يا بارىء النفوس بعد الموت ، صل على محمد وأهل ابيته ، وآتنا وجميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها فرجا من عند ، عاجلا بشهادة إن لا إله إلاّ الله ، وان محمدا عبدك وروولك ، صلى الله عليه وعلى ذريته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما (1) .

وفي جواهر العقدين للشريف السمهودي المصري من العجائب ان ابا الحسن نصر بن عيين الشاعر توجه إلى مكة المعظمة ومعه متاع ومال ، فخرج عليه بعض الاشراف من بني داود المقيمين بوادي الصغرى فأخذوا ما كان معه وجرحوه فكتب قصيدة إلى الملك ، الناصر ان يذهب بالساحل ويفتحه من ايدي الافرنج القصيدة هذه :

أغنت صـفاتك ذاك المـصقع السـنا

*

جزت بالجود حد الحسن والمـحسنا

ولا تـقل سـاحل الافـرنج اقـتحمه

*

فـما يسـاوي اذا قــاسيته عـدنا

طــهر سـيفك بـيت الله مـن دنس

*

ومــا احاط بـه مـن خسة وخـنا

ولا تـــقل انـــهم اولاد فـاطمة

*

لو ادركوا آل حرب حاربوا الحسـنا

فلم اتم هذه القصيدة رأى في النوم فاطمة عليها السلام وهي تطوف بالبيت فسلم عليها فلم تجبه ، فتضرع اليها وتذلل عندها وسألها عن ذنبه الذي أوجب ذلك ، فانشدت فاطمة عليها السلام هذه القصيدة :

____________

(1) البحار : 89 | 365 ح 59 ، البلد الامين : 523 ، الجنة الواقية : 179 .


( 352 )

حــاشا بــني فــاطمة كــلهم

*

من خسـة يـعرض او مـن خـنا

وانــما ايــام فــي غـــدرها

*

وفعلها السوء اساءت بـنا لئن جـنا

مــــــن ولدي واحــــــد

*

تــجعل كــل السب عـمدا لنـا

فــتب إلى الله فـــمن يــقترف

*

اثــما بـنا لا يأمن مــما جــنا

فاصفح لاجــل المـصطفى احـمد

*

ولا تـــثر مــن آله اعـــينا

فكــل مــا نالك مــنهم غــدا

*

تــلقى بـه فـي الحشـر مـنامنا

ثم صب بيدها المباركة المكرمة المقدسة شيئا شبه الماء على جرحه ، ثم ايقظ من منامه فرأى ان جراحته التي كانت في بدنه صارت ملتئمة صحيحة ، فكتب فورا قصيدة فاطمة صلى الله عليها السلام التي انشدتها في رؤياه ، ثم قال معتذرا :

عذر إلى بنت نبي الهـــدى

*

تصفح عن ذنب محب جــنا

وتـوبة تـقبلها عــن اخـي

*

مــقالة تـوقعها فـي العـنا

والله لو قـــطعني واحــد

*

منهم بسيف البغــي او بالقنا

لم اره بـــفعله ظـــالما

*

بل انـه فـي فـعله احسـنا

فكتب هذه الحكاية إلى ملك اليمن فارسل الملك الهدايا الكثيرة لهذه الاشراف وأهل مكة وهذه القصيدة مشهورة بين الناس ومسطورة في ديوان ابن عيين (1) .

* وروي أن عليا عليها السلام أستقرض من يهودي شعيرا ، فاسترهنه شيئا فدفع إليه ملاءة (2) فاطمة ، رهنا ، وكانت من الصوف فأدخلها اليهودي إلى داره ووضعها في البيت . فلما كانت الليلة دخلت زوجته البيت الذي فيه الملاءة بشغل ، فرأت نوراً ساطعاً في البيت أضاء به كله فانصرفت إلى زوجها ، فأخبرته بأنها رأت في ذلك البيت ضوءاً عظيماً فتعجب اليهودي من ذلك وقد نسي ان في بيته ملاءة فاطمة . فنهض مسرعاً ودخل البيت فاذا ضياء الملاءة ينشر شعاعها كأنه يشتعل من بدر منير ، يلمع من قريب فتعجب من ذلك ، فأنعم النظر في موضع الملاءة ، فعلم ان ذلك النور من ملاءة فاطمة عليها السلام ، فخرج اليهودي يعدو إلى أقربائه وزوجته تعدوا إلى أقربائها

____________

(1) ينابيع المودة : 367 .

