الصفحة 207
إلى قوله: أما إنّه كذبك وسيعود، وضرب كلامه عرض الحائط ثلاث مرّات ولم يصدّقه، وصدّق قول الشيطان ثلاث مرّات، كما حنث أبو هريرة ثلاث مرات بقوله: والله لأرفعنّك إلى رسول الله، ولم يفعل، ولا أدري كيف تمكّن أبو هريرة من مسك الشيطان وأسره وهو من جنس غير جنسه، ويُعرف عنه البطش والقوّة، وما عهدنا للشياطين نصحاً للمؤمن حتّى يعلّمونه سنن دينه، بل الثابت خلاف ذلك، وهو السعي بكلّ وسيلة لإضلال العباد، لقد تبعت يا أبا هريرة ضلّة.

والذي ينسبق إلى الذهن أنّ أبا هريرة كذب في هذا الخبر ثلاث كذبات في ثلاث كذبات في ثلاث كذبات.

13 ـ روى الشيخان، والأربعة، ومالك، وأحمد، وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لا عدوى ولا صفر [ولا طيرة] ولا هامة(1) .

وهذا من المحالات العقلية، فحتّى المعتوهين فضلا عن العقلاء يعدّون العدوى أمر واقعاً وأنّ كثيراً من الأمراض تنتقل بالعدوى كالطاعون والكوليرا والزكام وحتّى الحمّى القلاعية والسارس وغيرها.

كيف نصدّق بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ينكر العدوى؟! وهو الذي يقول: لا يوردنّ ممرض على مصحّ(2) ، كما رواه أبو هريرة وبذلك ناقض نفسه.

____________

(1) صحيح البخاري ج 7 ص 234 ح 34، ومواضع أُخر عديدة، صحيح مسلم ج 7 ص 30 ـ 31، سنن أبي داود ج 4 ص 16 ح 3911 و 3912 ومواضع أُخر، سنن الترمذي ج 4 ص 138 ح 1614، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1171 ح 3539 و 3540، سنن النسائي الكبرى ج 4 ص 375 ـ 376 ح 7591 و 7592، الموطّأ ص 820 ح 19، مسند أحمد ج 2 ص 267 و 327 ومواضع أُخر، مسند أبي يعلى ج 10 ص 498 ج 6112 ومواضع أُخر.

(2) صحيح البخاري ج 7 ص 253 ـ 254 ح 84 و 86، صحيح مسلم ج 7 ص 31 ـ 32، سنن أبي داود ج 4 ص 16 ح 3911، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1171 ح 3541، مسند أحمد ج 2 ص 406 و 434، مصنّف ابن أبي شيبة ج 6 ص 226 ح 5.


الصفحة 208
وقال (صلى الله عليه وسلم) : فرّ من المجذوم فرارك من الأسد ـ وفي لفظ: كما تفرّ من الأسد ـ(1) ، كما رواه أبو هريرة.

وهو الذي أرسل إلى الثقفي المجذوم الذي كان مع وفد ثقيف: إرجع فقد بايعتك(2) ، بل يعدّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل من فرض الحجر الصحّي في الإسلام بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها(3) .

أيعقل بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يردّ ذلك الإعرابي بقوله: فمن أعدى الأوّل؟! عندما قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنّها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟! ولا يعلم أنّ للمرض أسباباً كثيرة وليس بالعدوى فحسب كما علم بالتجربة والملاحظة والاكتشاف

____________

(1) صحيح البخاري ج 7 ص 231 ح 27، مسند أحمد ج 2 ص 443، مصنّف عبد الرزاق ج 10 ص 405 ح 19508 و ج 11 ص 204 ح 20331 و 20332، مصنّف ابن أبي شيبة ج 5 ص 568 ح 2 و ج 6 ص 226 ح 3، سنن البيهقي ج 7 ص 135 و 218.

(2) سنن النسائي ج 7 ص 150، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1172 ح 3544، مسند أحمد ج 4 ص 390.

(3) صحيح البخاري ج 7 ص 237 ـ 239 ح 43 ـ 45، صحيح مسلم ج 7 ص 30، سنن أبي داود ج 3 ص 183 ح 3103، سنن النسائي الكبرى ج 4 ص 362 ح 7521 ـ 7525 ومن عدّة طرق، موطّأ مالك ص 781 ـ 782 ح 22 ـ 24، مسند أحمد ج 5 ص 206، مسند البزار ج 3 ص 203 ـ 205 ح 989 و 990، مسند أبي يعلى ج 2 ص 150 ح 837، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ج 1 ص 129 ـ 133 ح 266 ـ 278 ومن طرق عديدة.


الصفحة 209
والاستقراء.

إن هذا إلاّ تقوّل وافتراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والله من وراء ذلك حسيب.

14 ـ روى البخاري وغيره من أصحاب السنن والمسانيد، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كلّه ثمّ ليطرحه، فإنّ في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء(1) .

