيارة القبر الشريف ويخطو اليه من خارج المسجد، بل من يخطو اليه من داخل المسجد ولو خطوة واحدة! واعتبر ذلك حسب فهمه شداً للرحال! وحكم علىهذا المسلم المخلص لربه ونبيه بأنه بخطوته هذه بنية الزيارة والتوسل، قد أشرك بالله تعالى وكفر!!
وهذا معنى قول البدير:" زيارة المسجد النبوي سنة من المسنونات، وكل ما يروى من أحاديث في إثبات علاقتها وعلاقة زيارة قبر المصطفى (ص) بالحج، فهو من الموضوعات والمكذوبات! ".
وكذلك قوله: "ومن لم يرم بشد رحله إلا زيارة القبور، والاستغاثة بالمقبور، فقصده محظور وفعله منكور ".
وقد أخفى هذا المطوَّع مذهبه باللف والدوران في كلامه، فقال إن ذلك حرام ومنكور، ولم يصرح بشرك فاعله وكفره، لأنه يخاف من حكومته ومن عامة المسلمين، إن أعلن فتواه بتكفيرهم!!
وقد رد جميع علماء المذاهب على شذوذ ابن تيمية، ونكتفي بنقل ردود مختارة مختصرة، مضافاً الى ما تقدم في استحباب أصل الزيارة:
قال الحافظ الممدوح في رفع المنارة ص56:
(قال ابن نصر الله: لازم استحباب زيارة قبره (ص) استحباب شد الرحال إليها، لأن زيارته للحاج بعد حجه لاتمكن بدون شد الرحل، فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته (ص) . ج2 /514. وقال أبو الحسن المرداوي في الإنصاف:4/53: هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم) .
وقال الممدوح في ص72:
(غير خفي أن ابن تيمية انفرد في القرن السابع بمنع إنشاء السفر لزيارة النبي (ص) .....وأعقب فتيا ابن تيمية مناظرات ومصنفات وفتن، وأكثرَ العلماء من رد مقالته) .
وقال في ص74:
وقال أيضاً (الحافظ أبو زرعة) في طرح التثريب:6/43) :
(وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام بشع عجيب، يتضمن منع شد الرحل للزيارة! وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السقام، فشفى صدور قوم مؤمنين) .
وقال في ص75- 83:
(وعمدة ابن تيمية على هذا المنع حديث (لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) .
والجواب على هذا من وجوه. الوجه الأول: هذا الإستثناء المذكور في الحديث استثناءٌ مفرَّغ، ولابد من تقدير المستثنى منه، وهو إما أن يحمل على عمومه فيقدر له أعم العام، لأن الإستثناء معيار العموم، فيكون التقدير لاتشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاثة، وهذا باطلٌ بداهةً، لأنه يستلزم تعطيل السفر مطلقاً إلا للمساجد الثلاثة.
وقال العلامة البدر العيني الحنفي:6/276:
(وشد الرحل كناية عن السفر لأنه لازم للسفر، والإستثناء مفرَّغ فتقدير الكلام: لاتشد الرحال إلى موضع أو مكان. فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى ما كان غير المستثنى حتى لا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل (ص) ونحوه، لأن المستثنى منه في المفرغ لابد أن يقدر أعم العام.
وأجيب: بأن المراد بأعم العام مايناسب المستثنى نوعاً ووصفاً، كما إذا قلت ما رأيت إلا زيداً، كان تقديره ما رأيت رجلاً أو أحداً إلا زيداً، لا ما رأيت شيئاً أو حيواناً إلا زيداً. فهاهنا تقديره لاتشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة) .
وقال ابن حجر في فتح الباري: 3/66:
(قال بعض المحققين: قوله: (إلا إلى ثلاثة مساجد) المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدر عاماً فيصير: لاتشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة أو أخص من ذلك، ولاسبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة، وصلة الرحم، وطلب العلم وغيرها، فتعين الثاني. والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو: لاتشد الرحال إلى مسجد للصلاة إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين) .
وقال السبكي ما ملخصه: ص119-121:
(السفر فيه أمران باعث عليه كطلب العلم وزيارة الوالدين وما أشبه ذلك، وهو مشروع
فالنهي عن السفر مشروط بأمرين: أحدهما، أن يكون غايته غير المساجد الثلاثة. والثاني، أن تكون علته تعظيم البقعة. والسفر لزيارة النبي (ص) غايته أحد المساجد الثلاثة، وعلته تعظيم ساكن البقعة لا البقعة فكيف يقال بالنهي عنه؟! بل أقول إن للسفر المطلوب سببين، أحدهما مايكون غايته أحد المساجد الثلاثة، والثاني ما يكون لعبادة وإن كان إلى غيرها.
والسفر لزيارة المصطفى (ص) اجتمع فيه الأمران، فهو في الدرجة العليا من الطلب، ودونه ما وجد فيه أحد أمرين. وإن كان السفر الذي غايته أحد الأماكن الثلاثة، لابد في كونه قربة من قصد صالح. وأما السفر لمكان غير الأماكن الثلاثة لتعظيم ذلك المكان فهو الذي ورد فيه الحديث، ولهذا جاء عن بعض التابعين أنه قال: قلت لابن عمر إني أريد أن آتي الطور؟ قال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد رسول الله والمسجد الأقصى، ودع الطور فلا تأته) .