(2) الملاءة ـ بالضم والمد ـ : الازار والريطة .


( 353 )

فاجتمع ثمانون من اليهود فرأوا ذلك فأسلموا كلهم (1) .

* وعن سلمان الفارسي : انه لما استخرج امير المؤمنين من منزله ، خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر ، فقالت خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمدا بالحق لئن لم تخلوا عنه لا نشرن شعري ولأضعن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسي ، ولأصرخن إلى الله ، فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولدي . قال سلمان : فرأيت والله اساس حيطان المسجد تقلعت من اسفلها ، حتى لو اراد الرجل ان ينفذ من تحتها نفذ فدنوت منها وقلت : يا سيدتي ومولاتي : ان الله تبارك وتعالى بعث اباك رحمة فلاتكوني نقمة ، فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في غياشيمنا (2) .

 

اخلاقها عليها السلام

تجدست في شخصية فاطمة عليها السلام مختلف ابعاد الاخلاق الاسلامية التي دعت واكدت عليها التعاليم القرآنية ، ولقد ضربت المثل الاعلى للمرأة المؤمنة الكاملة ، وهذا مانراه واضحا ، وجليا من خلال استقراء سيرتها عليها السلام وفي مختلف الابعاد الانسانية ، فقد ورد عن علي عليه السلام قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اخبروني أي شيء خير للنساء ؟ فعيينا بذلك حتى تفرقنا ، فرجعت إلى فاطمة ، فأخبرتها الذي قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس أحد منا علمه ، ولاعرفه .

قالت : ولكني أعرفه : خير للنساء ان لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله ، سألتنا : أي شيء خير للنساء ؟ وخيرهن ان لايرين الرجال ولايراهن الرجال . قال : من اخبرك ، فلم تعلمه وأنت عندي ؟ قلت فاطمة فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال ان فاطمة بضعة مني (3) .

____________

(1) المناقب : 3 | 117 ، والخرائج والجرائح : 357 ح 13 .

(2) المناقب : 3 | 118 .

(3) كشف الغمة : 1 | 466 ، مقتل الخوارزمي : 1 | 62 ، حلية الأولياء : 2 | 40 أرجح المطالب : 244 ، اسعاف الراغبين : 187 .


( 354 )

أقول : والذي يظهر من هذه الاحاديث ان فاطمة حددت الضابطة الكلية التي فيها خير المرأة والصلاح لها في الحياة الدنيا والاخرة ذلك هو ان لا يرى المراة رجل ولاترى رجل ، وفي أمر ورد ايضا عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام استأذن أعمى على فاطمة عليها السلام فحجبته .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها : لم حجبته وهو لا يراك ؟

فقالت عليها السلام : ان لم يكن يراني فأني أراه ، وهو يشم الريح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشهد انك بضعة مني (1) . وسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن المرأة ، ماهي ؟ قالوا : عورة : قال فمتى تكون أدنى من ربها ؟ فلم يدروا ، فلما سمعت فاطمة عليها السلام ذلك قالت : أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن فاطمة بضعة مني (2) .

أقول : يظهر من هذا الحديث ان الرسول سأل اصحابه ولم يكن فيهم علي عليه السلام ، وهذا معارض للحديث الأوّل من حيثية وجود علي عليه السلام ، فالحديث الأوّل بين ان الإمام علي يعرف جواب السؤال الذي سأله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مخالف لكثير من الاحاديث التي تبين مقام علي عليه السلام العلمية ولذا سيكون من حيث الدلالة الحديث الاخير الذي قدمناه وهو الاصح ، وإلاّ لو كان علي عليه السلام حاضرا لأجاب على سؤال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة نحن نعلم ان علي عليه السلام وفاطمة احدهما كفوا للاخر في كل الأمور التي أقرأتها الاحاديث التي وردت عن السان المعصومين عليهم السلام .

