مناظرة ابن عباس مع ابن الزبير(1) في حكم المتعة

خطب ابن الزبير بمكة المكرمة على المنبر وابن عبّاس جالس مع الناس تحت المنبر فقال : إن ها هنا رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره ، يزعم أن متعة النساء حلال(2) من الله ورسوله ، ويفتي في القملة والنملة ، وقد احتمل بيت مال البصرة بالاَمس ، وترك المسلمين بها يرتضخون النوى ، وكيف ألومه في ذلك ، وقد قاتل أُمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى الله عليه وآله ومن وقاه بيده ؟؟
فقال ابن عبّاس لقائده سعد بن جبير بن هشام مولى بني أسد بن خزيمة : استقبل بي وجه ابن الزبير ، وارفع من صدري ، وكان ابن عبّاس قد كفّ بصره فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير ، وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ، ثم قال : يا بن الزبير :

 
قـد أنصفت القارة من راماها *** إنـا إذا مـافئـة نلقـاهـا
نـرد أولاها علـى أُخراهـا *** حتى تَصيرَ حرضاً دعواها

 
يا ابن الزبير : أما العمى فإن الله تعالى يقول : ( فإنّها لا تعمي الاَبصارُ ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور )(3) ، وأما فتاي في القملة والنملة فإن فيها حكمين لا تعلمهما أنت ولا أصحابك ، وأمّا حملي المال فإنّه كان مالاً جبيناه فأعطينا كلَّ ذي حقّ حقّه ، وبقيت بقية هي دون حقّنا في كتاب الله فأخذناها بحقّنا.
وأمّا المتعة(4) فسل أُمّك أسماء(5) إذا نزلت عن بردي عوسجة ، وأمّا قتالنا أُمّ المؤمنين فبنا سميت أُمّ المؤمنين لا بك ولا بأبيك ، فانطلق أبوك وخالك(6) إلى حجاب مدّه الله عليها فهتكاه عنها ، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها ، وصانا حلائلهما في بيوتهما ، فما أنصفا الله ولا محمداً من أنفسهما ، أن أبرزا زوجة نبيه صلى الله عليه وآله وصانا حلائلهما.
وأمّا قتالنا إيّاكم فإنّا لقيناكم زحفاً ، فإن كنّا كفاراً فقد كفرتم بفراركم منّا ، وإن كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيّانا ، وأيم الله لولا مكان صفية فيكم ، ومكان خديجة فينا ، لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظماً إلا كسرته .
فلمّا عاد ابن الزبير إلى أُمه سألها عن بردي عوسجة ؟
فقالت : ألم أنهك عن ابن عبّاس وعن بني هاشم فإنّهم كُعُمُ الجواب إذا بُدِهوا.
فقال : بلى ، وعصيتك .
فقالت : يا بني ، احذر هذا الاَعمى الذي ما أطاقته الاِنس والجن ، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها فإياك وإيّاه آخر الدهر .
فقال أيمن بن خزيم بن فاتك الاَسدي :

يا ابن الزبير لقد لاقيـت بائقة***من البوائق فالطُفْ لطفَ محتال
لاقيـته هاشمياً طـاب مـنبته***في مغرسيه كريم العم والخـال
مازال يقرع عنك العظم مقتدراً***على الجواب بصوت مُسمع عال
حتى رأيتك مثل الكلب منجحراً***خلف الغبيط وكنت الباذخ العالي
إن ابن عبّاس المعروف حكمته***خير الاَنام لـه حال من الحـال
عيرته «المتعة» المتبوع سنتها***وبالـقتال وقـد عيَّرت بالمـال
لما رماك على رسل بأسـهمه***جرت عليك بسيفِ الحال والبال
فاحتز مقولك الاَعلى بشفـرته***حزاً وحياً بـلا قيـل ولا قـال
وأعلم بأنك إن عاودت غـيبته***عادت عليك مخازٍ ذات أذيال(7)

