الباب الثاني
أهل السنة والإمامية في مواجهة السلفية
الفصل الأول
مع أهل السنة
" أي صلح بيننا إنما يكون الصلح بين مختصمين
على ولاية أو دنيا أو قسمة ميراث أو تنازع في ملك،
فأما هؤلاء القوم فهم يزعمون أننا كفار، ونحن نزعم
أن من لا يعتقد ما نعتقده كافر فأي صلح
بيننا.. ".
|
[ أبو جعفر الشريف الحنبلي ]
التنزيه أم التشبيه
الصفات الخبرية ومشكل التأويل:
تعتبر مسألة الصفات الإلهية من بين القضايا التي انفجر الخلاف حولها مبكرا بين المسلمين ويرجع ذلك، أولا: " إلى مجموع الآيات التي تعرضت لذكر صفات الله جل وعلا. بالإضافة إلى الكم الهائل من الأحاديث التي رويت عن الرسول، سواء ما صح منها أو ما تبين اختلاقه وكذبه. وتسرب إلى المسلمين عبر انتشار عقائد أهل الكتاب، حيث قام متأسلمة اليهود والنصارى بنشر كميات كبيرة من أحاديثهم وتصوراتهم العقائدية المنحرفة.
ولما جمع هذا التراث وبدأت عملية المعالجة والتمحيص، اختلفت الفئات الإسلامية من فقهاء ومحدثين وعلماء وكلاميين في هذه المعالجة. وظهرت الفرق والمذاهب على إثر ذلك، وسبب هذا الاختلاف يرجع إلى المنطلقات المنهجية لكل فرقة أو مذهب.
فحينما اكتفى الرواة والمحدثون بجمع هذه الروايات والإيمان بها جملة وتفصيلا، دون أي تفسير يخرجها عن معانيها اللغوية الابتدائية، ذهب بعض الفقهاء وعلماء الكلام إلى إقحام المنهج العقلي في معالجتها، ليس فقط على مستوى التحقيق في صحة سندها أو ضعفه. بل البحث في معانيها وما يمكن أن يؤدي إليه الفهم الأولى والظاهري للغتها. على اعتبار إن هناك آيات محكمات يعضضها العقل. يمكننا الرجوع إليها عند أي التباس فهمي يعرض لنا ونحن نقرأ الآيات المتشابهة، وأو ما ورد في بعض الأحاديث. ويمكن أن يفهم بشكل يمس عقيدة التوحيد والتنزيه الإسلامية.
ليس لأتباع السلفية الوهابية اليوم آراء خاصة أو جديدة تختلف عما ذكره ابن تيمية شيخ المدرسة وزعيمها. فكل ما هناك من بحوث ودراسات معاصرة لا تعدو النقل المباشر لتراث الشيخ أو إعادة كتابته وشرحه، لذلك سنحصر النقاش والاستدلال عند آراء الشيخ وكتبه. أما مدرسة أهل السنة والجماعة فلا شك أن الإمام أبو الحسن الأشعري وتلامذته هم من أخد على نفسه تمثيل هذه المدرسة والتحدث باسمها دون إغفال المدرسة الماتريدية وتلامذتها، كوجه ثان لعملة واحدة هي مدرسة أهل السنة والجماعة في العقائد والأصول.
موقف ابن تيمية من الصفات الخبرية:
انفجر الصراع وظهر الاختلاف بين زعيم السلفية وأهل السنة من الأشاعرة خصوصا، عندما نشر ابن تيمية " العقيدة الحموية " جوابا على سؤال أهل حماة حول الصفات الخبرية. حيث ذهب إلى أن الآيات المتشابهة مثل * (الرحمان على العرش استوى) * وقوله تعالى * (إليه يصعد الكلم الطيب) * وغيرها من الآيات، تدل على أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شئ وعلى كل شئ، و (أنه فوق السماء) كما استدل بأحاديث النزول وقصة المعراج ونزول الملائكة وصعودهم. بالإضافة إلى مجموعة الأحاديث الصريحة في أن الله في السماء وفوق عرشه.
يقول الشيخ " إن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين: أن الله
وقد كرر ابن تيمية ما اختاره في باب الصفات الخبرية في غير واحد من آثاره، فقال في الواسطية: " وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها، كذلك مثل قوله: " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حيث يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فاغفر له ".
وقوله (ص): " يضحك الله إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر كلاهما يدخل الجنة ". وقوله (ص): " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ".
وقوله " والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه ".. وقوله ص: " إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ".
وقد دخل فيما ذكرنا من الإيمان بالله، الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه، وهو معهم أينما كانوا " (2) وهذا الفهم عند ابن تيمية لا يؤدي إلى أي تشبيه أو تجسيم. بل هو التوحيد المحض (3).
____________
(1) العقيدة الحموية الكبرى، الرسالة الحادية عشرة من مجموع الرسائل الكبرى. لابن تيمية نقلا عن السبحاني، م س، ج 4 ص 116.