وأعطي لك شاهداً واحداً من خلال استقراء احاديث العلماء والصالحين في قضية اخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام تاركا لك مراجعة أقوال الاخرين فضلا عن احاديث أهل البيت الذي هي بحر عميق لمن اراد الغوص فيه واستخراج الدرر المتناثرة فيه ، ومن هذه الاقوال (3) . لم تكن الزهراء امراة عادية كانت امرأة روحانية امرأة ملكوتية ... كانت انسانا بتمام معنى الكلمة نسخة انسانية متكاملة ... امرأة حقيقية كاملة ... حقيقة الإنسان الكامل ، لم امراة عادية ، بل هي كائن ملكوتي تحلى في الوجود بصورة

____________

(1) نوادر الراوندي : 13 .

(2) البحار : 43 | 92 .

(3) المرأة في فكر الإمام الخميني : 23 ـ 24 .


( 355 )

انسان ... بل كائن الهي جبروتي ظهر على هيئة امرأة ... فقد اجتمعت في هذه المرأة جميع الخصال الكمالية المتصورة للانسان وللمرأة . انها المرأة التي تتحلى بجميع خصال الانبياء ... المرأة التي لو كانت رجلا لكانت نبيا ... لو كانت رجلا لكانت بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . غدا يوم المرأة حيث ولدت جميع ابعاد منزلتها وشخصيتها ، غدا ذكرى مولد كائن الذي اجتمعت فيه المعنويات ، والمظاهر الملكوتية ، والالهية والجبروتية والملكية والانسية ، غدا ميلاد الإنسان لجميع الانسانية من معنى ، غدا ميلاد امرأة بكل ما تحمله كلمة « المرأة » من معنى ايجابي . ان المرأة تتسم بأبعاد مختلفة كما هو الرجل ، وان هذا المظهر الصوروي الصبيعي يمثل ادنى مراتب المرأة ، وادنى مراتب الرجل ، بيد ان الإنسان يسمو في مدارج الكمال انطلاقا من هذه المرتبة المتدنية ، فهو في حركة دؤوبة من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب ، إلى الفناء في الالهية وان هذا المعنى متحقق في الصديقة الزهراء ، التي انطلقت في حركتها من مرتبة الطبيعة وطوت مسيرتها التكاملية بالقدرة الالهية ، بالمدد الغيبي وبتربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتصل إلى مرتبة دونها الجميع . امرأة هي مغفرة بيت النبوة وتسطع كما تسطع الشمس في جبين الاسلام العزيز ، امرأة تماثل فضائلها الرسول الاكرم والعترة الطاهرة غير متناهية ... امراة لا يفي حقها من الثناء كل من يعرفها مهما كانت نظرته ، ومهما ذكر لأن الاحاديث التي وصلتنا عن بيت النبوة هي على قدر أفهام المخاطبين ، واستيعابهم فمن غير الممكن صب البحر في جرة ، ومهما تحدث عنها الاخرون فهو على قدر فهمهم ولا يضاهي منزلتها . اذن فمن الاولى ان نمر سريعا من هذا الوادي العجيب .

وكانت الصديقة فاطمة عليها السلام عادية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فمتى ما كانت تقوم في محرابها بين يدي الله تعالى ، زهر عند ذلك نورها لملائكة السماوات والأرض كما نير هو نور الكواكب لأهل الأرض (1) ، وروت هي سلام الله عليها انها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ان في الجمعة لساعة لا يراقبها رجل مسلم يسأل الله عزوجل فيها خيرا إلاّ اعطاه اياه . فقلت : يا رسول الله أي ساعة هي ؟ قال اذا تدلى

____________

(1) امالي الصدوق : 394 ح 18 بشارة المصطفى : 218 .


( 356 )

نصف عين الشمس للغروب . لذا نجدها سلام الله عليها كانت تقول لغلامها اصعد على الظراب فاذا رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فاعلمني حتى ادعوا ولذلك نجد في كتب الادعية والزيارة استحباب قراءة دعاء السمات اخر ساعة من يوم الجمعة تأسيا بما ورد عن لسان فاطمة عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وورد عن الإمام الحسن عليها السلام انه قال : رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى انصع عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولاتدعو لنفسها بشيء فقلت لم لهذا يا اماه ، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يا بني الجار ثم الدار (1) ، واخيرا قول الحسن البصري الذي قال في حقها عليها السلام : « ما كان في هذه الأمة اعبد من فاطمة عليها السلام كانت تقوم حتى تتورم قدماها » (2) .

____________

(1) علل الشرايع : 1 | 181 ح 1 ، دلائل الإمامة (56) .

