ولا بد أن أشير هنا إلى أن أبناء الصحوة الإسلامية إن لم ينتبهوا لهذه الحقائق، فبسبب الأوضاع التي يعيشونها. فالمظلوم يحب سماع قصص العدل، ويكون أقرب الناس إلى تصديقها وإن كانت خيالية. لأنها تعالج ولو بشكل وهمي ما يعانيه من ظلم، وتفتح أمامه باب الأمل في تحقيق العدالة الاجتماعية غدا.
لقد اتسع الخرق على الراقع في هذا الميدان. وهناك مئات العناوين والكتب التي تتعرض لتاريخ الإسلام أو حياة الصحابة والخلفاء، أغلبها لا يستفيد من الوقائع المسطورة في المصادر المهمة إلا بمقدار قد لا يتجاوز النصف. كما أن إعادة كتابة التاريخ من طرف أستاذة ومفكرين مصريين (164) بالخصوص.
____________
= على توحيد كلمة المسلمين، لأنهم يد واحدة على من ناوأهم وعاداهم وعادى طريقة السلف طريقة أبي بكر وعمر وهي الطريق الحق، فعليك بها وإياك وبنيات الطريق ". مجلة الأصالة العددان 15 - 16، 15 ذي القعدة 1415 ه، ص 93.
إن هذا الخليفة الذي يترحم عليه هذا السلفي المعاصر كان طاغية عصره وقد ذكر المؤرخون عن مجونة وإدمانه الخمر وفسقه الكثير، بالإضافة إلى أنه كان ناصبيا يبغض الإمام علي بن أبي طالب وأهل بيته. وقد اتفق العلماء على أن المبغض لأهل البيت في حكم الكافر. أما قوله " نصر الحق ووحد كلمة المسلمين " فلا مصداق له سوى أن هذا الخليفة أوقف امتحان الفقهاء والعلماء في قضية " خلق القرآن ". وانتصر لأهل الحديث " الحشوية منهم بالخصوص " أو ما يسمى اليوم. السلفية. يقول أبو بكر الخوارزمي: ليس من فرق الإسلام فرقة إلا وقد هبت لأهلها رويحة، ودالت لها دولة كما أتفق المختار للكيسانية والمعتصم والواثق للمعتزلة. والمتوكل للنواصب والحشوية ". رسائل أبي بكر الخوارزمي ص 178. ولكي يعرف القارئ حقيقة هذا الخليفة الذي يترحم عليه السلفية اليوم ما عليه إلا أن يراجع مصادر التاريخ المعتمدة ليرى كيف عاش وكيف قتل ومن قتله ولماذا ؟ !.
(164) نذكر منهم أحمد أمين في سلسلته التاريخية ضحى الإسلام وفجر الإسلام وظهر الإسلام وغيرها.
طرق ملتوية وغامضة:
ويمكن أن نضيف كذلك إلى وسائل تحريف التراث. تلك الكتب الفخمة التي يؤلفها الكتاب السلفيون ردا على أهل السنة والصوفية أو الشيعة الإمامية.
فهي إلى جانب تعمد التحريف المباشر، والكذب عند النقل، وتحرير النصوص، تسلك طرقا ملتوية وغامضة في نقض حجج القوم. والمهم أن هناك إجماعا حقيقيا على أن كتب الرد السلفي على أهل السنة والإمامية لا يمكن اعتبارها ردودا علمية. فاقرب هذه الكتب - الردود - إلى الموضوعية تعني خلوها بعض الشئ من السب والشتم والقذف. أما الكذب والتحريف فإنها تكاد لا تمتلئ إلا به. وعلى من يريد معرفة طرقهم التحريفية أن يأخذ الكتاب الأصلي ويقرأه بجانب كتاب الرد السلفي.
ونعتقد أن قارئا نبيها ومتوسط الاطلاع، يستطيع أن يكتشف حيل القوم وألاعيبهم. كما أن كثيرا من هذه الكتب تؤلف بأسماء مزورة لا وجود لها.
ويظهر ذلك يقينا في الكتب الضخمة الكثيرة المصادر والاستشهادات فإن أكثر من مؤلف وربما مجموعة كاملة من المفكرين قد اشتركوا في تأليفها.
فبعض الأعمال تتطلب سنين طويلة من البحث والكتابة، وإذا ما كلف بها شخص واحد. وقد أشار الدكتور البوطي إلى هذه المسألة عندما شك في كتاب " المذهبية المتعصبة هي البدعة " الذي ألفه بعض السلفيين - قد يكون لناصر الدين الألباني السلفي السوري أو مجموعة - لكنه طبع باسم سلفي خاص.
وبعد، لا يمكن أن ندعي أننا عرفنا كل الطرق والوسائل التي استخدمها بعض السلفيين في تحريف التراث وتزوير حقائقه. فمما لا شك فيه أنهم ابتدعوا ويبتدعون كل يوم وسائل جديدة، لإبراز عقائد واجتهادات المذهب الحنبلي، والترويج لها، على أنها حقائق الإسلامية المطلقة. وأنها المذهب الحق الذي يجب اعتناقه واتباعه ونبذ ما سواه.
لكننا استطعنا أن ننبه القارئ وخصوصا أبناء الصحوة الإسلامية إلى خطورة ما يقوم به بعض دعاة السلفية اليوم. وأن هذه العملية التحريفية الكبيرة للتاريخ والحقائق الإسلامية. تعتبر السبب الحقيقي وراء التعصب المذهبي المقيت، وانتشار الفتن الطائفية، وما يتبع ذلك من تمزيق لوحدة الأمة الاجتماعية والدينية.
____________
(165) اللامذهبية، ص 140.
السلفية وجهة نظر بدوية
بين حران ونجد:
عرف الإسلام عبر تاريخه الطويل تفسيرات وتأويلات متعددة، نشأت عنها المدارس الفقهية والأصولية المختلفة. وكان لكل مدرسة جذورها الفكرية والواقعية التي تغديها وتصبغها بلون خاص، يؤكد خصوصيتها وتميزها.
