الصفحة 185
نحب حياة يزيد ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه.

  • - أما أعظم ما فعله فهو استخلافه يزيد وهو الخمير السكير، وسيأتيك خبره مع وجوه الصحابة وأفضال القوم.

    إن بني أمية يبحثون عن هذه الفرصة منذ أن علاهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيف ونصره الله عليهم وهم مشركون وأظهره على جزيرة العرب بعد أن أكرمه بالنبوة وحباه بالرسالة، ولا يخفى عداء بني أمية لبني هاشم، فكيف بهم إذا كان النبي من بني هاشم والأوصياء والخلفاء منهم، وما كان في خلد معاوية يوم استقرت له السلطة وتم له الملك أن يتخذ ابنه ولي عهده ويأخذ له البيعة ويؤسس حكومة أموية مستقرة في أبناء بيته، فلم يزل يروض الناس لبيعة يزيد سبع سنين يرسل للأقطار بعد أن بويع له بالشام وسافر معاوية بنفسه إلى المدينة ومكة ساعيا وراء البيعة لابنه.

    ونختم المطلب بقول الحسن البصري عندما سئل عن معاوية، قال: - أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منها وفيهم بقايا الصحابة وذوي الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجرا ويل له من حجر " قالها مرتين " (1) أقول ربما يداري الرجل بعض أفعال معاوية وإلا فالموبقات كثيرة حدث عنها ولا حرج.

    ____________

    (1) - الطبري ج 4 ص 208 - ابن كثير ج 8 ص 33.


    الصفحة 186

    الصفحة 187

    الفصل السابع
    كربلاء امتداد للسقيفة


    الصفحة 188

    الصفحة 189

    كيف يرون معاوية ويزيد:

    في إحدى المرات التقى بعض الإخوة الشيعة مع مجموعة وهابية صدفة وكنت موجودا ولم تكن الرؤية واضحة لدي وإن كانت ملامح الصواب بدأت تلوح لي، ويبدو أن هؤلاء الوهابية كان لهم حوار سابق مع الشيعة فبدأوا معهم النقاش حول قضية الحسين (ع) وكربلاء ورأيت الوهابية وقد احتوشوا الإخوة والشرر يتطاير من أعينهم وكأنهم يريدون القتال، تحدث أحد الشيعة عن عدم أحقية معاوية في تنصيب يزيد خليفة للمسلمين فذكر اسم معاوية مجردا من الترضي عليه فصرخ أحدهم في وجهه قائلا: -

    قل رضي الله عنه هل هو أخوك حتى تذكره مجردا؟!.

    فرد عليه الشيعي: هل أنت وأنا أفضل من علي (ع) وأكثر فهما منه؟ فشمر أحدهم عن ساعديه وكأنه ينوي ضربه وهو يقول: إسمعوا هذا هو ديدن الشيعة يشككون في كل شئ وهذا الرجل يسألنا سؤالا بديهيا والإجابة عنه واضحة فلا أحد يرى أن هنالك أفضل من علي سوى الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم.

    فالتفت إليه الشيعي وقال، أولا فليتكلم أحدكم، ثانيا: إذا أردت الحديث فافهم أولا ما أقول ثم تحدث، وثالثا إذا كان علي (ع) أفضل منا وهو كذلك بلا شك فهو أدرى منا بالأصول أليس كذلك؟!

    قالوا بحذر: نعم فقال لهم: علي حارب معاوية، ليس فقط لم يترض عليه كما تطالبونني بل قاتلة أشد قتال ولو ظفر به لألحقه بأجداده، قال أحدهم وهو يمضغ مسواكا: نقول كما قال السلف تلك دماء عصم الله منها سيوفنا فلنعصم ألسنتنا، ونحن نرى معاوية صحابيا جليلا وأنه فعل خيرا عندما نصب يزيد ونرى أن خروج الحسين بن علي كان خطأ منه وقد تاب يزيد.


    الصفحة 190
    قال الشيعي: قولك فنعصم منها ألسنتنا لا ينطبق عليك لأنك الآن تقول أن معاوية صحابي جليل إذا لقد أخطأ علي في حربه لمعاوية ثم من قال لك أنك لن تسأل عن تلك الدماء. لا بد أن يكون لكم موقف تجاه ما جرى، فهما جهتان إحداهما على حق والأخرى على باطل ووقوفك الآن في وجهي اشتراك في تلك (الفتنة) كما تدعي.

    أما عن الحسين بن علي فهو لم يخطئ كما تقول فهو كما قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيد شباب أهل الجنة وهو من أهل بيت النبوة وتعلم من جده كيف ينصر الحق، ويزيد تعلم من أبيه ما تعلم كما نقلت إلينا كتب التاريخ، قاطعه أحد الوهابية: يجب على المسلمين أن يقتلوا هؤلاء الشيعة أينما وجدوهم فإنهم فتنة.

