مناظرة السيد محمد جواد المهري مع الأستاذ عمر الشريف

في مسألة إيمان أبي طالب عليه السلام

يقول السيد محمد جواد المهري في معرض حديثه عن أيّام دراسته في مدرسة الدعية بالكويت في عام 1968 م : في الصف الاَول الثانوي كانت لي نقاشات مع معلم مادّة الدين، ولكن بما أنني كنت قد دخلت ذلك الجو توّاً إضافة إلى كون المعلم شيخاً حاد الطباع لم تتمخّض عن نقاشاتنا المتفرقة أية نتيجة إيجابية ناهيك عن امتناعه عن الخوض في المواضيع المثيرة للاختلاف بعد التفاته إلى وجودي، ومع هذا كانت لي معه أحياناً نقاشات غلبته فيها.
 

مثلاً سأله أحد التلاميذ يوماً: لماذا تأخذ الماء في كفك عند الوضوء وتسكبه من الرسغ إلى المرفق بينما يسكبه أتباع أحد المذاهب الاِسلامية من المرفق إلى الاَسفل؟
 

نفخ الاَستاذ لغديه متظاهراً أنه صاحب الحق وقال: الاَيدي عادة مليئة بالشعر ، وإذا سكب الماء من الاَعلى إلى الاَسفل قد لا يصل إلى ما تحت الشعر، ولكن إذا سكب من الرسغ إلى الاَعلى فالماء يصل إلى ما تحت الشعر قطعاً، وهذا أقرب إلى الاحتياط.
 

نهضت على الفور وقلت: اسمح لي يا سيدي! إذن إذا أردت الغسل وجب وضع الرأس على الاَرض ورفع الاَرجل في الهواء لاَن جسم الاِنسان مليء بالشعر، واستناداً إلى الرأي الذي عرضته يجب أن يصل الماء إلى تحت الشعر!!
 

إرتفع فجأة صوت ضحكات الطلاب، فقال الاَستاذ الذي وجد نفسه في وضع محرج للغاية بلهجة عنيفة: لا تناقش عبثاً!! فأنت لا زلت أصغر من أن تعطي رأيك في القضايا الفقهية!! وأجلسني بكلامه هذا! إلاّ أن الطلاب لم يقنعوا اَبداً.
 

وعلى كل حال انقضت السنة الاَولى من الثانوية ودخلت في السنة الثانية، كان سني قد ازداد ومطالعتي قد كثرت في هذا المجال خلال العطلة الصيفية، فأصبحت أكثر استعداداً للمواجهة.
 

ومن حسن الصدف أن مدرّس مادّة الدين كان شاباً إلى حد ما وحسن الاَخلاق، كنّا في أول درس من مادّة الدين حين دخل الاَستاذ وكان شاباً يدعى « عمر الشريف ».
 

وبدأ الحديث عن موضوع الهداية في الاسلام، وضمن حديثه تفسير الآية الشريفة: ( إنك لا تهدي من أحببت ) (1) ، قال : إن هذه الآية نزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وآله حيث حضر عند رأسه وهو في اللحظات الاِخيرة من حياته وكلّما طلب منه التلفّظ بالشهادتين، أبى حتّى مات كافراً!! فتأثر النبي صلى الله عليه وآله لاَن عمّه الذي يحبّه يموت كافراً، لكن الله تعالى أوحى إليه هذه الآية.
 

الهداية هبة إلهية يمنحها الله لمن يشاء ويسلبها ممّن يشاء، فلا تحاول هداية عمّك!
 

اضطرم الغضب في نفسي وما عادت لي طاقة على الصبر، فنهضت بغضب وبدون استئذان وصحت: أستاذ! لابد وأنكم تعتبرون أبا طالب، هذا الرجل المؤمن، كافراً وتأولون بشأنه هذه الآية لانّه والد علي عليه السلام ، ليس من الاِنصاف اتهام شخص قضى عمره في خدمة الاِسلام وقدّم كل هذا العون للنبي صلى الله عليه وآله وللمسلمين بمثل هذه التهمة ، واعتباره كافراً مع كونه موحّداً حقيقياً وانساناً كاملاً، فمن ذا الذي دافع عن النبي صلى الله عليه وآله يوم هب جميع كفار قريش لمحاربته ومحاصرته اقتصادياً، غير أبي طالب عليه السلام ؟
 

ابتسم الاَستاذ قائلاً:
 

أولاً: ليس من الصحيح اتهامنا بمثل هذه التهمة، فنحن نرى علياً من أفضل الناس وأخلصهم ، ونعتبره على كل حال أحد خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله ، فنحن إذن لاعداوة لنا معه حتّى نعتبر أباه كافراً، ثم إنه كان شخصاً عطوفاً وكثير المحّبة لمحمد صلى الله عليه وآله ، ولهذا السبب كان يدافع عنه حتّى وإن لم يؤمن بدينه، وهذا الطرح لا ينطوي على أية مشكلة.
 