والمدرسة السلفية كاجتهاد ووجهة نظر في الإسلام، لها ما يميزها كذلك.
وأهم ما لا حظه الباحثون، الجذور العميقة لأصحابها في البداوة. فإذا كانت " حران " مسقط رأس ابن تيمية، الأب الشرعي للحركة السلفية. فإنه " نجد " ستكون ليس فقط مولد الزعيم السلفي الثاني للسلفية والقائم بأمر دعوتها.
ولكن موطن هذه الحركة والرحم الطبيعية التي تفرخ الأتباع والأفكار.
أما أهم ما يجمع بين حران ونجد فإنها الطبيعة الصحراوية. حيث الجفاف والبعد عن المدنية، لذلك تميز سكانها بالعراقة في البداوة، ولم تعرف المنطقتان على طول التاريخ الإسلامي أية حركة مدنية واسعة أو تمركز عمراني حضاري، خصوصا بلاد نجد التي كانت وما زالت موطنا لقبائل البدو الرحل الذين يتنقلون بحثا عن الكلأ والخضرة طوال السنة.
ونحن عندما نسلط الضوء على الخلفيات الجغرافية والبشرية للحركة السلفية، نفعل ذلك للكشف عن جذور بعض الظواهر الفكرية والسلوكية التي تتميز بها هذه الحركة، والتي لا يمكن معرفتها وتحليلها، إلا بإرجاعها إلى منطلقاتها الأصلية. والبداوة الصحراوية بالخصوص لها مميزات خاصة يعرفها كل من درس حياة البدو الصحراويين أو عايشهم. فقساوة الطبيعة وشظف
لذلك لما كانت نجد منطلق الدعوة السلفية وكان أبناؤها هم جند هذه الحركة وأتباعها ودعاتها. كان لزاما أن تصطبغ هذه الحركة بكل صفات البداوة وعلى رأسها الغلظة والخشونة، بالإضافة إلى ضعف المستوى العلمي والفكري والذي يكون عادة بسيطا بل سادجا وبدائيا: يقول محمد أسد في كتابه (الطريق إلى مكة): ".. إن كثيرا من مفاهيمهم - أي الوهابية - كانت بدائية، وأن حماستهم الدينية كثيرا ما قاربت الغلو " (166). ولا شك أن الغلو الذي عرفوا به وواكب حركتهم سببه القصور المعرفي الواضح. فلم تكن نجد قديما ولا حديثا حاضرة علمية، ومن أراد من أهلها أن يكسب حظا من العلم والمعرفة كان يهاجر إلى العراق أو الشام ومصر وكذا المدينة المنورة.
الخشونة وضيق الأفق:
وإذن فقد كانت بلاد نجد في فجر انطلاق الحركة الوهابية غارقة في الجهل والأمية والسذاجة المعرفية. لكن وبعد فترة قصيرة من الزمن سيصبح
____________
(166) الشيعة في المملكة العربية السعودية، حمزة الحسن، ج 2 ص 133. ويقول صاحب النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية، عبد القادر الكيلاني الإسكندراني: " إن أتباع بن عبد الوهاب ربما يلتمس لهم عذر بأنهم جماعة قاطنون في بلاد نجد وهم بعيدون عن عالم الحضارة. لم يزالوا على البساطة والسذاجة في الفطرة. قد ساد عليهم الجهل وغلب عليهم الجفا وخشونة الطبع، لا يعرفون شيئا من العلوم العقلية ولا خاضوا في غمار الفنون العربية ولم يميزوا بين المنطوق والمفهوم بل ترى علماءهم الذين يزعمون أنهم على شئ ليس لهم وقوف على العلوم العربية اللهم إلا شئ من مبادئها.. " ص 7.
" انطلقت الوهابية من نظرة خاصة للإسلام احتوت على الحد الأقصى من التزمت وضيق الأفق، مسيئة الظن بالمسلمين إلى درجة اعتبارهم، بشكل مسبق مشركين وكافرين (167).
وضيق الأفق والتزمت الذي عرف به دعاة الوهابية لم يكن بسبب المزاج الصحراوي فقط ولكن بسبب بساطتهم المعرفية وسذاجتهم الفكرية وضعف بضاعتهم في الفكر الإسلامي. يقول السيد محمد سليم الإسكندراني: " إني اجتمعت بكثير من علمائهم فوجدتهم من الجهل بمكان ومن العلم بمعزل (168).
وقد استغل ابن سعود هذا الجهل وهذه البساطة في فهم الإسلام عندما رسخ في أذهانهم أن حربهم للمسلمين مقدسة، حرب الموحدين ضد الكفار والمشركين وبذلك ضمن توسع مملكته وسيطرته على الحجاز وأطراف العراق والشام، وقد انتبه محمد أسد لذلك، عندما أشار إلى أن ابن سعود بقي قانعا بتعريف الإخوان إلى أبسط مبادئ الثقافة الدينية والدنيوية. والحق أنه لم يعرفهم إلى شئ من هذا، إلا بمقدار الذي بدأ ضروريا للحفاظ على حماستهم وغيرتهم، بكلمة أخرى لم ير ابن سعود في حركة الإخوان إلا وسيلة لبلوغه القوة واستتباب الحكم (169).
____________
(167) صفحات من تاريخ الجزيرة العربية الحديث، ص 130.
(168) المرجع نفسه، ص 156.
(169) الشيعة في المملكة العربية السعودية، ج 2 ص 132.
الفتن والخصومات المستمرة:
إن سياسة إشغال العقل الإسلامي في مناقشة القضايا الفقهية الجزئية، وبعض القضايا الأصولية المختلف فيها. والتي كتب حولها الكثير قديما، وفصل في الكثير منها، على أساس الإطارات المذهبية المتنوعة. لا يمكنها أن تأتي بطائل اليوم. سوى عرقلة مسيرة الصحوة الإسلامية، وتشويه صورتها أمام العالم، ولو بقي الأمر مقتصرا على الوضع في " نجد " وما حولها لهان الأمر، لكن ركوب الدعوة السلفية وسائط الإعلام المختلفة وانتشار دعاتها في بقاع العالم، كسياسة دينية سعودية قد جعل سلبيات هذه الظاهرة تنتشر كما تنتشر النار في الهشيم. والنتيجة كانت عدة آثار مست جسد الأمة الديني والاجتماعي. يقول الدكتور البوطي متحدثا عن بعض هذه الآثار السلبية لانتشار السلفية في العالم.
