الصفحة 125
تلك الاستفهامات التي زادتهم حيرة عندما بحثوا عن جواباتها عند غير الشيعة، ومن رام التأكّد فليتناول أيّ مصنَّف عقائدي لهم، أو يحاور أيّ باحث ومحقق منهم فضلا عن علمائهم، ويزيد الأمر تأكيداً قيام السلفية والوهّابية وعلماء السوء بفرض حظر على مصنّفات الشيعة وتحذير المسلمين من الاطّلاع عليها وتحريم قراءتها، وما ذاك إلاّ لعلمهم بتحول جُلّ من يطّلع عليها من ذوي الألباب والعقول المتنورة أو في الأقلّ تأثره بها، كما هو واضح من خلال الملاحظة والاستقراء.

وما ذاك إلاّ لأنّهم مع الحقّ والحقّ معهم، والله خيرٌ حافظاً.

أصناف الصحابة:

ونعود لبداية كلامه وافترائه علينا في هذا الوجه، وهو، أنّ الصحابة كلّهم كذّابون.

ونقول: حاشا لله أن نقول بهذه المقالة أو نصفهم بهذا الوصف، ولكنّنا نصنّف الصحابة ونقسّمهم كما صنّفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وهم على العموم أربعة أصناف لا خامس لهم:

الصنّف الأوّل: الذين رضي الله عنهم وأثنى عليهم بمثل قوله تعالى:

(والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار...) (1) .

وقوله تعالى: (محمّد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار

____________

(1) سورة التوبة 9: 100.


الصفحة 126
رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلا من الله ورضواناً... وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً) (1) .

وقوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) (2) .

ونحن إذا تمعّنّا في هذه الآيات الكريمة نجدها ليست على إطلاقها، فالآية الأُولى تفيد: أنّهم الذين صلّوا القبلتين، قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيّب، وقيل: أهل بيعة الرضوان، قاله الشعبي وابن سيرين، وقيل: إنّهم أهل بدر، قاله عطاء، وقيل: السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين آمنوا بمكّة قبل هجرة رسول الله عنهم، والسابقون الأوّلون من الأنصار هم الذين آمنوا بالله ورسوله قبل هجرته إليهم(3) .

وأمّا الآية الثانية: فلا يخفى ما في آخرها من تقييد الوعد بمن أقام على الإيمان والطاعة.

وأمّا الآية الثالثة: فهي صريحة باختصاصها بأصحاب الشجرة، كما لا يخفى، ولكن ليس على إطلاقها، وكذا الآيات الباقية المرتبطة بالمقام ; لأنّ ذلك يستوجب الجبر المنافي للاختيار، الأمر الذي يؤدّي إلى عبثية الثواب والعقاب أو بطلانه، نعوذ بالله من هذه المقالة الفاسدة.

وهنا دقيقة مهمّة ينبغي الالتفات إليها، وهي: إنّ عبد الله بن أُبيّ بن

____________

(1) سورة الفتح 48: 29.

(2) سورة الفتح 48: 18.

(3) انظر: تفسير الماوردي ج 2 ص 395، تفسير الرازي ج 16 ص 172، تفسير القرطبي ج 8 ص 150.


الصفحة 127
سلول، وهو بدري شجري ـ أعني من أصحاب بدر وبيعة الشجرة ـ ولا خلاف بين المسلمين في ضلاله ونفاقه، بل ينسب إليه جلّ ما ورد في الكتاب والسُنّة بخصوص النفاق والمنافقين وإن لم يكن له علاقة في كثير من هذه الموارد، وإذا كان الأمر على هذه الحال فكيف يشمله عموم هذه الآيات، أعني آيات الرضوان؟!

فإنّ قيل: ورد فيه ما يبيّن نفاقه.

