الصفحة 293
شهاب الخفاجي والقسطلاني.

فقد ادعى ابن تيمية مثلا بأن الحكاية التي رواها أبو حسن علي بن فهر في كتابه فضائل مالك وأوردها أيضا القاضي عياض في " الشفا " وهي: " أن مالك أمر أبو جعفر المنصور باستقبال قبر النبي (ص) والدعاء عنده "، لا تصح عن مالك وإنما هي مفتراة عليه. والذي دعى الشيخ الحنبلي لقول ذلك ليس التحقيق العلمي. لأن أصحاب مالك يقولون بأن إسناد الرواية صحيح. وليس فيه كذاب أو وضاع. ولكن الشيخ لما ابتدع له مذهبا بعدم تعظيم القبور كان يدفع كل ما يرد عن السلف من أقوال أو أفعال يفهم منها التعظيم. فهو، يقول الشيخ الزرقاني المالكي: إذا لم يجد له شبهه واهية يدفع بها زعمه انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نسب إليه، مباهتة ومجازفة وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله (117). وهكذا تتوالى الردود على الشيخ من طرف علماء وفقهاء المذاهب الأربعة لتبرئة السلف مما يدعيه مذهبا لهم.

إن مذهب الشيخ الحراني عند التحقيق ليس إلا مجمل اجتهاداته وترجيحاته وأفكاره المتباينة، وضعت في قالب سماه وأطلق عليه " مذهب السلف " أو ما كان عليه السلف وهم من عاش في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام.

***

____________

(117) الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، رئيس محكمة الحقوق العليا بيروت سابقا. شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق (ص)، ضمن كتاب علماء المسلمين والوهابيون، لحسين حلمي الاستانبولي، ص 187.

الصفحة 294

وأخيرا

لقد حاولنا في هذه العجالة تسليط الضوء على حياة وسيرة هذا الرجل الذي شغل معاصريه من الفقهاء والعلماء كما شغل السلطة السياسية، وذلك لما كانت تخلق فتاواه وآراؤه من فتن وصراعات يتورط فيها العوام أغلب الأحيان، فيحدثون الشغب والقلاقل.

كما أن أفكاره التي تم إحياؤها على يد تلميذه النجدي وقامت عليها دولة في شبه الجزيرة العربية اليوم، قد جعلت التاريخ يعيد نفسه في بعض الفصول.

فقد انتشرت آراء الشيخ الحنبلي في أرجاء واسعة من العالم الإسلامي بفضل الطباعة والنشر والدعم المالي الكبير، والحرص الشديد لأتباعه على إيصال كتبه وآرائه إلى الأوساط المتلقية في العالم الإسلامي.

فانتشرت الفتن وعمت البلوى، وتجند علماء أهل السنة بادئ الأمر للرد على الشيخ وأتباعه. وبعث كل ما قيل حول آرائه من نقض وردود. بالإضافة إلى تأليفات جديدة. لكن الانحصار أصاب هذه الحركة، ليس فقط بسبب طوفان الكتب التي تنشر هذا المذهب وتدعو له، والتي أغرقت سوق الكتاب الإسلامي، حيث يطبع قسم كبير منها طباعة فاخرة ويوزع بالمجان وخصوصا " مجموع فتاوى الشيخ ". ولكن بسبب الإرهاب الفكري الذي يمارسه القائمون على هذه الدعوة - السلفية - وذلك برمي خصومهم بالابتداع والضلال والكفر، ومحاولة تشويه سمعتهم لدى أبناء الصحوة الإسلامية الذين انجر كثير منهم لاعتناق هذه الأفكار ظنا منه أنه يتبع السلف الصالح وأنه يبتعد بذلك عن الانحراف والشرك.


الصفحة 295
أرجع لأقول بأن البحث في حياة الرجل وأفكاره ليست بالأمر الهين، لكثرة الآراء المتناقضة المسطرة حوله في كتب التاريخ.

لكن تراثه وما خطه يراعه، بالإضافة إلى ما عليه أتباعه اليوم، لا يدع مجالا للشك من أن ما وصمه به خصوصه هو الواقع والمطابق للحقيقة تماما.

لقد كان الرجل واسع الاطلاع على تراث الفرق الإسلامية لكنه لم يكن دقيقا ولا مختصا. إنما قارئا سطحيا، لذلك وقع في الأخطاء، سواء عندما أراد أن يجعل من نفسه حكما وميزانا، أو عندما اجتهد لنفسه آراء مخالفة لما عليه جمهور العلماء وإن كان قد أصاب في بعضها (118).

فقد استطاع كل فريق خاصمه ابن تيمية أن يثبت تهافت كلام الشيخ في حقه وتناقضه وعدم معرفته بكلام خصومه. لذلك اتهموه بالكذب والتزوير وعدم الأمانة في النقل، وقد أوردنا بعضا من حججهم في ذلك. كما أجمعوا على أن الشيخ كان سطحيا وظاهريا في معالجته لكثير من قضايا الفكر الإسلامي المختلف فيها.

أما حدة الصراع والرفع من وتيرته لدرجة إدخال الشيخ للسجن والحكم بضلاله وكفره، فإن ذلك راجع لسلوك الشيخ وموقفه الحاد من خصومه في الرأي، واعتداده بنفسه لدرجة الغرور الممقوت. يقول جلال الدين السيوطي في وصف حال الشيخ الحنبلي، " وقد تعبت في رزيته وفتنته حتى مللت في سنين متطاولة فما وجدت قد أضره في أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا بالكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار (119). والسيوطي لم يكن عدوا لابن تيمية، وإن

____________

(118) كمسألة رفض حكم الطلاق الثلاث وأنه لا يقع إلا طلقة واحدة، وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي اجتهد هذا الحكم الذي خالف فيها النصوص وما كان عليه الرسول والصحابة.

(119) علماء المسلمين الوهابيون، مرجع سابق، ص 183.

الصفحة 296
خالفه في كثير من القضايا (120). لكنه كان مصيبا فيما وصف به الشيخ.