    قال له أحد الشيعة وهو يبتسم: هكذا دائما كان أعداء الشيعة بأسم الحق يقتلون الحق وباسم الفتنة يحجبون الناس عن الحقائق وبالنتيجة أنت لا تفترق عن سلفك كثيرا، إنك تربية ذلك المنهج الذي تبناه معاوية ويزيد وآل أمية ومن إليهم.

    عندما وصل الحوار إلى هذا الحد أخذت أحدهم على جانب وأخبرته بأني لست شيعيا ولكني أسمع بهم فمن هم وماذا يقولون ولماذا تهاجمونهم بهذه الطريقة.

    فقال لي: يا أخي أبعدك الله عن أمثال هؤلاء إنهم مشركون زنادقة يسبون الصحابة ويقولون أن جبرائيل خان الأمانة وأعطى الرسالة لمحمد وهي في الأساس لعلي ابن أبي طالب كما أنهم يعبدون الحجارة ويقولون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان...

    قلت مندهشا: من الذي قال لك؟!

    قال مفتخرا: نحن نعرفهم جيدا..

    أحسست بغثيان بسبب كذب هؤلاء القوم. لقد قرأت بعض كتب الشيعة التي ألفها كبار علمائهم ورأيت بعض الإخوة الشيعة، لم أقرأ أو أسمع ما قاله هذا الوهابي.


    الصفحة 191
    ولا أدري كيف يدعون نصرة الحق وهم يكذبون بل يبالغون فيه إلى حد يؤسف له، صرخت في وجهه بلا وعي مني: ألا يمكنك أن تنصر الحق الذي تدعيه بدون أن تكذب وتفتري على القوم. فارتبك متلعثما: كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟! قلت:

    أنت الذي أجبرتني على ذلك أنا قرأت للشيعة وجلست معهم وأعرف جيدا ما يقولون وما ذكرته لي بعيد عنهم كل البعد فهم يوقرون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر مني ومنك ويحترمون المقدسات الدينية ويؤمنون بالله ويدعونه ليل نهار، ثم إن كلامك هذا متناقض فهم إذا كانوا يؤمنون بجبرائيل كونه يحمل وحي الرسالة للرسول فكيف يعبدون الحجر، ثم إن مثل هذه التهم صارت قديمة لا يصدقها أحد والناس أكبر وعيا من أن تنطلي عليهم هذه الأكاذيب. قال: يبدوا أنك منهم! قلت:

    لست شيعيا ولو كنت فلا شئ يمنعني من التصريح بذلك لكنني الآن فقط عرفتكم، أنتم لا تستطيعون الدفاع عن باطلكم إلا عن طريق الكذب، ومما يحزنني أنني كنت أعتقد بأن أنصار السنة " الوهابية " هم أكثر الناس ورعا وتقوى، لكن الآن تجليتم لي بحقيقتكم. أدرت له ظهري كيما أرجع إلى الإخوة فقال لي: على كل حال يجب ألا تتأثر بكلام هؤلاء فإن في حديثهم سحرا يؤثر، ضحكت وقلت له: هذا ما قالته قريش للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما جاء بالقرآن، ورجعت إليه مرة أخرى قائلا له: - دعنا من كل ذلك فأنا أسألك حول قضية الحسين بن علي كمسألة واضحة ماذا تقولون فيها؟ سكت وكأنه يبحث عن إجابة ثم قال: لماذا تبحثون عن هذه الأشياء؟!

    قلت: أجب على سؤالي ودع عنك السبب.

    قال: معاوية صحابي جليل، ويزيد كان أميرا على المسلمين والحسين خرج على ولي أمر زمانه، ولو كان يزيد قد أخطأ فربما يكون قد تاب فلا داعي لأن نتحدث حوله ونشهر به.

    قلت مختتما هذا الحوار الذي لن يثمر عن شئ: أنت بهذا تلغي الآيات القرآنية التي شهرت بقابيل ونمرود وفرعون والسامري... وغيرهم من الطغاة أعداء الرسالات،

    الصفحة 192
    وبقولك هذا تبرر لكل مخطئ في هذه الدنيا لأنه ربما يتوب، وبهذه العقلية تعطل الدين ويصبح كل التاريخ بلا فائدة، كلمة أخيرة أقولها لك أنتم لا ترتقون لمستوى الدفاع عن شريعة السماء لأنها لا تحتاج إلى مراوغة وكذب وافتراء وحديثي معك الآن إذا لم أصبح بسببه شيعيا فهو يبعدني عنكم أكثر فأكثر.