قلنا: ونحن ما ادّعينا أكثر من ذلك، فهذه الآيات مقيّدة بابن أُبيّ بن سلول وكلّ من هو على شاكلته أو كان أسوأ حالا منه، فهو لم يكن وحده، فقد تخلّف معه يوم أُحد ثلث الصحابة كما هو مشهور(1) .

وأمّا ما ورد من أقوال أئمّتنا (عليهم السلام) حول الصحابة، فقد بلغ حدّ الاستفاضة.

فهذا قول إمامنا زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام في الصحيفة السجّادية ص 44 في دعائه في الصلاة على أتباع الرسل ومصدّقيهم: " اللّهمّ وأصحاب محمّد خاصّة الذين أحسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء... فلا تنس لهم اللّهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم... اللّهم وصلّ

____________

(1) سيرة ابن هشام ج 4 ص 9، تاريخ الطبري ج 2 ص 60، تاريخ ابن الأثير ج 2 ص 45، تاريخ ابن كثير ج 4 ص 11.


الصفحة 128
على التابعين من يومنا هذا إلى يوم الدين... ".

نعم، هذا قول أئمّتنا في الصحابة ونحن تبع لهم في ما يقولون، طاعة لله ولرسوله، وأوردنا هذا على سبيل المثال لا الحصر، وإلاّ فغيره كثير رويناه من طرقنا.

الصنف الثاني: الذين خلطوا عملا صالحاً وآخر سيّئاً، بمثل قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم) (1) .

الصنف الثالث: المرجون لأمر الله، بمثل قوله تعالى: (وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم) (2) .

وظاهر الآيتين واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان كما لا يخفى.

فإن قيل: إنّ سبب نزول هاتين الآيتين في عدد من الصحابة.

قلنا: نعم، وهو يكفينا في المقام، وسياق الآيتين غير مانع من التعميم.

الصنف الرابع: المنافقون والفاسقون والمنقلبون على أعقابهم والذين في قلوبهم مرض، بمثل قوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك رسول الله... ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) (3) .

وقوله تعالى: (وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّبهم مرّتين ثمّ

____________

(1) سورة التوبة 9: 102.

(2) سورة التوبة 9: 106.

(3) سورة المنافقون 63: 1 ـ 3.


الصفحة 129
يردّون إلى عذاب عظيم) (1) .

وقوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) (2) .

وقوله تعالى: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (3) .

وقوله تعالى: (وأمّا الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) (4) .

وقوله تعالى: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ غرّ هؤلاء دينهم) (5) .

وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا المقام، وهي صريحة وواضحة الدلالة ليست بحاجة إلى مزيد بيان كما لا يخفى.

أمّا ما صرّحت به الأحاديث الشريفة المروية في الصحاح والسنن والمسانيد، فقد بلغ حدّ التواتر، وقد روى البخاري ومسلم عدداً كثيراً منها وفي عدّة مواضع من صحيحيهما.

خذ إليك مثلا ما أخرجه البخاري في صحيحه ج 8 كتاب الرقاق، باب في الحوض، ومسلم في ج 7 كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) وصفاته فمن ذلك ما رواه البخاري بإسناده عن أبي هريرة، عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ،

____________

(1) سورة التوبة 9: 101.

(2) سورة السجدة 32: 18.

(3) سورة آل عمران 3: 144.

(4) سورة التوبة 9: 125.

(5) سورة الأنفال 8: 49.


الصفحة 130
قال: بينا أنا قائم إذا زمرة حتّى عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم.

فقال: هلمّ!

فقلت: إلى أين؟

قال: إلى النار والله!

قلت: وما شأنهم؟

قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلّم!

قلت: إلى أين؟

قال: إلى النار والله!

قلت: ما شأنهم؟

قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم.

وما رواه البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكرـ واللفظ للأوّل ـ قالت: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : إنّي على الحوض حتّى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا ربّ منّي ومن أُمّتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟! والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم...