(2) المناقب : 3 | 119 ، ربيع الابرار : 2 | 104 .


( 357 )

المستوى الثالث المعرفة العلمية والفكرية لها عليها السلام

ألا هــل إلى طــول الحـياة سـبيل

*

وأنــى وهـذا المـوت ليس يـحول

واني وان اصبحت بــالموت مــوقنا

*

فــلي امــل مـن دون ذاك طـويل

وللــدهر الوان تــروح وتـــغتدي

*

وان نـــفوسا بـــينهن تســـيل

ومـــنزل حــقّ لا مـعرج دونـه

*

لكــل امــريء مـنها إليـه سـبيل

قـــطعت بأيــام التــعزز ذكـره

*

وكـــل عــزيز مــاهناك ذليـل

ارى عــلل الدنــيا عــلي كـثيرة

*

وصــاحبها حــتى المـمات عـليل

واني وان شـطت بـي الدار نـازحـا

*

وقــد مـات قـبلي بـالفراق جـميل

وقد قال فــي الامثال في البين قـائل

*

اضــرّ بـه يـوم الفــراق رحـيل

لكــلّ اجـتماع مـن خـليلين فـرقة

*

وكــل الذي دون الفــراق قـــليل

وان افــتقادي فــاطما بـعد احـمد

*

دليــل عــلى ان لايــدوم خــليل

وكيف هناك العيش من بعد فـــقدهم

*

لعــمرك شـيء مـا إليه سـبيل (1)

وليس جـــليلا رزء مـالٍ وفــقده

*

ولكـــن رزء الاكــرمين جــليل

يتساوى النساء في الحقوق والجواجبا من جهة التشريع الاسلامي ومنطلقاته الاصلية ، فهم سواسية كأسنان المشط في المظهر الخارجي ، ولكن من حيث حقيقة وجوهر كل انسان تختلف من شخصية إلى اخرى ، وقديما قيل : الناس مخابر ، وليسوا بمناظر أي الإنسان بجوهره وحقيقته ، وذلك ان المخبر بكشف عن سلوك الإنسان ويبدو على سيرته الذاتية بشكل واضح لا لبس فيه ... فما أضمر ابن ادم شيئا الا وظهر

____________

(1) البحار : ج 43 | ص 216 ، عن الديوان المنسوب لأمير المؤمنين انشدها بعد وفاة الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام ولم يذكر الجامع للديوان المنسوب لامير المؤمنين عليه السلام من هذه القصيدة سوى ثلاثة ابيات فقط .


( 358 )

على فلتات لسانه وصفحات وجهه ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام ذلك في نهج البلاغة « تكملوا تعرفوا فان المرء مخبوء تحت طيات لسانه » فالكلمة تعرف حقيقة الإنسان وطبيعة شخصية يكون عبر توجيه بعض الاسئلة إليه ومن خلال الجواب عليها يظهر طبع شخصيتها وحقيقتها ومدى سعتها واستيعابها ، وهل هي شخصية عالية ذا همة كبيرة ام لا ؟ وغير ذلك من الامور المعمة ، ذلك ان الكلمة التي تخرج من الفم تحمل معها صورة قائلها ونبضات قلبه ، وخلجات نفسه ودخائل شخصيته ، وهذه حقيقة معروفة لدى علماء النفس والتربية والاجتماع ، كل ذلك نقوله لكي نهتدي إلى سواء السبيل .

وعلى هذا الاساس اننا نهتدي إلى معرفة الشخصية العلمية والفكرية بها سلام الله عليها من خلال عدة امور مهمة ومن خلالها نعبر إلى شخصيتها وندخل في فهم حقيقتها وهذه الامور هي :

 

الأمر الأوّل :

يمكن معرفة شخصيتها من خلال سيرتها الذاتية التي يرويها لنا أهل البيت عليهم السلام والاقربون من ذويها ، ذلك لأنّ أهل البيت ادرى بما فيه وأه مكة ادرى بشعابها كما يقول المثل .