" الأذى المتنوع البليغ الذي انحط في كيان المسلمين من جراء ظهور هذه الفتنة المبتدعة، فلقد أخذت تقارع وحدة المسلمين، وتسعى جاهدة إلى تبديد تآلفهم وتحويل تعاونهم إلى تناحر وتناكر. وقد عرف الناس جميعا أنه ما من بلدة أو قرية في أي من أطراف العالم الإسلامي. إلا وقد وصل إليها من هذا البلاء شظايا. وأصابها من جرائه ما أصابها من خصام وفرقة وشتات. بل ما رأيت أو سمعت شيئا من أبناء هذه الصحوة الإسلامية التي تجتاح اليوم
ويضيف الدكتور متحدثا عن معاناة بعض الدعاة الإسلاميين المعاصرين من جراء هذه الفتنة السلفية قائلا: كنت عندما أسأل كلا منهم عن سير الدعوة الإسلامية في تلك الجهات، أسمع جوابا واحدا يطلقه كل من هؤلاء الأخوة على إنفراد، بمرارة وأسى، خلاصته: المشكلة الوحيدة عندنا هي الخلافات والخصومات الطاحنة التي تثيرها بيننا جماعة السلفية.
ويضيف قائلا: " ولقد اشتدت هذه الخصومات منذ بضع سنوات، في مسجد واشنطن إلى درجة ألجأت السلطات الأمريكية إلى التدخل، ثم إغلاق المسجد لبضعة شهور. ولقد اشتدت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت، في أحد مساجد باريس، منذ ثلاث أعوام، حتى اضطرت الشرطة الفرنسية إلى اقتحام المسجد، والمضحك المبكي بآن واحد. أن أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة الحمقاء لدين الله ولحرمة المساجد، لما رأى أحد الشرطة داخلا المسجد بحذائه، فصاح فيه أن يخرج أن يخلع حذاءه. ولكن الشرطي صفعه قائلا: وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غير كم أيها السخفاء ؟ !.
وفي إحدى الأصقاع النائية - يقول البوطي - حيث تدافع أمة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي، وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة، تصوب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشرك والابتداع، لأنهم قبوريون توسليون ثم تتبعها الفتاوي، المؤكدة بحرمة إغاثتهم بأي دعم معنوي أو عون مادي ! ويقف أحد علماء تلك الأمة المنكوبة المجاهدة، ينادي في أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات: يا عجبا لأخوة يرموننا بالشرك، مع أننا نقف بين يدي الله كل يوم خمس مرات، نقول: * (إياك نعبد
وكيف يجد هؤلاء العلماء آذانا صاغية لدى دعاة السلفية، اليوم، وقد قتلوا بحد السيف في الربع الأول من هذا القرن الألوف من المسلمين رجالا ونساءا وأطفالا. دون أن يعرف هؤلاء الضحايا ما هي جريمتهم بالضبط. سوى ادعاء السلفيين عليهم بأنهم كفار ومشركون، ولو كان فيهم علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، ويتعبدون انطلاقا من فتاوى مذاهبهم.
لكن البداوة إذا تسربلت بالجهل، وتعممت بالقسوة والغلظة، فلا مجال لمناهضتها أو مناقشة أصحابها بالحكمة والموعظة الحسنة، ومقارعتهم الحجة بالحجة. لأن الجهل حاجز سميك يمنع أنوار العقل والفهم من اختراقه. وعليه تكون الفتنة العمياء والظلمات الدامسة. وإذا أضفنا إلى ذلك سياسة شريرة وعقول ما كرة تدعم هذا الجهل بالمال والثروة للإبقاء عليه ولاستمراريته، فإن الآثار السلبية لهذا الوضع ستكون مدمرة وغاية في الخطورة.
ما تدعو إليه الحركة السلفية:
في النصف الأول من هذا القرن عندما كانت الحركة الوهابية تبني دولتها في شبه الجزيرة العربية. كان الغرب والإنجليز بالخصوص، ساسة ومفكرين يتابعون يوميات هذه الحركة ويدرسون أفكار رجالها وعقائدهم. لكي يعرفوا مدى خطورتها، سياسيا على توسعهم الاستعماري. لذلك جاءت العلاقات السياسية المتميزة بين بريطانيا العظمى زعيمة الاستعمار آنذاك وبين الحركة الوهابية الناهضة، بمثابة ضوء أخضر لانتشار هذه الحركة واستمراريتها على
____________
(170) السلفية، م س، ص 244 - 245. كان المؤلف ممن استضافتهم رابطة العالم الإسلامي سنة 1406 ه. للمشاركة في الموسم الثقافي وهناك التقى بالعديد من المفكرين والدعاة الذين نقلوا له معاناتهم مع الحركة السلفية.
وهذا الضوء الأخضر كانت قرار استراتيجيا انبنى على تقارير ودراسات مهمة حول الحركة الوهابية.
فمن بين الدراسات حول الحركة الوهابية، هناك دراسة قام بها الميجور ديكسون المعتمد السياسي البريطاني في البحرين، والذي زار المنطقة والتقى بالزعماء السياسين للحركة، كما اطلع على وضع الحركة الديني والدعوي، مما هيأ له الفرصة لمعرفة حقيقة ما تدعو إليه الحركة الوهابية. وقد لخص أفكارها كالتالي:
1 - تدخين التبغ خطيئة مميتة، وإذا رأى الأخ شخصا يدخن فإنه يعتدي عليه بالضرب وربما قتله.
2 - يجب أن يكون المنزل من طابق واحد.