زد على ذلك حدة في الطبع وجفاء وغلظة في التعامل مع من جعلهم خصوصا له. وقد حاول البعض أن يرجع هذه الحدة والمزاج الصعب والمتقلب إلى كون الشيخ لم يتزوج طيلة حياته. ولا شك أن الكبت الجنسي كما أثبت العلم المعاصر، يضغط على الأعصاب ويؤثر عليها، فيتعرض الإنسان على أثر ذلك لموجات عصبية حادة. وهذا القول لا شك أن فيه بعضا من الصحة ويمكن أن يكون مفتاحا لحل لغز التناقض الحاد في أفكار الشيخ وأحكامه.

فقد عثر الباحثون - كما أشرنا إلى ذلك سابقا - على أحكام وآراء متناقضة له في المسألة الواحدة. فهو حينا يعالج القضية بهدوء وتفهم وكأنه تلميذ يشرح كلام أستاذه بصدق وأمانة، وتراه حينا آخر مندفعا لا يلوي على شئ مجردا خصومه من كل فضيلة أو علم ناسبا إياهم إلى الضلال والابتداع أو الكفر، بل ليسوا سوى تلامذة لفلاسفة اليونان الوثنيين أو أتباع بوذية الهند وأنباط الفرس.

ونحن نقول بعد متابعة شاملة لحياة الشيخ ومذهبه وسيرة أصحابه، بأن الحدة والمزاج الصعب والجاف الذي يتكلم عنه الباحثون يجدون تفسيره في مسألتين مهمتين بالإضافة إلى الكبت الجنسي أو كونه عاش وحيدا دون أهل أو زوجة.

المسألة الأولى: تتمثل في البيئة الجغرافية التي فتح الشيخ فيها عينيه وتربى ونشأ، وهي مدينة حران التي وصفها الرحالة ابن جبير بقوله: " ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه - أي بلد حران - ولا تجد فيها مقيلا، ولا تتنفس فيها إلا نفسا ثقيلا، قد نبذ بالعراء، ووضع في وسط الصحراء فعدم رونق

____________

(120) من بينها احترامه لابن الفارض الصوفي الذي ذمه ابن تيمية وعاداه لأنه يعتقد بوحدة الوجود فقد كان السيوطي يعتقده وألف جزءا سماه " قمع المعارض لابن الفارض ". أنظر القول الجلي للصفي البخاري.


الصفحة 297
الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة " (121). فلا شك أن هذه البيئة الصحراوية الجافة كان لها تأثير على نفسية الصبي، وهذا معلوم بالضرورة فأخلاق وسلوكيات البدو الذين يعيشون في الصحاري والقفار تكون جافة غليظة، بخلاف سكان الحواضر والبوادي الخصبة حيث الأنهار والبساتين والأشجار الكثيفة. وهذا من تأثير الطبيعة والجغرافية على الإنسان، وهي مسلمة علمية وعرفية.

وعندما هاجر الصبي من حران، استقر به المطاف في دمشق فأكمل نشأته فيها حتى بلغ من الكبر عتيا وأهل دمشق - بالخصوص - يعرفون ببعض الجفاء والخشونة في المعاملات بخلاف أهل حلب مثلا. وربما لذلك كان للمذهب الحنبلي أتباع هناك ومدارس.

المسألة الثانية: ترجع إلى المذهب الحنبلي فقد ولد الشيخ ابن تيمية في بيت المشيخة الحنبلية واستمر يرتع وينمو في أحضان هذا المذهب إلى أن تولى رئاسته. والصفة المميزة والخاصة لأتباع هذا المذهب كانت وما زالت تتمثل في الجفاء والغلظة، وقد وصفهم ابن عقيل الحنبلي قائلا: " قوم خشن تقلصت أخلاقهم عن المخالطة وغلظت طباعهم عن المداخلة... (122). ويقول صاحب النهج الأحمد: " فقد كنا في عهد الصبا نسمع الرجل يصف رجلا آخر فإذا أراد أن ينعته بضيق الصدر والتزمت وصلابة الرأي وعدم انقياده للحديث يلقى إليه قال " أنه حنبلي " ولا يزال الناس إلى يومنا هذا يذكرون هذه العبارة في مثل هذا المعرض (123).

هذا الجفاء والغلظة كانت السبب في كثير من خلافاتهم مع علماء وفقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى. فقد كان الحنابلة يرون أنفسهم بمنأى عن سائر

____________

(121) ابن تيمية حياته عقائده، م س، ص 25.

(122) إسلام بلا مذاهب، م س، ص 431.

(123) النهج الأحمد في تراجم أصحاب أحمد، مجير الدين العليمي، ج 1 ص 21.

الصفحة 298
طوائف العلماء فلا هؤلاء يقبلون عليهم أو يتحدثون عنهم فيما بينهم أو فيما يؤلفون من كتبهم، حديث من يريد تجلية الحقائق العلمية ويكشف اللثام عن خباياها. ولاهم يختلطون بهؤلاء أو بغيرهم من أهل الولايات وذوي الأقدار في الدولة (124).

وإذا كانت صفة الحنابلة هي كما ذكرنا، فإن " شيخ الإسلام " سيتربع على كرسي مشيختهم وسيكون محط رحال اقتدائهم وتقليدهم بعدما تشبع بأصول المذهب وفروعه وتزيا بزي أصحابه ومؤسسيه، لذلك نعتقد أن الجفاء والحدة والخشونة قد رضعهما الشيخ من ثدي المذهب فامتزج لحمه ودمه بهما وظهر ذلك واضحا في سلوكه ومعاملاته.

ولنا أن نسأل الشيخ وهو العليم بمذاهب السلف وسيرهم، هل كان السلف الصالح جفاة غلاظا ذوي خشونة وحدة بالغة ؟ ! لا شك أن الشيخ سيقلب لنا صفحات التاريخ ليأتي لنا بما يدعم رأيه وسلوكه، لكننا لن نحشر في نقاش طويل معه ومع أتباعه حول هذه القضية وسنرد عليه بقول عمر بن الخطاب " حسبنا كتاب الله " وقد جاء فيه: * (لو كنت فظا غليظ القلب لانفظوا من حولك " (125).

