الصفحة 483
الأولى التي تستند إليها عملية تحريف التراث. وتدعمها شبهة تافهة، تتلخص في أنه إذا كان الحق والصواب معنا وبين أيدينا فإن الخطأ كل الخطأ عند خصومنا. وإذن لا بأس بوصفهم بكل ما هو خطأ أو يصب في الخطأ، وافتراء الأكاذيب حولهم وحول عقائدهم وأفكارهم. من هنا انطلقت موجة الكذب على الخصوم والمخالفين، وتحريف كل حقيقة لديهم وإلباسها لبوس الضلال والانحراف (147). فتارة يتم إنكار بعضا من آراء القوم عمدا، لكي لا تكون لهم أي فضيلة تواكب الحق. وتارة يضاف للخصوم معتقدات وأفكارهم منها براء ليشنع عليهم بها.

الكذب على الشيعة:

نأخذ مثلا، تعمد كتاب السلفية اليوم وصف الشيعة الإمامية بأنهم يقولون بتحريف القرآن ويعتقدون ذلك، وأن لهم مصحفا آخر غير الذي بين أيدينا يسمونه " مصحف فاطمة "، وعندما تسأل علماء الشيعة الإمامية وكتبهم، هل قضية تحريف القرآن في عقائدكم ؟ ! وهل لكم حقيقة قرآن آخر تسمونه " مصحف فاطمة " ؟.

يردون عليكم، أن عقائدنا مكتوبة ومسطرة في الكتب المطبوعة فانظر فيها لترى بأم عينيك مجمل عقائدنا، ولا بأس أن تتحقق من كتب القرآن التي في مساجدنا وبيوت عوام الشيعة وخواصها فأغلب نسخها مطبوع في الرياض وتحت إشراف علماء الوهابية ودعاة السلفية. وهكذا تصطدم أمواج الكذب السلفي بصخور الحقائق هنا وهناك.

____________

(147) أنظر كيف يتعامل الحنابلة مع الحقائق الواضحة عندما يعرضها خصومهم وكيف يزورون التاريخ. " عن أبي علي النجاد: بينما أنا ذات يوم إذ دخل رجل من أهل البدع ومعه مصحف فجعل يقرأ منه سورة الأحزاب فلما انتهى إلى هذه الآية " وقرن في بيوتكن " أطبق المصحف وقال: إيش نعمل في هذه وعائشة قد خرجت. قلت: إنها لم تخرج من بيتها قال: وكيف ذاك ؟ قلت: لأن بيوت أبنائها بيتها ؟ !.

الصفحة 484

الكذب على الصوفية:

ويكتب دعاة السلفية عن الطرق الصوفية أنهم يرقصون ويستخدمون آلات الغناء في حلقات ذكرهم " الشيطاني ". وإن منهم من يصل إلى حالات الوجد لأنه يمارس الرقص العبادي وهو سكران. وينسبون إليهم معتقدات وأفعالا ينفر منها الذوق السليم وترفضها الفطرة. وإذا ما حاولت معرفة حقيقة الأمر وجدت هنا لك رجالا يذكرون الله بطرق مخصوصة، وفيهم الكثير ممن يحرص على التقوى والورع، ويسلك سبيل العبادة حتى يأتيه الله باليقين. أما إذا وجد أو جماعة ممن لبس عليهم إبليس وسقطوا في بعض الممارسات التي لا يقرها الشرع، فإن محققي الصوفية وكبار رجالات الطرق التعبدية، ينكرون عليهم ويتبرأون من سلوكياتهم ولا يعتبرونهم ممثلين للطرق الصوفية، بل منحرفون ليس إلا.

وهل من العدل أن نأخذ الجماعة بسلوك فرد منحرف فيها ؟ ! أو أن ننسب لجماعة ما هي براء منه. ولو اتخذنا هذا الأسلوب السلفي منهجا لنا لاتهمنا جميع دعاة السلفية في نجد مثلا بممارسة اللواط والشذوذ الجنسي، لأنه وجد من بينهم من يد من على هذا الفعل المنكر، بل لجاز لنا أن نتهم المجتمع الوهابي في السعودية بأنه يبيح اللواطة. وذلك لاستفحال هذه الظاهرة الشاذة هناك.

ولم يعد الأمر خافيا على أحد فوسائل الإعلام تتناقل بين الفينة والأخرى أخبارا وفضائح تتهم بعضا من رجالات أهل نجد بهذه التهمة الشنيعة (148).

____________

(148) ذكرت الصحف في السنة الماضية، أن مديرا في مدرسة ابتدائية في منطقة نجد قد اعتدى جنسيا على تلميذ مصري، فقدم أبوه وهو دكتور شكوى مرفقة بشهادة طبية إلى المسؤولين. لكن مدير المدرسة كما قال بعض المطلعين كان له من يدعمه، فرفضت دعوى الدكتور المصري ولم تقبل الشهادة الطبية التي قدمها، وقيل له أن ابنه كان يحلم، مع أن أعراض المرض قد ظهرت على الطفل الذي كان مدير المدرسة يناوله أقراص مخدرة قبل أن يفعل فيه. لقد أحيط بالدكتور المصري من كل جانب وضاقت به الأرض لأنه أتهم بالقذف وأدخل السجن على أثر ذلك. وأخيرا طرد من السعودية ورجع إلى بلاده مصر.

التي حدثت فيها ضجة إعلامية كبيرة بسبب هذا الظلم الذي تعرضه له الدكتور =

الصفحة 485
لقد تبين بعد التحقيق والبحث أن كثيرا من دعاة المذهب الحشوي الحنبلي كانوا يمارسون التحريف وذلك بالكذب عند النقل أو التفسير للنصوص.

وهذا يخص ابتداءا عقائدهم. وقد قلنا سابقا لأن مجمل عقائد الحشو مستوحاة من أحاديث مكذوبة على رسول الله (ص) وأخذ أعراب الرواة عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واعتمدوها دون غيرها من الأحاديث الصحيحة. هذا من جهة، أما إذا أضفنا إلى ذلك استحلالهم الكذب على خصومهم كما يقول الإمام السبكي. فلنا أن نتصور جحم هذا التحريف الذي لحق بتراث الإسلام والمسلمين على أيدي هذه الفرقة.

هذا التحريف الذي تعددت طرقه واختلفت أشكاله وصعب على غير المحققين معرفته. وقد تتبعنا منذ زمن ليس بقصير كتابات هؤلاء القوم من دعاة السلفية وكتابها واقتنينا كثير من كتبهم، وخصوصا التي تناقش وتعالج القضايا المختلف فيها بينهم وبين أهل السنة والشيعة الإمامية. وعند المراجعات الكثيرة والمقارنات المتعددة بين ما يوردونه وبين ما يقوله ويثبته خصومهم تبين لنا كما ظهر لغيرنا من المحققين إن كتب " دعاة السلفية " مملوءة بالكثير من التحريفات والمغالطات، ليس فقط لتراث خصومهم وما هم عليه من عقائد وأفكار. ولكن تبين أن منظري السلفية يستنجدون في كثير من الأحيان بطرق تحريفية مخصوصة لدعم عقائدهم والاستدلال على صحتها.