3 - يجب أن يحافظ على بساطة العيش واللباس.
4 - يجب ارتداء عمامة بيضاء بدل العقال كعلامة على أنك من الإخوان.
5 - لا يرد السلام والتحية إلا لأخ آخر.
6 - إذا التقى كافر أو مشرك - حسب تصنيفهم - بجماعة عن الإخوان في الشارع فإن الآخرين يغطون وجوههم بأيديهم، بدل أن يفسدهم ويلوثهم المشهد (171).
إن هذه الأفكار وغيرها من المبادئ التي شمر السلفيون ساعد الجد وأبلوا بلاءا حسنا في تبليغها ونشرها بين مواطنيهم أولا، وخارج الجزيرة بعد ذلك.
هي التي جعلت الغرب الاستعماري كما قلنا سابقا ممثلا في بريطانيا، ليس فقط يغض البصر عن هذه الحركة بل يدعمها سياسيا ويحرص عليها.
____________
(171) حمزة الحسن، م س، ج 2 ص 137.
التكنولوجيا والبدع:
وهي مع ذلك الحركة الأولى التي وجهت بنادقها إلى الجسد الإسلامي بحجة معالجته من المرض. فكان أن أجهزت على ما تبقي من روح التماسك والوحدة فيه. كل ذلك يجد تبريره في الجهل وسذاجة البداوة، التي كانت تحرك هذه الحركة منذ البداية. ولولا أن اليد السياسية كانت قوية وقادرة على حسم الكثير من الأمور لصالحها. لكانت مملكة آل سعود اليوم عبارة عن متحف أثري يقصده الباحثون لدراسة أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي سادت القرون الوسطى.
فالإخوان كانوا قد رفضوا استخدام التكنلوجيا، وامتنعوا عن التعامل مع كثير من الأجهزة والأدوات الحديثة. بحجة أنها بدع لم تكن على عهد السلف الصالح باستثناء البنادق والبارود التي أنسوا بها واستخدموها. ولا ندري لماذا هذا الاستثناء ؟ أما التلفون والسيارة والبرق والإذاعة فإنها من بدع الكفار، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
لكن انفجار النفط في بلادهم وأهميته الاستراتيجية للغرب جعلت ركب المدنية ينزل بفنائهم بقوة، محاولا اختراق سكون الصحراء الأبدي. وبذلك خضع البدو لعمليات تغيير قسري، لم تتجاوز الإطار الشكلي في الغالب الأعم.
أما تغيير العقلية البدائية وصقلها بالعلم والمعرفة، فإن الأسرة الحاكمة رأت أن ذلك قد يشكل عليها خطرا ما في المستقبل. لذلك ثم التركيز على محو الأمية فقط بادئ الأمر، وأتبعه بعد ذلك خطوات بطيئة جدا في نشر المعارف الإنسانية العامة، وإلى كتابة هذه السطور هناك مواد علمية مهمة ممنوع تدريسها في المملكة.
وهكذا وباسم الإسلام السلفي الوهابي ثم اغتيال المعرفة الإنسانية الشاملة واحتكر الكتاب السلفي الساحة الثقافية. واعتبر أي ترويج لكتاب أو فكرة
الوهابية لأبناء الشعب فقط:
وللحقيقة فقط نقول إن الوهابية للشعب. لأبناء البدو، أما أبناء الأمراء والملوك والطبقة العليا الحاكمة، فإنهم يدرسون في كبرى الجامعات العالمية، العلوم السياسية والإدارية والاقتصادية ويغرفون من معين الحضارة الغربية.
والقليل منهم من يعرف ماذا يعني صحيح الترمذي أو مسند أبي هريرة.
لكنهم يحسنون طبعا لهجة البدو ويلبسون العقال والكوفية ويمكنهم أن يبدأوا " الإخوان " بالسلام وينطقون البسملة في بدايات خطاباتهم. وهكذا يكفي أتباع السلف للاعتراف بهم كأمراء للمؤمنين وخدام للحرمين الشريفين وهلم جرا.
أن مأساة العالم الإسلامي اليوم لا تتمثل في الهيمنة الاستعمارية الغربية عليه، وخلق العقبات والعراقيل أمام تقدمه فقط. ولكن في انتشار موجة البداوة التي انطلقت من بلاد نجد وصحراء الجزيرة العربية. فبدل من استيراد التكنلوجيا والتعرف على أسس المعرفة البشرية للنهوض والسير قدما في ركاب التقدم والمدنية. تصدر للعالم الإسلامي البداوة الصحراوية، حيث الأحقاد والتعصب وقصر النظر والسذاجة المعرفية والبساطة الفكرية.
الانتكاسة الكبرى:
لقد بدأت الصحوة الإسلامية طريقها واعدة ومبشرة بمستقبل زاهر للإسلام والمسلمين. لكنها الآن كحمار الطاحونة تدور في مكانها لا تراوحه.
لم نعد نطرح على أنفسنا السؤال المهم كيف ننهض ؟ وكيف نتحرر من قبضة الاستعمار الاقتصادية والسياسية والفكرية ؟ بل أصبحت مشاكلنا، وانبرى
والعصا والمسواك، وركوب الدواب ؟ ! ليت الخرق اتسع لهذا الحد ؟ بل انتشرت الفتن الطائفية والمذهبية بين فئات المجتمع الإسلامي الواحد، حيث وقف الكفار والمشركون والمبتدعون والصوفية والرافضة وأصحاب المذاهب في صف، وجماعة السلف في الصف المقابل. وانطلقت الحروب ومعارك الجهاد والجهاد المضاد، ففي ككل تجمع إسلامي تنشب معارك طاحنة بين هاتين الفئتين. ولا مجال لإيقاف هذه الحروب في الأمد القريب على الأقل.
ما دام النفط يضخ من الخليج والمؤسسة الدينية السلفية تأخذ نصيبها من ريعه لتنفقه في دعم هذه الحروب وتأجيج نارها.