قلت: بل ينطوي على مشكلة كبرى، فالرسول صلى الله عليه وآله أساساً لا يمكنه التعويل على كافر، أو أن يحظى بحمايته على ذلك النطاق الواسع، ألم تقرأوا قوله تعالى في القرآن الكريم: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنَّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) (2) .
 

قال: هذه الآية تعني اليهود والنصارى.
 

قلت: الواقع أن اليهود والنصارى أهل كتاب، فإن لم يكن تعالى قد أباح له موالاة أهل الكتاب والاستعانة بهم، فهو لايجيز قطعاً اتخاذ مشركي قريش حماة لنا، فضلاً عن هذا فقد جاءت في القرآن آية اخرى تنهى عن هذه العلاقات العائلية، وتحذر من موالاة الآباء والاِخوة ـ فما بالك بالاَعمام ـ إذا كانوا كفاراً، أو إيجاد صلات وثيقة معهم: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الاِيمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون ) (3) .
 

بل إن الله عزّ وجلّ قد نهى المسلمين في ما يربو على الثلاثين موضع عن إيجاد علاقات مع الكفار، فما بالك باتخاذهم حماة وأنصاراً، هل يجوز أن يعصي الرسول ـ وهو مبلغ آيات الله ـ أوضح أحكام الله ويعصي ربه جهاراً؟
 

إيمان أبي طالب
 

واذا ما تجاوزنا هذا فثمّة أدلّة جمّة على إيمان إبي طالب، ولعلّي لا أستطيع الآن إحصاءها بإجمعها ، ولكن حسبنا ما جاء في الكثير من أشعاره ، التي يقرّ فيها برسول الله ونبّوته، ويصّرح بإيمانه بالله على الرغم من أنه كان يعيش في وضع لا يسمح له بالتجاهر برأيه إلى هذا الحد.
 

دهش الاَستاذ من هذه الآيات القرآنية التي بدا وكأنها لم تطرق سمعه من قبل وتقلّب لون وجهه من حال إلى حال وقال:
 

إذا كنت تبغي النقاش فالصف ليس موضعاً للنقاش، والصف لا يختص بك حتّى تكون أنت المتحدّث الوحيد فيه وتستحوذ على وقت نيّف وثلاثين من الطلاب! تعال إلى غرفتنا (غرفة المعلمين) للمناظرة في وقت الفرصة.
 

قلت: لا ينبغي هذا! فإمّا أنّك لا تتحدّث في القضايا التي تثير الاِختلاف، وإمّا أنك إذا تحدّثت بها ينبغي أن تتوقّع ردّاً عليها، فأنا اليوم إن لم اُدافع عن أبي طالب، هذا الاِنسان الموحّد الطاهر فسيعتقد هؤلاء الطلاب فيه كعقيدتك فيه، وسأخزى يوم القيامة أمام الله ورسوله.
 

إنني مستعد لمناظرتك حيثما شئت وفي أي موضوع من المواضيع العقائدية ، ولكن إذا سمح لي الطلاب اليوم بقراءة بيتين من الشعر لاَبي طالب عليه السلام لكي لا تهتز عقيدتهم فيه.
 

وفي الحال أيدني الطلاب ، وقالوا: يا أستاذ! الحق معه، دعه يدافع عما يعتقد به.
 

اضطر الاَستاذ للصمت وبقي ينتظر.
 

كنت متجهاً بكل مشاعري إلى أبي طالب ، فاستعنت به وبربّه لاَكون قادراً على أداء حق سيّد مكّة ومولاها في أول اجتماع عام وبحضور الكثير من المستمعين، وليتسنّى لي الدفاع عن هذه الشخصية المفترى عليها في تاريخ الرسالة.
 