وأخيرا لا يمكننا أن نسترسل في نقاش الرجل والإحاطة بفكره وحياته أكثر مما أوردناه، وذلك مخافة التطويل، لكننا سنختم قولنا بعتاب مر ورد على ألسنة الباحثين المعاصرين ممن تناولوا حياته. هذا العتاب الذي يمكن تلخيص عبارته كالتالي: لقد أشعل الرجل حروبا وفتنا داخلية بين المسلمين وشغل العلماء والسلطات السياسية في مصر والشام عن معالجة جروح هذه الأمة التي لم تكن قد التأمت بعد من خراب بغداد والشرق الأقصى الإسلامي على يد المغول وما تعرض له المسلمون من إبادة جماعية هناك. وانطلاق الحملة

____________

(124) المرجع السابق، ص 41.

(125) سورة آل عمران، الآية 159.

الصفحة 299
الصليبية الحاقدة في الغرب الإسلامي وتهجير أهل الأندلس وتنصيرهم.

ففي الوقت الذي كان حريا عليه وعلى باقي العلماء، تنبيه المسلمين للملمة أوضاعهم وأن يأخذوا العبرة بما وقع لهم من مآسي كان الشيخ يثير الفتن الداخلية بفتاويه الشاذة التي تصدع البنيان الداخلي للأمة، حيث يتحول الاستعداد لجهاد العدو المتربص بالإسلام والمسلمين إلى اقتتال بين طوائف المسلمين وسفك دماء بعضهم البعض بفتاوي جريئة تكفر البعض وتبدع وتضلل الآخرين.

وهكذا اجتمعت سيوف المغول في الشرق ومحاكم التفتيش في الغرب معضدة بفتاوى " شيخ الإسلام " في الشام ومصر بتبديع وتضليل وتكفير المسلمين، لتجهز على ما تبقى من حضارة كان يراد لها ولدعاتها الأوائل أن يسودوا العالم وأن تسود معهم قيم الحق والعدل والإنسانية، ليكون الدين لله وحده ولكي لا يعبد على الأرض سواه عز وجل.

وكم كان ابن عطاء الله الإسكندري مصيبا ومحقا عندما أشار على الشيخ ابن تيمية بأن يشتغل بما هو أجدى، بدفع الظلم وحماية العدل المنتهك وتقييد أيدي الحاكم الظالم عن نشر الفساد والظلم في الرعية. لكن لا حياة لمن تنادي ؟ !. و هكذا ذهبت جهود الشيخ الحنبلي وفتاواه أدراج الرياح فلم ينته المسلمون على شد الرحال لزيارة قبر نبيهم عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وطلب الشفاعة منه والدعاء عند قبره وقبور الأولياء، وبناء المساجد والأضرحة قرب قبور الصالحين. كما أن علماء أهل السنة لم يشكوا لحظة في توحيد إمامهم الأشعري وأنه خلاصة التنزيه والرد الوافر على من إعتقد التجسيم والتشبيه.

لكن آراء الشيخ بقيت محفوظة في بطون الكتب وعلى رفوف المكتبات،

الصفحة 300
إلى أن قيض لها من أيقظها من مرقدها، وبعثها بعد قرون من الاندراس، حيث ذل لها ظهر السيف والسلطان فاتخذته مطية، لتجوب بلاد نجد والحجاز وما جاورهما من بلدان، معلنة بذلك، قيام الدعوة لمذهب الحشو السلفي، وبداية انتشاره في الآفاق، على يد فقيه حنبلي جديد، تتلمذ على كتب أستاذه وشيخه ابن تيمية الحراني وتشبع بأفكاره وآرائه واعتقدها وظن أنها الحقيقة، والمحجة البيضاء التي لا يحيد عنها إلا ضال أو منحرف.

إنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب الحنبلي النجدي زعيم الحركة السلفية المعاصرة ومؤسس دعوتها، وهو موضوع الفصل القادم إن شاء الله.

***

الصفحة 301

الفصل الرابع
محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي و " قيام الدعوة السلفية الحشوية "




"... زعم محمد بن عبد الوهاب أن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه إخلاص التوحيد والتبري من الشرك، وأن الناس كانوا على شرك منذ ستمائة سنة، وأنه جدد للناس دينهم وحمل الآيات التي نزلت في المشركين على أهل التوحيد... ".

[ أحمد بن زيني دحلان مفتي مكة ]





الصفحة 302

الصفحة 303

تمهيد

كان ابن قيم الجوزية (1) من تلامذة الشيخ ابن تيمية ومن أكثر الناس التصاقا به لدرجة أنه أدخل معه السجن في القلعة. ولما توفي الشيخ تحمل التلميذ المخلص مهمة جمع تراث أستاذه والحفاظ عليه، بل تنقيحه وترتيبه وتبويب مسائله وإغناء مواضيعها بالشرح والتفصيل والتأليف. كل ذلك، ضم إلى تراث الحنابلة بشكل عام وحوفظ عليه من صروف الأيام، إلى أن أدركته يد العناية فتلقفه طالب علم حنبلي فشرب منه حتى الثمالة وتشبع بمقاصد

____________

(1) يقول ابن حجر في الدرر الكامنة: " غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شئ من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه.. واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة، بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة. فلما مات أفرج عنه، وأمتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه ".

ويقول الشيخ محمد الكوثري المصري كان " دائبا على إذاعة شواذ شيخه، متوخيا - في غالب مؤلفاته - تلطيف لهجة أستاذه في تلك الشواذ، لتنطلي وتتفق على الضعفاء، و وعمله كله التلبيس والمخادعة والنضال عن تلك الأهواء المخزية، حتى أفنى عمره بالدندنة حول مفردات الشيخ الحراني... ويظهر مبلغ تهافته لمن طالع شفاء العليل له بتبصر، ونونيته، وعزوه من الدلائل على أنه لم يمكن ممن له علم بالرجال ولا بنقد الحديث، حيث أثنى فيهما على أناس، وأستدل فيها بأخبار غير صحيحة على صفات الله سبحانه، وقد ذكره الذهبي في المعجم المختص بما فيه عبرة، ولم يترجم له الحسيني ولا ابن فهد ولا السيوطي في عداد الحفاظ في ذيولهم على طبقات الحفاظ، وما يقع من القارئ بموقع الأعجاب من أبحاثه الحديثية في زاد المعاد وغيره، فمختزل مأخوذ مما عنده عن كتب قيمة لأهل العلم بالحديث، ك‍ " المورد الهني في شرح سير عبد الغني " للقطب الحلبي ونحوه.