(2) العقيدة الواسطية، الرسالة التاسعة، من مجموع الرسائل الكبرى، ص 398 - 400.
عن السبحاني بتصرف.
(3) كما يعلق الشيخ محمد أبو زهرة.
آراء الفرق الإسلامية في الصفات الخبرية:
والذي يراجع مواقف الفرق الإسلامية بخصوص أخبار الصفات يجدها كما قال ابن الجوزي الحنبلي على ثلاث مراتب:
أحدها: إمرارها على ما جاءت، من غير تفسير ولا تأويل، إلا أن تقع ضرورة، كقوله تعالى: * (وجاء ربك) * أي جاء أمره، وهذا مذهب " السلف ".
والثانية: التأويل وهو مقام خطر. إلا ما كان على نحو المثال المتقدم، وإنما تكمن خطورة التأويل في الافراط فيه إلى حد التعطيل.
أما الثالثة: القول فيه بمقتضى الحس (أي إجراء المعنى بحسب الظاهر)، وقد عم جهلة الناقلين، إذ ليس لهم حظ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على الله تعالى، وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس " (4).
أما قول ابن الجوزي بالنسبة لمن كان يؤمن بإجرائها دون تفسير أو تأويل إلا اضطرارا: " وهذا مذهب السلف " فالمقصود به مجموعة من رجالات السلف وليس كلهم، لوجود من ذهب إلى تأويل، - وإن علم عن أكثرهم
____________
(4) دفع شبه التشبيه، م س، ص
ال " بلا كيف " ؟:
أما إذا بحثنا عن ابن تيمية وأين موقفه في هذه المراتب الثلاث، فإننا فسنجده ينطلق من المرتبة الثالثة، ليقوم بتعديل أو " عقلنة " لمنطلقاتها، وصولا إلى تأكيد أحقيتها وسلامتها، ومن ثم جعلها مذهبا للسلف الصالح.
فالصفات الواردة في الآيات أو الأحاديث لا بد من إجرائها على نفس المفاهيم اللغوية الظاهرية الابتدائية، والإيمان بمدلولاتها التصورية، لكن " بلا كيف ". والفرق بين هذا القول والقول الأول، هو أن القول الأول يثبت المعاني مع الكيفية، وهذا القول يثبتها بنفس المعاني لكن بلا تكييف " (6).
فالاستواء على العرش والجلوس عليه عند ابن تيمية حقيقة، كل ما هناك أننا نجهل الكيف !. وهذا الكيف لا شك أنه يليق بجلال الله وعظمته. وعلى هذا المنوال يمكن أن نفهم باقي الصفات الخبرية التي اختلف حولها. وعليه فإذا كان بسطاء الحشوية لا يتبرمون من التجسيم أو التشبيه، بل يعتقدونه ويدافعون عنه. فإن ابن تيمية جاء ليعدل هذا الوضع. لأن هذه التهمة التي
____________
(5) السبحاني، مرجع سابق ج 4 ص 119.
(6) نفسه، ص 119.
وأن " البلا كيف " لا يمكن أن تحل المشكلة أبدا.
وذلك لعدة أسباب. أولا: " إن هذه الصفات كاليد والرجل والنزول والجلوس موضوعة لغة على معانيها المتكيفة بكيفيات جسمانية، فاليد هي الجارحة المعروفة من الإنسان والحيوان، وهكذا الرجل والقدم، ومثلها النزول، فإنها موضوعة للحركة من العالي إلى السافل، والحركة من صفات الجسم.
فالكيفية مقومة لمعاني هذه الألفاظ، فاليد والرجل بلا كيفية ليستا يدا ورجلا بالمعنى اللغوي المتبادر عرفا. وعلى ضوء ذلك فليس هنا إلا سلوك أحد طريقين:
1 - جريها بنفس معانيها اللغوية التي تتبادر منها المفاهيم المتكيفة، فهو نفس القول بالتجسيم.
2 - جريها بمفاهيمها المجازية، ككون اليد كناية عن القدرة، كما في قوله سبحانه: * (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * (سورة المائدة، آية 64).
فهذا هو قول المؤولة أو المعطلة باصطلاح ابن تيمية (7). وعليه فلا يمكن فهم هذه الصفات إلا باستحضار كيفياتها لأنها مقومة لها، أما إذا ألغينا هذه الكيفيات فلن يبقى من هذه الصفات شئ يدل عليها أو يميزها. فهل يمكن أن نتصور النزول دون حركة وتنقل من مكان لآخر ؟ !.
ثانيا: لو جاز أن نقول أن لله يدا ورجلا لكن لا نعرف كيفيتهما، والمهم إن هذه الكيفية كما يليق بجلاله وعظمته. لجاز لنا كما يقول الباحث السبحاني " توصيفه بكل شئ فيه أدنى كمال، ونقول: إنه جسم لا
____________
(7) نفسه ص 121 - 122.
وعليه فإن نظرية ابن تيمية الجديدة تلازمها الجهة والتجسيم. وهذا ما استنتجه علماء أهل السنة وغيرهم.