    وحاول أن يعتذر قائلا: على كل حال نصيحة لك لا تقرأ لهؤلاء ونحن سنكون بالمرصاد لهم.

    قلت: إذا كانوا على حق فالله ناصرهم وإن كانوا على باطل فأنتم أكثر بطلانا منهم، وتركته وانصرفت راجعا إلى الإخوة فوجدت أن الوهابية لم تزل تدافع عن يزيد ومعاوية فتركتهم وانصرفت إلى بعض أشغالي أسفا على حال هؤلاء المساكين الذين يرددون ما يقوله أحبارهم بلا وعي ولا فهم.

    مع الحسين (ع):

    قضية الحسين (ع) من أولى القضايا التي أخذت مساحة من دواخلي وعمقت جرحا أحسست به منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الحقائق تتكشف مزيحة جهلا ووهما كنا نعيشه بإيعاز وتخطيط ذكي من أولئك الذين حرفوا الحقائق وفقا لأهوائهم ورغباتهم وبتنا نحن نعيش في قصور من زجاج نحلم بأن يعيد التأريخ نفسه لنعيش تلك الحياة المعصومة التي كان يعيشها الصحابة والرعيل الأول من التابعين الذين عاشوا في صدر الإسلام، ولا ننسى دور علمائنا الذين ظلوا يرددون ما وجدوه في التاريخ دون نظر وتحليل لما جرى فيه.

    وقضية الحسين (ع) من القضايا التي أراد أعداء الإسلام أن لا تبرز للناس لأنها تمثل حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل وتعتبر من أنصح صفحات التاريخ في قضية الجهاد والتضحية في سبيل رسالة السماء.


    الصفحة 193
    كثيرا ما كنت أسمع في مجتمعي السوداني أن فلانا (مظلوم ظلم الحسن والحسين) ولكن من ظلمهم وكيف؟ وما هو أساس ذلك الظلم؟ وهل الحسن والحسين من الشخصيات الهامشية في الإسلام حتى لا نقف عند ما جرى لهم من هذه الأمة التي لم تحفظ النبي فيهم؟!.

    غاية ما تعلمناه في مدارسنا أنه كانت هنالك مذبحة في منطقة كربلاء بطلها الحسين بن علي بدون ذكر لأسباب أو نتائج، ويبدو أن أهل السنة والجماعة لديهم قناعة بفتوى شريح القاضي " الحسين خرج عن حده فليقتل بسيف جده " أو أنهم يدفنون رؤوسهم في الرمال حياء مما فعله سلفهم (الصالح) في أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

    استوقفتني قضية الحسين (ع) كثيرا كما استوقفتني قضية أمه الزهراء وأنا أبحث عن جهة الحق، قرأت وسمعت عن قصة الحسين (ع) وعشت معه تارة أبكي وأخرى ألعن فيها من ظلمه وتارة أتأمل في واقع أمة كهذه، لم أسمع بمثل هذه البشاعة من قبل، أو سمعت ولكن كالعادة مخدرا بمقولة أن ما جرى في صدر الإسلام مرورا بالأمويين والعباسيين لا يجب علينا أن نبحث فيه، ولا أن نتساءل ما هو جذر المشكلة، لأن ذلك سيقودنا إلى نتائج ربما تخدش في أولئك المقدسين مما يجعل غضب الرحمن يصب علينا صبا.

    وقضية الحسين (ع) ستضعنا أمام أسئلة كثيرة وعلامات استفهام الإجابة عليها ستفضي بنا إلى أن الحسين كقضية لم يقتل في كربلاء، بل إن أصل القضية يرجع إلى ما بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هنالك كانت البداية، والنهاية كانت بجسد الحسين (ع) ليظهر يزيد بن معاوية أحقادا بدرية كما جاء في التاريخ فحينما جاؤوه برأس الحسين (ع) قال:

    ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
    لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
    قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل


    الصفحة 194
    إن القضية ليست خروج الحسين (ع) ضد أمير المؤمنين كما تسميه حاشية الضلالة عبدة الدينار والدرهم الذين باعوا دينهم من قبل لأبيه وأتموا الصفقة بقتلهم ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إن القضية قضية عداء طبيعي بين الحق والباطل وعداء تاريخي بين الهاشميين والأمويين، وما يزيد إلا امتداد لأبيه الذي اكتسب شرعيته وملكه من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي اشتهر بقساوته ومساءلته للولاة فيما عدا معاوية " كسرى العرب " كما يقول عنه عمر لما عرف به من حبه للبذخ والترف واهتمامه بالمظاهر، وهكذا كان معاوية في وضع مريح جعله يمتلك امبراطورية مسلحة بالشام ادخرت لنصرة الباطل فظهرت في صفين ضد علي ابن أبي طالب وفي النهاية أصبحت مقرا لحكم بني أمية.