إذ ان هناك امور في الحياة صحيحة وثابته وفق مقاييس العقل والبرهان ولا تحتاج إلى اثبات اثبات احقيتها واصحيتها إلى دليل من الخارج ولا تحتاج إلى اثبات صحة دعواها ايضا إلى شاهد فدليلها مستمد منها ، ومن هذهالامور الثابتة في حيات الإنسان الكامل « فاطمة الزهراء » هي سيرتها الذاتية التي تثبت من خلالها معرفتها الحقيقية فهذه السيرة هي السبيل الصحيح للوقوف على حياتها عليها السلام . فهي الضابط والمعاير الصحيح للحكم عليها من خلالها . فالإنسان لايعرف المعرفة الصحيحة إلاّ من خلال هذه السيرة على وجه الدقة اما بقية المسائل الاخرى في حياة المسائل الاخرى في حياة الإنسان من الشعارات والاطروحات والادلة والشواهد وغير ذلك لاتمثل سوى الجانب النظري من حياة الإنسان الشخصية ، ومدى صدق هذه الدعوى


( 359 )

فهي متروكة للجانب التطبيقي في حياته ، اذن السيرة الذاتية الصديقة الطهرة تمثل جانب تطبيقي من حياتها الشخصية على كافة المستويات ، ولا نريد الوقوف مع السيرة الذاتية لفاطمة عليها السلام في هذا الكتاب بصورة تفصيلية حيث قد اعطينا بعض النماذج للسيرة الذاتية له في نفس هذا الكتاب هذه النماذج ، على شكل امور متناثرة في طيات البحوث فلانقف تفصيليا معها هنا.

 

*الأمر الثاني :

يمكن ان نعرف شخصيتها من خلال مواقفها لأنّ الموقف عمل والعمل ماهو إلاّ انعكاس لطبيعة شخصية الفرد وهذا ما اثبته التاريخ الاسلامي لفاطمة عليها السلام حيث اخبرنا بمواقفها الفذة في جميع الحالات التي مرت بها . فعندما كانت قريش تؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتتعرض له بأنواع المواجهة كانت الزهراء عليها السلام تقف إلى جانبه صابرة محتسبة ، فيدخل إلى البيت وقد حثى الكافرون التراب على رأسه الشريف ، فتستقبله الزهراء عليها السلام وتغسل التراب عن رأسه وهي باكية ، فيقول لها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : لا تبكي فان الله نصار أباك ، وعندما رمى أبو لهب رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم بروث البقر اندفعت فاطمة عليها السلام لتذب عن أبيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وتسمع ابا لهب من الكلام ما يتوقف خلاله من الاندفاع بالسخرية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . كما انها عليها السلام التحقت بأبيها صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة مجازفة بحياته ومضحية ، بروحها في سبيل نصر الاسلام واعزاز مبادئه المثلى ، ولا يمكن ان يغفل دورها في الوقوف إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام دعوته المباركة ، تؤنسه وتزيح عنه الهموم والآلام ، وتعيد البسمة إلى وجهه المبارك اذا اشتدت عليه الخطوب .

اضف إلى مواقفها الرسالية ايام الحروب وهي صغيرة السن بعد ، ففي معركة أحد تكسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشج جبينه ، فتقبل الزهراء عليها السلام لتغسل وجهه ، وتزيل الدماء عن محياه ،وتعالج نزيف جراحاته ، فقد جاء في صحيح مسلم : « قال سهل بن سعد : جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة عن رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب


( 360 )

يسكب عليها بالمحن ، فلما رأت فاطمة ان الماء لايزيد الدم إلاّ كثرة ، اخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم » . ونقل ابي نعيم في ( حلية الأولياء ) عن أبي ثعلبة انه قال : « قدم رسول الله من غزاة له ، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم خرج فأتى فاطمة عليها السلام فبدأ به قبل بيوت ازواجه ، فاستقبلته فاطمة عليها السلام وجعلت تقبل عينيه ووجهه وتبكي » والاعجب من ذلك ان فاطمة عليها السلام كانت تهيء لابيها صلى الله عليه وآله وسلم السلاح في المعركة التي جرت في اليوم القادم . وفي معركة الخندق تقبل على ابيها بأقراص من الخبز معدودة بعد ان بقى اياما بلا طعام ، فجاء في ذخائر العقبى : « روي عن علي عليه السلام في حفر الخندق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان فاطمة عليها السلام جاءت إليه بكسرة من خبزٍ فرفعتها إليه فقال : ما هذه يا فاطمة ؟ قالت : من قرص اختبزته لابنتي جئتك منه بهذه الكسرة . فقال : يابنية اما انها لاول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث » .

وفي الفتح المبين نرى الزهراء عليها السلام تضرب لا بيها صلى الله عليه وآله وسلم خيمة وتهيء له طعاما ليستحم ويغتسل حتى يزول عن جسده المبارك غبار الطريق ، ويرتدي ثيابا نظيفة يخرج بها لإلى المسجد الحرام ، ومن موقع الامومة وكونها زوجة وفية مخلصة لعلي عليه السلام نرى انها عليها السلام زهدت في الدنيا وترفعت عن الدنيا ، ولم يكن لها من هم إلاّ تحمل المسؤولية الالهية بجدارة واستحقاق وتجسيد الصفات الالهية كأمثل ما يكون . فيروى ان علياً عليه السلام قد اشترى لها عقدا عليها السلام من اموال الفيء ، وتقلدته الزهراء عليها السلام وتقبلت هذه الهدية من زوجها بسرور ، وبينما هي متقلدة ذلك واذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي لزيارتها ، فسلمت عليه وسلم عليها ، إلاّ انها وعلى غير المعتاد رأت مسحة من الحزن يقولون ابنة محمد تلبس لباس الجبابرة ، ويوصيها ا تذخر ذلك لاخرتها لتكون اسوة في الزهد ومثالا للايثار والقناعة ، فتنزع الزهراء عليها السلام ذلك العقد وتتصدق بثمنه في سبيل الله وهي مليئة بالرضا والقناعة . ويروى ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل يوما على فاطمة عليها السلام فيراها قد علقت سترا على احد الأبواب لتزين الدار ، فيتألم رسول الله عليها السلام لذلك ويقول لابنته : « اني لا احب ان يأكل أهل بيتي طيباتهم في حياتهم الدنيا » .

فتبادر الزهراء عليها السلام من حينها للقيام ونزع الستر ممتثلة اوامر أبيها ، ومن اورع امثلة


( 361 )

للايثار ماطفحت به كتب الحديث والتفسير من تقديم الزهراء عليها السلام وزوجها وولديها لطعامهم لثلاثة ايام متوالية لمسكين ويتيم واسير وبقائهم جياعا طيلة هذه المدة قربة لوجه الله الكريم ، فنزل بشأنهم : ( ان الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، عينا يشرب بها عباد الله ويفجرونها تفجيرا ، يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا ، انم نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءا ولا شكورا ) . ومن المواقف التي خلدت من خلالها الزهراء عليها السلام الزهد والايثار والقناعة انها عليها السلام قد طلبت من ابيها صلى الله عليه وآله وسلم ان يكون مهرها الشفاعة للمذنبين من امته يوم القيامة ، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخبرا اياه بتلبية الله تعالى لطلب فاطمة عليها السلام وبما ان درع علي عليه السلام كان المهر التقليدي لفاطمة عليها السلام فان اغلى قيمة ذكرت لذلك الدرع هي خمسمائة درهم (1) .

 

* الأمر الثالث

وتستطيع معرفة فاطمة وشخصيتها الربانية من خلال نور كلامها الشريف الذي هو عبارة عن صورة حقيقية والنعكاس صادق لشخصيتها الالهية ، فمن خلال اقوالها وكلماتها نستطيع ان نستدل عليها ، ونكتشف حقيقتها في سهولة ويسر وبساطة ، ولقد تجلت انوار كلماتها المضيئة في مختلف أبواب العلوم والفنون كعلم الفقه والاخلاق وسائر العلوم الاخرى التي تكلمت فيها ، او عه عنها على اختلاف انواعها من علوم رتيبة او غريبة ظاهرة او باطنة ، نقلية او عقلية ، علمية او ادبية انسانية او طبيعية الهية او دنيوية فانها سلام الله عليها قد كشف القناع عن الكثير من الأسرار التي تخص هذا الوجود وبينت الكثير من عجائبه وفي كل ذلك نستطيع ان نلتمس منه وفيه شيئا يسيرا م معرفتها سلام الله عليها اما انوار كلامها فهذا ما بينته الكثير من الكتب الروائية التي نقلت لنا بين طياتها احاديثها وعد ذاتها احرازها وادعيتها وولايتها وغير ذلك فراجع المطويات للاطلاع والوقوف على هذه الأنوار الفاطمية .