أساليب متعددة لتحريف الحقائق:

وقد تتبعت هذه الطرق للكشف عنها ولكي يصبح الحديث عن التحريف السلفي للتراث الإسلامي حقيقة موضوعية لا غبار يحجب رؤيتها. ولكي

____________

= وابنه. لدرجة أن بعض محلات في مصر وضعت يافطة على مدخلها كتب عليها ممنوع دخول الكلاب والسعوديين. والحقيقة أن هذه الحادثة تبرز وبوضوح شكل ومضمون العدل في مملكة السلف الصالح.

الصفحة 486
يصار إلى معالجة هذه الظاهرة الخطيرة المستفحلة في تاريخ الإسلام المعاصر، ويأخذ أبناء الصحوة الإسلامية حذرهم، ليعيش من عاش على بينة.

فما أكثر التزييف والتحريف وقلب الحقائق في هذه الحضارة الغربية المهيمنة. لكن الأمر هنا خطير جدا ولا يمكن أن يتغافل أو يسكت عنه، لأنه يتعلق بالدين والعقيدة. والكل يعلم ماذا يعني الدين في الحياة البشرية اليوم وتأثيره وأهميته على مستقبلها غدا. وسنحاول أن نذكر بعضا من أساليبهم في التحريف وقلب الحقائق. مع إيراد الأمثلة على ذلك من خلال إنتاجهم الفكري وسلوكهم الدعوي العملي.

أول ما يلاحظ المرء وهو يقرأ كتبهم وهم يردون على خصومهم، طعنهم في الأحاديث التي يرويها خصومهم ويعتمدونها في معتقداتهم. وهذا الطعن يكاد يكون منصبا على السند، فترى الكاتب السلفي يهرع إلى كتب الجرح والتعديل ليؤكد أن فلانا الراوي مطعون وقد قدحه رجال الجرح والتعديل.

ويورد أقوالهم فيه. مع العلم وهذا حاصل أن المحقق السلفي، يغض طرفه نهائيا عن أقوال المدح والتعديل التي قد توجد لنفس الراوي. ولكن لما كان الغرض هو الإسقاط، فإنه لا يأتي بما يدل على خلافه. علما أن أقوال علماء الجرح قد تختلف وتتناقض في وصف شخص أو راوي وبالتالي، لا يمكن الجزم النهائي بعدم عدالته. حتى يصار إلى رفض الحديث أو تضعيفه.

الطعن في السند:

ويجب أن نشير هنا إلى ملاحظة، وحقيقة تاريخية مهمة وهي إن أغلب علماء الجرح والتعديل قد كانوا حنابلة أو ممن يتعاطف مع عقائد الحنابلة وآرائهم الفقهية. وعليه فلا بد من وضع علامة استفهام كبيرة حول هذا الاستنجاد بكتب الجرح والتعديل، ونخص بالذكر ميزان الاعتدال للذهبي، والذي يكثر السلفيون من الاستشهاد به.


الصفحة 487
كما يجب أن نعرف أن هذه الطريقة لو طبقت على مجمل الأحاديث المروية عن الرسول (ص) فسنجد أنه من النادر أن نحصل على حديث يسلم رواته جميعا من القدح والجرح أو إشكال ما آخر. ولو اتبع أصحاب المذاهب الفقهية والأصولية هذا الأسلوب وعملوا به بصرامة ودقة لانهارت كثير من قواعدهم المذهبية في الأصول والفروع.

أما إذا ما أخذنا بهذا الأسلوب وعالجنا به ومن خلاله الأحاديث التي بني عليها السلفيون عقائدهم فلن يبق للسلفيين مستمسك من حديث أو تفسير يمكنه أن يشكل عمودا فقريا لمذهبهم. فمعتمداتهم الحديثية موصوفة بأنها واهية ومكذوبة عن الرسول (ص)، خصوصا ما جاء منها عن متأسلمة اليهود والنصارى. لأنهم كانوا يتكلمون عن معتقداتهم وليس عن عقائد الإسلام.

وهذا الأسلوب في التركيز على السند وقدحه يلجأون إليه كثيرا وهم يخاصمون الشيعة الإمامية ويدون عليهم، خصوصا عندما يستند هؤلاء إلى ما رواه أصحاب السنن والصحاح من أحاديث تصب في تأييد عقائد الإمامية.

الترجيح دون مرجح:

ويتفرع عن هذا الأسلوب. طريقة الاستدلال وإيراد الأحاديث التي يكون في سندها ضعف حقا. وعدم ذكر الأحاديث الأخرى في نفس الموضوع والباب. وقد يكون الحديث ضعيفا بلفظ معين لكنه مروي بلفظ آخر صحيح وسنده قوي. وقد أشار الدكتور البوطي لهذه الطريقة حين علق على تضعيف الشيخ ناصر الدين الألباني (سلفي كبير معتمد في تحقيق الأحاديث) لحديث رواه بلفظ معين. يقول البوطي: " وإنما هو ضعيف بهذا اللفظ فقط، أما أصل الحديث فقد رواه البخاري بطريق صحيح.. وإذا كان للحديث الواحد طريقان فلا ينبغي الاقتصار في تخريجه على ذكر الضعيف

الصفحة 488
منهما لما فيه من الإيهام (149).

والحقيقة أن هذا ليس إيهاما فقط وإنما تحريفا وكتما للحق. ولعل الشائع لديهم اليوم هو انتفاء الأحاديث الخاصة التي تدعم مذاهبهم الفروعية والأصولية. وعدم ذكر أو التعرض لغيرها بالمرة. لدرجة تجعل القارئ لا يعلم بوجود سوى ما ينشرونه في كتبهم. وانظر مثلا عندما يتكلمون عن صفة صلاة النبي (ص) فإنك لن تجد حديثا يخالف ما عليه المذهب الحنبلي، وإن كان صحيح السند عند غيرهم بل ذكرته الصحاح لدى أهل السنة والجماعة.

وإذا ما تم ذكر بعضها أو تعرض له، فلأجل الطعن في سنده وتجريح رواته.

لا شك أنه سيطول بنا المقام، لو أردنا أن نأتي بالأمثلة على كل ما ذكرناه من كتب السلفية. فالمهم عندنا أن يعلم القارئ هذا الأسلوب. ويعرف خلفيته ونتائجه. ففي أغلب الأبواب والمواضيع التي ينتصر السلفية فيها لرأي مخصوص أو عقيدة متميزة تجد عشرات الأحاديث والنصوص التي تخالف ما يذهبون إليه، وهذه النصوص تكون في الغالب الأعم صحيحة ولا غبار على متنها أو سندها. لذلك حذار أن يصار إلى اعتبار عدم إيرادها من طرف هؤلاء الدعاة، عدم وجودها بالمرة. فهذا تجاوز وقفز على الحقائق. ولقد سمعنا شيخ السلفية الكبير " ابن تيمية " قبل قليل وهو يدعي عدم وجود أي نص أو قول يؤول فيه الصحابة آيات الصفات. ولما رجعنا إلى أقرب تفسير وجدنا العكس تماما ؟ !