أنا لست هنا بصدد البحث عن الذباب وما يحمله من جراثيم وما ينقله من أمراض فهذا أمر موكولٌ إلى أهل الاختصاص، ولكنّي وددت أن أستشهد بقول الشاعر:


سأترك حبّكم من غير بغضوذاك لكثرة الشركاء فيهِ
إذا وقع الذباب على طعامرفعت يدي ونفسي تشتهيهِ
وتجتنب الأُسود ورود ماءإذا كان الكلاب ولغن فيهِ

فهذا الشاعر يعبّر عن حالة اجتماعية سائدة، وطبيعة إنسانية معروفة، جُبل الإنسان عليها وشذّ عنها أبو هريرة، والذي ينسبق إلى الذهن أنّ أبا هريرة لم يكن بصدد أكلة جافّة كالشواء وما يشبه ذلك من النواشف، وإلاّ لكان أبعد الذبابة وحلّ المشكلة، وإنّما كان بصدد أكلة ليّنة كالمضيرة(2)

____________

(1) صحيح البخاري ج 7 ص 257 ح 92 و ج 4 ص 263 ح 124، سنن أبي داود ج 3 ص 364 ح 3844، سنن النسائي ج 7 ص 179، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1159 ح 3504 و 3505، سنن الدارمي ج 2 ص 70 ح 2037 و 2038، مسند أحمد ج 2 ص 229 و 246 ومواضع أُخر، صحيح ابن خزيمة ج 1 ص 56 ح 105، صحيح ابن حبان ج 2 ص 272 ح 1243 و ج 7 ص 334 ح 5226.

(2) المضيرة: مُريقة تتّخذ من اللحم واللبن الحامض، وتسمى اليوم عند أهل الشام بـ (الشاكرية) ، وتعدّ من ضمن سفرة معاوية كما يقال.


الصفحة 210
التي كان يحبّها، أو عصيدة عملتها له بسرة بنت غزوان بطلب منه نكاية بها، وثأراً منها عندما كانت تطلب منه أن يعملها لها أثناء عمله عندها أجيراً بشبع بطنه، أو ثريدة كثيرة الدسم واللحم والمرق، وكان يضرب بها ضرب وليّ السوء في مال اليتيم، فسقطت في مرقتها ذبابة فلم تطب له نفسه أن يدعها، فأخرج من جرابه هذا الحديث حتّى لا يمتعض الحاضرون من فعله ويستنكرونه، وفي نفس الوقت تركه أثراً لنا، ولكن بعض عشّاق البخاري وأبي هريرة ممّن يمنع الخدشة بالبخاري وبأبي هريرة، وكأنّهما ينقلون من اللوح المحفوظ، جاءنا بحلّ لهذه العويصة، وهو قياس الذباب بالنحل وكلاهما فيه شفاء.

يا هذا! هذا قياس مع الفارق، شتّان بين من يتصرّم وقته متنقّلا بين النرجس والياسمين، وباقي الزهور والرياحين، يرتشف من رحيقها، ويتضمّخ بطيبها، ويفحّ بأريجها، وبين من يقضي وقته متنقّلا بين القذارات والنجاسات، والجروح والقروح، والفطائس والجيف، ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟! يا هذا! قدِّر ثمّ اقطع.

15 ـ روى النسائي والترمذي وأحمد وعبد الرزاق والحميدي وابن حبّان وغيرهم، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لقد هممت أن لا أقبل هديّة إلاّ من قرشي أو ثقفي [أو أنصاري] أو دوسي(1) .

____________

(1) سنن النسائي ج 6 ص 280، سنن الترمذي ج 5 ص 686 ـ 687 ح 3945 و 3946، مسند أحمد ج 2 ص 292، مصنّف عبد الرزاق ج 9 ص 106 ح 16522، مسند الحميدي ج 2 ص 453 ح 1051، صحيح ابن حبّان ج 8 ص 100 ح 6349، مستدرك الحاكم ج 2 ص 72 ح 2365.


الصفحة 211
هذا التخصيص خلاف هدي النبوّة، فضلا عن وصف النيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه من الذين يُعْنَوْنَ بجمع الهدايا والقرابين، لِمَ لَمْ يذكر النبيّ غير هذه القبائل والمشهورة بالجود والكرم كطيّ وغيرها؟! بل المعروف خلاف ذلك، وهو أنّه (صلى الله عليه وسلم) مات وهو يكره ثلاثة أحياء ـ وفي لفظ: كان أبغض الأحياء (الناس) إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ـ: ثقيف، وبني حنيفة، وبني أُميّة(1) .

ولا يخفى ما في حديث أبي هريرة من التزلّف والتملّق إلى ذوي النفوذ والسلطة.

ثمّ من هي دوس حتّى يميّزها رسول الله بقبوله هداياها؟! وهو الذي ما كان يرى أنّ في دوس أحداً فيه خير كما رواه أبو هريرة نفسه(2) .

16 ـ أخرج الترمذي وأحمد من طريقين وابن عديّ وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي من عدّة طرق وغيرهم، عن أبي هريرة، قال: أتيت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بتمرات، فقلت: يا رسول الله ادع الله فيهنّ بالبركة، فضمّهنّ ثمّ

____________

(1) رواه الترمذي في جامعه ج 10 ص 307 ح 4200 بشرح المباركفوري، وفي بعض طبعاته الحديثة صحّفت يد الطبع اللاّ أمينة كلمة "يكره" إلى "يكرم" كالنسخة التي أنقل عنها وهي طبعة دار الكتب العلمية، فلذا نقلته من غيرها، ولا يخفى ما في ذلك من سوء النيّة، ورواه البزّار في مسنده ج 9 ص 10 ح 3510، والطبراني في الكبير ج 18 ص 230 ح 572 من طريق عمران بن الحصين، كما رواه أحمد في مسنده ج 4 ص 420، وأبو يعلى في مسنده ج 13 ص 417 ح 7421، والروياني في مسنده ج 1 ص 26 ح 41، والحاكم في المستدرك ج 4 ص 527 ح 8482، وصحّحه وأقرّه الذهبي على شرط البخاري ومسلم من طريق أبي برزة الأسلمي، ورواه أبو يعلى في مسنده ج 12 ص 198 ح 6820 من طريق عبد الله بن الزبير بلفظ: شرّ قبائل العرب بنو أُميّة وبنو حنيفة وثقيف.