____________

(1) السفينة : 5 « الشيخ جعفر الباقري » .


( 362 )

قصيدة للشيخ المنصوري

لك ذكــرى تــمر فـــي كــل عـام

*

وعــــليها تـــمر مــر الكـــرام

هــي ذكــرى لهــا نـقيم احـــتفالا

*

بــابتهاج وفـــرحــة وابــــتسام

هـــي ذكـــرى ولادة ســرّ فــيها

*

ســـيد المــرسلين خـــير الانـــام

بـصبوح يشـع فــي الكـــون شـمسا

*

لا كشــمس الضـحى وبـــدر التــمام

هي شمس والشـمس يـاصاح فـــــيها

*

ان تـــقسمها فـــمالها من مــــقام

هي شمس الـــهدى وشــمس المــعالي

*

وهــي احـــرى بــالذكر والاحــترام

مــن ســواهــا فخلني وســـروري

*

لحــظات بـــعد الدمــــوع السـجام

ان قـــلبي مــــن الهــموم مــليء

*

ومــليء مـــن الخــطوب الجســام

ثــم أمســى خــلي بــال طــروبـا

*

راقـــدا بــين ، نــايه ، والمـــدام

ان ضـرب الامـثال فـي مـثل هــــذا

*

هـو ضـرب ، ومـن فـضول الكـــلام

فــالتزامــي بـحب آل رســــول الله

*

يـــغني عــن البـيان التــزامــــي

فــمصاب الزهــراء روحــي فــداها

*

هــو فــي وسـط قـلبي المســــتظام

والحسين الشـهيد فـــي الطـــف ليـلا

*

يـــتراءى لمـــقلتي فـــي المـــنام

فكأن الســــيوف تــــنهل مــــنه

*

نــصب عـيني والظــالمون امــــامي

هو مـرمى فـوق الصــعيد ومــــرمى

*

بــعد وخـز الضـبا لرشــق الســـهام

فســـــماحا ام الحســــين اذا مــا

*

شط بى مزبر الشـــجاء عــن مـرامـي

وطأة الـرزء أثــــقلتني فـــــراحت

*

دون قــــصد تــــخطه أقــــلامي

عـــلمتها انـــــاملي ان تــــطيل

*

القــــول فـــــي وذم اللـــــئام

فـــعليك الســلام مــني يــــترى

*

ان تــفضلت فــي قــبول ســــلامي

يــا ابــنة المــصطفى ويــا خـير ام

*

لبــني المــرتضى الهــداة الكــــرام

امـــنحينا بــنظرة مــــنك فــضلا

*

فـســــماها مـــــلبد بــــالظلام

انت بــاب النــــجاة مــنك فــضلا

*

فادفعي الســـوء عــن ربــى الاسـلام

واحــرسينا مــن خــصنا بــــدعاء

*

هــو امـضى مــن الف الف حســــام


( 363 )

المستوى الرابع المعرفة النورانية لها عليها السلام

وذلك بالاطلاع على حقيقة نورها سلام الله عليها والمبدأ الذي منه انحدر وفيه علا ذلك النور ، ويمكن مراجعة الكثير من الروايات الواردة في المقام لكي تعرف هذه المعرفة النورانية لها والتي هي كفوا لعلي عليه السلام والذي يقول هو نفسه عليه السلام عندما سأله أبوذر الغفاري وسلمان رضوان الله عليهما عن معرفته بالنورانية فقال عليه السلام .

« انه لا يستكمل احد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية فاذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للايمان وشرح صدره اللاسلام وصار عرافا مستبصرا ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاك مرتاب . يا سلمان ويا جندب ، قالا : لبيك يأ أمير المؤمنين ، قال عليه السلام : معرفتي بالنورانية معرفة الله عزوجل ، معرفة الله عزوجل ، ومعرفة الله عزوجل ومعرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى : ( وما امروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له حنفاء ويقيمون الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) . إلى ان يقول عليه السلام : ( يا سلمان ويا جندب ، قالا : لبيك صلوات الله عليك ، قال عليه السلام : أنا أمير كل مؤمنن ومؤمنة ممن مضى وممن بقي ، وايدت بروح العظمة ، وانما انا عبد من عبيد الله لا تسمونا اربابا وقولوا في فضلنا ماشئتم فانكم لن تبلغوا من فضلنا كنه ما جعله الله لنا ، ولا معشار العشر » . وهذا يؤيده على ما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة « من عرفكم فقد عرف الله » اى ان معرفتكم من شأنها ان تؤدي إلى معرفة الله تعالى لانهم هم الدالين عليه تعالى لذا ورد في الحديث عن جابر عن عبدالله الأنصاري يقول : « سمعت ابا جعفر عليه السلام يقول : انما يعرف الله عزوجل ويعبده من عرف وعرف امامه منا أهل البيت وعن لا يعرف الله عزوجل ولا يعرف الإمام منا أهل البيت فانما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا » (1) . اذن معرفة فاطمة بالنورانية