    والحديث عن كربلاء ذو شجون، وما جرى فيها من أحداث يقرح الجفون ويفطر الفؤاد، لقد خرج أبو عبد الله الحسين (ع) ليصلح في الأمة ويعيدها إلى رشدها وذلك بإرجاعها إلى المنبع الحقيقي المتمثل في خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل بيته المنصوص عليهم، وها هو يقول قبل خروجه " إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ".

    لم تلتزم الأمة بوصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في استخلاف علي فابتلاها الله تعالى برجل كمعاوية سلط على رقابهم مراهقا فاجرا هو ابنه يزيد كما نجد في التاريخ الذي يحدثنا عن شخصية يزيد فيقول ابن كثير " كان يزيد صاحب شراب وفيه أيضا إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات ".

    وقال صاحب الأغاني " كان يزيد أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الهتك وشرب الخمر ".

    وجاء في أنساب الأشراف " كان يزيد أول من أظهر شرب الشراب والاستهتار

    الصفحة 195
    بالغناء والصيد واتخاذ القيان والغلمان والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعافرة بالكلاب والديكة ".

    هذا يسير مما وجدناه في كتب التاريخ عن شخصية يزيد ولو لم يفعل إلا قتله الحسين وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسبيه النساء الهاشميات لكفاه ليصاب بلعنات من السماء تلحقها لعنات من التاريخ الذي لم يحفظ لنا عن يزيد إلا الانحراف والمجون واللهو، وقتل الأبرياء والتسلط على رقاب المسلمين إلى أن أهلكه الله، ولا عجب أن يظهر من يدافع عن يزيد ويكتب كتابا ويطبعه باسم " حقائق عن أمير المؤمنين يزيد " فالتاريخ يعيد نفسه وسيستمر الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن مما يؤسف له حقا أن هنالك من يصدق هذه الترهات والخرافات ومحاولات الدفاع عن شخصيات سقط عنها القناع ولم يرحمها التاريخ.

    من هو الحسين (ع):

    لولا أن منهج البحث يتطلب التعرض لسيرة يزيد لما تطرقت لذكر شئ منها، ويكفي أن نتعرف على شخصية الحسين (ع) لندرك أن من قتله أو سكت على قتله أو رضي الله بذلك أو أسس أساس هذا الظلم والجور على أهل البيت (ع) هم أعداء للدين وللإسلام.

    لقد جاء في الصحاح، الحديث المتواتر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

    " حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا ". إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق إلا صدقا وعدلا كرس في العقول مفهوم حب أهل البيت (ع) وليس ذلك بسبب القرابة الدموية كما بينا، إذ أنه لا يعقل وكيف تكون عواطفه مرتكزات تنطلق منها الأمة لتحديد معتقداتها وهو المبلغ لرسالة السماء وكل كلمة تنطق بها تمثل مفردة يجب النظر إليها بعين الاعتبار، ولقد قرن الرسول (صلى

    الصفحة 196
    الله عليه وآله وسلم) حب الحسين بحب الله بلا قيد ولا شرط وذلك لا يكون إلا إذا كان الحسين يجسد الإرادة الإلهية والامتداد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسؤولية تحمل الرسالة والدفاع عنها، ولذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " وأهل الجنة في سن واحدة وفيها من كل الأمم من يستحقها ومع ذلك فهما سيدا أهل الجنة!.

    ماذا نعرف عن الحسن والحسين اللذين يستحقان هذه المرتبة العالية " سيادة أهل الجنة "؟ سؤال وجهته إلى أكثر من شخص تحير في الإجابة عليه " هل الله سبحانه وتعالى جعل الجنة لأقرباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدون عمل وإنجاز يستحقون به ذلك!!! إن الحسن والحسين إمامان أوصى بهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهما من الأئمة الذين سيقع عليهم عب ء مواصلة المسيرة الرسالية على أن تلتف حولهم الأمة لتأخذ منهم معالم دينها.

    والحسين من أهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير والمباهلة إنه الإمام البر التقي النقي ابن بنت المصطفى وثالث أولي الأمر المفروض علينا طاعتهم... يذبح في كربلاء كما يفعل بالكبش ومع ذلك غيبوا الحقيقة عن الناس أرادوا لنا أن نعيش في جهل... أن لا نقرأ خلف السطور في كتب التاريخ... لماذا سمحت الأمة لنفسها أن تقتل أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الممهد لذلك؟ لأن ظلم الحسين يجعلنا نتساءل عن ظلم الحسن والذي يعني التحدث عن معاوية وذلك يقودنا بالبحث عما أسموه بالفتنة في عهد عثمان وهذا بلا شك سيؤدي إلى هدم السقيفة على رؤوس أصحابها، وهذا ما يخشاه علماؤنا الأفاضل.