ولولا محلى ابن حزم و " أحكامه " و " مصنف " ابن أبي شيبة و " تمهيد " ابن عبد البر، لما تمكن من مغالطاته وتهويلاته في " أعلام الموقعين ". أنظر للمزيد بحوث في الملل والنحل، م س، ج 4، ص 52 - 53.

الصفحة 304
أفكاره ومعاني آرائه واتخذها لنفسه طريقا ومذهبا، وحين استغاث بالفرصة كي يصدع بما وعى، أغاثه الزمان بها، فطفق يدعو لما ارتضاه دينا واحتواه عقله يقينا.

فكان بدء قيام الدعوة " السلفية الجديدة " التي اتخذت من بلاد نجد منطلقا. حيث عضد السيف القلم فانتشرت الدعوة، ولبست أفكار الشيخ الحراني حللا جديدة، ونزعت عنها أسمالها البالية، وظهرت للوجود دولة تدافع وتنافح عن أفكار الشيخ الحنبلي وتتخذها مذهبا في الدين وأساسا للشرعية السياسية.

***

الصفحة 305

محمد بن عبد الوهاب الحنبلي من طلب العلم إلى تأسيس دولة

مولده وتحصيله العلمي:

ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العيينة سنة (1703 / 1704 م)، على اختلاف في سنة مولده. وتلقى دروسه الأولى على يد أبيه قاضي العيينة، حيث أخذ عنه الفقه الحنبلي. وقد كان حسب من أرخوا له كثير المطالعة لكتب التاريخ والتفسير والحديث والعقائد، خصوصا كتب الشيخين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية.

غادر الشيخ بلاد نجد بعد زواجه متوجها إلى الحج، ليزور المدينة بعد ذلك حيث أخذ العلم عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم.

وفي البصرة درس على الشيخ محمد المجموعي. وبدأ في نشر بعض أفكاره في التوحيد، فتجمع عليه أناس من رؤسائها وغيرهم فآذوه أشد الأذى وأخرجوه منها وقت الهجيرة ولحق شيخه منهم بعض الأذى: فلما خرج الشيخ من البصرة وتوسط في الدرب فيما بينها وبين بلد الزبير أدركه العطش وأشرف على الهلاك (2).

لكن رجلا من أهل الزبير أدركه وعطف عليه لأنه كان يرتدي زي رجال الدين فسقاه الماء وأركبه حتى وصل به إلى الزبير. أراد الشيخ مواصلة سفره إلى الشام ولكنه لم يكن يملك من الزاد ما يكفي للسفر إلى الشام لذلك عقد العزم على التوجه إلى مدينة " الأحساء " ثم مدينة حريملة

____________

(2) عنوان المجد في تاريخ نجد، عثمان بن بشر النجدي، مكتبة الرياض الحديثة، ج 1، ص 8.

الصفحة 306
التابعة لنجد (3).

إستقر الشيخ محمد في حريملة وبدأ ينشر أفكاره المتعلقة بالتوحيد والشرك وتقديس الأولياء. فوقع بينه وبين أبيه ؟ مجادلات ومعارضات. ولم يكد ينتهي من تأليفه كتاب " التوحيد " حتى كان صيته قد ذاع بين القبائل والمدن النجدية. يقول ابن غنام: " إشتهر حاله في جميع بلدان العارض في.. العيينة والدرعية ومنفوحة.. وكان الناس عند ذلك حزبين وانقسموا فيه فريقين فريق أحبه وما دعا إليه فعاهده على ذلك وبايعه وحذا حذوه وتابعه وفريق أنكر عليه (4).

إنطلاق الدعوة:

إنطلق الشيخ محمد بعد وفاة والده الشيخ عبد الوهاب يدعو لعقيدته على نطاق واسع، مما أثار تذمر بعض سكان حريملة فهموا بقتله لكنه نجا ففر هاربا إلى العيينة حيث استقبله رئيسها عثمان بن حمد بالترحاب والتكريم. فعرض الشيخ عليه " ما قام به ودعا إليه وقرر له التوحيد وحاوله على نصرته وقال:

____________

(3) مع الوهابيين في خططهم وعقائدهم. العلامة جعفر السبحاني (ص 13 - 14). يفيد " لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب " إن ابن عبد الوهاب توجه في رحلته وهو في السابعة والثلاثين من العمر. أمضى ست سنوات تقريبا في البصرة وخمس سنوات في بغداد وحوالي السنة في كردستان وسنتين في همدان (إيران) وفي بداية عهد نادرشاه انتقل إلى أصفهان حيث أمضى سبع سنوات. وعاش في قم ومدن إيرانية أخرى، فقضى ستة أشهر في حلب وسنة في دمشق وبعض الوقت في القدس وسنتين في القاهرة ثم وصل إلى مكة وعاد إلى نجد وأمضى سنة ونصفا أو سنتين في اليمامة. وفي سنة 1150 هجرية (1737 / 1738 الميلادية) استقر في العينية. وتوفي في سنة (1212 ه‍ - (1797 / 1798 م) ويؤكد مؤلف هذا الكتاب " مجهول "، إن محمد بن عبد الوهاب كان يغير اسمه طوال الوقت ففي البصرة اسمه عبد الله، وفي بغداد أحمد وفي كردستان محمد وفي همدان يوسف " أنظر تاريخ العربية السعودية، فاسيليف، ص 76.

(4) تاريخ نجد، ابن غنام حسين، ج 1 ص 29 - 30، بتوسط تاريخ العربية السعودية.

الصفحة 307
إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى وتملك نجدا وأعرابها (5).

إستفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من هذا الدعم الكبير الذي منحه له رئيس العيينة ومن تبعه من رجالها فأمر بقطع بعض الأشجار التي كان الأهالي يعظمونها ويعتقدون ببركتها، فزاد أمره اشتهارا، جعل الشيخ يقصد ضريح قبر زيد بن الخطاب فهدم قبته بمساعدة عثمان بن حمد نفسه وستمائة من رجاله. وقد كان كادت الحرب أن تقع بينهم وبين أهل الجبيلة الذين أرادوا منع الشيخ وأصحابه من ذلك لكنهم تخلوا عن الدفاع عن القبة فهدمت.

كان لحادثة رجم المرأة الزانية التي قيل أنها اعترفت أمام الشيخ ابن عبد الوهاب، صدى واسعا في القرى والمدن المجاورة. مما دفع برئيس الأحساء والقطيف سليمان بن محمد الحميدي لكي يبعث برسالة إلى رئيس العينية يأمره بقتل الشيخ. وهدده بقطع خراجه إن لم يفعل. لكن عثمان بن حمد لم ينفذ أمر رئيس الأحساء واكتفى بالطلب من الشيخ أن يغادر إلى حيث شاء قائلا " ليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلادنا فشأنك ونفسك وخل بلادنا (6).

وصل الشيخ ابن عبد الوهاب الدرعية بعد خروجه من العيينة، فالتقى ببعض رجالها. وقرر لهم، كما يقول " ابن بشر " التوحيد واستقر في قلوبهم، فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود " أمير الدرعية " ويشيروا عليه بنصرته فهابوه فأتوا إلى زوجته موضى وكانت ذات عقل ومعرفة، فأخبروها بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به وينهي عنه. فوقر في قلبها معرفة التوحيد وقذف الله في قلبها محبة الشيخ. فلما دخل عليها زوجها محمد أخبرته بمكانه، وقالت إن هذا الرجل أتى إليك وهو غنيمة ساقها الله لك. فاكرمه وعظمه واغتنم نصرته (7).

____________

(5) عنوان المجد، م س، ص 9.

(6) نفسه، ص 11.

(7) عنوان المجد، م س، ص 11.

الصفحة 308
عمل أمير الدرعية بما أشارت عليه زوجته فتوجه إلى الشيخ ورحب به وأكرمه. وأمنه على نفسه وبشره بالنصرة والدفاع. يقول ابن بشر النجدي:

" ثم أخبره الشيخ بما كان عليه الرسول الله (ص) وما دعا إليه وما عليه أصحابه رضي الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه، وإن كل بدعة بعدهم ضلالة. وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانا.

ثم أخبره بما عليه أهل نجد اليوم من مخالفتهم بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والجور والظلم.

فلما تحقق محمد " يقول ابن بشر " معرفة التوحيد وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية قال له: يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، وابشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد. ولكن أريد أن أشترط عليك اثنين، نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا. والثانية: إن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا. فقال الشيخ: أما الأولى فابسط يدك. الدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثانية فلعل الله يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها (8).

كان لاتفاق الشيخ والأمير والبيعة السياسية التي ربطت بينهما، آثارها الواقعية والعملية، تمثلت في وضع اللبنات الأولى لقيام الدولة السعودية الأولى، وانتشار النفوذ السياسي لأسرة آل سعود على جميع قرى نجد ونواحيها. في الوقت الذي كانت فيه الدعوة " الوهابية أو السلفية " تنتشر بسرعة بين فئات واسعة من أبناء نجد خاصة، يدعمها السيف في أغلب الأحيان، وتخضع لها رقاب البدو مخافة القتل أو النهب. لأن شعار الحركة الناهضة " الدم بالدم والهدم بالهدم " الذي سيمثل على المستوى الواقعي

____________

(8) نفسه، ص 12.

الصفحة 309
بالجهاد في سبيل الله، جهاد عصابة مسلمة موحدة لمن حولها من القبائل المشركة والغارقة في عبادة الأولياء والقبور والأشجار والشمس وباقي الظواهر الطبيعية ؟ ! !.

لقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب ابنا شرعيا للمذهب الحنبلي، لكنه اختار طريق أستاذيه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وآمن بما استجد عند هذين الشيخين من آراء وأفكار، وخصوصا مفهومهما حول التوحيد وتصورهما لقضاياه. فلم يكن الشيخ مجددا في هذا الميدان وإنما كان مقلدا، يتبع خطى أستاذه ابن تيمية لا يحيد عنها قيد أنملة. وإنما فضله ينحصر في بعض الشروحات والتفريعات، وإلباسه حللا جديدة لأفكار أستاذه القديمة وتطعيمها بحجج إضافية. فضلا عن بعثها وإحياء ما اندرس منها. والدعوة إليها بحد السيف ومحاولة جعلها ميزانا يحاكم به عقائد خصومه من أهل نجد أولا وباقي العالم الإسلامي آخر المطاف (9).

لذلك لم يجد خصومه صعوبة بادئ الأمر في الرد عليه لأن تراث الرد على أستاذه ما زال حيا محفوظا في أغلب جوانبه. فالشيخ حنبلي حشوي جديد يدعو إلى التجسيم والتشبيه، والأخذ بظواهر النصوص.

كما أن مجمل فتاوى أستاذه المتعلقة بالشفاعة وزيارة قبور الأنبياء والأولياء والدعاء عندها، لا تصح ولا يجوز إطلاقها لوجود ما يخالفها في النصوص القرآنية والحديثية. أما تكفير من يقوم بذلك أو رميه بالشرك فإن ذلك محض

____________

(9) لكن الشيخ ادعى انفراده بمعرفة التوحيد دون غيره من العلماء بل زعم أن أحدا قبله لم يعرف معنى لا إله إلا الله. يقول: " فمن زعم من علماء " العارض " أنه عرف معنى " لا إله إلا الله " أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت أو زعم عن مشايخه عن أحد عرف ذلك.

فقد كذب وافترى، ولبس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيه، فاتقوا الله عباد الله ولا تكبروا على ربكم ولا نبيكم واحمدوه سبحانه الذي من عليكم ويسر لكم من يعرفكم بدين نبيكم " صلى الله عليه وسلم "، أنظر، السعوديون والحل الإسلامي، ص 95 - 96.

الصفحة 310
غلو، ركبه الشيخ وأتباعه لغزو قبائل نجد وأعرابها ونهب ممتلكاتهم وقتل رجالهم بحجة أنهم كفار حلالوا الدم والمال.