هذا غيض من فيض ممّا روي في ارتداد كثير من الصحابة ورجوعهم على أعقابهم، وحقيق علينا أن نسأل من هم هؤلاء الصحابة الذين عنتهم هذه الآيات والأحاديث الشريفة والذين لا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم، كما في بعض نصوص البخاري؟! هل هم هؤلاء الصحابة العدول والمَرضيّ عنهم؟! ألا يتعارض ذلك مع هذه النصوص المتواترة؟! أم هم

الصفحة 131
من عالم آخر ونحن لا ندري؟! ولعلّهم من سكّان الكواكب الأُخرى أو من العين الحمئة حيث تغرب فيها الشمس والتي لم تكن اكتشفت في عصر الرسالة عندما كان يسكنها الهنود الحمر أو شعب الأزتيك و قبلهم الأُولمك على الراجح، ليت كاتب المقالة يهدينا إلى الجواب.

*  *  *


الصفحة 132

الصفحة 133

المبحث الثاني
عدالـة الصحابي

قال صاحب المقالة:

الوجه الثاني:

" وكذا حسب عقائد الشيعة أنّ الصحابة كانوا كاذبين، وهم الذين نقلوا ورووا القرآن الكريم، وأئمّة أهل البيت لا يروونه ولا يوثّقونه ولا يصدّقونه فكيف يعتمد الروافض والشيعة على صحّة هذا القرآن الموجود وكماله؟!

إخضاع الصحابي وغيره لقواعد أُصول الحديث والجرح والتعديل بناءً على قول الإمام علي (عليه السلام) :

وجوابه: إنّ الشيعة لا يعتقدون بكذب جميع الصحابة كما تقدّم بيانه في الوجه الأوّل، ولكن يقولون بما قاله وبيّنه لهم إمامهم وسيّدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عندما سئل عمّا في أيدي الناس من تفسير القرآن واختلاف الخبر، فقال (عليه السلام) :

إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلا، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامّاً وخاصّاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كُذب على رسول

الصفحة 134
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده، حتّى قام خطيباً، فقال: " من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار ".

وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:

ـ رجل منافق مظهر للإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمّداً، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوا قوله، ولكنّهم قالوا: صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله...

ـ ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم يتعمّد كذباً، فهو في يديه ويرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه.

ـ ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً يأمر به، ثمّ إنّه نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

ـ وآخر رابع، لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم يَهِمْ، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنّب عنه، وعرف الخاصّ والعامّ، والمحكم والمتشابه، فوضع كلّ شيء موضعه...(1)

____________

(1) نهج البلاغة ص 325 خطبة رقم 210، الكافي ج 1 ص 83 باب اختلاف الحديث.


الصفحة 135
نعم، إنّ الشيعة يعتقدون بهذا والذي يُعدّ بحقّ هو أساس علم الرواية والحديث والجرح والتعديل، وإن مؤسّسه هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

وبعد هذا أترى الصحابة بأجمعهم كانوا ينقلون من اللوح المحفوظ بحيث كانوا بعيدين عن معرض السهو والنسيان؟! كلاّ ثمّ كلاّ، بل فيهم الحافظ المتقن الضابط.

فمنهم: من قال في حقّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ "(1) .

ومنهم: من جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شهادته بشهادتين، مثل خزيمة ابن ثابت(2) .

ومنهم: من أمّنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على سرّه، وأمر بتصديق حديثه، مثل حذيفة بن اليمان(3) .

____________

(1) سنن الترمذي ج 5 ص 628 ح 3801 و 3802، سنن ابن ماجة ج 1 ص 55 ج 156، مسند أحمد ج 2 ص 163 و175 ومواضع أُخر، مسند البزّار ج 9 ص 458 ح 4072، المعجم الأوسط ج 5 ص 365 ح 5148، صحيح ابن حِبّان ج 9 ص 132 ح 7088، تاريخ البخاري الكبير ج 8 / الكنى ص 23 رقم 181، مصنّف ابن أبي شيبة ج 7 ص 526 باب 32 ح 1 ـ 3، منتخب عبد بن حميد ص 100 ح 209، طبقات ابن سعد ج 4 ص 172، مستدرك الحاكم ج 3 ص 385 ح 5460 ـ 5462 وصححه وأقرّه الذهبي و ص 387 ح 5467 و ج 4 ص 527 ح 8478.