لقد صدق ذلك المفكر الذي قال، نحن العرب لم نستفد من هذا البترول إلا القليل القليل، فالقسم الأكبر منه يذهب إلى الغرب ليزداد قوة وتسلطا علينا. والبقية الباقية تستخدم لدعم الشر ونشر الفساد في عالمنا العربي، فالأمراء أغنياء البترول ينشرون الرذيلة ويدعمون الاستبداد والطغيان أينما حلوا. أما علماء الدين الذين يحصلون على نصيبهم من هذا النفط فإنهم ينشرون الأحقاد والبغضاء ويعمقون شرخ الطائفية والمذهبية.
أما الإسلام والفكر الإسلامي فإنه يعيش الانتكاسة الكبرى والضمور الواضح من يوم بدأ الإنتاج السلفي الوهابي يتسرب إلى أسواق الكتاب والمجلة والإذاعة. وما على القارئ إلا أن يقصد أقرب مكتبة منه، ليتصفح العناوين المعروضة. فلا محالة سيجد الغلبة لكتب: أهوال يوم القيامة، القيامة رأي العين، عذاب يوم القيامة. عذاب القبر، منكر ونكير. السحرة والجن، حوار مع جني مسلم، التداوي بالأعشاب، الحبة السوداء. فضائل السواك. حكم تقصير الثوب. حكم قص الشوارب.. والقائمة طويلة وطويلة جدا...
أما الكتب التي تعالج واقع المسلمين الاقتصادي والسياسي أو الاجتماعي،
وهكذا وفي خلال فترة قصيرة وتحديدا بعد زمن الطفرة النفطية، تم تصدير نموذج التخلف الفكري والواقع المعرفي داخل المملكة السلفية إلى باقي الحواضر الإسلامية. ولولا الاختلافات السياسية والأيديلوجية بين الأنظمة العربية الحاكمة لكانت الطامة الكبرى، لأن هذا الاختلاف فسح المجال للتنوع والحرية الفكرية. بخلاف الواقع السلفي المعاش داخل الجزيرة. ومع ذلك فإن إغراق السوق الإسلامية بالكتاب السلفي كان متيسرا جدا خصوصا بعدما انتبهت الحكومات العربية إلى أن الفكر السلفي وقضاياه الخاصة التي ينشرها ويلوكها، يمكن أن تشكل عائقا أمام الصحوة الإسلامية التي بات انتصارها يزعج تلك الحكومات.
ثوب قصير ونعل ولحية:
أما أفضل مثال لانتشار الفكر السلفي خارج حدوده، وسيطرته على توجيه الصحوة هناك. فيمكن أن يقال بأن الساحة الجزائرية كانت المجال الأرحب الذي انتشر فيه الفكر السلفي. وذلك لعدة أسباب منها. أن الجزائر كانت خاضعة للهيمنة الثقافية الفرنسية لعقود من الزمن، ولما حققت استقلالها اتجهت حكومة الاستقلال نحو التعريب، وقد تبع هذا التعريب موجة من الصحوة الدينية. فكانت السعودية ومعها المؤسسة الدينية سباقة لاكتساح الساحة وإفراغ أطنان من الكتب السلفية، ووزعت فتاوى ابن تيمية مجانا، كما التحق عدد كبير من الطلبة الجزائريين بالجامعات السعودية. فانتشر الفكر الوهابي السلفي على نطاق واسع واصطبغت الصحوة هناك بالصبغة السلفية
حيث ترك الشباب الجزائري المسلم لحاهم تطول وتكبر دون أي ترتيب أو تنسيق، ولبسوا الثياب والدشاديش البيضاء ورفعوها فوق الكعب. حتى كادت تصل الركب ولبسوا النعال بدل الأحذية، واتخذ بعضهم لنفسه عصا يتكئ عليها. كل ذلك إحياء للسنة واتباعا لطريق السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
وهكذا انتشرت في الجزائر بعض المشاهد المضحكة المبكية، وبعض المظاهر القبيحة كذلك، والتي ركزت الصحافة الفرنسية - بالخصوص - على تصويرها ووضعها على أغلفة الصحف، صور تثير الاشمئزاز والخوف لدى المسلمين قبل غيرهم.
إنك تجد الشاب في مقتبل العمر، يترك لحيته تكبر وتطول دون أن يحلقها أو يرتبها لأن ذلك حرام قد يسقط فاعله في الكفر، فترى مجموعة شعيرات في ذقنه قد طالت بشكل يثير الضحك، بينما انتشرت شعيرات صغيرة ومتفرقة على باقي أطراف وجهه. وإذا أضفنا إلى ذلك شكل اللباس الذي يوحي بالفقر والدروشة، تكتمل الصورة. صورة الشكل السلفي للإنسان المسلم. وما يزيد في الطين بلة أن أي انحراف عن هذه الصورة بترتيب اللحية أو اقتناء ثياب أنيقة ومحترمة مسايرة للوضع الاجتماعي العام، يعني خروج على سنة السلف الصالح، وهذا يعني السقوط في الابتداع ومن ثم تنفتح طريق الكفر أمامه.
هذا هو الإسلام السلفي الذي انتشر في الجزائر وكان يوجه الصحوة الإسلامية هناك ثوب قصير أبيض، ونعال، ولحية أكثر ضلالا من الأعشاب البرية المتوحشة. أما شعار الدولة الإسلامية، والدعوة إلى قيام حكومة إسلامية الذي رفعته جبهة الإنقاذ، كبرى الحركات الإسلامية هناك. فكان مغامرة غير محسوبة النتائج.
لكني لم أفصح عن رأيي بصراحة، لم أعلن أمامهم عن السذاجة السياسية التي كانت تدار بها معركة الانتخابات. ولا قلت له أن الفكر السلفي الذي تعتمدونه هو أول عائق لديكم للوصول إلى الحكم، ومتابعة مسيرة الإنماء والتقدم في الجزائر. وإذا لم أستطع أن أعبر عن رأيي صراحة هناك. فإن ذلك بسب الخوف، لأن إلقائي مثل هكذا رأي في الأوساط السلفية الجبهوية كان يعني إصدار فتوى من أحد المراهقين الفقهاء - وما أكثر الفقهاء والمجتهدين في أوساط الشباب السلفي - بكفري وزندقتي، وإن لم أقتل فلا محالة سأتعرض للإهانة.