التحريف المباشر للنصوص والأقوال:

ومن الأساليب التحريفية الأخرى التي يستخدمها دعاة السلفية اليوم بكل وقاحة وتجني على العلم والحقيقة. تحريفهم نصوص وأقوال علماء الإسلام فقد يعمدون وهم في مقام الاستدلال على فكرة أو اعتقاد معين، إلى إيراد

____________

(149) اللامذهبية، ص 136.

الصفحة 489
أقوال العلماء وخصوصا ذوي الشهرة العلمية منهم ويجعلونها بمثابة استشهادات داعمة ومقوية لما يريدون إيصاله للقارئ. ولما يراجع المحقق هذا النقل يجد أن هؤلاء الأئمة المنقول عنهم بريئون مما نسب إليهم. وأن ما فعله دعاة السلفية هو التحريف المباشر لكلامهم. بالحذف أو التقديم والتأخير.

على وزن من يستدل على عقاب المصلين بقوله تعالى * (ويل للمصلين) * وقد كشف الدكتور البوطي وهو يناقش بعضهم حول:

دعوى تحريم التقليد التي يدعون إليها اليوم ويستدلون عليها بألف دليل ودليل على أنهم تصرفوا في نصوص للشاطبي وابن حزم، واقتطفوا من كلامهما بطريقة فجة غير علمية ما نصروا به دعوتهم. مما يجعل القارئ يعتقد أن علماء الإسلام مجمعون على هذا الأمر. يقول البوطي بعد ما أورد كلامهم وكيفية نقلهم عن الأئمة وما حذفوه من كلامهم وما أثبتوه: " لا بد أن نتوجه إلى من لا يزال يثق بهذا الرجل (ناصر الدين الألباني) وبطانته، من جماعات المسلمين ومثقفيهم سائلين ومستفسرين: ما حكم من يعمد إلى مثل هذه العبارة لأحد المؤلفين: " فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال إن التقليد حرام و.. إنما يتم فيمن له ضرب من الاجتهاد " فيحذف ما الموصولة من صدر العبارة ويحذف خبرها الآتي من ورائها ثم يأخذ حشو هذه العبارة وحدها مستشهدا بها عازبا إياها لذلك المؤلف ليعزز بها دعواه ؟ !.. وقد رأيت فيما مضى صنيعه المشابه لهذا بكلام الشاطبي رحمه الله..

ويضيف الدكتور قائلا: لو كان جهلا - وما هو بجهل - لقلنا: هي زلة وسيتعلم الرجل بعدها. ولو كان سهوا - وما هو بالسهو - لقلنا ما أعجبها صدفة ! سهو وجاء على قدر المدعي تماما ! !.

ونعود فنسأل هؤلاء الأخوة: ما هو حكم الله فيمن ينطق نصوص المؤلفين بعكس ما قالوا كي يوهموا الناس بأن لهم مستندا على صدق دعاويهم ؟ ما

الصفحة 490
هو حكم الإسلام فيمن يفعل ذلك ؟ ؟ (150).

لكن الدكتور لا يجرؤ على وصفهم بالكذب، وتحريف تراث المسلمين.

لكن يتمنى لو لم يحشر في هذه الزاوية الضيقة: يقول " كان بوسعي أن أضرب صفحا عن كشف هذا التزييف العجيب والخطير، وأن أمر من جنب هذا اللغو بترفع وإعراض.. ولكن أمانة الله والعلم والخلق تدعوني إلى أن أنبه جماعات المسلمين إلى هذا الصنيع العجيب الذي يتلبس به من يدعون الناس إلى اتباعهم، وإلى ائتمانهم على دينهم، ورواية الأحاديث عن نبيهم، وقد أكون متجنيا في كلامي هذا، فليعمد القراء إلى كتاب حجة الله البالغة في المكان والصفحة المشار إليهما ثم ليأخذوا كتاب " المذهبية المتعصبة هي البدعة " (الرد السلفي على كتاب البوطي) وليفتحوا صفحة (287) وليقرأوا ثم ليقارنوا.. ثم ليأخذوا من ذلك العبرة التي ينبغي أن يأخذها أي عاقل (151).

الغاية تبرر الوسيلة:

ولقد أثبت الدكتور في أكثر من موقع كذب بعض دعاة السلفية الكبار وتحريفهم في النقول بشكل مباشر وصريح. وكأنهم يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة. فما داموا وصلوا إلى الحق، فلا مانع من الكذب على العلماء وتزوير كلامهم ليتماشى مع دعاويهم. والغريب هنا حقا، هو استشهادهم بقول عالم

____________

(150) المرجع نفسه. هامش ص 134. ويقول الدكتور البوطي: " والغريب أن صاحب الكراس (الخجندي السلفي) عزا إلى كمال بن الهمام كلاما طويلا غير هذا لم يقله، ولم يتفوه به.

وأنما هو كلام ذكره ابن أمير الحاج في شرحه للتحرير، واسم كتابه " التقرير والتحبير " وقد اختلط الأمر على " العلامة " صاحب الكراس، فأسند الكلام الذي ساقه إلى ابن الهمام، وهو لم يقله أصلا، وأسند إليه كتابا اسمه التقرير والتحبير، وهو لم يؤلف كتابا بهذا الاسم أصلا ". أنظر المرجع نفسه، ص 63.

(151) المرجع السابق، ص 134.

الصفحة 491
أو فقيه في مسألة معينة واعتماد هذا القول والاستشهاد به. في الوقت نفسه الذي يكون السلفيون قد حكموا على نفس العالم أو الفقيه بالضلال أو الكفر. لأنه معطل أو لأنه يختلف معهم في مسألة عقائدية. وقد شكا الدكتور البوطي كذلك من كذبهم عليه وهو حي يرزق. كما أثبت كذب المعصومي الكاتب السلفي على الدهلوي (152).

الحذف والتحوير عند النقل:

ويتكلم السيد الميلاني وهو يناقش كتاب " المرتضى " لأبي حسن الندوي السلفي الهندي المعاصر عن تحريف وتحوير متعمد في النقل عند الاستدلال.

فالكاتب الندوي ينقل عن ابن كثير ويقول قال ابن كثير. ولما يدقق الباحث الميلاني في هذا النقل يقول: " إلا أننا لما راجعنا الجزء والصفحة المذكورتين وجدنا عنوان ابن كثير هكذا فصل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار. ولم نجد فيه هذا النص المذكور في كتاب المؤلف ! !