(2) صحيح البخاري ج 4 ص 75 ح 22 كتاب الجهاد، وج 6 ص 210 ـ 211 ح 278 كتاب التفسير، سنن أبي داود ج 3 ص 307 ح 3607، سنن النسائي ج 7 ص 302، مسند أحمد ج 5 ص 216، معجم الطبراني ج 4 ص 87 ح 3730، مصنّف عبد الرزاق ج 8 ص 366 ـ 367 ح 15565 ـ 15568، مستدرك الحاكم ج 3 ص 448 ح 5694 ـ 5696.

(3) سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 81 ح 8299، سنن الترمذي ج 5 ص 633 ح 3812، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ج 2 ص 686 رقم 566، الاستيعاب ج 1 ص 335.


الصفحة 136
وفيهم من يسهو وينسى، وفيهم من كان يكذب، بل يتعمّد الكذب والوضع.

فمنهم: من بذل له معاوية ـ وهو سمرة بن جندب ـ مئة ألف درهم حتّى يرويَ أنّ آية (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد) نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأنّ آية (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) نزلت في ابن ملجم، فلم يقبل، فبذل له مئتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمئة فلم يقبل، فبذل له أربعمئة، فقبل وروى ذلك(1) .

وسمرة هذا ولاّه زياد ابن أبيه على البصرة، فقتل ثمانية آلاف من الناس، وقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت.

وعن أبي سوار العدوي قال: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلا كلّهم قد جمع القرآن(2) .

وروى الشيخ أبو جعفر، وأبو داود، والبيهقي، والخطيب التبريزي: أنّ سمرة كان له عذق في حائطِ رجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان وكان سمرة يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه، فأخبره بالخبر، فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبره بقول الأنصاري وما

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 73.

(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 208، تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 318.


الصفحة 137
شكا إليه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ له من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، وقال: لك بها عذق مذلّل في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار.

وفي لفظ أبي داود (أنت مضارّ) (1) .

وأخرجه ابن أبي الحديد بنحوه(2) .

ومنهم: من كذب في وجه رسول الله وأمام الصحابة ولم يراع حرمة لله ورسوله، مثل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدّقاً إلى بني المصطلق، فلمّا بلغ بعض الطريق رجع وقال: منعوني الصدقات، فنزل فيه قرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار وسمّاه الله فاسقاً، وهو قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (3) (4) .

قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن في ما علمت أنّ قول الله عزّ وجلّ (إن جاءكم فاسق بنبأ) نزلت في الوليد بن

____________

(1) التهذيب ج 7 ص 146 ـ 147 ح 651، سنن أبي داود ج 3 ص 314 ح 3636، سنن البيهقي ج 6 ص 157 ـ 158، مشكاة المصابيح ج 2 ص 181 ح 3006، وفي المصادر الأخيرة وحفاظاً على كرامة هذا الصحابي أبدلوا عبارة (لك بها عذق مذلّل في الجنّة) بهذه العبارة (فهبه له ولك كذا وكذا) أمراً رغّبه فيه، فأبى ; ومن هذا الحديث فرّع الفقهاء قاعدة لا ضرر ولا ضرار.

(2) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 78.

(3) سورة الحجرات 49: 6.

(4) انظر: مسند أحمد ج 4 ص 279، المعجم الكبير ج 3 ص 274 ح 3395 و ج 18 ص 7 ح 4، تفسير الطبري ج 11 ص 373 ـ 385 ح 3168 ـ 31692 ومن عدّة طرق، تفسير الثعلبي ج 9 ص 77، تفسير البغوي ج 4 ص 191.