لا ضير من التأويل:
والمدرسة الأشعرية في عرف أصحابها إنما جاءت كوسطية بين الحشوية الذين سقطوا في التشبيه والتجسيم ومعهم ابن تيمية، وبين المعتزلة الذين تطرفوا في التنزيه فسقطوا في التعطيل. وإذا كان الأشاعرة قد ركبوا قطار التأويل فإن حجتهم التي اتكأوا عليها، كانت اللغة العربية، لسان التنزيل نفسه. حيث وجدت الآيات المتشابه أو آيات الصفات. فإذا كان القرآن قد نزل بلغة العرب واستخدم تراكيبهم واعتمد مفاهيمهم اللغوية. فإن العرب قد عرف عنهم استخدامهم الكبير للمجاز والكناية.
فأي صفة وضعت لمعنى جسمي محدد، قد ينقلها المجاز إلى معنى آخر ليس غريبا عن الاستعمال العربي، بل نجد له الشواهد الكثيرة. لذلك لا ضير من التأويل ضمن هذه الحدود اللغوية المتعارف عليها، خصوصا وأن ذلك سيؤدي إلا تجاوز كل الشبهات والإشكالات في مجال التوحيد. وبذلك نكون قد أرجعنا المتشابه إلى المحكم. ف * (ليس كمثله شئ) * آية محكمة في كتاب الله، وهي تفيد التنزيه المطلق عن كل تشبيه أو تجسيم.
لكن ابن تيمية وأتباعه يرفضون التأويل ويعتبرونه طريقا نحو التعطيل. إلا أن أهل السنة اعتبروا ذلك من ابن تيمية أول المؤاخذات العلمية. فاتهموه بالكذب وتزوير حقائق التاريخ، لأنه نفى أن يكون السلف قد سلكوا درب التأويل، أو أولوا شيئا من الصفات الخبرية، وهذا خلاف الواقع. فهو عندما يقول: " لم أجد لساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات
____________
(8) المرجع السابق، ص 122.
ويستمر الطبري في عرض مجمل التأويل لآيات الصفات. يقول مثلا في قوله تعالى * (وهو العلي العظيم) * قال بعضهم: يعني بذلك: وهو العلي عن النظير والأشباه. وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو العلي المكان. وقالوا غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان (11).
وإذا كان ابن تيمية يصف تفسير الطبري بأنه لا يروي عن المتهمين وأنه يخلو من البدعة. فإنه يرى بأن تفسير ابن عطية من أرجح التفاسير. فماذا يقول ابن عطية في تفسيره: " أثبت ابن عطية ما نقلناه عن الطبري من تفسير ابن عباس للكرسي، وتفسير (العلي)، ثم قال في أخبار الحشوية التي رواها الطبري بعد هذا، وبها تمسك ابن تيمية، قال ابن عطية ما نصه: هذه أقوال جهلة مجسمين، وكان الواجب أن لا تحكى ! (12).
وهذا التناقض هو الذي دفع العلامة الشيخ يوسف الدجوي إلى القول:
" ومن عجيب أمر هذا الرجل أنه إذا ابتدع شيئا حكى عليه إجماع الأولين
____________
(9) تفسير سورة النور، لابن تيمية، ص 179، عن صائب عبد الحميد، م س، ص 121.
(10) تفسير الطبري، أنظر المرجع السابق، ص 122.
(11) تفسير الطبري، ج 3 ص 9، أنظر المرجع السابق، ص 123.
(12) ابن تيمية، مرجع سابق، ص 124.
الصفات المختلف فيها عند ابن عربي:
أما موقف أهل السنة - الأشاعرة بالخصوص - من هذه الصفات فقد أجمله البيهقي في الأسماء والصفات، وسنعود إليه بعد ما نعرض لما قاله ابن عربي في " القواصم من العواصم " حول أهم صفة اختلف حولها السلفية " الحشوية " وأهل السنة وباقي المنزهين.
الاستواء:
يقول: فلما قال * (الرحمان على العرش استوى) * كان المطلوب هنا ثلاث معان: معنى الرحمان ومعنى الاستواء، ومعنى العرش.
فأما الرحمان فمعلوم لا خلاف فيه ولا كلام. وأما العرش فهو في العربية لمعان. فأيهما تريدون ؟ ولفظ استوى معه محتمل لخمسة عشر معنى في اللغة فأيها تريدون، أو أيها تدعون ظاهرا منها ؟ ولم قلتم أن العرش ها هنا المراد به مخلوق مخصوص ؟ فادعيتموه على العربية والشريعة ؟ ولم قلتم إن معنى استوى قعد أو جلس فتحكمون باتصاله به، ثم تقولون إنه أكبر منه من غير ظاهر، ولم يكن عظيما بقدر جسمي حتى تقولوا أنه أكبر أجزاء منه ؟ ثم
____________
(13) صفات الله عند المسلمين، م س، ص 61.