    إن الحسين لم يقتل في كربلاء وحدها... يقول العلامة السيد هادي المدرسي:

    إن للحسين قضيتان. " قضية الجسد المقطع وقضية الحق المضيع " صحيح أن جسد الحسين قطع في كربلاء وفصل الرأس عن الجسد.. ولكن الحق مضيع منذ اعتلى أبو بكر منصة الحكم بلا حق وأبعد أبا الحسن عليا (ع) الخليفة الشرعي... وعندما بلغ

    الصفحة 197
    الأمر بالأمة أن يتسلط عليها شارب الخمر وراكب الفجور ضحى الحسين بنفسه وأهل بيته لينبه الأمة إلى خطورة ما هي عليه وإلى ذلك يشير الإمام الحسين (ع) عندما أرادوا منه أن يبايع يزيد وهو في المدينة قال: " نحن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد شارب الخمر وقاتل النفس ومثلي لا يبايع مثله ".

    وشئ متوقع أن تسمع الأمة بأن يذبح ابن بنت نبيها فلا تنصره، فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر يأمر بجمع الحطب حول بيت أم الحسين (ع) ليحرق أو يعطوه الشرعية وها هو عمر بن الخطاب يقف على باب دارها مهددا بالحرق حتى ولو كانت بنت المصطفى فيه كما مر.. فالقضية لها خلفية تاريخية منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالجرأة التي جعلت أولئك يتطاولون على أولياء الله ويتخذون منصب الخلافة هدفا يهون في سبيله التنازل عن رسالة الإسلام حتى ولو أدى ذلك إلى قتل علي وفاطمة (ع) وهتك ستار بيت النبوة والنيل من بيت نزل فيه الوحي ومنه انطلقت الرسالة... كل هذا لا بد أن يترجم يوما في صورة قبيحة ستظل نقطة سوداء في جبين الأمة وصفحة دموية في تاريخها ألا وهي واقعة الطف التي كان أبطالها هم أهل ذلك البيت الذي هتك حرمته الخلفاء بما أحدثوه من أمور مع أن العهد قريب والرسول لما يقبر أما في زمن يزيد فقد أحكمت القبضة للكفار والمنافقين وبدأوا يقطفون ثمار السقيفة، وتجلت أهدافهم لمحو رسالة السماء في أقبح صورها ظهر عاشوراء 61 ه‍.

    رفض الإمام الحسين عقد البيعة ليزيد وبدأ في الاستعداد وتحرك إلى مكة التي أتته فيها الكتب والرسائل من أهل الكوفة يطلبون منه القدوم، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فاجتمع عليه أهل الكوفة وبايعه ثمانية عشر ألفا، فلما علم يزيد بذلك عزل واليه على الكوفة نعمان بن بشير وولى عبيد الله بن زياد طالبا منه تتبع مسلم وقتله فقدم عبيد الله وتتبع الشيعة فثار عليه مسلم ولكن أهل الكوفة خذلوه عندما مارس معهم ابن زياد سياسة الترغيب والترهيب وبقي مسلم وحيدا يقاتل حتى قتل في

    الصفحة 198
    تفاصيل مأساوية وقتل معه كبير الشيعة هناك هاني بن عروة وأرسل ابن زياد برأسيهما إلى يزيد.

    توجه الحسين إلى العراق بعد استلامه رسالة من مسلم قبل قتله تفيد بعدد من بايع وانتظارهم له، وقد حاول البعض أن يثني الحسين (ع) عن الخروج إلا أنه كان يقول: " والله لو أنني كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود على السبت " وكما يقول ابن كثير يقول " لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي يعني مكة " لقد كان يعلم أن القوم غير تاركيه حتى يبايع ولكنه كان مستعدا للتضحية فداء لهذا الدين ولا يبايع مثل يزيد، يقول الإمام الحسين (ع): " الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقية، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقربها عينه وينجز بها وعده. من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا نفسه على لقاء ربه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله ".

    وانطلق غير مبال بأولئك الذين جبنوا عن مجابهة الباطل وسكتوا عن نصرة الحق، انطلق ولسان حاله يقول: إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني، وفي الطريق لقي الفرزدق فاستخبره الخبر فقال: إن القوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

    أرسلت الجيوش لتقطع عليه الطريق وطلبوا منه إما البيعة أو القتل فرفض الإمام (ع) البيعة وقدم لهم خيارات أخرى رفضوها ثم خطب الحسين في ذلك الجيش " أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى منكم سلطانا

    الصفحة 199
    جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله... إلى أن قال: وأنا أحق من غير ".