الصفحة 138
عقبة(1) .

والوليد هذا ولاّه عثمان الكوفة، فصلّى بالناس يوماً صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران، ثمّ التفت إليهم وقال لهم: هل أزيدكم؟ وتقيّأ في المحراب.

فأين مبلغ هذا الصحابي من الوثاقة والعدالة(2) ؟!

نظرة في كثرة حديث أبي هريرة:

وهذا أبو هريرة الدوسي الذي كثر حديثه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى بلغت أحاديثه 5374 حديثاً(3) في مسند بقي بن مخلد فحسب، وهذا الكمّ يعادل ثلاثة أضعاف ما أخرجه الحفّاظ عمن يُسَمَّون بالعشرة المبشّرة، علماً بأنّهم سبقوا أبا هريرة إلى الإسلام بفترة تتراوح بين 15 ـ 20 سنة، الأمر الذي يثير استغرابنا مع طول فترة صحبتهم له مقارنة بقصر صحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي بلغت سنة واحدة وبضعة أشهر، لأنّه أسلم بعد غزوة خيبر سنة 7 هـ كما هو ثابت، وبعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين عند مُنصرفه من الجعرانة بعد أن قسّم غنائم حنين، وذلك في سنة 8 هـ، فعمل مؤذّناً لابن الحضرمي بطلب منه(4) .

____________

(1) الاستيعاب ج 4 ص 1553.

(2) انظر: صحيح مسلم ج 5 ص 126، كتاب الحدود، مسند أحمد ج 1 ص 144، سنن أبي داود ج 4 ص 162 ح 4480، سنن ابن ماجة ج 2 ص 858 ح 2571، العقد الفريد ج 3 ص 309، الأغاني ج 5 ص 138 وما بعدها، الاستيعاب ج 4 ص 1554 ـ 1556.

(3) سير أعلام النبلاء ج 2 ص 632 وغيره.

(4) طبقات ابن سعد ج 4 ص 266، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 594، الإصابة ج 7 ص 439.


الصفحة 139
ولم يحدّث بكلّ ما سمعه وحفظه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل إنّ الذي رواه كان من وعاء ـ وفي لفظ: جراب واحد ـ فإنّه حفظَ وعاءين ـ وفي لفظ: خمس حدّث باثنين منها ـ ولو حدّث بالثاني لقطع بلعومه أو رجمه الناس بالحجارة أو رمي بالقشع كما يقول(1) .

ومن الناحية العملية والتطبيقية فإنّ مدّة صحبته هذه لا يمكن أن تستوعب هذا الكمّ الهائل من الأحاديث إذا ما استثنينا الفترات التي لم يكن يلتقي فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كفترات نومه (صلى الله عليه وآله وسلم) وانشغاله في بيته وعبادته وغزواته واستقباله للوفود وما شابه ذلك، وكذلك الفترات التي يقضيها هو في الصفّة والذي كان هو أحد أصحابها، والفترات التي كان يبحث فيها عمّا يشبع به بطنه، كما يقول هو، والفترة التي قضاها أجيراً لابن عفّان وبسرة بنت غزوان بطعام بطنه حيث يخدم ويحتطب إذا نزلوا، ويسوق إذا ارتحلوا، ويحدو إذا ركبوا(2) ، وحتّى صحبته هذه كانت الغاية منها ملء بطنه وليس لطلب الحديث كما يبدو.

فقد روى البخاري ـ واللفظ له ـ والترمذي وابن سعد وابن عساكر عن محمّد بن سيرين، قال: كنّا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشّقان من كتّان، فتمخّط، فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخّط في الكتّان، لقد رأيتني وأنّي لأخرّ في ما بين منبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى حجرة عائشة مغشياً عليّ

____________

(1) صحيح البخاري ج 1 ص 68 ح 61 باب حفظ العلم، مسند أحمد ج 2 ص 539 و 540، طبقات ابن سعد ج 4 ص 247، تاريخ دمشق ج 67 ص 337 ـ 338، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 596.