وبالجملة فقد وجدت أفكار الشيخ ابن تيمية أخيرا وبعد قرون طريقها نحو التطبيق الواقعي والانتشار الفعلي، بفضل إيمان وعزم تلميذه ابن عبد الوهاب، وسيف محمد بن سعود أمير الدرعية الذي اعتنق هذه الأفكار وحمل على عاتقه إيصالها إلى باقي بلدان نجد، باسم الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام والتوحيد.

***

الصفحة 311

انتشار الدعوة الوهابية " السلفية "

إعلان الجهاد على المشركين:

إنطلقت دعوة الشيخ كما يقول صاحب " عنوان المجد " بين أبناء الدرعية الذين كانوا في غاية الجهل والشرك الأصغر والأكبر ورفض شرائع الإسلام.

فعلمهم الشيخ أحوال الإسلام وأركانه وعرفهم مبادئ التوحيد والبعث. كما عرفهم برسول الإسلام محمد (ص) وبالغاية التي بعث من أجلها وهي محاربة الشرك وإفراد الألوهية والربوبية لله وحده. ثم بعث رسله وكتبه إلى رؤساء البلدان وعلمائها يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك.

ولما اطمأن الشيخ لمسيرة الدعوة في الدرعية وأقبل عليه بعض المهاجرين من القبائل المجاورة وكثر عددهم، " أمر الشيخ بالجهاد وحضهم عليه فامتثلوا.

فأول جيش غزا سبع ركايب فلما ركبوها واعجلت بهم النجايب في سيرها سقطوا من أكوارها لأنهم لم يعتادوا ركوبها. فأغاروا، أظنه على بعض الأعراب، فغنموا ورجعوا سالمين (10).

أنطلق والجهاد في سبيل الله لمحاربة المشركين والكفار من أبناء القبائل وأعراب البادية من سكان نجد أولا. والذين حكم الشيخ ابن عبد الوهاب بكفرهم وأقنع أتباعه " المسلمين " بذلك. يقول الشيخ في رسالة أربع قواعد ما حاصله: إن الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد، الأولى: أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله (ص) مقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرزاق المدبر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى * (قل من يرزقكم) * الآية. الثانية:

____________

(10) المرجع السابق، ص 14 - 15.

الصفحة 312
أنهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة * (والذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) *، الثالثة: أنه (ص) ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم فبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم الأنبياء والصالحين وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس والقمر فقاتلهم ولم يفرق بينهم. الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى * (فإذا ركبوا في الفلك دعو الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * (11).

ويقول في رسالة كشف الشبهات: "... إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، وعرفت التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون وهو معنى لا إله إلا الله فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور ملكا كان أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، لا الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما مر وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ " السيد " (12).

بهذا الفهم لمعاني التوحيد في القرآن وما جاءت به الآيات الخاصة بالمشركين، وما رآه وشاهده الشيخ في نجد وحولها من شعائر الاهتمام بقبور الصالحين والأولياء. انطلق يكفر معاصريه ويصفهم بأنهم أغلظ شركا من الأولين. وإذا كان محمد رسول الله (ص) قد بعث لمحاربة مشركي قريش

____________

(11) كشف الارتياب، ص 163 - 164.

(12) المرجع السابق، ص 165، هناك مغالطة وتجني على الحقيقة فليس معنى (السيد) الإله، فليس في لغة العرب هذا المعنى، كما أن من يؤمن بأي " سيد " إذا سألته عنه سيقول لك " السيد " فلان ابن فلان النبي أو الولي أو العالم، وعلى هذا المفهوم درج العلماء والعامة.

الصفحة 313
وغيرهم حتى رجعوا عن غيهم، فإن الشيخ ابن عبد الوهاب سيسلك طريق الرسول نفسه، إذ لما حصلت له النصرة وعضده السيف أعلن الجهاد والغزو في سبيل الله.

هل ارتد المسلمون فعلا ؟:

أما الشئ المستغرب هنا والمشكل، فليس في فهم الشيخ آيات التوحيد والشرك في القرآن، وهل ينطبق ذلك على معاصريه من أبناء نجد وقبائل البدو أم لا ؟ وإنما يطرح سؤال كبير حول الإسلام بشكل عام في عصر الشيخ. أي القرن الثاني عشر الهجري.

هل كان هناك مسلمون في الجزيرة العربية وما حولها من العراق والشام ومصر وباقي الأقطار الإسلامية الأخرى ؟ لأنهم لو كانوا كما وصف الشيخ " أهل نجد ". فإنهم لا محالة كفار مشركون ومرتدون. فليس هناك بلدة في ديار الإسلام تخلو من مشهد أو ضريح لولي أو نبي أو صحابي يزار ويصلى عند قبره، وترفع الأيدي ضارعة بالدعاء إلى الله عنده طالبة شفاعته. وهذا معلوم بالضرورة الواقعية ومعمول به في بلاد الإسلام باستثناء القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية الذي يحكمه الآن أتباع الشيخ، لأنهم هدموا أغلب الأضرحة والقبب التي كانت منصوبة على قبور الصحابة والأولياء.

وإذن فالحكم بكفر معاصري الشيخ من المسلمين وارتدادهم وكونهم أصبحوا مشركين لا يخص بلاد نجد كما يحاول البعض أن يعلل دعوة الشيخ للجهاد، كما فعل الرسول (ص) من قبل مع مشركي مكة والقبائل العربية زمن الجاهلية.

فالناشر لكتاب " عنوان المجد " عندما يجد أن ابن بشر مؤلف الكتاب وهو وهابي سلفي يصف أهل نجد " بالجهل والضلال "، ويقول محاولا تفسير ذلك:

" هذه العبارة ربما استشكلها من لم يطلع على الحال الأولى في نجد قبل دعوة

الصفحة 314
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وما صاروا عليه بعد دعوته فكانت عبادة غير الله والتحاكم إلى الطواغيت وإنكار ما علم من الدين بالضرورة كالبعث بعد الموت موجودة بكثرة خصوصا في البوادي " (13).