والحاصل أن الحديث إن حمل على عمومه وفق مراد ابن تيمية، فهو لايرِد على الزيارة مطلقاً، لأن المسافر للزيارة مسافر لساكن البقعة كالعالم والقريب وهذا جائز إجماعاً. أما الحديث فوارد في الأماكن فقط فتدبر تستفد. ولله در التقي السبكي) .
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: 9/106:
(والصحيح عند أصحابنا، وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولايكره، قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة) .
وقال الشيخ الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني: 2/103:
(وأما قوله عليه السلام (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، فيحمل على نفي التفضيل لا على التحريم، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر، فلا يضر انتفاؤها) . ومثله لأبي الفرج ابن قدامة في الشرح الكبير:2/93) .
وقال إمام الحرمين في الروضة: 3 / 324:
والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة، وبه قال الشيخ أبو علي. ومقصود الحديث تخصيص القربة بقصد المساجد الثلاثة. انتهى. (المجموع: 8 / 375) .
وصفوة ما سبق أن الصلاة في هذه المساجد تختص بطاعة زائدة على ما سواها من المساجد، وما كان الأمر كذلك فلا يصح الوفاء بالنذر إلا إليها. أما غيرها من المساجد فيستوي ثواب الصلاة فيها، والسفر إليها سفر مباح، يجوز قصر الصلاة فيه) . انتهى كلام الممدوح.
وقال الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي (رحمه الله) ، وهو من كبار فقهاء الإمامية وكان قريباً من عصر ابن تيمية فقد توفي سنة 786، قال في كتابه الذكرى ص 154من الطبعة القديمة:
(وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله: لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي، والمسجد الأقصى.
قلت:
أجمع العلماء إلا من شذ على أن المراد بهذا النفي بالنسبة الى المساجد، أي لايصلح ذلك الى مسجد غير هذه الثلاثة، لتقارب المساجد سواها في الفضل، فليس سفره إلى مسجد بلد آخر ليصلي فيه بأولى من مقامه عند مسجد بلده والصلاة فيه.
وهذا النفي يراد به نهي التنزيه، لانعقاد الإجماع على عدم تحريم السفر إلى غير المساجد المذكورة، لتجارة أو قُربة من القرب.
وقال بعضهم: المراد لايستحب شد الرحال إلا الى هذه، ولا يلزم من نفي الإستحباب نفي الجواز.
وارتكب واحد من العامة تحريم زيارة الأنبياء والأئمة عليهم السلام والصالحين متمسكاً بهذا الخبر على مطلوبه، ذاهباً إلى أنه لابد من إضمار شئ هنا وليكن العبادة، لأن الأسفار المطلقة ليست حراماً! وهو تحكُّمٌ محض، لأن إباحة الشد للأسفار المطلقة تستلزم أولويته لما هو عبادة، إذ العبادة أو الحج في نظر الشرع من السفر المباح.
ويلزمه عدم الشد لزيارة أحياء العلماء، وطلب العلم، وصلة الرحم، وقد جاء: من زار عالماً فكمن زار بيت المقدس، وورد: أطلبوا العلم ولو بالصين، ولايخالف أحدٌ في إباحة هذا مع أنه عبادة، فتعين أن المراد بالحديث: لايستحق، أو لايتأكد، أو لا أولى بالشد من هذه الثلاثة. أو يضمر المساجد كما سبق ذكره.
وهذا القائل كلامه صريح في نفي مطلق زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام والصلحاء لأنه احتج بأنه لم يثبت في الزيارة خبر صحيح! بل كلما ورد فيها موضوع بزعمه! وكل هذا مراغمةً للفرقة المحقة والفرقة الناجية، الذين يرون تعظيم الزيارات والمزارات، ويهاجرون إليها ويجاورون
مع أن جميع المسلمين مجمعون على زيارة النبي صلى الله عليه وآله منذ نقله الله إلى دار عفوه ومحل كرامته، إلى هذا الزمان، ففي كل سنة يعملون المطي ويشدون الرحال، ولاينصرفون إلى بعد السلام عليه. وانعقاد الإجماع في هذه الأعصار قبل ظهور هذه المقالة الشنيعة وبعدها، حجةٌ قاطعةٌ في هذا المقام، وأي حجة أقوى من إجماع أهل الاسلام على زيارة النبي صلى الله عليه وآله بإعمال المطي وشد الرحال في كل عام؟!
وأما الأخبار الواردة في زيارته فهي كثيرة جداً، قد ضمنها العلماء في كتبهم المأثورة وسننهم المشهورة، مثل مارواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ما من رجل يسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ صلى الله عليه وآله. ولم يزل الصحابة والتابعون كلما دخلوا المسجد يسلمون على النبي صلى الله عليه وآله. ولاحاجة إلى الإستدلال بالأخبار في هذا المقام المجمع عليه، فإنه عدولٌ عن يقين إلى شك، ومن علمٍ إلى ظن!) . انتهى.
المسألة الرابعة
زعمه أن تكرار زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله حرام!
قال البدير: (أيها المسلمون! ويشرع لزائر المسجد النبوي من الرجال، زيارة قبر النبي (ص) وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر (رض) بالسلام عليهم والدعاء لهم. أما النساء فلا يجوز لهن زيارة القبور في أصح قولي العلماء!!)
وقال: (المخالفة السادسة: التكرار والإكثار من زيارة قبره (ص) ، كأن تكون زيارته بعد كل فريضة، أو في كل يوم بعد فريضه بعينها، ففي هذا مخالفة لهدي النبي (ص) ! وفي هذا مخالفة لقوله (ص) : لاتجعلوا قبري عيداً) .