(2) سنن الترمذي ج 5 ص 643 ح 3838، تاريخ أبي زرعة الدمشقي ج 1 ص 230، تاريخ دمشق ج 67 ص 315، ورواه أبو داود الطيالسي كما في تاريخ ابن كثير ج 8 ص 84.


الصفحة 212
دعا لي فيهنّ بالبركة، فقال: خذهنّ واجعلهنّ في مزودك هذا ـ أو: في المزود ـ كلّما أردت أن تأخذ منه شيئاً فأدخل فيه يدك فخذه ولا تنثره نثراً، فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا وسق في سبيل الله، فكنّا نأكل منه ونطعم، وكان لا يفارق حقوي حتّى كان يوم مقتل عثمان فإنّه انقطع!

ـ وفي لفظ لأحمد: أعطاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شيئاً من تمر فجعلته في مكتل لنا فعلّقناه في سقف البيت فلم نزل نأكل منه حتّى كان آخره أصابه أهل الشام حيث أغاروا على المدينة.

ـ وفي لفظ للبيهقي قال: أُصبت بثلاث مصائب في الإسلام لم أُصب بمثلهنّ، بموت النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وكنت صويحبه، وقتل عثمان، والمزود، قالوا: وما المزود يا أبا هريرة؟

قال: كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر.

فقال: يا أبا هريرة أمعك شيء؟

قال: قلت: تمراً في مزود معي.

قال: جئ به.

فأخرجت منه تمراً فأتيته، قال: فمسّه، فدعا فيه ثمّ قال: ادع عشرة، فدعوت عشرة فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ كذلك حتّى أكل الجيش كلّه وبقي من تمر المزود، قال: يا أبا هريرة إذا أردت أن تأخذ منه شيئاً فأدخل يدك ولا تكبّه، قال: فأكلت منه حياة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، وأكلت منه حياة أبي بكر كلّها، وأكلت منه حياة عمر كلّها، وأكلت منه حياة عثمان كلّها، فلمّا قتل عثمان انتُهب ما في بيتي، واُنتهب المزود، ألا أخبركم كم أكلت؟! أكلت منه أكثر من مئتي وسق.

ـ وفي لفظ آخر: قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة، فأصابهم عوز

الصفحة 213
من الطعام، فقال: يا أبا هريرة! عندك شيء؟ قال: قلت: شيء من تمر في مزود لي، قال: جئ به، قال: فجئت بالمزود، قال: هات نطعاً، فجئت بالنطع فبسطته، فأدخل يده فقبض على التمر فإذا هو إحدى وعشرون تمرة... ثمّ ذكر نحوه(1) .

قلت: نحن لا ننكر أنّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) معاجزه وكراماته الباهرة وقد تواتر كثير منها كتكثير الطعام ببركته وغير ذلك، ولكن وفقاً لما تقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين، والضرورة التي دعت إلى ذلك، غير إنّها تنتهي في ظروفها أو بانتفاء الدواعي التي دعت إليها.

ولكنّنـا ننكر علـى أبي هريرة بقـاء مزوده يزّوده طيلـة ربع قرن أو أكثر ـ هذا إذا اعتمدنا على لفظ الترمذي وأحمد الأوّل، أمّا إذا أخذنا بلفظ أحمد الثاني فتصل المدّة إلى ما يقرب من 55 عاماً، لأنّ غارة جيش الشام على المدينة كانت في وقعة الحرّة سنة 63 هـ ـ بكلّ هذه الكمّيّة من التمر والتي أكل منها هو وحده أكثر من مئتي وسق، والوسق حمل بعير، فضلا عمّا زوّد به الجيوش، وما أعطاه في سبيل الله.

لله ما أعظم بركة هذا المزود الذي لم تبلغ شأوَه نخلة مريم ذات الرطب الجني المتساقط في البركة، فإنّها لم تدم كما دام مزود أبي هريرة الذي دام حتّى بعد انتفاء الغرض منه عندما أصبح يتمخّط بالكتّان.

ولنا بعض الملاحظات على هذا الخبر:

____________

(1) سنن الترمذي ج 5 ص 643 ـ 644 ح 3839، مسند أحمد ج 2 ص 352 و 324، الكامل ـ لابن عديّ ـ ج 3 ص 165، معرفة الصحابة ج 4 ص 1891 ح 4761، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ج 6 ص 109 ـ 111، وجمعها الحافظ ابن كثير في تاريخه ج 6 ص 89 ـ 90 تحت عنوان " ذكر مزود أبي هريرة وتمره "، والذهبي في سير أعلام النبلاء ج 2 ص 630 تحت عنوان " مزود أبي هريرة ".


الصفحة 214
منها: لِمَ لم يكن موت أبي بكر أو عمر إحدى هذه المصائب وهما أفضل من عثمان؟!

وجوابه واضح، لأنّ أبا بكر لم يعره أيّة أهميّة، أو لعلّه كان في هذا الوقت في البحرين، وعمر ضربه وأوجع ظهره بالدرّة، واستردّ منه المال الذي سرقه عندما ولاّه، ومنعه من الحديث، أمّا عثمان فقد أدناه وحباه ووهبه الكثير، ولم يأتِ هذا من فراغ، بل مجازاةً لأبي هريرة الذي تقرّب من بني أُميّة وتملّق لهم ووضع في فضلهم الأحاديث.

ومنها: تضارب متن الحديث، فمرّة يذكر أنّه جاء بتمرات وطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو عليهنّ بالبركة، ومرّة يذكر أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي سأله عمّا إذا كان عنده شيء بعدما كاد الجيش أن يهلك في إحدى الغزوات والتي لا نعلم أيّة غزوة هي، وأُخرى يذكر أنّ المزود معلّق في حقوه حتّى انقطع يوم مقتل عثمان، إلاّ أنّه ذكر في لفظ آخر أنّ المزود علّقه في سقف البيت، ثمّ انتهب يوم أغار أهل الشام.