وقال المحدث ابن المعلم في نجم المهتدي: إعلم أرشدنا الله وإياك أن العلماء انقسموا في تأويل * (الرحمان على العرش استوى) * قسمين: فريق أول التركيب وفريق أول الإفراد، وهؤلاء على قسمين: قسم أول استوى وقسم أول العرش. ثم سرد ابن المعلم تلك المعاني الخمسة عشر عازيا كل معنى منها إلى قائله من الأئمة، كالأشعري وأبي منصور وأبي إسحاق الإسفراييني.
وعبد القاهر التميمي وأبي جعفر السمناني، وإمام الحرمين وغيرهم.
وتلك المعاني نحو الملك واستئثار الملك، واستواء الحكم، والاستيلاء المجرد عن معنى المغالبة والإقبال. القصد والإتقان، وعلو العظمة والعزة، وعلو القهر والغلبة إلى غير ذلك من المعاني المذكورة في الجزء الخامس من نجم المهتدي.
ثم قال ابن المعلم: فقد ظهر لكم، أيدكم الله هذه التأويلات، فأيها ترجح عندكم فاحملوا اللفظ عليه، فإن الظاهر منفي بإجماع علماء السنة فلله الحمد على اتباعهم.
وقال إمام الحرمين في النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها (15) وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى، وليس هذا ما يفرح به المشبهة - كما يقول الشيخ الكوثري - لأنه ينص على التفويض، وهو
____________
(14) الأسماء والصفات، تحقيق الكوثري، أنظر الهامش ص 405، وقال البغدادي في الفرق بين الفرق " وقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته، لا مكانا لذاته. وقال أيضا: قد كان ولا مكان وهو الآن على ما كان ". أنظر بحوث مع أهل السنة والسلفية، ص 103.
(15) يقول أحمد أمين: إن الأشاعرة يقولون إن المتشابهات يعلم تأويلها الله والراسخون في العلم. أما الآيات التي ورد فيها اليد والوجه... فهي مجازات من معان ظاهرة، فاليد مجاز عن القدرة والوجه عن الوجود، والعين عن البصر. والاستواء عن الاستيلاء. واليدان عن كمال القدرة، والنزول عن البر والعطاء، والضحك عن عفوه تعالى.. ". أنظر ظهر الإسلام، ج 4 ص 94.
والخلف يخرجونها على معان لا تنافي التنزيه على طبق استعمالات العرب، من غير تحكم على مراد الله تعالى، فالسلف والخلف متفقون على التنزيه والبعد عن التشبيه (16).
أما ابن حزم وهو ممن يتكلم باسم السلف فيرى " أن معنى قوله تعالى * (على العرش استوى) * أنه فعل فعله في العرش وهو انتهاء خلقه إليه، فليس بعد العرش شئ " (17).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ابن تيمية وغيره من السلفيين المعاصرين الذين يعتقدون بالاستواء حقيقة، يستشهدون بقول الإمام مالك بن أنس: حيث سئل عن الاستواء، فرد " الاستواء معلوم والكيف مجهول ؟ " إلا أن أهل السنة يرفضون هذه العبارة وما يمكن أن تشير إليه من معنى. فقد روى اللالكائي في شرح السنة بالسند أن الإمام قال في جوابه: " الاستواء مذكور، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " إلى آخره. فمن رواه " الاستواء معلوم والكيف مجهول " ينبغي أن ترد روايته إلى هذا المعنى، يعني الاستواء معلوم الورود في الكتاب، فيرجع إلى قوله في الرواية السابقة " الاستواء مذكور " وقوله: والكيف مجهول. أي لا تعلم له ماهية بالمعنى المتعارف، ولا يعقل له وجود فيما يتعلق بجناب الحق جل وعلا.. " (18).
أما السلفية فسر اختيارهم لرواية " الاستواء معلوم والكيف مجهول " فلأنهم
____________
(16) المرجع السابق، ص 406 - 407.
(17) نفسه، ص 409 أنظر الهامش.
(18) فرقان القرآن بين صفات الخلق وصفات الأكوان، مقدمة الشيخ سلامة القضاعي الشافعي، ملحق بالأسماء والصفات، ص 16 - 17.
إن الاختلاف بين السلفية وأهل السنة، أشاعرة وما تريدية، لم يقتصر على صفات العلو والاستواء بل شمل جميع الصفات الخبرية. ففي الوقت الذي أول أهل السنة مجمل الصفات وتوقفوا في بعضها رافضين أن تكون من بين الصفات كما توهم مخالفوهم. نجد أن الحنابلة ومعهم ابن تيمية زعيم السلفية يثبتونها حقيقة، ولا مجال لإقحام التأويل فيها، فقط أضافوا بلا كيف وبلا تشبيه.
ونعرض الآن بعض هذه الصفات ليرى القارئ مدى الاختلاف بين المدرستين، وسنعتمد كما أسلفنا كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي الأشعري. بقراءة الدكتور السلفي المعاصر أحمد بن عطية الغامدي.