وقد ذكر الراغب الاَصفهاني : أن عبدالله بن الزبير عَيِّر عبدالله بن عباس بتحليله المتعة فقال له : سل أُمّك كيف سطعت المجامر(8) بينها وبين أبيك ؟
فسألها ، فقالت : ما ولدتك إلاّ في المتعة(9) .
____________
(1) هو : عبدالله بن الزبير بن العوام اُمه أسماء بنت أبي بكر ، هاجرت اُمه أسماء من مكة إلى المدينة وهي حاملٌ به فولدته في سنة اثنين من الهجرة ، وقيل عليه السلام ولد في السنة الاَولى ، وحضر عبدالله الجمل مع أبيه وخالته لقتال أمير المؤمنين عليه السلام ، عُرف بمواقفه العدائية لاَهل البيت عليهم السلام ، وقيل هو الذي أخرج محمد بن الحنفية من مكة والمدينة ، ونفى عبدالله بن عباس إلى الطائف ، وقال فيه أمير المؤمنين عليه السلام : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبدالله ، وهو أيضاً الذي جمع محمد بن الحنفية وعبدالله بن عباس في سبعة عشر رجلاً من بني هاشم ، منهم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام وحصرهم في شعب مكة وهددهم بضرب أعناقهم أو حرقهم بالنار ، أو يبايعوه ، وحصلت بينه وبين عبدالله بن عباس محاورات ومواقف سجلها التاريخ والتي منها دخول ابن عباس عليه مرّةً فأخذ يؤنّبه ويعنّفه! فقال له عبدالله : والله إني لاَكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة ، دعى الناس إلى بيعته وطاعته ، وقد كانت نهاية أمره أن حاصره الحجاج بمكة نحو ستّة أشهر إلى أن قتله وصلبه في سنة 73 هـ .
راجع ترجمته في : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ص 79 ج 20 ص 102 ـ 149 ، مروج الذهب : ج 2 ص 76 ، الاَغاني لاَبي فرج الاِصفهاني : ج 14 ص 217 .
(2) قول ابن عباس بحلية المتعة مما لا ينكره أحد ، فقد كان يعلن بأباحتها صريحاً حتى شاع وذاع تحليله لها ونظم على ألسنة الشعراء ، فقال بعضهم :

قـد قـلـت للشيخ لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
وهل ترى رخصة الاَطراف ناعمة *** تكون مثواك حـتـى مـرجع الناس