ومنها: تفرّده بهذا الخبر ولم يروه غيره، وإلاّ لشاع وذاع باعتباره من دلائل النبوّة.

ويُستظهر من ذلك أنّ أبا هريرة حدّث بهذا الخبر في أزمان متعدّدة وأماكن مختلفة لذا جاء الخبر بهذه الألفاظ المتضاربة، إلاّ أنّ الأمر المؤكّد في هذا كلّه أنّ أبا هريرة كذب فيها جميعاً لما تقدّم، سوى أمر واحد وبعنوان ثانوي أظنّه صدق فيه ـ وظنّ الألمعي يقين ـ وهو بقاؤه حيّاً حتّى بعد واقعة الحرّة سنة 63 هـ لما جاء في رواية أحمد الثانية، وعلى هذا فإنّ ما ذكر من أنّه مات في ذي الحجّة سنة 59 هـ غير صحيح.

ومن بين هذا وذاك تلمع لنا دقيقة مهمّة وهي: إنّ أبا هريرة كان آخر

الصفحة 215
الثلاثة ـ وهم، سمرة بن جندب وأبو محذورة وأبو هريرة ـ الذين قال في حقّهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : آخركم موتاً في النار(1) ، لأنّ سمرة بن جندب مات في سنة 58 هـ(2) ، وأبو محذورة مات سنة 59 هـ(3) وفيها أيضاً مات أبو هريرة كما هو مشهور.

وحتّى في هذا نظر، وذلك لما رواه عبد الرزاق والبيهقي، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال لأبي هريرة وسمرة بن جندب ولرجل آخر: آخركم موتاً في النار، فمات الرجل قبلهما وبقي أبو هريرة وسمرة، فكان الرجل إذا أراد أن يغيظ أبا هريرة يقول: مات سمرة، فإذا سمعه غشي عليه وصعق(4) ، وهذا يعني أنّ أبا محذورة مات قبل سمرة.

وكذلك لِما رواه الفسوي والبيهقي، عن أوس بن خالد، قال: كنت

____________

(1) رواه الأشيب البغدادي شيخ أحمد في الرواية في جزئه ص 58 ح 31، والحافظ يحيى بن معين في تاريخه ج 1 ص 154 رقم 962 برواية محمّد بن حاتم الدوري، والبخاري في تاريخه الصغير ج 1 ص 106 ـ 107 من عدّة طرق، والحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ ج 3 ص 353، والطبراني في المعجم الكبير ج 7 ص 177 ح 6748، ورواه في المعجم الأوسط ج 6 ص 283 ح 6206 عن أبي هريرة بلفظ: (كنّا سبعة في بيت، فدخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: آخركم موتاً في النار، فلم يبقَ إلاّ أنا وسمرة) ، وأخرجه ابن أبي حاتم في العلل ج 1 ص 351 رقم 1037، والدولابي في الكنى والأسماء ج 1 ص 115 ـ 116، والبيهقي في الدلائل ج 6 ص 458 ـ 459، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ج 2 ص 654، والقاضي عياض في الشفا ج 1 ص 339، وجمع ألفاظ الحديث الحافط ابن كثير في تاريخه ج 6 ص 170، وكذا الذهبي في السير ج 3 ص 184 ـ 185.

(2) الاستيعاب ج 2 ص 654، تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 362، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 186.

(3) طبقات ابن سعد ج 6 ص 7، الاستيعاب ج 4 ص 1752، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 118.

(4) البداية والنهاية ج 6 ص 170 عن عبد الرزاق، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ج 6 ص 459.


الصفحة 216
إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن سمرة، وإذا قدمت على سمرة سألني عن أبي محذورة، فقلت لأبي محذورة: ما لك إذا قدمت عليك سألتني عن سمرة، وإذا قدمت على سمرة سألني عنك؟!

فقال: إنّي كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت، فجاء النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: آخركم موتاً في النار(1) .

والذي يؤكّـد أنّ أبـا محذورة مـات قبلهمـا مـا رواه البيهقي، بإسناده عـن أنس بن حكيم الضبّي، قـال: كنت أمـرّ بالمدينـة فألقى أبـا هريـرة فـلا يبدأ بشيء يسألني حتّى يسألني عـن سمرة، فإذا أخبرته بحياته وصحّته فرح، فقال: إنّا كنّا عشرة في بيت، وإنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام فينا فنظر في وجوهنا وأخذ بعضادتي البيت، ثمّ قال: آخركم موتاً في النار، فقد مات منّا ثمانية، ولم يبق غيري وغيره فليس شيء أحبّ إليّ من أن أكون ذقت الموت(2) .

وبهذا نجزم أنّ أبا محذورة مات قبلهما، فلم يبق إلاّ سمرة وأبا هريرة، وبما أنّ سمرة قد مات سنة 58، كما تقدّم عن ابن عبد البرّ وابن الأثير والذهبي، فلم يبق في الميدان إلاّ بطلنا أبا هريرة، الذي بقي حيّاً إلى ما بعد وقعة الحرّة، وذلك في سنة 63 هـ لما تقدّم من رواية أحمد الثانية، ولو تنزّلنا عن هذا وقلنا بالمشهور فسيبقى هو أيضاً آخر الثلاثة موتاً، لأنّه مات في ذي الحجّة من سنة 59 هـ (3) .

____________

(1) المعرفة والتاريخ ج 3 ص 353، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ج 6 ص 459، تاريخ ابن كثير ج 6 ص 170.