إن طبع الجزائري فيه حدة، وجاء الفكر السلفي لينمي هذه الحدة ويزيد عليها الجفاء، والغلظة الصحراوية. كل الظواهر السلفية السلبية الموجودة داخل المجتمع السلفي السعودي انتقلت إلى هناك. فلم يعد هناك مجال للنقاش بالحكمة والموعظة أو بالتي هي أحسن، بل أصبح شعار النقاش " بالتي هي أخشن ". أي فكرة أو أي رأي يخالف ما يقول به ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية أو أتباعه من وهابية نجد. يعني الانحراف والشرك والكفر ثم لا يبقى سوى إعلان الجهاد.
لذلك كان الخوف والإرهاب هو سيد النقاشات مع أتباع السلف.
أما إذا عرجت على المساجد لسماع الخطب المنبرية هناك فإنك ستصاب بالحسرة والألم. لقد أكد الفقهاء قديما على أن المتصدي للدعوة يجب أن يكون عالما عارفا بأحوال الدعوة ومتطلباتها. لكن الفكر السلفي يجعل من العوام علماء دون مشقة تذكر ! افتح صحيح البخاري أو مسلم ثم اقرأ الحديث، وبعد ذلك فأنت فقيه. لكن أن تفتي في الدماء والأموال والأعراض ؟ !.
كان بعض الخطباء يرفعون أصواتهم عالية " يا فرنسا جيش محمد آت "، وآخر يعلن في الملأ سننتقم من فرنسا عندما نصل إلى الحكم. ويصرخ آخر سنقضي على العلمانيين والمتفرنسين في هذا البلد. ويقول آخر سنعلن الجهاد على المنطقة الفلانية في الجزائر لفتحها من جديد ؟ ! وهكذا. دعوات للحرب والجهاد والصراع مع الداخل والخارج، جبهات متعددة مفتوحة قبل أن يستلم هؤلاء الحكم، فكيف سيكون الوضع لو وصلوا إلى سدة الحكم فعلا ؟ هذا السؤال كان كثيرا ما يطرحه بعض المتنورين من مثقفي الجزائر ! لكن دون إجابة واضحة ؟ !.
لقد طرد أحد المرشحين - كما نقل لي بعض أبناء الجبهة - من منصبه في بلدية فازت بها الجبهة. وكان ذنبه وخطيئته الكبرى أنه لبس لباسا أوربيا (أي بنطلون وجاكيت) وهذه ليست نكتة ولكن حقيقة. إلى غير ذلك من المهازل والمضحكات ؟ !.
وجهة نظر بدوية:
إن الفكر السلفي " وجهة نظر بدوية " في تاريخ الإسلام، لا يمكنها أن
كما أن النظام السعودي يسير البلاد على المستوى الاقتصادي والإداري والعلاقات الخارجية، بعيدا عن الفكر السلفي أو رجالاته. والسلفيون علماء ومواطنين يعلمون أن أرامكو، شركة أمريكية تستخرج النفط وتعالجه وتوزعه في الأسواق وتسلم الحكومة نصيبها من الأرباح. هذه الأرباح التي يحصل دعاة السلفية على نصيب منها، يجعلهم يعيشون في بحبوحة من العيش، ويمارسون الدعوة إلى نحلتهم على نطاق واسع.
____________
(172) ينقل ديكسون في كتابه " الكويت وجاراتها ": إن أحدا من الذين عرفوا ابن سعود لا يستطيع أن يتهمه شخصيا بالتعصب الوهابي، أو بالهيجان والاندفاع الديني الأعمى، الذي كان يحقن به أتباعه من الإخوان، فقد كان في المناسبات - وحسب ما يلائم أغراضه - يتظاهر أمام أتباعه بأن له نفس نظرتهم. أنظر حمزة الحسن. م. س، (ج 2 ص 138) ويقول فاسيليف: " كان لفيصل ثمانية أولاد بعث خمسة منهم للدراسة في المدارس والجامعات الأمريكية واحدا إلى أوكسفورد وآخر إلى كلية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية ". أنظر تاريخ العربية السعودية ص 406.
(173) لقد سمعت من بعض السلفيين الجزائريين أنهم يكفرون المفكر الإسلامي مالك ابن نبي لأنه كان يحلق لحيته وكان متزوجا من فرنسية " مسلمة ". أنظر لهذه العقلية الساذجة.
كيف يمكنهم أن يستفيدوا من هذا المفكر الكبير الذي استفادت منه الحركة الإسلامية برمتها وكتبت حوله الدراسات المهمة. وهم يكفرونه فقط لأنه كان يحلق لحيته ؟ ! أنهم يأخذون عن ابن تيمية وابن قيم الجوزية اللذان توفيا قبل سبعة قرون. ويديرون ظهورهم لمفكر تحسس وعاني مشاكل الجزائر والوطن الإسلامي بشكل عام، وقدم دراسات جادة وآراء مهمة للخروج من هذا التخلف العام على جميع المستويات ؟ !.
يقول الغزالي وهو الكاتب الإسلامي الذي خبر دعوتهم ودخل معهم في صراع فكري وجدالي ما زال مفتوحا إلى اليوم: قلت لأحد الحنابلة " السلفيين " إنني أتعلم من الغزالي وابن رشد ومن أبي حنيفة وابن تيمية فنظر إلي مستنكرا يحسب أني أؤيده وحده ! علينا - يقول الغزالي - أن ندرس الجهد العقلي للبشر قاطبة فذاك يعيننا على إحقاق الحق وإبطال الباطل حين نصدر باسم الإسلام بعض الأحكام (174).