فقلت: يا أستاذي! ويا أصدقائي! لم يكن أبو طالب بالذي يعتريه أدنى شك بنبوّة الرسول صلى الله عليه وآله ؛ إذ أن له قصائد كثيرة يمدح فيها الرسول ويشهد برسالته فهو بعد أن أخبر قريش بأنَّ صحيفتكم قد أكلتها الديدان ولم يبق منها سوى اسم الله، وهذا ما أخبرني به ابن أخي محمد، وإذا لم تصدقوا فاذهبوا واستخرجوها من داخل الكعبة ، فإن كان قول محمد هذا صحيحاً عودوا إلى رشدكم وآمنوا له، وإن يك كاذباً أسلمته لكم فان شئتم عاقبتموه أو قتلتموه.
 

قالوا: رضينا بهذا! فذهبوا وجاءوا بالصحيفة ووجدوا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله صدقاً.
 

لكن من ختم الله على قلبه وألقى على بصره وعلى سمعه غشاوة لايعي الحق، ومن الطبيعي أن يتجاهل هذه المعجزة الكبرى، ومن هنا قالوا لاِبي طالب: هذا أيضاً سحر آخر مما يأتيه ابن أخيك، وهكذا انغمسوا في ضلالهم.
 

دنا أبو طالب من بيت الله وتعلّق باستار الكعبة وقال: « اللهم انصرنا على القوم الظالمين فقد قطعوا رحمنا وانتهكوا حرمتنا ».
 

ثم أنشد قصيدة طويلة غراء لا أستظهر منها حالياً ـ وللاَسف ـ سوى بيتين، وأنصح الاَخوة بالذهاب إلى مكتبة المدرسة بعد انتهاء هذا الدرس واستخراجها من كتب التاريخ ومطالعتها.
 

نهض أحدهم قائلاً: في أي كتاب وردت مثل هذه القصّة؟
 

قلت: قصّة الصحيفة معروفة وذكرتها كل كتب التاريخ ويمكنك مراجعة تاريخ اليعقوبي، وسيرة ابن هشام، وتاريخ ابن كثير، وطبقات ابن سعد، وعيون الاَخبار لابن قتيبة ، وهي بأجمعها من الكتب المعتبرة عند أبناء السنة، وعلى كل حال فقد قال أبو طالب في تلك القصيدة الغرّاء:

ألا أنّ خير الناس نفساً ووالداً *** إذا عُـدَّ سـادات البرية أحمد
نبيّ الاِله والكريم بـأصـله *** أخلاقه وهو الـرشـيد المؤيّد

ألا يكفي أن أبا طالب يعتبر الرسول « نبي الاِله »؟ اَليست هذه شهادة برسالة ونبوّة محمد صلى الله عليه وآله ؟ هذا فضلاً عن بيتين من الشعر يصرّح فيهما بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وقد أوردهما البخاري في « التاريخ الصغير »، وابن عساكر في تاريخه، وابن حجر في « الاِصابة » وفيهما يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله بالقول:

لقد أكرم الله النبي محمداً *** فأكرم خـلـق الله في الناس أحمد
وشقّ لـه من اسمه ليجلّه *** فذو العرش محمود وهذا أحمد (1)
 

ظاهر هذين البيتين وباطنهما واضح وصريح، وفيهما دلالة على عظمة شأن أبي طالب ووفرة علمه وعلو منزلته.
 

قال الاَستاذ: هذا البيت يُنسب لحسان بن ثابت.
 

قلت: إنه أخذ هذا البيت عن أبي طالب وضمّنه في قصيدته في مدح الرسول، وإذا ما تجاوزنا كل هذا، هناك أيضاً قصة استسقاء أبي طالب وعبدالمطلب واستعانتهما بالرسول وهو لا زال طفلاً، وهي قصة مشهورة، وهذا دليل واضح على إيمانهما له بالنبوّة والرسالة الخاتمة من قبل أن تُعرض قضية رسالته، فهما كانا يعلمان منذ اليوم الاَول ما لهذا الطفل من منزلة وقرب عندالله. كانت قد مرّت على الناس سنتان لا ينزل عليهم الغيث، وأتت عليهم مجاعة، فأخذ أبو طالب هذا الطفل وتوجّه به إلى الكعبة وقسم على الله به وقال: « اللهم بحق هذا الطفل أنزل علينا غيث رحمتك ».
 

لم تمض ساعة إلاّ وغمامة سوداء قد غطّت سماء مكّة وأمطرت عليهم مطراً غزيراً حتّى خافوا أن يجرف السيل بيت الله.
 