(2) دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ج 6 ص 458.

(3) تاريخ دمشق ج 67 ص 390، الاستيعاب ج 4 ص 1772، تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 366، تاريخ ابن كثير ج 8 أحداث سنة 59 هـ، وأغلب من أرخّ أحداث سنة 59 هـ.


الصفحة 217
فيكون مصداقاً لحديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الذي نظنّ بل نكاد نقطع أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قال لهم ما قال إلاّ لمعرفته لما بينهم من المجانسة والمشاكلة في الأفعال والنيّات، وعلمه بسوء طَويّاتهم وخبث سرائرهم، وما تؤول إليه عاقبة أمرهم.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّهم كانوا عشرة كما ورد في بعض الطرق أو ثمانية، فليس بالضرورة أن يكون آخرهم فرداً واحداً بشخصه وإنّما آخرهم بالجملة، أي بعضاً منهم كثلاثة أو اثنين مع ملاحظة تقارب وفياتهم، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : آخركم موتاً، نوع من التخصيص المجمل، لا فرداً مميّزاً بشخصه وهو نوع من الدوران بين الأقل والأكثر الخالي من القرينة المتّصلة، ولا قرينة في البين إلاّ بعض القرائن اللبّية المنفصلة التي تؤيّد ما أفدناه، أمّا إذا أخذنا بلفظ الثلاثة، فهو نوع من الشبهة المحصورة المنجّزة حكماً وأثراً، ويؤيّده قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبي هريرة والرجّال بن عنفوة والفرات بن حيّان عندما خرجوا من مجلسه ذات يوم، فقال (صلى الله عليه وسلم) مشيراً إليهم: لضرس أحدكم في النار أعظم من أُحد، وإنّ معه لقفا غادر(1) .

ولا ينفع تمحّل المتمحّلين من حمل إرادة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على أحدهم لما ذكرنا، وهو هنا أبين.

17 ـ روى أحمد ـ واللفظ له ـ ومسلم والطبراني وابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر وغيرهم، عن أبي كثير يزيد بن عبد الرحمن، أنّه قال: حدّثني

____________

(1) الاستيعاب ج 3 ص 1258، الإصابة ج 5 ص 358، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ج 4 ص 283 ح 4434 نحوه إلاّ أنّه ذكر أربعة، وهم: أبو هريرة وأبو أروى الدوسي والطفيل بن عمر الدوسي ورجّال بن غنمويه، الإتحاف ج 7 ص 181 نقلا عن المؤتلف والمختلف ـ للدارقطني ـ، إحياء علوم الدين ـ للغزّالي ـ ج 3 ص 106، مجمع الزوائد ج 8 ص 290.


الصفحة 218
أبو هريرة وقال لنا: والله ما خلق الله مؤمناً يسمع بي ولا يراني إلاّ أحبّني، قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟! قال: إنّ أُمّي كانت امرأة مشركة، وإنّي كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى عليّ، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما أكره، فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إنّي كنت أدعو أُمّي إلى الإسلام وكانت تأبى عليّ، وإنّي دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أُمّ أبي هريرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : اللّهم اهد أُمّ أبي هريرة، فخرجت أعدو أُبشّرها بدعاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلمّا أتيت الباب إذا هو مجاف وسمعتُ خضخضة الماء، وسمِعتْ خشف رجلي، يعني وقعها، فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثمّ فتحت الباب وقد لبست درعها وعجلت عن خمارها، فقالت: إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعاءك وقد هدى أُمّ أبي هريرة، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يحبّبني أنا وأُمّي إلى عباده المؤمنين ويحبّبهم إلينا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : اللّهم حبّب عبيدك هذا وأُمّه إلى عبادك المؤمنين وحبّبهم إليهما، فما خلق الله مؤمناً يسمع بي ولا يراني أو يرى أُمّي إلاّ وهو يحبّني(1) .

أقول: كذب والله أبو هريرة كذباً شنيعاً عريضاً لوجوه عدّة:

منها: المعروف بين الخاصّة والعامّة أنّ من يهاجر إلى المدينة فهو

____________

(1) مسند أحمد ج 2 ص 319 ـ 320، صحيح مسلم ج 7 ص 165 ـ 166 كتاب الفضائل، المعجم الكبير ج 25 ص 40 ـ 41 ح 76، طبقات ابن سعد ج 4 ص 244، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ج 4 ص 1889 ح 4756، تاريخ دمشق ج 67 ص 324 ـ 326.


الصفحة 219
يهاجر إلى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فما الذي جعل أُمّ أبي هريرة مستثناة من هذه القاعدة وتهاجر من اليمن إلى المدينة وتبقى على كفرها مع بغض لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يبدو من سبابها له (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!

ومنها: ما اشتهر، بل استفاض، بل تواتر أنّ أبا هريرة كان من سكنة الصفّة، بل أشهر من سكنها(1) لطول فترة سكناه وقصر فترة سكنى غيره، لأنّ جُلّهم ممّن كان يعشق الاستشهاد في سبيل الله وأغلبهم استشهد كالقرّاء السبعين وغيرهم، ولم يُعرف أنّ له بيتاً يسكن فيه مع أُمّه في ذلك الحين حيث تغتسل فيه.

ومنها: إنّه لم يذكر أحد من الصحابة ولا غيرهم أنّ له أُمّاً مهاجرة سواه.