ومن شاء فليراجع. والنص هو " قال ابن كثير ؟ آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين سهل بن حنيف " (153).

وفي هذا الكتاب الذي كتبه المؤلف لغرض في نفسه، الكثير من التحويرات واللف والدوران الذي لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى الغرض منه.

فالعنوان " المرتضى " أو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. لكن ثلث الكتاب في مدح وبيان مواقف رجال آخرين. وما تبقى ليس إلا إعادة كتابة بعض الأحداث المهمة في تاريخ الإسلام، وفقا لما يراه أتباع المذهب السلفي.

____________

(152) يقول البوطي: " إن ما نقله المعصومي عن الدهلوي في كتابه الإنصاف، كلام مكذوب عليه، لم يثبت لا في الأنصاف ولا غيره " اللامذهبية ص 131.

(153) مجلة تراثنا، العدد 1 (43) السنة التاسعة محرم 1414 ه‍، ص 38.

الصفحة 492

تنقية كتب التراث من النصوص والأحاديث المخالفة للمذهب:

أما أخطر الطرق التي يسلكونها في عملية التحريف هذه، فهي محاولاتهم الجادة والمتكررة لتنقية كتب التراث الإسلامي من كل ما يخالف العقيدة السلفية. وبما أنهم يملكون الأموال الضخمة ويستطيعون إعادة طباعة هذه الكتب والمصادر، وشراء سكوت أصحاب المطابع. فإنهم خطوا خطوات مهمة في هذا المجال. وقد ظهرت هذه التنقية والغربلة لتراث المسلمين في أشكال متعددة منها.

1 - حذف الأحاديث الغير مرغوب فيها من المصادر والكتب. وإعادة طبعها دون الإشارة إلى ذلك، وقد انتبه المحقق الكوثري وهو يراجع كتاب " الأسماء والصفات للبيهقي " إلى أن الحديث الذي ذكره أبو بكر الصامت الحنبلي وقال رواه عبد الله ابن أحمد في السنة. قد اختفى من النسخة المطبوعة. يقول الشيخ الكوثري: " ولم أجده في المطبوع فلعل المشرفين على طبعه حذفوه استفضاعا له " (154).

وإذا كان هذا الحديث أعدم لأنه يشنع عليهم. فإن حديث " الدار " الذي رواه أغلب أهل السنن، ينتصر لعقيدة الإمامة الشيعية لذلك فقد اختفى من الطبعة الثانية من كتاب " حياة محمد " للدكتور محمد حسين هيكل. وقيل إن السلفيين تدخلوا لدى الناشر وأغدقوا عليه الأموال فحذفه من الطبعة الثانية بعد ما ذكره المؤلف في الطبعة الأولى. وهذا الحديث لكونه صحيح السند، وصريح العبارة. فقد كان يزعج كل من يجده في طريقه وهو يكتب في السيرة النبوية، وخاصة أعداء الإمامة وأهل البيت. ومن ضمنهم بلا شك دعاة السلفية. أنظر إلى ابن كثير المؤرخ وهو يتعرض لهذا الحديث مضطرا فلما وصل إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم " على أن يكون أخي ووصي

____________

(154) لأسماء والصفات، تحقيق الكوثري، هامش ص 356.

الصفحة 493
وخليفتي فيكم " نقله بهذه الصورة " على أن يكون أخي وكذا وكذا " (155).

وابن كثير هذا كان أكثر ميلا لعقيدة التجسيم والتشبيه " السلفية " في تفسيره. لذلك تجدهم يدعون للاهتمام بهذا التفسير وتقديمه على غيره. كما أن موقفه من الشيعة الإمامية كان معروفا وهو النقض عليهم. لذلك لجأ إلى هذا التحريف. ولكن الحديث حظه وحظنا موجود في باقي المسانيد الحديثية. وقد رواه أكثر من واحد، ونقله مجمل الكتاب المعاصرين.

طبعات جديدة ونظيفة لصحيح البخاري:

وعملية حذف الأحاديث من المسانيد وكتب السنن. أصبحت مشهورة، فهناك في الأسواق الآن كتب حديثية لا تخلو من الحذف والنقص المتعمد.

وخصوصا صحيح البخاري الذي صدرت له طبعات سلفية منقحة وجديدة، وقد طالتها يد التحريف. وقد حدث أكثر من مرة أن احتدم النقاش بين أبناء الصحوة الإسلامية. حين يذكر أحدهم في معرض الاستدلال، حديثا ينسبه إلى صحيح البخاري فيرد الآخر بأن لا وجود لهذا الحديث في صحيح البخاري، وبالفعل يستنجد بنسخة تخلو من هذا الحديث. وعند المراجعة تبين أن هناك نسخا محرفة موزعة في الأسواق وخصوصا تلك التي طبع فيها صحيح البخاري على شكل كتب وأجزاء صغيرة لتسهيل - على حد زعم أصحابها - الاستفادة من هذا السفر الضخم. وقد وزعت على نطاق واسع، ولا شك أنها وزعت بالمجان كذلك.

وقد ذكر لي بعضهم إن هذه النسخة قد وزعت في فرنسا وأنه عرف ذلك عندما احتدم النقاش بينه وبين شخص آخر فاستدل بحديث رواه البخاري، هذا الحديث الذي خلت منه النسخة الموزعة. ولهذا السبب يمكن أن نفسر

____________

(155) البداية والنهاية، ج 3 ص 40.

الصفحة 494
أخذ الدكتور التيجاني السماوي - وهو متشيع معاصر - لنسخته من الصحيح، عندما أراد أن يناقش قاضيا استدعاه، وذلك خوفا من أن يطلع عليه القاضي بنسخة أخرى تخلو من شواهد الاستدلال.

وقد ذكر الداعية الإمامي السيد علي البدري أنه كان يحفظ الأحاديث من مصادرها، ويحفظ معها الطبعة والسنة ودار النشر لأنه حدث خلاف كبير وتحوير في طبعات جديدة. لذلك فقد بدأ البعض من أبناء الصحوة الإسلامية يبحث عن طبعات قديمة، لصحيحي البخاري ومسلم عساها تكون قد نجت من التحريف والتزوير. ومن عجيب ما سمعت أن شيعيا إماميا في السعودية هجمت على منزله المخابرات وفتشت مكتبته ولم يأخذوا منها سوى نسخة قديمة من صحيح البخاري كان قد اقتناها من خارج المملكة ؟ !.

إن من المؤسف حقا أن أحدا من المفكرين، إلى حد الآن لم يقم بمتابعة هذه الظاهرة التحريفية لتراث الأمة. وذلك بمراجعة على الأقل مصادر الحديث المعروفة التي طبعت. سواء داخل المملكة السلفية أو خارجها، ومقارنتها بنسخ قديمة أو مخطوطة لمعرفة مدى التزام هؤلاء بالنزاهة والأمانة في حفظ التراث الديني. وإن كنا نشعر بنوع من الارتياح وعدم الخوف على هذا التراث من الضياع، لأن مطابعا ومكتبات في القاهرة واستنبول وطهران والنجف الأشرف تحتضن هذا التراث، وتحرص على طباعته وإخراجه للناس دون زيادة أو نقصان.