____________

(1) الكافي : 1 | 181 ح 4 .


( 364 )

كمعرفة علي عليه السلام بالنورانية « نحن أهل البيت عجنت طينتنا بيد العناية بعد رش علينا فيض الهداية ثم خمرت بخميرة النبوة وسقيت بماء والوحي ونفخ فيها روح الأمر فلا أقدامنا تنزل ، ولا أبصارنا تضل ، ولا أنوارنا تفل ، واذا ضللنا فمن بالقوم يدل » . الناس من شجرة شتى وشجرة النبوة واحدة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اصلها وانا فرعها وفاطمة الزهراء ثمرها ، والحسن والحسين اغصانها ، أصلها نور وفرعها نور وثمرها نور ، وغصنها نور ، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، نور على نور » (1) .

على ان هناك مراتب عديدة للمعرفة فهي كلي مشكك له مراتب طولية وعرضية وقد قسموها إلى :

1 ـ المعرفة البرهانية : والتي تكون بالدليل العقلي

2 ـ المعرفة الإيمانية : والتي تكون بالدليل النقلي من الكتاب والسنة .

3 ـ المعرفة الشهودية : والتي تكون بالاشراف والكشف والشهود بالقلب . ولقد أضاف اليها سيدمنا الاستاذ آية الله السيد عادل العلوي ( دام ظله ) تقسيماً آخر كما يلي :

1 ـ المعرفة الجلالية : وهي تعني معرفة الشيء في حدوده وشكله الهندسي كمعرفة الجبل من بعيد .

2 ـ المعرفة الجمالية : وهي تعني معرفة الشيء من باطنه وجوهره .

2 ـ المعرفة الكمالية : وهي تعني الوقف على هدف الشيء وغايته .

____________

(1) عن الإمام علي ع من حبه عنوان الصحيفة 38 نقلها عن عبقات الانوار .


( 365 )

البحث الثالث عشر

فاطمة عليها السلام وليلة القدر


( 366 )


( 367 )

للشيخ محمد علي اليعقوبي

ولقـد يـعز عـلى رسـول

*

الله مــاجنت الصــحابة

قـد مــات فـانقلبوا عـلى

*

الاعقاب لــم يخشوا عقابه

مــنعوا البـتولة ان تـنوح

*

عــليه او تـبكي مـصابه

نــعش النــبي أمــامهم

*

ووراءهــم نـبذوا كـتابه

لم يـــحفظوا للــمرتضى

*

رحــم النـبوة والقـرابـة

لو لم يكــن خـير الــورى

*

بعد النـبي لمـا اســتنابه

قد اطـفأوا نـور الهـــدى

*

ضرباً بـحضرته المــهابة

وعدوا على بنت الهــــدى

*

ضرباَ بـحضرته المــهابة

في أي حكم قـد أبــاحــوا

*

ارث فــاطم واغــتصابه

بـــيت النـــبوة بــيتها

*

شادت يد البــاري قــبابه

اذن الاله بــــــــرفعه

*

والقوم قد هتكوا حـــجابة

بأبــي وديــعة احـــمد

*

جرعاً سقاها الظلم صــابه

عاشت مــعصبة الجــبين

*

تئن مــن تـلك العـصابة

حــتى قـضت وعــيونها

*

عبرى ومـهجتها مــذابـة

وأمــضّ خطب فـي حشـا

*

الاسلام قـــد اورى التهابة

بـــالليل واراها الوصــي

*

وقـبرها عـفى تـرابه (1)

____________

(1) القصيدة للمرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي | الذخائر : ص 12 .