ومنها: إنّ كل من ذكر أُمّ أبي هريرة أو ترجمها إنّما ذكرها استناداً إلى هذا الخبر الذي تفرّد به أبو هريرة ليس إلاّ، ومن سمّاها فإنّما استند على قول عمر له عندما عزله عن البحرين وضربه وجبهه بقوله: (ما رجّعت بك أُميمة إلاّ لرعية الحمر) ، وهذا غاية السباب، لأنّ (رجّعت) تعني (روّثت) وهذا من مختصّات الدواب.

علماً بأنّه لا يفيدنا سوى معرفة اسمها لا أكثر، وليس بعزيز على أبي هريرة أن يذكر اسمها، أو غيره ممّن كان معه من الدوسيّين كابن عمّه المتقدّم ذكره، ولم يعرف تاريخ وفاتها أو أيّ شيء من أخبارها.

ومنها: لِمَ لم يكن دعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) طولياً يشمل أولاده وذرّيّته حتّى ولو بعد حين؟!

____________

(1) حلية الأولياء ج 1 ص 376.


الصفحة 220
وآخرها عجباً ونكارة: قَسمه بالله عزّ وجلّ أنّه (ما خلق الله مؤمناً يسمع بي ولا يراني أو يرى أُمّي إلاّ أحبّني) .

ويردّه أنّ كثيراً من الصحابة والتابعين ممّن رأى أبا هريرة وسمع به ما كانوا يحبونه، بل كانوا يحتقرونه، كعلي (عليه السلام) ، وعمر الذي نبزه بعدوّ الله وكتابه كما تقدّم، وعائشة، وأُمّ سلمة، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وإبراهيم النخعي، وأبو حنيفة وكثير من أصحابه ردّوا حديثه وأنكروا عليه فضلا عن غيرهم، بل إنّ جُلّ الكوفيّين كانوا لا يحبّونه كما عُلم تاريخياً.

ومن المعلوم ضرورة أنّ للمحبّة موجبات ودواع ترتبط بما في الشخص المحبوب من مزايا وسجايا وسمات وفضائل وملكات أوجبت له هذه المحبوبية في نفوس المحبّين، إلاّ أنّ أبا هريرة خليٌّ من كلّ ذلك، فما الذي أوجبها له؟!

ـ ألطفيليّته وفضوله في طرق بيوتات الصحابة كي يطعموه، وتعرّضه لوجوه الصحابة طالباً منهم أن يستقرئوه بعض الآيات، ولا همّ له إلاّ أن يصحبوه معهم ليطعموه؟! إلاّ أنّهم لعلمهم بدخيلته فقد كانوا يقرئونه ويتركونه لشأنه كما فعل أبو بكر وعمر(1) ؟! والذي يظهر من حديث البخاري وغيره أنّهم ما فعلوا معه ذلك إلاّ بعد أن ملّوا منه ومن تطفّله.

ولتماديه في هذا السلوك الشائن قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا أبا هريرة زر غبّاً تزدد حبّاً، كما رواه جمع من الحفّاظّ(2) ، ولمّا لم ينفع معه كلّ

____________

(1) صحيح البخاري ج 7 ص 121 ح 2 كتاب الأطعمة، و ج 8 ص 172 ح 39 كتاب الرقاق.

(2) المعجم الأوسط ج 2 ص 243 ح 1775، حلية الأولياء ج 3 ص 322، مجمع الزوائد ج 8 ص 75.


الصفحة 221
هذا أبعده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد غزوة حنين إلى البحرين.

كان الأَولى له أن يطرق أبواب الله طلباً للرزق وسعياً وراءه حفاظاً على ماء وجهه وكرامته إن كانت له ثَمّ، بدلا من طرق أبواب المهاجرين والأنصار، ألم يعتبر بالمهاجرين؟! ألم يسمع بأنّ عبد الرحمن بن عوف في أوّل يوم وصل المدينة مهاجراً قال: دلّوني على السوق؟! بعد أن عُرض عليه السكن والمال وحتّى الزوجة من قبل سعد بن الربيع، ولكنّه رفض وذهب إلى السوق ليعمل كما هو مشهور...

ـ أم لوضاعته وسلوكه الصبياني، فقد أفنى شبابه برعي الحمر واللعب مـع الهررة حتّى بعـد أن قـدم المدينة، كما يقول هو في بعض أخباره؟! وقـد رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه هرّة يحملها معه في كمّه، واستمرّ في سلوكـه الصـبياني حتّى بعـد أن أصـبح أميـراً، ولـم تأخـذ بيـده الإمـارة إلـى مصـافّ الكـرام، فقـد روى ابن سـعد وابن قتيبـة وابن عسـاكر وغيرهم، عـن أبي رافع، قـال: كان مروان ربّما استخلف أبـا هريرة على المدينـة، فيركب حمـاراً قد شدّ عليـه برذعة وفي رأسـه خُلبة مـن ليف، فيسير فليقى الرجـل فيقول: الطريق قد جـاء الأمير، وربّما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب، فلا يشعرون بشيء حتّى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه فيفزع الصبيان فيفرّون(1) ، وكان يلعب السُّدَّر وهي لعبة يُقامر بها(2) ، إلى غير ذلك.

____________

(1) طبقات ابن سعد ج 4 ص 251، المعارف ص 158، تاريخ دمشق ج 67 ص 372.

(2) النهاية ـ لابن الأثير ـ ج 2 ص 354.


الصفحة 222
ولا ننسى ما وصفته به عائشة بكونه رجلا مهذاراً(1) .

ـ أم لجبنه وفراره من الزحف كما يقول هو في ما رواه الحاكم بسنده عنه، قال: لقد كان بيني وبين ابن عمّ لي كلام، فقال: إلاّ فرارك يوم مؤتة، فما دريت أي شيء أقول له(2) ؟!