وقد نص على حليتها أهل البيت عليهم السلام ورواياتهم في ذلك متواترة ووضحة ، كما ثبت على حليتها كثير من الصحابة والتابعين ، قال ابن حزم في المحلى : ج 9 ص 519 ـ 520 في مسألة رقم : 1854 : وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من السلف منهم من الصحابة : أسماء بنت أبي بكر الصديق وجابر بن عبدالله وابن مسعود وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن حريث وأبو سعيد الخدري وسلمة ومعبد أبناء أمية بن خلف ، ورواه جابر بن عبدالله عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وآله ومدة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر ، ومن التابعين طاووس وعطاء وسعيد بن جبير ، وسائر فقهاء مكة أعزها الله ، وقد تقصينا الآثار المذكورة في كتابنا الموسوم بالاِيصال . انتهى . وقال الشريف المرتضى في جواب قاضي القضاة : فأما ادّعاؤه أن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر على ابن عباس إحلالها ، فالاَمر بخلافه وعكسه ، فقد روي عنه عليه السلام بطرق كثيرة أنّه كان يفتي بها ، وينكر على من حرّمها وينهى عنها ، وروى عمر بن سعد الهمداني ، عن حُبيش بن المعتمر ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : لولا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زني إلا شقي ، وروى أبو بصير ، قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام يقول : سمعت علي بن الحسين عليه السلام يروي عن جده أمير المؤمنين عليه السلام : لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي .
وقد أفتى بالمتعة جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس ، وعبدالله بن مسعود ، وجابر بن عبدالله الاَنصاري ، وسلمة بن الاَكوع ، وأبي سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، وابن جريح ، ومجاهد ، وغير ما ذكرنا ممن يطول ذكره ، فأمّا سادة أهل البيت عليهم السلام وعلماؤهم فأمرُهم واضح في الفُتيا بها ، كعليِّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام ، وأبي جعفر الباقر عليه السلام ، وأبي عبدالله الصادق عليه السلام ، وأبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام ، وعلي بن موسى الرضا عليه السلام ، وما ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها يدل على بطلان ما ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها ، لأن مقامهم على الفتيا بها نكرة.
راجع: الشافي في الإمامة للمرتضى : ج4 ص 197 ـ 199 ، وعنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج12 ص 253 ـ 254.
وابن جريج المذكور آنفاً هو من التابعين الذين يرون حلية المتعة وهو : عبد الملك بن العزيز بن جريج ، أبو خالد المكي ، المولود سنة ثمانين والمتوفي سنة تسع وأربعين ومائة ، عُد في كتب الرجال والحديث من أعلام التابعين ، كما احتج به أهل الصحاح ، ذكره الذهبي في ميزانه وقال عنه : وهو في نفسه مجمعُ على ثقتة مع كونه قد تزوج نحواً من سبعين امرأةً نكاح المتعة ، كان يرى الرخصة في ذلك ، وكان فقيه أهل مكة في زمانه.
راجع : ميزان الاعتدال : ج 2 ص 659 ترجمة رقم : 5227 ، شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء : ج 8 ص 76 .
(3) سورة الحج : الآية 46 .
(4) ومن أراد البحث والتوسع في مسألة المتعة والاطلاع على دليل حليتها وبطلان تحريمها ودعوى نسخها فليراجع : الغدير للاَميني : ج6 ص223 ـ 240 البيان للسيد الخوئي1: ص313 ، مقدمة مرآه العقول : ج1 ص273 ـ 325 ، المتعة وأثرها في الاِصلاح الاجتماعي للفكيكي.
(5) هي : أسماء بنت أبي بكر ، ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة وأسلمت على ما في اُسد الغابة بعد نيف وعشرين إنساناً ، وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبدالله بن الزبير فوضعته بقباء ، ولقّبها النبي صلى الله عليه وآله باُمّ النطاقين ، لاَنّها صنعت سفرة للنبي صلى الله عليه وآله ولاَبيها لما هاجرا فلم تجد ما تشدّها به فشقت نطاقها وشدّت السّفرة به فسمّاها النبي ذات النطاقين ، وقيل إنها عاشت مائة سنة وماتت سنة ثلاث أو أربع وسبعين. تنقيح المقال للعلاّمة المامقاني : ج3 (فصل النساء) ص69 .
(6) وممن ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج 6 ص 216 ، عن أبي مخنف لوط بن يحيى الاَزدي قال : كتب طلحة والزبير إلى عائشة وهي بمكة كتاباً : أن خذّلي الناس عن بيعة علي عليه السلام وأظهري الطلب بدم عثمان ، وحمّلا الكتاب مع ابن أختها عبدالله بن الزبير ، فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان ، وكانت أُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ بمكّة في ذلك العام ، فلما رأت صنع عائشة ، قابلتها بنقيض ذلك ، وأظهرت موالاة عليّ عليه السلام ونصرته .
(7) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج20 ص 129 ـ 131 ، العقد الفريد للاَندلسي : ج4ص 98 ـ 99 ، مروج الذهب للمسعودي : ج 3 ص 81 نشر دار الاندلس بيروت ، وص 89 ـ 90 نشر مطبعة السعادة القاهرة ، كتاب الفتوح لابن أعثم : ج 6 ص 251 ـ 252 ، بتفاوت ، وقد ذكرها باختصار كل من : صحيح مسلم : ج 2 ص 1026 ، والسنن الكبرى للبيهقي : ج 7 ص 205 (ك النكاح) .
(8) مفرده مجمر ، وهو : ما يوضع فيه الجمر مع البخور .
(9) محاضرات الاَدباء للاِصفهاني : ج 3 ص 314 .

العودة