(2) سنن ابن ماجة ج 1 ص 817 ح 2445، طبقات ابن سعد ج 4 ص 243، المعارف ـ لابن قتيبة ـ ص 158، حلية الأولياء ـ لأبي نعيم ـ ج 1 ص 379 ـ 380، تاريخ دمشق ج 67 ص 365 ـ 366.


الصفحة 140
فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويُرى أنّي مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلاّ الجوع(1) .

وصحّ عنه قوله: إنّي كنت امرأً مسكيناً أصحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على ملء بطني ـ وفي لفظ: لشبع بطني، أو: بشبع بطني ـ.

والذي يظهر من خلال استعراض سيرته أنّ هذا الاهتمام استمرّ معه حتّى بعد أن أصبح يتمخّط في الكتّان، فقد كان يدعو الله تعالى بقوله: اللّهم ارزقني ضرساً طحوناً، ومعدةً هضوماً، ودبراً نثوراً(2) ، وحتّى وهو يطوف بالبيت لم ينس هذا الأمر العظيم، فكان يقول: ويل لي من بطني، إن أشبعته كظّني، وإن أجعته أضعفني(3) ، بل أوصلته نهمته واهتمامه ببطنه إلى أن يزاحم الصبيان في طعامهم(4) ، وقد عدّوا ذلك من باب حسن الخلق!!

وكان يوماً فى سفر، فلمّا وضعت السفرة دعوه ليأكل فاعتذر بأنّه صائم، فلمّا كادوا يفرغون لم يحتمل، فجاء وأفطر وجعل يأكل(5) ، وكان يقول: ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحارّ، وما رأيت فارساً أحسن من زبد على تمر(6) .

فمن كان اهتمامه بالطعام بهذا الشكل حتّى جعل الغداء والعشاء

____________

(1) صحيح البخاري ج 9 ص 186 ح 95 كتاب الاعتصام، سنن الترمذي ج 4 ص 503 ح 2367، طبقات ابن سعد ج 4 ص 243، تاريخ دمشق ج 67 ص 318 ـ 319.

(2) ربيع الأبرار ج 2 ص 680.

(3) حلية الأولياء ج 1 ص 382، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 91 عن أحمد بن حنبل.

(4) تاريخ دمشق ج 67 ص 375.

(5) حلية الأولياء ج 1 ص 382.

(6) خاصّ الخاص ـ للثعالبي ـ ص 56.


الصفحة 141
بالأفنية من المروءة(1) ، أيبقى له أدنى اهتمام بحديث أو طلب علم؟! واقع الحال يقول: لا.

فمن البديهي أنّ من يهتمّ بأمر ويصبح شغله الشاغل يهمل بقيّة الأمور، ويقلّ اهتمامه بها وينصبّ شغله على أهم ما يشغله.

فكلّ هذا يفيدنا يقيناً بأنّ الفترات التي كان يتلقّى بها الحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن تحتمل هذا العدد، علماً أنّه قدم من أرض دوس قبل وفاة النبيّ بمدّة يسرة، كما سيأتي من قول مروان له في ما رواه ابن عساكر.

رأي الصحابة والتابعين في أبي هريرة وحديثه:

ولم يخف هذا على الصحابة، بل كانوا على علم به، فلذا بادروا إلى تنبيه المسلمين وإعلامهم عن ذلك لما يستوجبه عليهم تكليفهم الشرعي.

وعليه فسوف يقع الكلام حول أحاديث أبي هريرة من جهتين: أُولاهما: من جهة التوثيق السندي لحديثه واعتباره من خلال استعراض بعض أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم فيه، والثانية: في متن حديثه ودلالته.

أوّلا: أقوال بعض الصحابة وأتباعهم.