    رفضوا رجوعه أو التوجه إلى يزيد وتركوه يسير مجانبا الطريق حتى يرسلوا لابن زياد ليدلي برأيه، لقي الحسين (ع) رجلا من أهل الكوفة فقال له: " فالا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك ".

    نزول الركب المقدس في كربلاء:

    حطت الركاب في كربلاء ومنع أهل البيت (ع) الماء وجاء الأمر من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد قائد الجيش الرسمي للوالي: أما بعد فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما وإن أبوا فازحف عليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك يستحقون، فإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم... وليس عهدي في هذا أن يضر بعد الموت شيئا ولكن على قول من قال: لو قد قتلته فعلت هذا به! إن أنت مضيت لأمرنا فيك جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا والسلام.

    أحاطوا به يوم عاشوراء - بأبي وأمي - ولم يكن معه إلا بضعة وسبعون نفسا ما بين طفل وشاب وشيخ وامرأة، خطب في أعدائه وحاول وعظهم وهدايتهم إلى سبيل الرشاد ولكن هيهات لقد ختم الله على قلوبهم وحقت عليهم كلمة العذاب، وقد قال فيما قال: " تبا لكم أيتها الجماعة وترحا! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم! وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم

    الصفحة 200
    والجأش طامن، والرأي لما يستحصف ولكن أسرعتم إلينا كطيرة الدبا وتداعيتم علينا كتهافت الفراش، ثم نقضتموها سفها وضلة... فسحقا لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الآفاق ونبذة الكتاب ومحرفي الكلم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئي السنن. ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين... بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر،. أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله " فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ".

    ثم رفع يديه إلى السماء وقال: " اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسني يوسف وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير ".

    ثم قال (ع): والله لا يدع الله أحدا منهم إلا انتقم لي منه قتلة بقتلة وضربة بضربة وإنه لخير لي ولأهل بيتي وأشياعي.

    هذا هو كلام أبي عبد الله الحسين (ع) فاقرأ وتأمل تحس فيه بشفافية الروح المؤمنة وتدرك معنى الرسالية مما يؤكد أن ثورة الحسين لم تكن لتغيير نظام حاكم فقط إنما صرخة لتنبيه الأمة للانحراف العقائدي وابتعادها عن أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن من يستمع..

    أصر القوم على تنفيذ جريمتهم وبدأوا القتال الذي تطايرت فيه الأيدي وتساقطت الرؤوس ولم يرحم كبير ولا صغير مثل أصحاب الإمام حبيب بن مظاهر وزهير بن القين وغيرهم.. أولئك الذين فهموا ماذا تعني نصرتهم للحسين (ع) وهم على علم بقتلهم فكانوا يتفانون في الدفاع عن ابن رسول الله.


    الصفحة 201
    في عز القتال ووسط ذلك الجو الملتهب بحرارة المعركة يصلي الإمام صلاة الخوف مع أصحابه فيقف أحد الأصحاب لحمايته ويستقبل السهام بصدره دفاعا عن حجة الله على خلقه حتى إذا أصبح جسمه كالقنفذ من كثرة السهام سقط على وجه الأرض متمتما " هل وفيت يا بن رسول الله ".

    وبدأ الشهداء يرتمون في أحضان الحور العين الواحد تلو الآخر، الهاشميون وأبناء علي (ع) وأبناء الحسن، ثم أبناء الحسين وكان آخرهم طفلا رضيعا للحسين (ع) أخرجه لهم ليجودوا عليه بقطرة ماء بعد أن صار يتلوى من العطش، وقد جف ثدي أمه فاستقبله القوم بالسهام حتى ذبح في حجر أبيه.

    وبقي الحسين وحيدا يلقي تارة نظرة إلى مخيم النساء بعد قليل سيصرن سبايا وهن بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتارة ينظر إلى القوم الذين احتوشوه استعدادا لقتله ويبكي! سألته أخته زينب لماذا البكاء؟ قال: أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي هل رأيتم إنسانا يبكي على عدوه الذي يظلمه؟!.. لم يكن هذا إلا من الأنبياء.

    ثم قاتلهم حتى قتل ونفذوا وصايا ابن زياد، ففصلوا الرأس عن الجسد ثم أمروا بالخيل لتطأ صدره الشريف.

    هذه بعض تفاصيل رزية الأمة وما أعظمها من رزية بكت لها السماوات قبل الأرض، وبكى لها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم ولادة الحسين (ع)، وستظل ذكراها تدمي القلوب، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما قال " إن للحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تطفأ أبدا ".

    ما زالت ذكرى أبي عبد الله (ع) عند شيعته محفوظة رغما عن أنوف بعض الجهلة الذين صاروا على منابر العلماء يتحدثون عن الدين وهو منهم براء في غفلة من الناس.