لما تذكّر أبو طالب هذه القصّة، قال في مدح الرسول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثـمـال اليتامى عصمة للاَرامل
يلوذ بـه الهلاّك من آل هاشم *** فـهـم عنده فـي نعمة وفواضل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير هائل (5)
 

لم أكن قد اتممت كلامي حتّى وجدت الصف كله مصغياً لاَشعار أبي طالب ذات المغزى العميق، وهناك رن الجرس فجأة معلناً انتهاء الدرس، وتنفّس المدرس الصعداء، ومع هذا فحينما خرجت من الصف التفت إليَّ باحترام وقال:
 

إنني لاَشعر بالاَرتياح لوجود طالب مثلك بين طلابي له مثل هذه المعرفة بمواضيع العقيدة والتاريخ ويستدلّ بهذه الطريقة الحسنة، وإني لا فتخر بطالب مثلك، ولكن اعلم إن لجميع هذا الكلام ردود.
 

قلت: إني على استعداد لمواجهة أي رد أو انتقاد، ولدي جواب على جميع الاعتراضات، وإذا لم تقنع فإني مستعد للكلام معك ثانية.
 

قال: طبعاً كلامك عن أبي طالب شيّق جداً وينطوي على أمور جديدة بالنسبة لي ، ولكن نفس أولئك الذين نقلت عنهم تلك الاَبيات لاَبي طالب يعتبرونه كافراً!
 

قلت: إن كان هناك من يرى الحق ويدوس عليه ، فلا يعني هذا إنك تتبعه على باطله.
 

قال: تريد أن تقول إن هؤلاء جميعاً حاربوا الحق، وأنتم وحدكم دافعتم عنه؟ ما هذا الكلام يا عزيزي!
 

قلت: يا أستاذ! إنّ قول الحقّ مرّ، وليس بإمكان كل واحد تحمّل هذه المرارة، ثم إنني لا شأن لي بما في كلامهم من تناقضات، بل كنت أبغي فقط الاِستشهاد من كتبكم على إيمان أبي طالب ليتضّح إنه كان مؤمناً تمام الاِيمان، وإذا بقي هناك من ينكر إيمانه يتبيّن أيضاً أنه مخدوع!!
 

قال: تقول إن فيها تناقضات، هل يمكنك البرهنة على ذلك؟
 

قلت: الاَدلّة على ذلك كثيرة! وهذا الدليل كافٍ بحد ذاته، فأنت تلاحظ مع كثرة الاَشعار التي ينقلونها عن أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وآله ، يصورون وبكل جرأة أن هذا الرجل الاِلهي كافر، أليس هذا تناقضاً؟
 

قال: أنت تعلم طبعاً أنّ أبا طالب كان يحب محمداً كثيراً، وكان يدافع عنه طوال مدّة حياته معه، فما هو المانع في أن يبعث البهجة في نفس ابن اخيه بالاَشعار ليقلل إلى حد ما من ألم المصائب التي كانت تترى عليه؟
 

قلت: يا أستاذ إن المدح والثناء شيء آخر غير الشهادة بالنبوّة ، فهو هنا لايثني عليه وكفى ! وإنما يشهد له بالنبوّة أيضاً في مواقف مختلفة، وليس ثمّة مجال للكناية والتورية، وفضلاً عن هذا ألم يعلن النبيّ صلى الله عليه وآله حرمة زواج المسلمات بالكفار؟ والكل يعلم أن فاطمة بنت أسد كانت من أوائل المسلمات، ومع هذا بقيت مع أبي طالب حتّى النهاية ولم يفرّقها الرسول عن زوجها.
 

قال: إن لديك اطلاعاً واسعاً، ولديَّ عدّة قضايا أودّ معرفة رأيك فيها، لكن الوقت لايسمح الآن، أرجو أن يكون لنا من بعد هذا لقاءات منفصلة نتباحث فيها بشكل مفصّل، إلى اللقاء.
 

ـ في أمان الله.
 

إنقضى ذلك اليوم وعدت إلى الدار وحدثت والدي المرحوم بما جرى، فابتهج ودعا لي ثم قال: يا بني إن إيمان ابي طالب كايمان مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه في عهد النبي موسى عليه السلام .
 

أبو طالب كان قد آمن بالرسول منذ البداية وإلاّ لم يكن ليدافع عنه إلى هذا الحد، بيد ان الرسول ما كان مباحاً له وفقاً لاِمر الله باتخاذه نصيراً له، ولا حتّى أن يلقي اليه بالمحبّة.
 