كما أن المكتبات الشخصية لعلماء أهل السنة والشيعة الإمامية، تحتوي على النسخ الأصلية لأهم مصادر التراث الإسلامي. ولكن المشكل هو في قدرة الحركة السلفية اليوم على إغراق الأسواق بالنسخ الجديدة والمعدلة، وبيعها بأسعار رخيصة أو توزيعها بالمجان، مما يجعل أبناء الصحوة الإسلامية يقتنونها ويعتمدونها دون غيرها.


الصفحة 495

طبعات محرفة لمغني ابن قدامة وصحيح مسلم:

وأخيرا يقول محمد نوري الديرثوي: إن " التحريف وحذف الأحاديث شأن السلفية وديدنهم. إن نعمان الآلوسي حرف تفسير والده المكرم علامة العراق الشيخ محمود الآلوسي " تفسير: روح المعاني " ولولا تحريفه لكان التفسير الفريد وجامع الجوامع. وأما الحذف والسلخ للعبارات والأحاديث فحدث عنه ولا حرج: لقد طبعوا المغني لابن قدامة الحنبلي فحذفوا منه مبحث الاستغاثة. وطبعوا شرح صحيح مسلم فسلخوا منه أحاديث الصفات.

هذا ما عثرنا عليه من خيانتهم العلمية وقبيح عملهم، وسيحاسبهم الله على سوء صنيعهم وهو مطلع عليه وإن خفي عنا (156).

إن عملية حذف الأحاديث من أمهات الكتب الحديثية عملية تحريفية مضللة وخطيرة، لكن كشفها يمكن أن يكون متيسرا وذلك بمقارنة النسخ بعضها ببعض.

اختصار أمهات الكتب والمصادر:

لكن العقل السلفي اكتشف طريقة أخرى لإلغاء الأحاديث والروايات المخالفة. وهذه الطريقة كان قد عمل بها قديما. فالكتب التي تكون ضخمة يقوم العالم أو الفقيه باختصارها. وهكذا ظهرت " المختصرات " في جميع

____________

(156) محمد نوري الشيخ الديرثوي، ردود على شبهات السلفية، مطبعة الصباح ط 1 - 1987 ص 249. ويقول في الصفحة 111 عن نعمان الآلوسي أنه " كان على عقيدة ابن تيمية وحرف تفسير والده (روح المعاني) بعد وفاته وحشاه بآراء ابن تيمية وأمثاله. وجاء في ذيل مقالات الكوثري لأحمد خيري قوله في نعمان: " وهو ليس بأمين على طبع تفسير والده، ولو قابله أحدهم بالنسخة المحفوظة اليوم بمكتبة راغب باشا باسطنبول. وهي النسخة التي أهداها إلى السلطان عبد الحميد خان - لوجد ما يطمئن إليه. على ما في " تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم ". للعلامة الكوثري، مطبعة الأندلس بحمص، ص 425.


الصفحة 496
الميادين الفكرية. اختصرت كتب التاريخ الطويلة، كما اختصرت موسوعات الحديث، وشمل هذا الاختصار أيضا كتب الفقه والأدب.

أما الآن فإننا نعتقد أن عملية الاختصار التي يقوم بها بعض كتاب السلفية وراءها ما وراءها ؟ ! خصوصا اختصار السيرة النبوية وكتب الحديث (157).

وهذه العملية وإن كانت عملية في الأصل ولا إشكال على ممارستها.

فإنها قد تصبح مدخلا يلج منه السلفيون للقيام بعملية تحريفية واسعة النطاق.

فقد يحذفون من السيرة النبوية كل ما لا يتناسب مع مذهبهم. كما يتم تشطيب وإلغاء الأحاديث التي يتشبث بها خصومهم. وعليه سيظهر مختصر صحيح البخاري لا يجد فيه المخالف للسلفية أي مستند. وهكذا بالنسبة للسيرة النبوية، ففضائل أهل البيت مثلا، سيتم التخلص منها بيسر وسهولة.

أما كتب التواريخ فلا نشك أنها ستصبح أموية أكثر من اللزوم. لأن من يعتقد في يزيد ابن معاوية الفاسق أنه كان أميرا للمؤمنين واجب الطاعة. لن يرضى بما كتبه المؤرخون في وصف حاله من الفسق والفجور وصولا إلى الكفر (158).

____________

(157) أنظر مختصر صحيح مسلم للمنذري ومقدمة الشيخ ناصر الدين الألباني السلفي وما ذكره في هذه المقدمة من الحط على المذاهب الفقهية وخصوصا المذهب الحنفي.

والسلفيون يغتنمون مثل هذه المقدمات لنشر الفكر السلفي.

(158) يقول الكاتب والصحفي نبيل فياض: في الإطار التدجيلي ذاته. صدر عن " وزارة المعارف - المكتبات المدرسية " في تلك الدولة الوهابية. كتابا حمل عنوان " حقائق عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية " مليئا بالأكاذيب، يهدف أصلا إلى غسل عقول الأطفال، وتهيئتهم كي يتحملوا " شرعيا " مظالم الحاكم مهما كان فاسدا، فاسقا. فما هي حقائق أمير المؤمنين هذا، الذي خرج منتصرا من كل معاركه مع معارضيه من المسلمين ؟ قال ابن كثير: " اشتهر يزيد بالمعازف وشرب الخمور، والغناء والصيد واتخاذ القيان والكلاب والنطاح بين الأكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا ويصبح فيه مخمورا. وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به... إلى أن قال: وكان إذا مات القرد حزن عليه وقيل أن سبب موته إنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته ". ابن كثير. البداية والنهاية 8 / 236. أنظر، يوم انحدر الجمل من السقيفة، الطبعة الثالثة 1995 م، ص 14، 15، 17.

الصفحة 497
ولا شك أن هذه المختصرات ستكون بمثابة إعادة كتابة التاريخ وفقا لأهواء حشوية الحنابلة. ولو تسنى لهم أن يفعلوا ذلك تحت جنح الظلام وينشرون نتائجه في الأوساط الإسلامية المتلقية، فإن الكارثة ستكون مهولة، وعملية التحريف ستبلغ مداها الأقصى. وستتحول الأكاذيب والخرافات في تاريخ الإسلام إلى حقائق تعتنقها الملايين من المسلمين.

وستصبح الأحاديث المكذوبة والمختلقة صلب العقائد الإسلامية. ولا ضير إذن من أن يعيد التاريخ نفسه. فلولا مثل هكذا عمل، لما أصبح عيسى ابن مريم إلها يعبد في الأرض بدل الله عز وجل. وها هي الملايين اليوم تعتنق المسيحية أو الصليبية وتتدين بدين لا علاقة له بنبي الله عيسى عليه السلام بالمرة.