والغزالي هنا يشير إلى ضيق الأفق المعرفي والعلمي الذي يراد للصحوة الإسلامية أن تدخل نفقه. فهناك فتاوى وأفكار لا يعرف أصحابها، لكنها تأتي من نجد أو الرياض أو الكويت لا محالة. تدعوا أبناء الصحوة للاقتصار على دراسة كتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية فقط. للتعرف على الإسلام الصحيح. أما باقي الإنتاج الفكري الإسلامي، فهو ضلال وانحراف يجب الابتعاد عنه وإهماله. فمثلا تسمعهم يروجوه " من لم يقرأ كتب ابن قيم الجوزية ليس له حظ من العلم ". أو يدعون إلى الاقتصار على تفسير ابن كثير دون غيره. وغير ذلك من الأفكار والمبادئ الهدامة التي تؤدي إلى نكوص المجتمع الإسلامي وتعميق تخلفه وانحداره الحضاري.
تشويه صورة الإسلام:
أما تشويه الإسلام، في نظر أهله أولا وخصوصه ثانيا، فحدث ولا حرج.
فاعتناق الإسلام في أوربا أمريكا، يعني أولا وقل كل شئ لبس دشداشة
____________
(174) محمد الغزالي بحث بعنوان " المسلمون وحوار الحضارات في العالم المعاصر " مقدم إلى الدورة العاشرة لمؤتمر المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن ص 6. أنظر مجلة الكلمة، العدد العاشر، 1996 م.
يقول محمد الغزالي: بلغني أن مسؤولا في جماعة إسلامية اقتربت من الحكم يوما فقال: لن تخرج النساء من البيوت بعد اليوم ! وهذا وعيد أخرق !
كان يجب أن يقول سنلزم الرجال والنساء آداب الإسلام، ولن نسمح بالتبرج وإثارة الغرائز.. أما أن يخطب متحمس طائش فيقول: لا تخرج المرأة من البيت إلا إلى الزوج أو القبر، فهذا كلام فارغ يدفع الإسلام ثمنه مصادرة لعقائده وتعاليمه كلها.. ويضيف قائلا:
إن الحضارة الإسلامية ليست هذا اللغو ! ! إنه ضيق العقل وضحالة المعرفة واختلال الفطرة واعوجاج الخطو، لا يمكن أن يتم إسلام، أو تزدهر حضارة * (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) * (175).
ويقول في موضع آخر: لقد سمعت أحد المنتمين إلى السلف يقول: إن الانتخابات بدعة ! ولا أدري بم يفسر أن الرسول المعصوم نزل على الشورى فيما عالج من شؤون الحرب والسلام ؟ هل إرغام الجماهير وسوقها بالقوانين الاستثنائية والانتخابات المزورة هو الإيمان والتقوى ؟ ! (176).
____________
(175) المرجع نفسه، ص 7.
(176) المرجع نفسه، ص 6. في حوار مع فاطمة المرنيسي أجرته معها مجلة " حدث الخميس " الفرنسية ونقلته جريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية سئلت: فيم تعارض بلدان الخليج التطلعات الديمقراطية للمغرب العربي ؟. فأجابت: إنها تفرز ثقافة تمجد البلادة والخضوع اللامشروط للفرد العربي، إلى الزعيم والخليفة، وهذا ليس الإسلام، بل فقط تأويله المبلد للذهن، والحالة هذه أن هذا التأويل المبلد يغرق بلدنا عن طريق وسائط الاتصال ". أنظر نص الحوار، جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ.. 1 - ماي - 1992 م، ص 10.
ويضيف قائلا: ففي كل يوم جمعة تجري في مدن المملكة المختلفة عمليات تنفيذ العقوبات لمن لا سند له من الأمراء أو من السفارات الهامة، بطريقة تدل على وحشية بالغة تسمح لأعداء الإسلام بوصفه بأشنع النعوت (177). أما الشيخ محمد مرعي الأنطاكي فيقول: " كنا نسمع عن الوهابية بأنهم يقيمون الحدود ويجرون الأحكام الشرعية تماما، فهاجرنا إلى الحجاز، وتخللنا بينهم مدة فوجدنا الأخبار التي وصلتنا من القطر الحجازي كانت خلاف الواقع.
فإنهم أضر على الإسلام من كل شئ وقد شوهوا سمعة الإسلام بأعمالهم وأفعالهم وبسوء فتاوى علمائهم " (178).
إن مسيرة انتشار الفكر السلفي الوهابي في العالم الإسلامي هي مسيرة تعميم البداوة، وخصوصا الجانب السلبي في سلوكيات أهلها، فالحقد والتعصب البغيض، وعدم قبول الحق أو الركون إلى أحكام العقل والمنطق، هي من أخلاقيات البداوة حيث يسود الجهل والأمية. والبعد عن المدينة والحضارة. أما الجفاء والغلظة في التعامل والسلوك، فإن ذلك من تأثير الصحراء القاحلة.
إن الفكر السلفي الذي أنتجته البداوة وتروجه أموال النفط اليوم يعتبر بمثابة
____________
(177) صفحات من تاريخ الجزيرة العربية، م س، ص 154.
(178) المستبصرون، غلام أصغر البجبوري، ص 374 - 375.
ولقد أصاب الدكتور علي شريعتي عندما قال: " إن مجتمعا وضيعا غير واع، حتى وإن كان له دين متطور راق فإنه لن يتمكن من الرقي، بل يحط من مستوى دينه الراقي. ويضعه في قوالبه الملوثة الضيقة ويمسخه... ولهذا يضيف شريعتي، عندما خطب السيد جمال الدين الأفغاني في فرنسا في " كوليج دو فرانس " وتحدث عن الإسلام بالمستوى السامي الذي كان يفهمه هو تعجب " أرنست رينان "، تعجب من معنى الدين بشكل عجيب. ثم جاء واعترف اعترافه المشهور: " الإسلام دين الإنسان، وإني قد فهمت الآن إن قيمة كل دين ترتبط بقيمة شعور وإدراك أتباع ذلك الدين (179)...