____________
(19) لابن تيمية كلام صريح كان يقوله في خطبه، لكنه لم يذكره بنصه في كتبه التي وصلتنا فمن ذلك: ما نقله ابن بطوطة وابن حجر العسقلاني، أنه قال وهو علي المنبر: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل. أنظر رحلة ابن بطوطة ص 95. والدرر الكامنة (1 / 154) وما نقله أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) و (النهر) من أنه قرأ في (كتاب العرش) لابن تيمية ما صورته بخطه: أن الله تعالى يجلس على الكرسي، وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله. ولكن هذا الكلام الذي نقله يوسف النبهاني في (شواهد الحق (ص 130) عن كتاب (النهر) لأبي حيان، ونقله صاحب كشف الظنون في كتابه (ج 2 / 1438) قد حذف من كتاب (النهر) المطبوع، كما حذف غيره من الكلام الذي تناول فيه عقائد ابن تيمية ! ولكن ابن تيمية قد دافع عن هذا المعنى بإصرار من غير أن يذكر الجلوس النبي معه على العرش، وذلك في كتاب (منهاج السنة 1 / 260 - 261). أنظر ابن تيمية في صورته الحقيقية. صائب عبد الحميد ص 18 - 19.
صفة الكلام:
اختلف الأشاعرة والسلفية في صفة الكلام. أما الأشاعرة فينكرون أن يكون الله تعالى تكلم بحرف وصوت. أما السلفية فيرون " أن الله تعالى تكلم بحرف وصوت إلا أن كلامه سبحانه وتعالى لا يشبه كلام خلقه، ولا صوته يشبه أصواتهم كما ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية " (20).
الرؤية:
أما في الرؤية فقد اتفقوا معا على إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.
لكن هذا الاتفاق لم يكن تاما من جميع الوجوه. يقول الغامدي: " الواقع أن ثمة مسألة مهمة تتعلق بهذه القضية هي مسألة الجهة لأن السلف حين أثبتوا الرؤية، أثبتوا الجهة أيضا لأنها لازمة لها أما البيهقي ومعه أصحابه الأشاعرة فقد أثبتوا الرؤية ونفوا لازمها...
أما ابن تيمية فيرى أن: " هذا القول انفرد به هؤلاء الأشاعرة دون بقية طوائف الأمة، وأن هذا معروف الفساد ضرورة ولأجل ذلك ذهب بعض حذاقهم إلى موافقة المعتزلة فيما ذهبوا إليه من نفي للرؤية والجهة معا، وتفسير الرؤية بأنها زيادة انكشاف وليست رؤية حقيقية (21).
والسبب في رفض الأشاعرة مسألة الجهة واضح، لأنه يؤدي إلى الاعتقاد بأن الله في جهة مخصوصة ومعينة، وهذا سيؤدي إلى التجسيم لا محالة. أما أهل السلف فهم كما مر معنا يؤمنون بأن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماوته وأنه - سبحانه وتعالى - موجود في جهة العلو. وقد دافع ابن تيمية
____________
(20) البيهقي وموقفه من الإلهيات، م س، ص 204. ولأبي الحسن المقدسي جزء يرد فيه على أحاديث الصوت حيث إستوفى في جزئه الكلام على الأحاديث التي استدل بها القائلون بالحرف والصوت، وأبدى عللها بحيث لا تقوم لها قائمة في الاستدلال بها على ذلك المعتقد الباطل " أنظر هامش الأسماء والصفات، ص 202.
(21) البيهقي ووقفه من الإلهيات، ص 314 - 315.
صفة الوجه:
بخصوص صفة الوجه الواردة في الآيات يرى الأشاعرة ومعهم ابن الجوزي تأويلها. ففي دفع شبه التشبيه، يذهب ابن الجوزي الحنبلي إلى أن المراد بالوجه " الذات " وينسب هذا التأويل للإمام أحمد بن حنبل كذلك.
لكن الدكتور الغامدي يرد عليه قائلا: " أما قول السلف فهو كما قال ابن خزيمة: " نحن نقول وعلماؤنا جميعا في الأقطار أن لمعبودنا عز وجل، وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله (22).
وقد ذهب علماء أهل السنة في شرح حديث " إن الله خلق آدم على صورته " إلى أن المقصود إنما هو صورة آدم، ليس هو على صورة الرحمان. أما السلفية فيقول عبد الوهاب الحنبلي: " من لم يقل إن الله خلق آدم على صورة الرحمان فهو جهمي " (23) والجهمي عندهم كافر.
ويرى السلف، على رأسهم ابن خزيمة، أن لله سبحانه وتعالى عينان ينظر بهما. أما الجويني والبغدادي والرازي وغيرهم من أساطين الأشاعرة، فيؤولون صفة العين الواردة بالرؤية أو الحفظ والكلاءة. وصرح الشيخ الكوثري من المعاصرين بأن من قال بأن لله عينان ينظر بهما فهو مشبه قائل بالجارحة.