أمّا أشعار أبي طالب في مدح الرسول صراحة واعترافه بنبوّته فكثيرة ، وهي منقولة في كتب السنّة، ويمكنك مراجعة كتاب « أبو طالب مؤمن قريش » من تأليف الشيخ عبدالله الخنيزي ، واكتب شيئاً من تلك الاَشعار وخذها إلى أستاذك، ويكفي أبا طالب انّه كان يذبّ عن الرسول علانية في جميع المواقف والمراحل منذ بداية الدعوة حين جمع الرسول أقرباءه ( وانذر عشيرتك الاَقربين ) (6) وحتّى آخر حياته، وكان يقف بوجه كفّار قريش ويحامي عن الرسول بكل ما اُوتي من قوّة، فإن لم يكن قد آمن برسالة الرسول فما كان الدافع من وراء حمايته له بهذه الصورة؟ ألم يكن أبو لهب عم الرسول وكان يحاربه؟ ومنذ الاِجتماع الاَول الذي جمع فيه الرسول أقاربه ودعاهم ـ بعد تناول الطعام ـ إلى الاِسلام نهض أبو لهب مستنكراً دعوته فصاح به أبو طالب غاضباً: « أسكت يا أعور ما أنت وهذا ، ثم قال : لا يقومنّ أحد، قال : فجلسوا ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله : قم يا سيدي فتكلم بما تحب، وبلغ رسالة ربك، فانك الصادق المصدق » (7) .
 

أي كافر هذا الذي يدافع عن الاِسلام بكل ما أوتي من قوّة وينبري للذود عن ابن أخيه بيده ولسانه ويحميه من قرابته الكافر ، حتّى يبلغ رسالة ربّه بسهولة، وناصره في شعبه ، هو وكل أتباعه يوم كانت كل قريش تحاربه؟! فإن كان شخص كهذا كافراً فأنا أيضاً كافر.
 

شكرت أبي وذهبت لمطالعة كتاب « أبو طالب مؤمن قريش » ووجدت أن المؤلف قد بذل جهداً شاقاً ودافع عن أبي طالب حق الدفاع، ولكن العلاّمة الاَميني كان قد سبَقه إلى البحث في سيرة ومواقف أبي طالب على امتداد سبعين صفحة من المجلد السابع من كتابه « الغدير »، وهو بحث شيّق وثمين.
 

وعلى كل حال لا بأس بذكر عدّة أبيات شعرية اُخرى له لغرض إكمال هذه المقالة إلى حد ما، ولكي لا تبقى لدى القارىء أدنى شبهة وليبلغ كل ذي حقّ حقّه.
 

نقل الحاكم في « المستدرك » أن أبا طالب بعث أبياتاً من الشعر للنجاشي حاكم الحبشة يدعوه فيها إلى الاِحسان إلى مهاجري الحبشة، وجاء فيها:

ليعلم خـيـار الناس أن محمدا *** وزير لموسى والمسيح بن مريم
أتانا بالهدى مـثـل ما أتيا به *** فكل بأمر الله يهدي ويعصم (8)
 

وجاء في أبيات أخرى يخاطب بها رسول الله صلى الله عليه وآله :

والله لن يـصـلـوا إليك بجمعهم *** حتّى أوسـد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك وقرَّ منك عيونا
ودعوتني وعـلـمت أنك ناصحي *** ولـقد دعوت وكنت ثَمَ أمينا
ولقد عـلـمـت بـأنّ دين محمد *** من خير أديان البريّة دينا (9)
 

وله أيضاً قصيدة لامية طويلة في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله يقرّ في عدّة أبيات منها بنبوّته ورسالته، نقل منها ابن هشام أربعة وتسعين بيتاً (10) ، وابن كثير اثنين وتسعين بيتاً (11) ، وصيغت هذه القصيدة على غرار المعلقات السبعة ، وهي في غاية البلاغة والفصاحة ونظمها في وقت هبّت فيه قريش كلّها لمحاربة الرسول صلى الله عليه وآله ، وكانوا يطردون عنه المسلمين بقوّة الحراب.
 

وقد أشاد القسطلاني بفصاحة وبلاغة هذه القصيدة وذكر أنها تضم مائة وعشرة أبيات (12) ، ولو لم يكن منهجنا الاِختصار لنقلنا هذه القصيدة هنا ، ولكن تكفي الاَشارة إليها ليرتدع أصحاب الآراء المنحرفة الباطلة عن انتهاك قدسية هذه الشخصية الجليلة، ولكي لا يتّهموا هذا المؤمن ـ الطاهر السريرة وأول المدافعين عن الاِسلام ـ بالكفر، وأن يتوبوا إلى الله من سوء القول فيه.
 