1 ـ علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

فقد روى أبو نعيم (الفضل بن دكين) ، قال: حدّثني فطر بن خليفة، عن أبي خالد الوائلي، قال: سمعت عليّاً (عليه السلام) يخطب وهو يقول: أكذب

____________

(1) كتاب المروءة ـ لأبي بكر بن المرزبان ـ ص 41 ح 26، تاريخ دمشق ج 67 ص 375.


الصفحة 142
الأحياء على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبو هريرة الدوسي ـ وفي لفظ: إلاّ إنّ أكذب الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) ـ.

وكان من قوله: حدّثني خليلي، وقال خليلي، ورأيت خليلي، فقال له علي: متى كان النبيّ خليلك يا أبا هريرة(2) ؟!

2 ـ عمر بن الخطّاب.

ـ وضربه الخليفة عمر بن الخطّاب بالدرّة، وقال: قد أكثرت من الرواية وأحْر بكَ أن تكون كاذباً على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (3) .

ـ وقال له عمر أيضاً: لتتركنّ الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو لألحقنّك بأرض الطفيح ـ يعني أرض قومه، وفي لفظ: بأرض دوس ـ أو: القردة(4) ـ.

ـ وفي لفظ السرخسي: ولمّا بلغ عمر (رض) أنّ أبا هريرة يروي ما لا يعرف، قال: لتكفّنّ عن هذا أو لألحقنّك بجبال دوس(5) .

ـ واستعمله عمر على البحرين ثمّ عزله، وقال له: هل علمت من حين أنّي استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثمّ بلغني أنّك ابتعت أفراساً بألف دينار وستّمئة دينار؟

قال: كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت.

قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأدّه.

____________

(1) الإيضاح ص 29، شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 68 عن أبي جعفر الاسكافي.

(2) تأويل مختلف الحديث ـ لابن قتيبة ـ ص 33.

(3) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 67 ـ 68.

(4) تاريخ المدينة المنوّرة ـ لابن شبّة ـ ج 3 ص 800، تاريخ دمشق ج 50 ص 172، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 600، تاريخ ابن كثير ج 8 ص 87، كنز العمال ج 10 ص 291 ح 29472.

(5) أُصول السرخسي ج 1 ص 341.


الصفحة 143
قال: ليس لك ذلك.

قال: بلى والله وأُوجع ظهرك، ثمّ قام إليه بالدرّة فضربه حتّى أدماه، ثمّ قال: إيت بها.

قال: أحتسبها عند الله.

قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأدّيتها طائعاً، أجئت من أقصى حجر بالبحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين! ما رجّعت بك أُميمة إلاّ لرعية الحُمر، وأُميمة أُمّ أبي هريرة(1) .

وفي لفظ عن أبي هريرة، قال: لمّا عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدوّ الله وعدوّ كتابه، سرقت مال الله؟!

قال: فقلت: ما أنا عدوّ الله ولا عدوّ كتابه، ولكنّي عدوّ من عاداهما، ما سرقت مال الله.

قال: فمِن أين لك عشرة آلاف؟

قلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت.

قال: فقبضها منّي(2) .

ونحن هنا ـ ومِن تصوّر موقف الخليفة معه في ما يتعلّق بحديثه أو قبض أمواله ـ بين أمرين: إمّا أن يكون الخليفة بموقفه هذا من منع أبي هريرة من الحديث بصدد حرمان المسلمين من تعلّم أحكام دينهم ومعرفة أقوال وأفعال رسول الله، وإمّا أن يكون أبو هريرة كاذباً على رسول الله.

____________

(1) العقد الفريد ج 1 ص 54.

(2) العقد الفريد ج 1 ص 55، عيون الأخبار ـ لابن قتيبة ـ ج 1 ص 116، طبقات ابن سعد ج 4 ص 250، تاريخ دمشق ج 67 ص 370 ـ 371.