بالإضافة إلى استشكالهم على ورود صفة العينين لأن القرآن لم يذكر عينين اثنين كما لدى الإنسان (24).
____________
(22) المرجع نفسه، ص 236.
(23) طبقات الحنابلة، م س، ص 154.
(24) يقول المحقق الكوثري: لم ترد صفة التثنية في الكتاب ولا في السنة، وما يروى عن أبي الحسن الأشعري من ذلك فمدسوس في كتبه بالنظر إلى نقل الكافة عنه، وأما من قال: له عينان ينظر بهما فهو مشبه قائل بالجارحة تعالى الله عن ذلك. وابن خزيمة وابن حامد شيخ أبي يعلى جد مسكين في هذه المباحث. وقال ابن حزم: لا يجوز لأحد أن يصف =
صفة اليد:
وكذا صفة اليد التي أولوها بالقدرة، وهذا بخلاف - كما يقول الغامدي السلفي - ما أجمع عليه السلف من حمل اليد على الحقيقة في جميع مواردها (25).
أما باقي الصفات والتي جاء أغلبها في أحاديث مختلف في صحتها، مثل:
الأصابع (26) الساعد والذراع (27) والرجل والجنب والقدم (28) والحقو.. فإن أهل السنة لم يثبتوها بل مالوا بها إلى التأويل تارة، وعلى الطعن في الأحاديث التي تضمنت هذه الصفات تارة أخرى. على اعتبار إنها من مرويات أهل الكتاب، تلقفها جهال الرواة وجمعها المحدثون دون دراية. أما المذهب الحق -
____________
= الله عز وجل بأن له عينين لأن النص لم يأت بذلك. أنظر الأسماء والصفات، تحقيق الشيخ الكوثري، ص 313.
(25) البيهقي وموقفه من الإلهيات، للغامدي، ص 255.
(26) قال ابن حزم يشرح الحديث الوارد: بين أصبعين بمعنى بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عز وجل ونعمه، إما كفاية تسره وإما بلاء يأجره عليه. والأصبع في اللغة النعمة. وقلب كل أحد بين توفيق الله وجلاله وكلاهما حكمه عز وجل.
(27) يقول بن الجوزي الحنبلي في " منهاج الوصول إلى علم الأصول " حديث عبد الله بن عمر وقوله في خلق الملائكة من نور الذراعين والصدر، وفي لفظ من نور ذراعيه وصدره، لا يثبت عنه ولو ثبت أحتمل أن يكون مخبرا به عن أهل الكتاب وقد كان عبد الله بن عمر ينظر في كتب الأوائل.. أما حمله على صفات الحق فقبيح، لأنه لا يجوز أن يخلق من صفات القديم محدث لأن هذا هو التبعيض الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام.
(28) قال ابن الجوزي: قال أبو عبيد الهروي، عن الحسن البصري أنه قال القدم هم الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه وأثبتهم لها. وقال أبو منصور الأزهري: القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار، يقال لما قدم قدم، ولما هدم هدم. ويؤيد هذا قوله: وأما الجنة فينشأ لها خلقا. ووجه ثان أن كل قادم عليها يسمى قدما. فالقدم جمع قادم. ومن يرويه بلفظ الرجل فإنه يقال رجل من جراد فيكون المراد يدخلها جماعة يشبهون في كثرتهم الجراد ". أما أهل السلف فيقول ابن الزاغوني الحنبلي في شرح الحديث " يضع الجبار قدمه في النار ": إنما وضع قدمه في النار ليخبرهم أن أصنامهم تحترق وأنا لا أحترق. قال ابن الجوزي: وهذا تبعيض وهو من أقبح الاعتقادات... ". أنظر البيهقي، تعليق الكوثري، ص 329 - 350.
ليس هناك إلا التنزيه بالتفويض أو التأويل:
وخلاصة الكلام في هذا الباب هو أن أهل السنة وعلى رأسهم الإمام الجويني والرازي والغزالي وباقي الأشاعرة، لا يثبتون الصفات الخبرية وإنما يؤولونها. لأنهم يرون أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم. كما أن الأدلة عليها ظنية (30)، لأنها تتمثل في مجرد ظواهر شرعية، وهذه معارضة عندهم بما يعتبرونه أدلة قطعية وهي الأدلة العقلية (31).
ويؤكد محققوهم المعاصرون على أن السلف والخلف قد اتفقوا " على تنزيه الله سبحانه عن مشابهة صفات الخلق، وليس هناك إلا التنزيه مع التفويض أو التنزيه مع التأويل عند أهل الحق سلفا وخلفا، فمن سدس القسمة لترويج بدعته فقد راوغ وجعل القسم قسيما (32).
أما ابن تيمية ومن تبعه من السلفيين قديما وحديثا، فإنهم يصرون على " الإثبات الحقيقي لجميع الصفات إثباتا لا تأويل فيه ولا تفويض، ولا تشبيه " (33). يقول الشيخ عبد الجواد ياسين الصباغ: " والعجب ممن يعيب
____________
(29) البيهقي للغامدي، ص 259.