كان أبو طالب سبّاقاً في ميدان الجهاد والاستقامة في عهد الجاهلية الاَسود وفي ظلمات أبناء قريش.
 

كان أبو طالب كوكباً زاهراً يقتبس نوره الساطع من الشمس المحمدية المتألّقة، وكان صوته المدوي في البطحاء صدى لصيحة النبي في نداء « لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ».
 

كان أبو طالب شخصية انطلقت عقيدة الاِسلام التحررية تحت ظل بريق سيفه البتار ، وصدى أشعاره المثيرة ودفاعه المتواصل، فأضاء ظلمة مكّة بنوره الباهر.
 

كان أبو طالب تابعاً مطيعاً لمحمد صلى الله عليه وآله ، وكان حبّه لصاحب الرسالة يسري في أعماق روحه وجسده ، وظل يسير في طريق المحبّة حتّى اللحظة التي بلغ فيها مرحلة اليقين ، ورفعته يد الغيب الالهية إلى أعلى عليين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله باكياً في رثائه:« يا عم ربيت صغيراً وكفلت يتيما ونصرت كبيراً فجزاك الله عني خيراً » (13) .
 

قال اليعقوبي في تاريخه:« ولما قيل لرسول الله إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه ، ثم دخل فمسح جبينه الاَيمن أربع مرات وجبينه الاَيسر ثلاث مرات » (14) ثم دعا له بالخير، وعظم موت أبي طالب على ابن أخيه حتى سمى ذلك العام عام الحزن، فهل يبكي الرسول هكذا على موت كافر ـ والعياذ بالله ـ ؟
 

وهل يعطف رسول الله صلى الله عليه وآله على كافر ، ويبدي له المحبّة أكثر من سائر المؤمنين ، ويجزع على فقده مع ما أمر به من الغلظة مع الكفّار والرأفة بالمؤمنين؟
 

أعيدوا كتابة التأريخ وامحوا هذه البقع المخزية من صفحاته، كفى انسياقاً وراء الاَسلاف الاَراذل الذين دفعهم بغض وصي رسول الله إلى اتهام أبيه الجليل بتهمة الاِلحاد ، فيما تاريخ الاِسلام حافل بنداءاته الاِسلامية، وكان ناصراً مخلصاً للرسول سلام الله وصلواته عليه وعلى محبّيه، واللعن الدائم على أعدائه إلاّ من انساقوا في هذا الطريق جهلاً ، وإذا أدركوا الحق اتّبعوه ، وعوّضوا عما سلف منهم بالتوبة والاِنابة إلى سبيل الهداية وإلى الصراط المستقيم. (15)

____________
(1) سورة القصص: الآية 56.
(2) سورة المائدة: الآية 51.
(3) سورة التوبة: الآية 23.
(4) التاريخ الصغير للبخاري: ج 1 ص 38، البداية والنهاية لابن كثير : ج2 ص266، الاَصابة لابن حجر العسقلاني : ج4 ص115، دلائل النبوّة لاَبي نعيم : ج1 ص41.
(5) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني : ج2 ص 237 ـ 238، الخصائص الكبرى : ج1 ص86، السيرة الحلبية : ج1 ص190.
(6) سورة الشعراء: الآية 214.
(7) الغدير للاَميني : ج7 ص355.
(8) المستدرك للحكام النيسابوري : ج2 ص623، .
(9) خزانة الادب للبغدادي : ج 2 ص 76 وج 9 ص 397 ، البداية والنهاية لابن كثير : ج3 ص42، الاصابة لابن حجر العسقلاني : ج4 ص116، تذكرة الخواص لابن الجوزي : ص7، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ص 55.
(10) السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ص 291 ـ 299 .
(11) البداية والنهاية لابن كثير : ج 3 ص 53 ـ 57.
(12) إرشاد الساري للقسطلاني : ج2 ص238.
(13) تاريخ اليعقوبي : ج2 ص35، تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص9، الغدير للاَميني : ج7 ص373.
(14) تاريخ اليعقوبي : ج2 ص 35.
(15) مذكرات المدرسة ، للمهري : ص 18 ـ 30 .

العودة