ونحن إذ نحذر من هذه " المختصرات " نؤمن بوجودها في تاريخ الإسلام.

ولكن ذلك العهد ولى، حيث كان يمكن الركون إلى صدق أصحابها وموضوعيتهم. أما الآن فإن " دعاة السلف " يكذبون على الأحياء الذين يعاصرونهم وينسبون إليهم أقوالا وأفعالا هم بريئون منها. وإذا كانوا يستحلون الكذب على خصومهم فلا مانع لديهم من تصحيح التاريخ، وتنظيف كتب الحديث من كل ما يرفضه الفكر السلفي.

فعلى أبناء الصحوة الإسلامية أن يأخذوا حذرهم، وأن ينتبهوا جيدا لمثل هذه المختصرات. وأن يبحثوا عن هوية الكاتب المذهبية، ومصدر الطباعة والنشر. وإن كنا ندرك صعوبة ذلك، لأن المئات من المرتزقة يقومون بهذا العمل لصالح المؤسسة السلفية، ولا يمكن معرفتهم. وكذا دور النشر، فإن هناك صعوبة واقعية في تحديد ميول أصحابها ومن يدفع لهم المال لقاء فعلهم هذا. وبالجملة فإن الاطلاع الشامل والقراءة المتنوعة لكتب الأصدقاء والخصوم كفيلة بإيضاح الطريق أمام المخلصين من أبناء الصحوة الإسلامية.


الصفحة 498

البحوث الجامعية في خدمة التحريف:

وفي نفس السياق أي تنقية التراث الإسلامي مما يخالف مذهب " حشوية الحنابلة " أو السلفية، نجد أن دراسات وبحوث بنيل شهادات عليا من الجامعات السلفية قد أخذت على نفسها محاكمة بعض الكتب المهمة التي تنشر عقيدة أهل السنة والجماعة بالخصوص. ومحاولة الرد عليها وتوجيه محتواها بطريقة تتناسب في النهاية وعند الاستنتاج العام مع ما يذهب إليه السلفية من عقائد وآراء نذكر على سبيل المثال كتاب " البيهقي وموقفه من الإلهيات " للدكتور السلفي أحمد بن عطية الغامدي الأستاذ المساعد في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

السلفيون يحاكمون التراث الإسلامي:

فمما لا شك فيه أن كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي هو أحد أمهات الكتب في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة من الأشاعرة. وهو في نفس الوقت وثيقة مهمة لبيان كذب شيخ الإسلام " ابن تيمية " في كثير من أقواله وإجماعاته وتقريراته العقائدية. لأن البيهقي ذكر مجمل الأحاديث والروايات وأقوال الصحابة والتابعين، والأئمة " السلف " فيما يخص موضوع الصفات الإلهية وموقف السلف منها، تأويلا وإثباتا أو تعطيلا. الشئ الذي جعل دعاة السلفية يقفون أمام مصدر تراثي ثري بالمعلومات والنقول عن الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، ينقض عقيدتهم ويسفه آراءهم.

بل إن الاطلاع على هذا الكتاب يظهر مدى تهافت العقيدة السلفية.

لذلك اتجهت حراب السلفية لطعنه. وذلك بإعادة قراءته ومحاكمته على ضوء مذهب " السلف ". ومنهج الدكتور في هذه القراءة والمحاكمة هو عرض كل المسائل التي ذهب البيهقي فيها مذهبا يخالف عقيدة ابن تيمية. ثم الرد عليها بما قوله السلف ودحض حجتها. ويجب أن يعلم أن المقصود من

الصفحة 499
السلف في طول الكتاب وعرضه هو رأي ابن تيمية لا غير وللقارئ أن يراجع ليتأكد من صدق ذلك.

يقول الدكتور السلفي " كان في تعليقاته - أي البيهقي - وإيضاحه لمسائل العقيدة، قد رضي أن يكون المذهب الأشعري هو السائد على آرائه. مع استقلاله عن الأشاعرة ببعض الآراء في مسائل مهمة متبعا طريقة السلف فيها وراضيا بمذهبهم (159) وطريقة السلف هنا هي رأي ابن تيمية لا غير. يقول الدكتور: " ثم إن البيهقي - رحمه الله - ينكر أن يكون كلام الله تعالى بحرف وصوت.. وهو بهذا يتفق مع الأشاعرة.. أما السلف فإنهم يقفون من رأي البيهقي في مسألة الحرف والصوت موقفا معاكسا لأنهم يرون أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت " (160). وعند التحقيق تجد أن هذا الرأي لشيخ الإسلام. وأنه هو المقصود بالسلف.

مثال آخر لمحاكمة الدكتور كتاب " الأسماء والصفات "، فبعد ما يعرض لكلام البيهقي بخصوص قدم القرآن، ورأي أهل السنة في ذلك يقول " وهذا الرأي الذي تبناه البيهقي يخالف ما عليه سلف الأمة في هذه المسألة، حيث يرون إن كلام الله تعالى قديم النوع حادث الآحاد. وإن الله متكلم متى شاء كيف شاء (161)، وهذا الرد يكاد يكون حرفيا نقلا عن ابن تيمية. وهكذا دواليك. فكلما جاء البيهقي برأي يخالف ما عليه السلفية رد عليه الدكتور بقول ابن تيمية وحتى وإذا وجد رأي يدعم العقيدة السلفية لغير شيخ الإسلام، فإن الدكتور الباحث يعدل عنه لرأي الشيخ. يقول في معرض نقاشه لأحد المسائل " مع أنه رأي لبعض السلف كما ذكرت إلا أنني اخترت القول

____________

(159) البيهقي وموقفه من الإلهيات، الدكتور أحمد بن عطية بن علي الغامدي، ط 2 المجلس العلمي، إحياء التراث الإسلامي المملكة العربية السعودية، ص 58.

(160) المرجع نفسه، ص 203 - 204.

(161) نفسه، ص 211.

الصفحة 500
بالتفصيل الذي ارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (162).

وهكذا تتم محاكمة تراث المذاهب الإسلامية بميزان وحيد وقاطع هو رأي ابن تيمية " السلف "، فما وافق رأي " شيخ الحنابلة " فهو رأي السلف الصالح وهو الحق المحض. وما خالف ذلك فهو ليس رأي السلف وهو الباطل المحض.

والدكتور المؤلف عندما يذكر آراء ابن تيمية ويصفها برأي " السلف " وقول السلف. إنما يؤكد ما توصلنا إليه في المقدمة عند التعاريف، بأن مذهب السلف ليس سوى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية مضافة إلى المذهب الحنبلي.