    الصفحة 202
    ابن زياد ما يزال جاثما على صدر الأمة باسم جديد وشريح القاضي ما زال يفتي بلسان حديث: بكفر ونجاسة شيعة أبي عبد الله الحسين (ع) وطهارة اليهود ووجوب الصلح معهم (1)، بل هم أفضل من شيعة الحسين (ع)، وما يزال التضليل والكبت كما فعل قاتلوا الحسين (ع) عندما جاءوا بالسبايا وتساءل الناس من هؤلاء فقالوا أنهم سبايا من الديلم فشمت الناس بهم ووصل الأمر ببعضهم أن فكر في امتلاك إحدى السبايا كجارية وهن ربيبات بيت الوحي الذي حرمت على أهله الصدقة وأمر الله بمودتهم، قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).

    ولكن ما زالت خطبة زينب بنت علي (ع) تدوي في أسماع الشيعة وهي تخاطب يزيد الذي أدخل إليه رأس الحسين وهو متخذ مجلسا للشراب ووضع الرأس بين يديه فراح ثنايا الحسين بمخصرته وهو ينشد:

    لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
    لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل

    خطبت عقيلة الهاشميين زينب بلسان يفرغ عن أبيها علي (ع) خطبة طويلة نختار منها هذا المقطع الذي جعل المجالس تعقد للحسين في أوساط شيعته إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله... قالت فيما قالت مخاطبة يزيد " فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تميت وحينا ولا تمحو ذكرنا ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين ".

    رغم توارثنا لعادات بني أمية وقبولنا لها مثل الاحتفال بيوم عاشوراء الذي قتل فيه ابن بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نعيب على الشيعة إقامتها لمجالس العزاء الحسينية، ولا دليل لدينا سوى ادعاء عمر بن الخطاب لحرمة البكاء وهو القائل " كل

    ____________

    (1) - فتوى بعض العلماء حول التطبيع مع اليهود مثل ابن باز.


    الصفحة 203
    الناس أفقه منك يا عمر ". لقد بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقتل الحسين في يوم ولادته، كما بكته السماء بل حتى الجمادات كما جاء في كتب التاريخ، وبكاء النساء لمقتل حمزة أيضا وتشجيع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهن وإعانتهن حينما قال: على مثل حمزة فلتبك البواكي، ولقد أقام عليه أهل المدينة مآتم العزاء فلم نر مستنكرا لذلك فيما وصل إلينا.

    والمحاولات التي يبثها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين ما هي إلا إحدى المحاولات لإسكات صوت الحق وإطفاء نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ولقالوا لنا اليوم أن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي (ع).

    ويكفي فخرا لمجالس الحسين أنها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة وتلهب في النفوس المؤمنة روح الجهاد ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين (ع) ليسري مفعولها السحري في الأرواح المؤمنة.

    لن أستطيع في هذه الوجيزة أن أستعرض كافة جوانب كربلاء ولكن يجب على الأمة ألا تغلق على نفسها مثل هذه الكنوز التي لا يعرفها إلا من هداه الله.

    السجود على التربة الحسينية:

    هنالك مسألة مرتبطة بهذا البحث، كثير من الناس استشكل فيها على الشيعة، ومن خلال تجربتي الشخصية لم أجد عند أحد دليلا شرعيا يؤيد إشكاله اللهم إلا ما يتناقله ببغاوات الوهابية فيما يرتبط بالتوحيد والشرك الذي هم أبعد الناس فهما له، والمسألة هي السجود على التربة الحسينية... قال لي بعضهم " الشيعة يا أخي يعبدون الحجر ويصلون له " وكثيرا ما سمعت هذه الجملة لذا وجب علي توضيح الأمر حتى لا نصبح كالهمج الرعاع أتباع كل ناعق نميل مع كل ريح.


    الصفحة 204
    أولا: إن للسجود صيغتين:.

    أ - السجود للشئ.

    ب - السجود على الشئ.

    أما الأول فهو حالة من حالات الشرك بلا خلاف، والشيعة تحرم ذلك البتة لأنه سجود لغير الله وهذا لا يحتاج مني إلى كبير عناء فلتراجع فتاوى علماء الشيعة في ذلك. أما الثانية فالكل يسجد على شئ، والسجود لا يتحقق في الأساس إلا على شئ.

    والشيعة يسجدون على التربة وليس للتربة، ويكون السؤال لماذا التربة الحسينية بالخصوص؟ وهذا السؤال سنجيب عليه في نقطتين: الأولى فيما يختص بالتربة كما هي والثانية بخصوص التربة الحسينية.

  • النقطة الأولى:

    إن علماء مدرسة أهل البيت (ع) ومن أقوال أئمتهم يوجبون أن يكون موضع الجبهة في الصلاة من الأرض أو ما أنبتته الأرض مما لا يؤكل ولا يلبس في الغالب.