إن مفكري الصحوة الذين لم يتغذوا على الفكر السلفي كانوا قد وضعوا الأسس الاستراتيجية للنهوض الإسلامي العام في جميع الميادين، وعلى كل المستويات، وبدأ التطبيق والممارسة بخطا واعدة. ولولا خروج الفكر السلفي من صحراء الجزيرة العربية ومحاولته ابتلاع الساحة الإسلامية وأبنائها بالمال والأساليب أخرى ماكرة. لكان لهذه الصحوة اليوم شأن آخر. ولكانت قد خطت خطوات مهمة في سبيل أقامت صرح الحضارة الإسلامية. أما ما نشاهده اليوم فإنه يدعو للأسى والخيبة وربما اليأس في بعض الأحيان. لأن لا مجال لإعادة الوحدة الاجتماعية داخل الوطن الإسلامي، وقد انتشرت موجة التكفير.
____________
(179) الإنسان والإسلام، د. علي شريعتي، دار الصحف للنشر، ط 1 - 1411 ه، ص 64 - 166. ويقول محمد جواد مغنية: " إن الإسلام لو وقف عند فهم الوهابية وتفكيرهم لما تقدم خطوة إلى الأمام، ولما كان للمسلمين هذا التاريخ الخطير الشهير الذي أرغم الأجانب والأباعد على الاعتراف بأن رسالة محمد بن عبد الله هي أم الحضارة الحديثية.. " هذه هي الوهابية، ص 69.
انهيار الوحدة الاجتماعية:
فأهل السنة المتشبثين بتقليد المذاهب الفقهية كفار ؟ ! والصوفية وأهل الطرق التعبدية كفار ! ؟ والشيعة بكل طوائفهم كفار ؟ ! وباقي الفرق الإسلامية الأخرى كفار كذلك ؟ ! وقد تعمقت الأحقاد وانتشرت البغضاء فكيف يمكن التفكير في وحدة اجتماعية قوية يمكنها أن تدعم المشروع الإسلامي النهضوي المرتقب.
إن شعار الإسلام هو الحل الذي أطلقه المفكرون الأوائل للصحوة الإسلامية. لم يعد يلقى ذلك الاهتمام الذي عرفه في البداية.
فالحل الإسلامي اليوم لا يعني سوى، قطع الأيادي وإطلاق اللحي وتقصير الثوب. والرجوع عن كثير من المكتسبات المدنية والحضارية، ليس فقط على مستوى الشكل. بل قد يتعدى ذلك إلى الحقائق العلمية والمسلمات المعرفية، فبعض السلفيين يشكك في صعود الإنسان للقمر، وأن هذه الفكرة ربما كانت من حيل الغرب التي يروجها بين المسلمين. كما أفتى ابن باز الزعيم السلفي في وقت متأخر بكفر من قال بكروية الأرض (180).
وأخيرا فإن مهازل الدعوة السلفية وسلبياتها لا يكاد يخلو منها مكان أو تجمع إسلامي. فالحرب الطائفية في الهند وباكستان، وأخبار حرق المساجد وقتل الأبرياء تملأ الصحف العالمية والمحلية، كل ذلك في سبيل نشر مذهب السلف الصالح. أما إذا نظرت إلى الواقع العام داخل المملكة السلفية. فستجد البغضاء والحقد الأعمى ينشران ضلالهما، حيث يحاصر السلفيون قطاعات
____________
(180) حمزة الحسن، م س، ج 2 ص 137. جاء في مجلة روز اليوسف المصرية عدد 2298 ص 52: " في سنة 1927 م قامت في المملكة العربية السعودية ضجة بين علماء الدين على تعليم الرسم واللغات والجغرافيا التي تقول بدوران الأرض وكرويتها ". مع أن الأرض مسطحة وساكنة، واللغة ذريعة للوقوف على عقائد الكفار والرسم تصوير وهو محرم أنكره علماء السلف. أنظر تجارب مغنية ص 302.
أما واقع المعارضة لهذا الطوفان الفكري البدوي، فلا يبشر بخير، لأن المؤسسات الفكرية والمدارس الدينية لمفكري أهل السنة والجماعة، تعرف تراجعا وإخفاقا. فلم تعد الحكومات تعيرها ذلك الاهتمام الذي كانت تحضى به أيام دول الخلافة، حيث كانت هذه المدارس تدعم الشرعية السياسية لتلك الدول. لذا فقد استغل القائمون على الدعوة السلفية هذا الواقع، فأجهزوا على المعارضة التي يمكن أن تنبعث من تلك المؤسسات والمدارس، فهل يجرؤ من يتقاضى منحا شهرية مغرية، وتسهيلات للحج والعمرة، على كتابة رسالة أو كتاب في الرد على ضلالات هؤلاء وانحرافاتهم، وإظهار أن الحق خلاف ما يدعون إليه، مع أن الكثير من علماء الأزهر بالخصوص، لا يؤمنون بتاتا بصحة ما يعتقده السلفية. ولكن أغلبهم يجد نفسه مضطرا للسكوت إما خوفا ورهبة وإما طمعا في رضا القوم. وبالجملة، هناك شبه إجماع على وضع الرأس في الرمال والانحناء للعاصفة كي تمر بسلام.
طبعا هذا الكلام ليس على إطلاقه تماما لأن مجموعة من رجالات أهل السنة والصوفية قد أخذوا على أنفسهم الوقوف أمام الطوفان، حيث صدرت عدة كتب ودراسات في الرد على عقائد السلفية وآرائهم الشاذة. لكن الكثير منها يضيع في زحمة مشاكل الطباعة والنشر والتوزيع والمضايقة.
وما دامت سياسة الترهيب والترغيب والإغراء المادي المباشر، ممثلة في
كراسي التدريس داخل الجامعات السلفية. وإغداق المنح السخية على الطلبة،
وتشجيعهم على دراسة هذا المذهب والانتصار له. فإن مستقبل الصحوة
الإسلامية لا يمكنه أن يبشر بخير. إن نشر الفكر الوهابي السلفي على نطاق