وهذه الأمثلة التي جئنا بها ونحن نناقش مسألة التحريف. إنما تدخل ضمن هذا الباب - تحريف التراث - فعندما يقول المؤلف أن رأي السلف في هذه المسألة كذا، يتبادر لذهن القارئ العادي أنه يقصد الصحابة أو التابعين أو أئمة الإسلام ممن عاش في القرون الثلاثة الأولى من عمر الإسلام. لكن الحقيقة أن هذه الكلمة " السلف " لا تعني أكثر من " رأي ابن تيمية لا غير " وهذا تحريف وتزوير وتلفيق، بخلاف الحقيقة والواقع. وإيهام القارئ بصحة رأي " السلفيين " لأنه منسوب لأناس فرض أنهم أعلم، لأنهم أقرب عهدا برسالة الإسلام. والاستهانة برأي علماء المذاهب الأخرى عندما يعلم القارئ بأنها تخالف آراء السلف.

ونحن على يقين بأن دعاة السلفية اليوم لو تنازلوا عن لقب " السلف " وأتباع السلف، ودعوا لآرائهم ومعتقداتهم كما هي عليه حقيقة. آراء وأفكار فقهاء وأتباع المذهب الحنبلي وبالخصوص آراء ابن تيمية الحراني وتلميذه ابن قيم الجوزية، فإن أبناء الصحوة الإسلامية سيجدون أنفسهم أمام مجال واسع ورحب للاختيار والمقارنة بين اجتهادات العلماء وآرائهم في جميع المذاهب الأصولية والفروعية.

____________

(162) نفسه، ص 332.

الصفحة 501
ولن تكون الساحة حكرا آنذاك على رأي مخصوص لمجتهد واحد. كما أن الادعاء بأن الحق المطلق والمحض هو إلى جانب مجتهد دون آخر تصبح دعوى تحتاج إلى الكثير من الأدلة. وطبعا هذا لن يكون في صالح الدعوة السلفية.

ولو علم أبناء الصحوة الإسلامية في أنحاء العالم أن سلفيتهم لا تتجاوز تقليد المذهب الحنبلي في الفروع والأصول. وإنهم آخر المطاف يشكلون شريحة من أتباع فقيه حنبلي عاش في القرن السابع ليس إلا. فمن المؤكد أن موجة الدعوة السلفية ستعرف انحصارا كبيرا وتقهقرا عظيما، لأن أحدا عند ذاك لن يستطيع أن يثبت بأن ابن تيمية كان أعلم وأفهم للإسلام من أبو الحسن الأشعري. هذا الرجل الذي ولد ومات في الزمن السلفي حقا. وكذا لن تجد من يجرؤ على مقارنة هذين الرجلين بجعفر بن محمد الصادق الإمام السلفي الكبير الذي كان يقول: " عن أبي عن جدي.. عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ويدرج الحديث. وقد شهد له الأعداء قبل الخصوم بالأعلمية والتفوق. وغير ذلك من الحقائق التي يحاول ضباب الدعوة السلفية أن يحجبها عن عيون أبناء الصحوة الإسلامية.

يقول العلم، ويرى السلف ؟ !:

وقبل أن أنتقل إلى مناقشة وإيراد أسلوب آخر من أساليب هذه الفئة في تحريف تراث المسلمين. تحضرني قصة ترجع إلى زمن بعيد. كنت يومها طالبا في الثانوية العامة وكان مدرس مادة الفلسفة ماركسيا، ولما كان المنهج يتضمن دراسة الفلسفة الماركسية فقد وجد هذا الأستاذ الفرصة لنشر أفكاره والدعوة إليها، وقد كنت إلى جانب بعض الطلبة نتصدى له أثناء النقاش ونرد على أفكاره ونفندها. لذلك كان هذا الأستاذ يجد صعوبة بالغة في إيصال ما يريد إيصاله إلى باقي الطلبة، من مدح للأفكار الماركسية. لذلك فقد غير أسلوبه في العرض والمناقشة. وعندما بدأ يشرح " المادية الجدلية " ليثبت مبدأ

الصفحة 502
التناقض الطبيعي والتغير الدائم، كان يقول " لقد أثبت العلم كذا " و " يقول العلم كذا "، وكنا نحن نقف مشدوهين أمام قوله " لقد أثبت العلم كذا، ويقول العلم " لأن أحدا لا يجرؤ على مخالفة العلم. في الوقت الذي كان يتكلم فيه عن قوانين المادية الجدلية.

وفي إحدى الحصص وهو يتكلم عن العلم وكيف إن التناقض في الطبيعة قانون علمي و.. و.. و.. " تذكرت قول السيد باقر الصدر الذي ذكر في كتابه " اقتصادنا " إن بعض الماركسيين عندما يكتبون أو يتكلمون عن المادية الجدلية يقولون يقول " العلم " وأثبت " العلم " ويقصدون بذلك " المادية الجدلية الماركسية " وليس العلم بمعنى ما يصدر من نتائج عن البحوث العلمية في المختبرات ومعاهد البحث والدراسة.

فهم يعتقدون بأن جدلية ماركس المادية هي قانون علمي. وقفت حائرا هل أسأل الأستاذ ماذا يقصد بالعلم ؟ ! وانتابني الشك والخوف معا فقد يكون يقصد بالعلم حقيقة وليست " المادية الجدلية "، وبالتالي سأضع نفسي في موقف حرج لا أحسد عليه، ربما كانت له عواقب وخيمة على علاقتي بهذا الأستاذ. لكني تحررت من الشك والتردد واتجهت بسؤالي نحوه قائلا. ماذا يقصد الأستاذ ب‍ " العلم " عندما يقول " لقد أثبت العلم " ؟ ! وما كدت أنهي سؤالي، حتى فوجئت بالأستاذ وقد وقف باتجاهي قائلا لي بلهجة عامية ما معناه: إن كنت قد عرفت المقصود فالزم الصمت ! وفعلا التزمت الصمت.

.

وأنا أحمد الله في نفسي بأني وفقت في الكشف عن هذا الأسلوب التزويري لإيصال العقائد والأفكار إلى الناس.

لا شك أن القارئ قد أدرك المقارنة التي من أجلها تعمدت ذكر هذه القصة الواقعية. فإذا كان الماركسيون يدعون إلى آراء ماركس تحت عنوان " يقول العلم " فإن دعاة المذهب الحنبلي الحشوي يدعون إلى آراء ابن تيمية الحراني تحت عنوان " مذهب السلف " وكلاهما يريد أن يحرف الحقائق ليصل

الصفحة 503
إلى عقول العامة والخاصة. فما دامت الغاية تبرر الوسيلة فلا بأس من سلوك هذه الطرق الملتوية وركوب هذه المطايا المضللة. لكن الأسلوب الأخطر، الذي نجم عنه تحريف واسع النطاق، وتغييب الكثير من الحقائق لم يكن في حذف الأحاديث عند الطباعة، أو الاختصار فقط.