    أما فقهاء أهل السنة الأربعة فإنهم يجوزون السجود على كل شئ بما في ذلك الأرض.

    وعلماء الشيعة لهم ما يؤيد قولهم من مصادر أهل السنة نذكر منها: -

    1 - حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

    " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " (بخاري ج 1 / 109).

    2 - وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

    " جعلت لي الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا " (بخاري

    الصفحة 205
    ج 1 / 371، مسلم 1 / 371).

    3 - وعن أبي سعيد الخدري في حديث جاء فيه:

    " وكان سقف المسجد من جريد النخل وما نرى في السماء شيئا فجاءت قزعة فأمطرنا فصلى بنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى رأيت الطين والماء على جبهته وأرنبته (صلى الله عليه وآله وسلم) " (بخاري ج 2 / 386).

    وكثير من الأحاديث التي تؤكد على مسألة السجود على التربة.

  • النقطة الثانية: لماذا السجود على التربة الحسينية.

    أولا: السجود على التربة الحسينية يمثل حالة من حالات السجود على الأرض وإجماع المسلمين على صحة السجود على الأرض وترابها قائم فلا يوجد مبرر لاستثناء تربة الحسين (ع).

    ثانيا: إن أئمة أهل البيت (ع) كانوا يؤكدون على مسألة السجود على التربة الحسينية والإمام علي بن الحسين (ع) أول من سجد عليها وكل أئمة أهل البيت (ع) كان يسجدون عليها ويؤكدون على " استحباب السجود عليها كما جاء عن الإمام الصادق (ع) " إن السجود على تربة أبي عبد الله الحسين يخرق الحجب السبع ".

    وتربة الحسين عبارة عن تراب من كربلاء يخلط بالماء ويصب في قوالب ثم يجفف ويوضع في موضع الجبهة للسجود عليه.

    ثالثا: هنالك دلالات كبيرة في السجود على تربة سيد الشهداء (ع) لا تخفى على الألمعي منها (1): -

    ____________

    (1) - التشيع - السيد عبد الله الغريفي.


    الصفحة 206

    1 - الدلالة العقائدية:

    عمر بن سعد غداة يوم عاشوراء صلى بجيشه صلاة الصبح جماعة ثم قتل الصلاة في ظهيرة نفس اليوم بقتله سيد الشهداء، ونحن بصلاتنا على تربة الحسين نعلن أننا لا نصلي صلاة ميتة مثل صلاة عمر بن سعد وأميره يزيد وأبيه ومن ولاه، لا نحن نصلي صلاة الحسين وأبيه وجده وهذا ما يكرس مفهوم الولاء لأهل البيت (ع) عند شيعتهم ولهذا ركز الأئمة (ع) على التذكير بتربة الحسين (ع) التي يعني السجود عليها تمام التسليم والخضوع لله بانتهاج نهج أوليائه.

    2 - الدلالة التاريخية:

    حاول البعض طمس معالم يوم الغدير الذي بويع فيه لعلي (ع) بالخلافة، وعاشوراء كانت في عهد بني أمية وما أدراك ما بنو أمية، والتربة الحسينية وثيقة تاريخية حية تحمل شواهد الجريمة التي نفذها الحكم الأموي يوم العاشر من محرم، وإذا كانت الأجهزة الظالمة عبر التاريخ قد مارست أساليب المصادرة لقضية كربلاء، وما زال امتدادهم إلى يومنا هذا، فإن الأئمة من أهل البيت (ع) رسخوا في وعي الأمة وفي وجدان الأجيال حالة التعاطي والارتباط بقضية الحسين (ع) من خلال الإحياء والرثاء والبكاء والزيارة وفي هذا المسار تأتي مسألة التأكيد على التربة الحسينية.

    3 - الدلالة الجهادية:

    التربة الحسينية إحدى صيغ التجذير للوهج الثوري والجهادي في حس الجماهير المسلمة، وهذا ما تحتاج إليه كل الأمة الإسلامية، خاصة ونحن نعيش فترة يواجه فيها المد الإسلامي بكل أنواع الحروب، والتعامل مع هذه التربة ليس تعاملا مع كتلة ترابية جامدة وإنما هو تعامل مع مزيج متحرك من مفاهيم الثورة وقيم الجهاد ومضامين الشهادة، فمع كل ذرة من ذرات هذه التربة صرخة جهادية ونداء ثوري ومفهوم استشهادي لا يقوى الزمن بكل امتداداته ولا تقوى الأجهزة المتسلطة بكل إمكاناتها أن تجمد تلك الدلالات فالتربة الحسينية عقيدة وجهاد وثورة وحركة واستشهاد.