فحسب هذا الناشر فإن أهل نجد كانوا قد ارتدوا عن الإسلام فعلا، لأنهم بصريح العبارة عبدوا غير الله وأنكروا البعث. ويكفي ذلك لإعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام. ولكن هذا الرأي والوصف لحال نجد خصوصا، لا نجده عند غير أتباع الشيخ ابن عبد الوهاب من المؤرخين. فلم يذكر أحد ممن كتب حول أوضاع المسلمين في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر وما قبله أن الناس في نجد وما حولها قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، اللهم إلا شرذمة من المستشرقين والرحالة الأوربيين الذين زاروا المنطقة في أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع العشر.

يقول: فولني: " فالبدو القاطنون على الحدود مع العثمانيين يتظاهرون بأنهم مسلمون لاعتبارات سياسية، ولكنهم ضعيفو الإيمان وتدينهم ضعيف إلى درجة يعتبرون معها كفرة ليس لديهم نبي ولا قانون. وهم بأنفسهم يعترفون بأن دين محمد فوق مستواهم. فكيف نقوم بالوضوء إذا كنا لا نمتلك ماء ؟

وكيف نقدم الصدقة إذا كنا لسنا أغنياء ؟ وما حاجتنا إلى الصيام في شهر رمضان إذا كنا صائمين طوال العام ؟ ولماذا نذهب إلى مكة إذا كان الله موجودا في كل مكان ؟ " (14).

وهذا المستشرق مع أنه يصف البدو بأنهم كفرة في الواقع إلا أنه يقول إنهم يتظاهرون بالإسلام. ونحن لا نعرف ماذا يقصد بهذا التظاهر. هل أنهم يشهدون الشهادتين ويعترفون بالإسلام دينا سماويا ؟ وإن كانوا كذلك فهم لا شك مسلمون. مع أن مظاهر الاحترام لقبور الأولياء والأنبياء وشد الرحال

____________

(13) المرجع السابق، ص 2.

(14) تاريخ العربية السعودية، م س، ص 85.

الصفحة 315
إليها تعتبر مظهرا من مظاهر الإيمان، وهذا مما لم يذكره المستشرق ولا أشار إليه.

أما إذا رجعنا إلى النصوص الوهابية الكثيرة الواصفة للواقع الاجتماعي والديني آنذاك وخصوصا في نجد، فسنجد المؤرخ ابن غنام يقول بصريح العبارة... كان غالب الناس في زمانه - أي ابن عبد الوهاب - متضمخين.

بالأرجاس متلطخين بالأنجاس... فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين وخلعوا ربقة التوحيد والدين... وكثير منهم يعتقد النفع والإضرار في الجمادات كالأحجار والأشجار. ولعب بعقولهم الشيطان... وجعلوا لغيره ما يجوز صرفه إلى سواه وزادوا على أهل الجاهلية (15).

ومع إيراد هذه النصوص تكون الصورة قد اتضحت، فأهل نجد كباقي مسلمي المناطق الأخرى في دار الإسلام لم يكفروا بمعنى إنهم ارتدوا عن دين الإسلام، ورفضوا رسالة النبي محمد بن عبد الله (ص)، أو أحد الأركان المقومة للإيمان كما ذكر مؤرخو الوهابية.

وإنما كان كفرهم منطلقا من اهتمامهم بأضرحة الأولياء والصالحين واعتقادهم البركة في بعض الأماكن من أشجار وأحجار، وطلبهم الشفاعة من الأنبياء وعلى رأسهم الرسول محمد (ص)، وباقي الأولياء من الصحابة وغيرهم. وهذا لم يكن حال نجد لوحدها وإنما هو واقع الأمة الإسلامية منذ وفاة الرسول (ص) وإلى يوم الناس هذا. يدعم قولنا التاريخ المكتوب والسيرة العملية والواقعية للمسلمين في العالم قاطبة. ويدل على ذلك أيضا سيرة الشيخ نفسه.

فقد روى ابن بشر أن الشيخ محمد وقف يوما عند الحجرة النبوية عند أناس يدعون ويستغيثون عند حجرة النبي (ص) فرآه محمد حياة فأتى إليه فقال الشيخ: ما تقول في هؤلاء ؟ قال: " إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما

____________

(15) نفسه، ص 83.

الصفحة 316
كانوا يعملون " ؟ !.

وإذن لم يكن الحال الذي وصفه الشيخ وأتباعه من الشرك والكفر يخص بلاد نجد وأعرابها. وإنما الواقع الإسلامي برمته انطلاقا من مكة والمدينة. وعليه فالحكم بالكفر والشرك قد شمل الجميع. وإذا كان الخلف قد ورث ذلك عن السلف فإن الحكم واحد يشمل السلف والخلف جميعا. فهم شركاء في الإرتداد عن الإسلام والانحراف عن طريق التوحيد.

أما ما يذهب إليه مؤرخو " السلفية " وأتباع الشيخ من تهويل واقع الشرك والانحراف العقائدي الذي كان قد أصاب نجد فإنما هو لتبرير صوت السيف والدماء التي أهرقت في بلاد نجد وغيرها، والأموال التي سلبت من أصحابها بحجة أنهم كفار مشركون ! فالسيف الذي أراق دماءهم هو سيف الجهاد الإسلامي، وهو نفسه السيف الذي أراق دماء مشركي العرب في الجاهلية ؟ !.

لقد حكم الشيخ ابن عبد الوهاب على القبائل المجاورة للدرعية بالشرك والكفر، فجهز أتباعه لغزوها وفتح بلدانها. فانطلقت حملات الجهاد في سبيل الله ونشر التوحيد وتعليم البدو أركان الإسلام (16).