ولم يعرف له موقف شجاع سوى موقفه عندما كان يُفلّي ثوبه من البراغيث التي يلتقطها ويدع القمل، فقال له أنس في ذلك، فقال: أبدأ بالفرسان وأكرّ على الرجّالة(3) .

ـ أم لانتهازيته وتحيّنه للفرص وميله مع ميزان القوى أينما مال في سبيل تحقيق مآربه مع قلّة العناء في ذلك؟! وبدا هذا الأمر جليّاً في وقعة صفّين، فقد كان وقت الصلاة يصلّي خلف علي (عليه السلام) ، ويحضر طعام معاوية، وعند القتال يصعد على تلّ، فقيل له في ذلك، فقال: الصلاة خلف علي أتمّ [أفضل]، وطعام [ومضيرة] معاوية أدسم، والصعود على التلّ أسلم(4) .

ثمّ بدا ذلك الأمر أشدّ وضوحاً عندما آلت الأُمور إلى صالح بني أُميّة.

ـ أم لخيانته وعدم أمانته التي ضربه عليها عمر حتّى أدمى ظهره عندما سرق مال المسلمين في ولايته كما تقدّم؟!

ـ أم لقذارته وقلّة نظافته وعدم اشمئزاز نفسه ممّا ينفّرها بحسب الطبيعة؟! كما هو واضح في حديثَي الذباب والبراغيث المتقدّمين.

____________

(1) الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ ج 2 ص 348.

(2) المستدرك ج 3 ص 45 ح 4356.

(3) المستطرف ج 2 ص 115.

(4) ربيع الأبرار ج 2 ص 701، ثمار القلوب ص 111 ـ 112، السيرة الحلبية ج 3 ص 367، شذرات الذهب ج 1 ص 64.


الصفحة 223
ـ أم لمعاداته وليّ الله (عليه السلام) وموالاته لأعدائه؟! فقد روى سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عمر بن عبد الغفّار، أنّ أبا هريرة لمّا قدِم الكوفة مع معاوية، كان يجلس بالعشيّات بباب كندة، ويجلس الناس إليه، فجاء شابّ من الكوفة، فجلس إليه، فقال: يا أبا هريرة! أنشدك الله أسمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لعليّ بن أبي طالب: اللّهم والِ من والاه وعاد من عاده؟!

فقال: اللّهم نعم.

فقال: فأشهد بالله لقد واليتَ عدوّه، وعاديت وليّه! ثمّ قام عنه(1) .

ـ أم لافترائه على علي (عليه السلام) ؟! فيما رواه الأعمش قال: لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة، جاء إلى مسجد الكوفة، فلمّا رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثمّ ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق أتزعمون أنّي أكذب على الله ورسوله، وأُحرق نفسي بالنار؟! والله لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إنّ لكلّ نبيّ حرماً، وإنّ حرمي المدينة ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد بالله أنّ عليّاً أحدث فيها ; فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاّه إمارة المدينة(2) .

ـ أم لتلوّنه في فنون الكذب على الله ورسوله والمؤمنين كتلوّن الحرباء كما هو واضح ممّا تقدّم؟!

أترى بعد كلّ ما تلوناه عليك، هل هناك من داع يفرض علينا حبّاً لأبي هريرة أو احتراماً نكنّه له؟!

____________

(1) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 68.

(2) شرح ابن أبي الحديد ج 4 ص 67.


الصفحة 224
نعم، حبّ الحمقى والمغفّلين يعمي ويصمّ عن كلّ هذا.

أليس من العجيب حقّاً أن تجد بعضَ مَن يحسبون على حملة العلم، والذين لم يحملوه حمل وعي ودراية وإنّما كالذي يحمل أسفاراً، يعدّ هذه المكذبة من هذا الكيذبان، بل المخرقة من هذا الممخرق من دلائل النبوّة الخالدة، كالحافظ ابن كثير الذي يقول: وهذا الحديث من دلائل النبوّة، فإنّ أبا هريرة محبّبٌ إلى جميع الناس(1) ، أليس هذا غلوّاً في الرأي وشططاً في القول؟!

ألا يكفي واقع الحال في تكذيب ابن كثير وغيره ممّن يرى رأيه؟! فنحن على علم بكثير من فضلاء ومحقّقي أهل السُنّة والجماعة ممّن التقيناهم أو سمعنا وقرأنا عنهم، كان رأيهم سيّئاً في أبي هريرة ولم يَرَوْهُ أهلا للمحبّة والاحترام، كما إنّ هناك آلاف الآلاف من المؤمنين الأحياء لا يرون هذه المحبّة له، بل يحتقرونه ويرذّلونه ونحن منهم كما هو واضح من خلال الصفحات المتقدّمة فضلا عن الأموات.

إن قيل: هذا عليكم لا لكم، وهو دليل على عدم إيمانكم.

قلنا: هذا مردود من وجهين:

أوّلا: قد علم ضرورة إيمان الصفوة ممّن تقدّم ذكرهم من الصحابة والتابعين وأتباعهم وغيرهم كأئمّة أهل البيت (عليه السلام) ، وقد تبيّن موقفهم منه كما تقدّم من نصوصهم وأقوالهم، ولا سيما إمام المتّقين وسيّدهم ووليّ المؤمنين وأميرهم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أوّل المؤمنين إيماناً وأسبقهم

____________

(1) البداية والنهاية ج 8 ص 85.


الصفحة 225
إسلاماً(1) ، هل يستطيع ابن كثير أو من هو على شاكلته أن ينكر إيمان علي ابن أبي طالب أو من يرى رأيه من الصحابة في أبي هريرة؟!