إعادة كتابة التاريخ:

ولكن موجة التأليف والكتابة في المواضيع الإسلامية العامة. التي لجأت لإعادة كتابة التاريخ بطريقة انتقائية. يحرص فيها المؤلف على ذكر ما اتفق عليه سلفا من خصائص المذهب وميوله السياسية وآرائه العقائدية. لقد كان المؤرخ القديم موسوعيا يضم في تأليفه كل الآراء تقريبا. فيجمع مجمل الأحاديث والأقوال المختلفة في الحادثة الواحدة. وفي الغالب الأعم لا يقوم بالترجيح أو التحقيق إلا نادرا. وكذا كان المنهج في موسوعات الحديث النبوي. لكن الكتابات الحالية التي تغزو الأسواق، شديدة الانتقاء والتنقية من الشوائب الغير مرغوب فيها. وصولا إلى تحريف الحقائق، والإيهام الذي يجعل القارئ يستنتج بعض الأفكار والآراء بخلاف ما هي عليه في الواقع.

فلو تعرض بعضهم للحديث عن الخلافة مثلا وكيف تمت البيعة لأبي بكر الصديق. سيكتب بأن المسلمين بعد وفاة رسول الله اجتمعوا قاطبة وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه قائلين: لقد ارتضاه الله لديننا فكيف لا نرضاه لدنيانا، وكان الرسول (ص) قد قدمه للصلاة أثناء مرضه. ثم يمر مرور الكرام على هذه الحادثة، بعد ما يكون قد أغرق في المدح وبيان فضائل الرجال. لدرجة تحسبه يتكلم عن الملائكة المعصومين وليس عن البشر الخطائين.

أما إذا ما رجعت إلى مصادر التاريخ لتطلع على أحداث انتقال الخلافة إلى أبي بكر الصديق فستجد خلافا شديدا بين الصحابة وتناحرا ومؤامرات شخصية وجماعية أودت بقتل بعض الصحابة. وإن عمر بن الخطاب مثلا

الصفحة 504
كان قد اعتبر خلافة أبا بكر فلتة وقى الله المؤمنين شرها. إلى ذلك من الأخبار والحكايات التي تطعن في أي إجماع مدعى. وعندما يتكلم عن حادثة مقتل عثمان، يكتب عن مظلومية هذا الخليفة الذي كانت الملائكة تستحي منه.

وأن مجموعة من شداد الآفاق هجموا عليه في منزله وقتلوه ظلما وعدوانا.

وعليه يتم اختصار أحداث التاريخ بشكل عجيب. ولا يعرف القارئ سوى أن الخليفة الثالث قد قتل مظلوما. أما أنه كان ظالما وأنه خص قرابته بالولايات المهمة. ووزع عليهم أموال المسلمين، وما نشأ عن ذلك من ظلم للرعية. وغير ذلك من المظالم الكثيرة التي سجلها التاريخ. وسجل كذلك ردة الفعل الاجتماعية على هذا الظلم. فقد شارك في قتل عثمان بعض الصحابة وأبنائهم، وأم المؤمنين عائشة كانت تنادي اقتلوا نعثلا فقد كفر. وقد شارك محمد بن أبي بكر الصديق في قتله وإن لم يكن قد باشر ذلك أمر به وغير ذلك من الأحداث المؤلمة ؟ !.

عالم تتقاسمه الخرافة والمثل:

والغريب في هذه الكتابات، أنها تكتب تاريخا رائعا من الإجماعات والتسالم والتكامل والتعاضد بين جميع أفراد المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول (ص). كما وتتكلم عن أغلب من أطلق عليهم " صحابة " وكأنهم ملائكة لم ولن يخطئوا. فلم يصدر عنهم إلا الخير والصلاح. مما يجعل القارئ ترتسم في ذهنه صور مثالية عن هؤلاء الرجال وعن حقبتهم وتاريخهم، صور ملائكية هي أقرب إلى عالم الخرافة من عالم الحقيقة والواقع.

وكأن هؤلاء الكتاب يكتبون عن عالم يحلمون به، عالم خال من الشرور والأهواء والمصالح الشخصية. ولكن المشكلة هنا ليس في الحلم أو الرغبة في عالم مثالي ملائكي يسود فيه الحق والخير. ولكن عندما نتكلم عن هذا الحلم أو المثال على أنه وجد على الأرض وتمثل في نماذج الصحابة ومجتمعهم،

الصفحة 505
خصوصا بعد وفاة الرسول (ص). مما يجعل أبناء الصحوة الإسلامية ينشدون هذا الحلم، الذي يعتبرونه واقعا حدث ذات يوم ويمكن إعادته أو تكراره. في الوقت الذي تكون حقيقة هذا الواقع مسطورة ومختلقة على الأوراق فقط.

وهذه الكتابات المزيفة للواقع هي التي جعلت أبناء الصحوة الإسلامية يحلمون بالخلافة الراشدة، ويسعون لإعادة نموذجها المثالي. لكن هيهات، هيهات ! ! إن الواقع ليس كما يسطره الكتاب اليوم. والذي قيل إنهم يفعلون ذلك، لإعادة الاعتبار للذات المسلمة. وإخراج المسلم من حلقة اليأس الذي يعيش فيه، نتيجة الهزيمة الحضارية. وذلك بالحديث عن تاريخ حضاري مشرق. كما أن هذا الأسلوب أستخدم لدعم المواجهة الحضارية بيننا وبين الغرب. وخلق سد منيع أمام الغزو القيمي الغربي، وذلك بخلق الانطباع بالتفوق الأخلاقي والقيمي للحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية المعاصرة.

ونحن وإن كنا لا نمانع من تقوية الجبهات الداخلية والخارجية للأمة في مواجهتها الحضارية الشاملة مع الغرب. فإننا لا نرضى أن يكون ذلك على حساب الحقيقة وتزييف الوقائع، وهذا لا يقتصر على مثال " الخلافة الراشدة " ولكن على مجمل التاريخ الإسلامي.

إن عرض الجانب المضئ من تاريخنا، وغض الطرف عن الجانب المظلم، يعد تحريفا للواقع والتاريخ. ولن يثمر سوى ردة فعل قاسية، إذ ما اطلع أبناء الصحوة على حقائق الأمور ؟. إنهم يتكلمون عن واقع اجتماعي لا وجود له إلا في خيال من يكتب عنه، ويتكلمون عن ورع وصدق وعلم " أمير المؤمنين " (163) فلان الخليفة، وأنه كان يصلي ألف ركعة في اليوم وكان

____________

(163) أنظر ما يقوله السلفي عمر بن أحمد الأحمد عن الخليفة العباسي المتوكل على الله " لقد شبه بعض المؤرخين عصر المتوكل بعصر الصديق لقتله أهل الردة لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعصر عمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية، وقد أظهر الحسنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدعة وبدعهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله... رحم الله الخليفة المتوكل رحمة واسعة الذي قتل سنة (247 ه‍)، فلقد حرص =