(30) كان البيهقي يعتقد بأن الأحاديث التي وردت فيها مجمل هذه الصفات، أحاديث آحاد ظنية السند والمتن. لذلك لا مانع م - ن تأويليها خصوصا وظواهرها تؤدي إلى الوقوع في التشبيه أو التجسيم. إلا أن الدكتور الغامدي يرد عليه بقوة ويعتبر أن رفض أحاديث الآحاد وعدم الاحتجاج بها في مجال العقيدة قضية خطيرة " والقول بها مرفوض تمام الرفض، لأنه قول مبتدع لم يقل به أحد من سلف هذه الأمة، ولم يخطر لأحدهم على بال.
ويلزم من هذا القول الخاطئ رد مئات الأحاديث الصحيحة... ". أنظر المرجع السابق، ص 269.
(31) البيهقي وموقفه من الإلهيات، ص 228.
(32) الأسماء والصفات، الهامش ص 314.
(33) البيهقي للغامدي، ص 332.
ثم قال رحمه الله: وقد نبغت نابغة من الرعاع لولا استنزالهم للعوام لأجللت هذا الكتاب " التذكرة الشرقية " عن تلطيخه بذكرهم، يقولون: " نحن نأخذ بالظواهر ونحمل الآيات الموهمة تشبيها والأخبار الموهمة حدا وعضوا على الظاهر ولا يجوز أن نطرق التأويل إلى شئ من ذلك. ويتمسكون على زعمهم بقول الله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) *، هؤلاء والذي أرواحنا بيده أضر على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، لأن ضلالات الكفار ظاهرة يتجنبها المسلمون، وهؤلاء أتوا الدين والعوام من طريق يغتربه المستضعفون. فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلوا في قلوبهم وصف المعبود سبحانه بالأعضاء والجوارح والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء بالذات والتردد في الجهات...
فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيل المحسوسات فاعتقد الفظائع فسال به السيل وهو لا يدري...
ويقول الشيخ الصباغ أيضا: " إن الذين يحرمون التأويل هم المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه وقد صدق الشاعر حين قال فيهم:
____________
(34) جريدة اللواء الأردنية، عدد 1156 السنة الرابعة والعشرون، 28 / حزيران / 1995 م. =
الوهابية وأهل السنة.. التكفير المتبادل:
إن الاختلاف بين ابن تيمية والوهابية وبين أهل السنة، لا يقتصر على ما ذكرناه، بل تعداه إلى قضايا كثيرة ومتفرعة من التوحيد والعدل والإيمان. يقول الشيخ السلفي أبو بطين: " إن أكثر أهل الأمصار اليوم أشعرية، ومذهبهم في صفات الرب سبحانه وتعالى موافق لبعض ما عليه المعتزلة الجهمية، فهم يثبتون بعض الصفات دون البعض، فيثبتون الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وينفون ما سوى هذه الصفات بالتأويل الباطل. مع أنهم وإن أثبتوا صفة الكلام موافقه لأهل السنة (35). فهم في الحقيقة نافون لها، لأن الكلام عندهم هو المعنى فقط. ويقولون حروف القرآن مخلوقة لم يتكلم الله بحرف ولا صوت. فقالت لهم الجهمية هذا هو نفس قولنا. إن كلام الله مخلوق لأن المراد الحروف لا المعنى..
ومذهب السلف قاطبة أن كلام الله غير مخلوق. وإن الله تعالى تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه، وأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بصوت يسمعه من يشاء، والأشعرية لا يثبتون علو الرب فوق سماواته واستواء على عرشه، ويسمون من أثبت جهة العلو والاستواء على العرش مجسما مشبها. وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة - أي السلفية - فإنهم يثبتون صفة العلو والاستواء والأشاعرة وافقوا الجهمية في نفي الصفة، لكن الجهمية يقولون
____________
= مقال بعنوان " إثبات جواز التأويل للنصوص الواردة مما يوهم الجسمية والأعضاء بقلم الشيخ عبد الجواد ياسين الصباغ، ص 15.
(35) أنظر فصل التعاريف " الصراع على لقب " أهل السنة والجماعة ".
ثم اتهم أبو بطين الأشاعرة بنفي الرؤية، كما وردت في القرآن والأحاديث. وينتقد رأيهم في الإيمان فيقول: والأشعرية يوافقون أهل السنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون أن معنى الرؤية إنما هو زيادة علم يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانا، فهم بذلك نافون للرؤية التي دل عليها القرآن وتواترت بها الأحاديث عن النبي (ص)، ومذهب الأشاعرة أن الإيمان مجرد التصديق ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح.
قالوا إن سميت الأعمال في الأحاديث إيمانا، فعلى المجاز لا الحقيقة. ومذهب أهل السنة والجماعة إن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان (37).