ثانياً: لا يخفى على ذوي الألباب بأنّ للإيمان شقّين، أوّلهما: باطني ارتباطيّ بين العبد وربّه وهو المطّلع سبحانه على حقيقة ما يؤمن به العبد، والعالم بما يكنّه قلبه، فلا ابن كثير ولا غيره يستطيع أن يحدّد ماهيّة إيمان العبد.

والثاني: هو ما يُكتفى به من العبد من ظاهر الإسلام وبه تحقن الدماء، وتدرأ الشبهات، وعليه تجرى الحدود والشهادات والفرائض والمواريث والعقود والمناكح، وبذلك جاء الصادع المشرّع (صلى الله عليه وآله وسلم) وجرت عليه الشريعة السمحة، وهو قول الشهادتين، والنصوص بذلك متضافرة كحديث أُسامة عندما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلاّ الله، بعدما علاه بالسيف، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) له: أشققت عن قلبه حتّى تعلم قالها أم لا(2) ؟!

ونقول نحن: إنّا نشهد ألا إله إلاّ الله، ونوحّده بالوحدة الحقّة الصرفة المطلقة المنزّهة عن الاثنينية والمثلية، والتكرّر والتكثّر، والتجزئة والتركيب، والزمان والمكان، والتحيّز والجهة، والحلول والاتّحاد، والضدّ، وحلول الحوادث فيه، وكلّ ما لا يليق بساحة قدسه تعالى.

كما نؤمن بأنّ صفاته الذاتية هي عين ذاته، ولم نقل بزيادتها ونجعله ثـامن ثمـانية، أو نعطّله عنهـا، كمـا فعل غيرنا، ونؤمن بصفاته الفعلية، وأنّها منتزعة من مقام فعله سبحانه، ونؤمن بعدله وننفي القبح والظلم عنه،

____________

(1) هذه نصوص وآثار ثابتة بعضها متواتر لفظاً وبعضها متواتر معنىً، فاستغنينا بذلك عن تخريجها.

(2) متّفق عليه، رواه مسلم ج 1 ص 67 ـ 68، والبخاري ج 5 ص 296 ح 279.


الصفحة 226
وأنّه يفعل لغرض وحكمة، وأنّه مريد للطاعة، ويكره المعصية، ونؤمن بقضائه وقدره إيمانـاً غير سـالب للإرادة، ولـم يكلّفنـا مـا لا طاقة لنا به، كمـا ونؤمـن بلطفـه ووعده ووعيده، وبعثـه ونشوره، وحسـابه وعقابه، وجنّته ونـاره.

ونشهد أنّ محمّداً عبده وسيّد رسله وخاتم أنبيائه، المبعوث رحمة للعالمين، المعصوم عن الكبائر والصغائر، وعن كلّ ما يشين، قبل البعثة وبعدها، وجوباً ولطفاً، حتّى يحصل الوثوق والغرض، ونؤمن بأنّه تعالى أنزل عليه كتاباً عزيزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، حجّة على خلقه بتبليغ رسالته، آمراً بطاعته، وناهياً عن معصيته، ومحلّلاً حلاله، ومحرّماً حرامه، ومنفّذاً أحكامه، ومقيماً حدوده، فبلّغ رسالة ربّه، وصدع بأمره، وصبر على حكمه، وأُوذيَ في جنبه، وجاهد في سبيله، ونصح لأُمّته، ولم يتركها هملا حتّى عيّن الحجّة عليها من بعده، وعبد الله حتّى أتاه اليقين، فصلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين.

هذا ما نؤمن به ونعتقد به، ونحن نتحدّى شياطين الإنس والجنّ على أن يردّوا حرفاً ممّا ذكرناه وقلنا به.

ومع هذا نرى أنّ الموقف من أبي هريرة ليس كما يتمنّاه ابن كثير ومن لفّ لفّه.

فمن التمس لنا عذراً في ما ذكرناه لما تقدّم دلّ ذلك على وفور عقله، وإنصاف حكمه وسعة أُفقه في التحرّر من جمود التقليد الأعمى في عبادة الإشخاص، وإلاّ فليرم بنفسه من حالق.


الصفحة 227

علاقة أبي هريرة بكعب الأحبار:

وكنّا قد أشرنا في ما تقدّم إلى علاقة كعب الأحبار بأبي هريرة ومنعهما معاً من الحديث من قبل عثمان أو عمر، واستظهرنا بأنّ الصحابة كانوا على علم بما ينسبه أبو هريرة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديث كعب، ويؤيّد ذلك ما رواه الدارمي وابن سعد والحاكم وصحّحه وابن عساكر، عن عبد الله بن شقيق، قال: جاء أبو هريرة إلى كعب يسأل عنه، وكعبٌ في القوم، فقال كعب: ما تريد منه؟

فقال: أما إنّي لا أعرف أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يكون أحفظ لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منّي.

فقال كعب: أما إنّك لم تجد طالب شيء إلاّ سيشبع منه يوماً من الدهر، إلاّ طالب علم أو طالب دنيا.

فقال: أنت كعب؟

قال: نعم.

قال: لمثل هذا جئتك(1) .

قلت: إقرأ النصّ وتدبّر.

وروى أبو داود الطيالسي، عن أبي هريرة، أنّه لقي كعباً وجعل يحدّثه ويسائله، فقال كعب: ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة(2) .

قلت: لكنّ كعباً لم يخبرنا من أين نزل هذا العلم بما في التوراة على

____________

(1) سنن الدارمي ج 1 ص 65 ح 288، طبقات ابن سعد ج 4 ص 247، مستدرك الحاكم ج 1 ص 170 ح 313، تاريخ دمشق ج 67 ص 341.

(2) تاريخ دمشق ج 67 ص 343، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 600.