____________

(16) هناك تبرير عجيب لضرورة تكفير المسلمين وقتلهم وأخذ أموالهم، أورده مؤرخ السعودية المعاصر الصحفي محمد جلال كشك في كتابه (السعوديون والحلل الإسلامي ". يقول هذا المحقق المصري " هل لو علموهم أن غير " الإخوان " مسلمون وهم يعرفون، أن القاتل والمقتول في النار... أكان يقوم جيش الإخوان أو تتحرر وتقوم مملكة ابن سعود ؟ ! ". أنظر لهذا الدجل العجيب يقول بصراحة أنه لو لم يلقن البدو والإخوان إن من حولهم من المسلمين كفار أو مشركون لما انطلقوا لجهادهم وفتح بلدانهم ولو لم يفعلوا ذلك لما قامت لأسرة آل سعود مملكة ودولة. وإذن بإمكان أي أسرة أو أي مجموعة تريد أن تقيم دولة أو ملكا عضوضا في الوطن الإسلامي أن تعلن إن كل من يخالفها أو يناوئها أو لم يدخل تحت لوائها فهو كافر حلال الدم والمال. وإذن فهذا الكفر ليس كفرا عقائديا كفرا بالله ورسله وكتبه وأنما هو كفر سياسي كفر بإرادة الرجال وأهوائهم وأطماعهم وحملهم بتأسيس الدول والمملكات ؟ ! ومن يقرأ كتاب هذا الصحفي المصري الذي قدمه هدية للأسرة المالكة في السعودية يجد دجلا وتزييفا للحقائق ومكرا تنهد منه الجبال. =

الصفحة 317

يوميات الغزو الوهابي:

لكن ابن بشر مؤرخ الحركة الوهابية لم يتكلم عن طرق وحجم نشر التوحيد والإسلام بين البدو أثناء الغزو الوهابي، وإنما إقتصر على ذكر غزوات " المسلمين " وهجومهم على القبائل وما حصل من القتل والنهب وقطع النخيل والتخريب. يقول مثلا: "... سار عبد العزيز رحمه الله تعالى غازيا بجميع المسلمين وقصد بلد ثادق ونازلهم وحاصرهم ووقع بينهم قتال وقطع شيئا من نخيلهم فأقام على ذلك أياما، وقتل من أهل البلد ثمانية رجال، وقتل من المسلمين ثمانية رجال (17).

ويقول: " غزا عبد العزيز إلى الخرج فأوقع بأهل الدلم وقتل من أهلها ثمانية رجال ونهبوا بها دكاكين فيها أموال. ثم أغاروا على أهل بلد نعجان وقتلوا عودة بن علي ورجع إلى وطنه ثم بعد أيام سار عبد العزيز بجيوشه إلى بلد (ثرمدا) وقتل من أهلها أربعة رجال وأصيب من الغزو مبارك بن مزروع. ثم أن عبد العزيز كر راجعا وقصد (الدلم) و (الخرج) فقاتل أهلها وقتل من فزعهم سبعة رجال وغنم عليهم إبلا كثيرا...

غزا عبد العزيز منفوحة وأشعل في زروعها النار ؟ ! وأخذ كثيرا من حللهم وغنم منهم إبلا كثيرا وقتل من الأعراب عشرة رجال (18).

" فأغار عليهم وهم على جراب ماء معروف بين سدير والدهناء فاستأصل

____________

= فالحقائق أصبحت أكاذيب وإشاعات، ولبست الأكاذيب مسوح الحقيقة والواقع، لدرجة يصعب معها معرفة الفصل بين الحقيقة والكذب. وقد استخدم هذا الصحفي المبرز كل قدراته الكتابية والتعبيرية لتغليف الحقيقة بحجب كثيفة من الضباب. والحقيقة أنه وصل إلى مبتغاه وزيادة ؟ !.

ولعمري إن هذا دأب الكثير من المرتزقة المحترفين لفن الكتابة في مصر والمستعدين لعمل أي شئ في سبيل المال والامتيازات المادية، وقد استفاد السلفيون كثيرا من هؤلاء، فإليهم يعزى بحق انتشار الفكر الوهابي والسلفي في الآفاق البعيدة ؟ !.

(17) عنوان المجد، ص 34.

(18) نفسه، ص 43.

الصفحة 318
جميع أموالهم، وقتل منهم نحو الثلاثين رجلا... " ؟ !.

ويستمر ابن بشر في ترديده كلمات مثل: غزا رحمه الله، قتل المسلمون، غنم المسلمون وأسروا، صرموا النخيل وأحرقوا الزروع.. إلى غير ذلك ! !

وليس هناك ما يشير على الأقل في " تاريخ ابن بشر " أن هذه الحرب كانت مقدسة، وأنها في سبيل نشر الإسلام والتوحيد. إلا بعض الإشارات النادرة جدا مثل قوله: " بايعوا على دين الله ورسوله والسمع والطاعة " و " دخلوا بسبب ذلك في الطاعة والجماعة ".

ولكن يفهم من سرده للأحداث بأن الجيش الوهابي كان إذا استولى على بلدة أو قرية ودخل أهلها في طاعتهم يرسل إليهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب من يعلمهم التوحيد، أو رجلا من طلبته يصلي بهم الصلوات الخمس. ولكن هؤلاء " المطاوعة " أو رجال الدعوة الجديدة لم يكن مرغوبا فيهم، ولم تتعامل القبائل والقرى التي دخلت تحت طاعة الوهابيين، معهم معاملة المصلحين أو المبشرين للإسلام والتوحيد الحقيقي. بل كان ينظر إليهم بكثير من الاستهزاء والسخرية. خصوصا إذا علمنا أن تلك القرى والقبائل لم تكن تخلو من فقهاء وطلبة العلم سواء من الحنابلة أو غيرهم من أتباع المذاهب الفقهية الأخرى.

لذلك نجد تلك القبائل التي خضع رجالها قسرا وخوفا على أنفسهم وأموالهم، يتحينون الفرصة لإخراج هؤلاء الدعاة من بين ظهرانيهم. وقد سجل التاريخ الوهابي طرد الكثير من أئمة الصلاة والدعاة الوهابيين من قبل القبائل بل قتلهم في بعض الأحيان. وقد كان ذلك يعتبر ارتدادا ونقضا للبيعة، فيرسل الوهابيون جيشهم لمحاربة المرتدين فيعملون فيهم السيف ويأخذون أموالهم ويهدمون بيوتهم.

والحقيقة أننا إذا أردنا أن نفهم واقع الجهاد في سبيل الله الذي أعلنه الشيخ وأتباعه على قرى نجد ونواحيها ممن ارتد عن الإسلام وأصبحوا كفارا