وبعد أن فند الشيخ أبو بطين آراء الأشاعرة، خطأ من عدهم من أهل السنة وقال: إذا عرفت ذلك عرفت خطأ من جعل الأشعرية من أهل السنة كما ذكره السفاريني في بعض كلامه، ويمكن أنه أدخلهم في أهل السنة مداراة لهم لأنهم اليوم أكثر الناس، والأمر لهم، والله أعلم، مع أنه دخل بعض المتأخرين من الحنابلة في بعض ما هم عليه (38).
ابن تيمية يكفر الغزالي وإمام الحرمين:
أما العلامة الشيخ سلامة القضاعي شيخ الشافعية بمصر: فيقول في تقرير التوحيد الذي عليه أهل السنة والجماعة: " أن يكون الله منزها عن التركيب وقبول الانقسام وكل ما هو من خصائص المادة والأجسام، بذلك نطق كتاب
____________
(36) مجموعة من الرسائل والمسائل النجدية، رسائل وفتاوى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمان أبي بطين، ص 176 - 177.
(37) المرجع نفسه، ص 177.
(38) نفسه، ص 179. وانظر الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث الدكتور محمد كامل ظاهر، دار السلام، بيروت ط 1 - 1993 م، ص 180 - 181.
وعلى ذلك أطبق أهل السنة الذين لم يصابوا بما أصيب به أهل الهوى من مرض التشبيه والتجسيم الذي أصيب به اليهود من قبلهم، ووقع فيه النصارى من بعدهم، والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم (39)، ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون، أحمد بن عبد الحليم المعروف ب (ابن تيمية) يرمي إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى في كتابه (الموافقة) المطبوع على هامش منهاجه لقولهما بالتنزيه وهما ينفردا به، بل هو قول المحققين من علماء الملة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم (40).
وأجاب الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر على سؤال من يعتقد ثبوت جهة الفوقية لله سبحانه وتعالى ويدعي أن ذلك مذهب السلف. قائلا: " إن مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السنيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث
____________
(39) ليس في وصفه بهذا الوصف خلاف للحقيقة والواقع فهو القائل: " ليس في كلام الله، ولا سنة رسوله، ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين، والأكابر من أتباع التابعين من ذم المشبهة، ونفى مذهب التشبيه. وإنما اشتهر هذا من جهة الجهمية... وقال أيضا فمن المعلوم:
أن الكتاب والسنة والإجماع لم تنطق بأن الأجسام كلها محدثة، وأن الله ليس بجسم، ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين، فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة، ولا عن الشريعة ". حاشية التبصير، ص 94 - 96، نقلا عن ابن زكنون الحنبلي في الكواكب الدرية عن ابن تيمية.
أما القاضي أبي بكر الباقلاني فيقول: " أن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسما قيل له: لما قدمناه من قبل. وهو أن حقيقة الجسم أنه مؤلف مجتمع بدلالة قولهم:
" رجل جسيم " و " زيد أجسم من عمر " وعلما بأنهم يقصرون هذه المبالغة على ضرب من ضروب التأليف في جهة العرض والطول، ولا يوقعونها بزيادة شئ من صفات الجسم سوى التأليف. فلما لم يجز أن يكون القديم تعالى مجتمعا مؤتلفا. وكان شيئا واحدا تبت أنه ليس بجسم ". التمهيد، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957 م ص 191.
(40) صفات الله عند المسلمين، م س، ص 62. عن فرقان القرآن.
وممن نسب إليه القول بالجهة من المتأخرين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي من علماء القرن الثامن في ضمن أمور نسب إليه خالف الإجماع فيها عملا برأيه وشنع عليه معاصروه بل البعض منهم كفروه ولقي من الذل والهوان ما لقي (41).
وأخيرا نرجع لنقول إن الخلاف بين أهل السنة والسلفية الوهابية متشعب وعميق في مجال العقائد. بدأ في المنهج والمنطلقات وانتهى وتعمق مع النتائج. والسبب يرجع ليس فقط لمشكل المتشابه في الآيات، لأن هناك محكمات جلية واضحة يمكن الاحتكام إليها. ولكن للكم الهائل. من الأحاديث التي تأكد للمحققين أنها من مدسوسات أهل الكتاب وأقوال الكذبة من الأعراب وغيرهم.
لذلك وقع الخلاف فذهبت كثير من الفرق ومنهم الأشاعرة إلى تأويل ما جاء في تلك الأحاديث من صفات قد تشوش مفهوم التوحيد والتنزيه. وإن كان غيرهم قد ضرب بها عرض الحائط، ولم يعتمدها في مبحث العقائد بالمرة. أما الفريق الآخر من المحدثين والحشوية والسلفية فإنهم تشبثوا بها وانطلقوا منها لرسم صورة التوحيد الإسلامي الحقيقي كما يدعون.
أما رفضهم للتأويل فقد أوقعهم في تخبط واضطراب لا يمكن للتنابز بالألقاب واتهام الآخرين بالتعطيل والزندقة أو الكفر والضلال أن يستر عورته.
____________