مناظرة السيد مصطفى العاملي مع رجل فلسطيني

في حكم البكاء وإقامة العزاء على الحسين عليه السلام

سألني رجل من أهل فلسطين : ما هو الفرق بيننا وبينكم ؟
قلت : لا أدري ، لاَنّي لا أعلم ماذا تعتقدون .
قال : فإننا مسلمون ، ونعتقد بدين الاِسلام .
قلت : ليس كل من ادّعى الاِسلام صار مسلماً ، فإن للمسلم شروط وقوانين لا بد له من الالتزام بها ، ونحن يا هذا نعتقد أن الدين عند الله الاِسلام ، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، ونصلي الخمس ، ونصوم شهر رمضان ونؤدي الزكاة ونحج البيت ، ونتوجه نحو قبلة المسلمين ، فإذا كنت ملتزماً بهذا فأنت مسلم ، ولا فرق بيننا وبينكم.
قال : أوه ، أتراك تخرجنا عن الاِسلام ، ألم تعلم أننا نعتقد بكل ما ذكرته ؟
قلت : هذا الجواب من نوع سؤالك ، وقد كنت معتقداً ذلك بكم ، لظني أنكم مسلمون ، ولما سألتني ما الفرق بيننا وبينكم حصل عندي الشك في إسلاميتك .
قال : إني مسلم صحيح ، وأعتقد بهذا كله ، ولكني منذ اختلطت بكم وعاشرتكم وجدت من الشعائر عندكم ما لا يتفق مع العقل والدين .
قلت : قل مسلم ، واترك دعوى الصحة جانباً ، فليس كل مدّع صادقاً.
قال : ومن أين لك العلم بأني غير صادق ، ولا يعلم ما في القلوب إلاّ الله ؟
قلت : دعواك الصحة من غير سبق تأكيد عليها آثار الريب والشك في ذلك عندي ، ولكن تستطيع إثبات صحة إسلامك بإسدائك النصيحة لاَخيك المسلم ، فإن نبي الاِسلام قال : الدين النصيحة(1)
قال : وما تعني بالنصيحة ؟
قلت : إنك تذكر أن لدينا شعائر لا تتفق مع العقل والدين ، وإني أقول كما قال عمر بن الخطاب : رحم الله امرءاً هداني إلى عيوبي ، فإن رايت يا هذا ، هداك الله ، أن تبين لي هذه الشعائر الفاسدة فلعل الله يهديني بك من الضلالة إن كان كما زعمت .
قال : هي قضية العاشوراء ، وإقامة عزاء الحسين في كل عام.
فاستفزَّني الضحك من قلة حيائه ، وقلت له : صدق الله حيث يقول : ( وإذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسامُهُم وإن يَقولوُا تَسمَعْ لِقولِهِم )(2). الآية ، لقد غرني رواؤك ، وخدعني شكلك ـ بادىء الاَمر ـ حتى تكلمت فتغير رأيي فيك .
فقال : وما ذاك ؟
قلت : ألم يبلغك ما رواه علماؤكم عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه لا يجد عبد طعم الاِيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما(3) ، وقال الله عزّ وجلّ لنبيه : ( قُل لا أَسألُكُم عَليهِ أَجراً إلاّ المَودَّةَ في القُربَى ) (4). فهل مودة القربى لرسول الله صلى الله عليه وآله هي السرور بما يحزنه ، والفرح بما يسوؤه ، وهل محبة الرسول شماتته بما يصيبه ، ويحك أما علمت أن الحسين عليه السلام هو قرة عين الرسول ، وثمرة مهجته كان يركبه ظهره ، ويحمله على عنقه ويقبله في نحره ويقول : حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً(5)، وقد وردت الروايات المتكاثرة أن النبي صلى الله عليه وآله بكى عليه ، وحدث عن شهادته ولعن قاتله كما ذكر ذلك ابن عساكر(6)عن أمير المؤمنين عليه السلام وأنس وأبي أمامة واُمّ سلمة وعائشة وزينب بنت جحش واُم الفضل زوجة العباس وسعيد بن جهمان ومحمد بن صالح وابن عباس وابن عمر وكعب الاَحبار وغير هؤلاء .
تدعي الاِسلام ومحبة الرسول ولا تواسيه في مصيبته وتشاركه في أحزانه ، لا بل أنت تريد مشاركة يزيد وأتباعه باتخاذهم يوم قتل الحسين عيداً ، وجعلهم إياه يوم فرح وسرور وتوسعة على العيال ، ولكن لا ألومك لاَنك لا تعرف القيم ولا تقدر الحقوق.
قال : وممَّ تأكدت إني لا أعرف القيم ولا أقدر الحقوق ؟
قلت : أليس قد جرت العادة بإقامة الذكرى لعظماء الرجال ، وذكر مآثرهم ، وأحوالهم وذكر سيرهم ، لترغيب الشعوب في اقتفاء آثارهم ، والسير على طريقهم ليكونوا عظماء مثلهم .
قال : بلى .
قلت : فما أنكرت من إقامة ذكرى الاِمام الحسين عليه السلام في كل عام ليقتدي به الناس في المكارم ، ويسلكوا نهجه للاِنسانية الحقّة والرجولة الصحيحة ، فيبذلوا النفس والنفيس في سبيل الحرية ، وليتعلموا منه إباء الضيم وعزة النفس حيث الشرف كل الشرف ، وحيث الفخار ، وحيث العلاء ، كما قال ـ صلوات الله عليه ـ من جملة كلام له : ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ، بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت ، وانوف حمية ، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام(7).
وقوله عليه السلام :
 

وإن تـكـن الاَبدان للموت أنشئت***فقتل أمريء بالسيف في الله أفضل(8)

أو ما علمت أن الحسين عليه السلام كان يمثل شعور شعب حي مرهق بالظلم ، معني بالاستبداد من أمراء فسقة ، شأنهم محق الحق بالقوة ، وسحق المعنويات بالماديات ، عروا من الاَخلاق ، وخلوا من المعارف ، فمرقوا من الدين مروق السهم من الرمية ، وراحوا ـ باسم الدين ـ يردّون الناس عن الدين القهقرى ، ولكن رمز الفضيلة ، ومثال الحق والاِخلاص ، سيد أهل الاِباء ، الاِمام أبا عبدالله الحسين عليه السلام نهض نهضته المباركة لينقذ الحق من براثن الباطل يدافع عن عقيدته ، عن حجته ، عن مبادئه ، عن شريعته ، عن اُمّته ، عن أولئك المستضعفين..
قدم نفسه قرباناً في سبيل الحق ، لا يلتمس أجراً ولا يطلب مالاً ولا نوالاً ، ولا جاهاً ولا بالتماس من صديق ، أو مخافة من عدو ، بل غيرة على الدين وانتصاراً للحق :
 

قضى ابنُ علي والحفاظ كلاهما***فلست ترى ما عشت نهضة سيّد(9)

أما علمت أن قتل الحسين عليه السلام كان بعثة ثانية للشريعة الغراء ، وإشراقاً آخر لذلك النور البهي الاِلهي ، بعد أن مات الشعور الاِسلامي السامي من النفوس أو كاد ، وغلّت الاَيدي وكمّت الاَفواه ، ولم يعد أحد يشعر بالمسؤولية عن مظلمة أخيه ، ولذلك لكثرة المظالم ، وغشم الاَمراء ، لقد قام في وجه الجور والفجور ، وثار على المنكر والبغي ، فقاتل وذهب شهيداً ، لقد قتل ، ولكنه المنصور ، فقد خفف الويلات عن المسلمين ، وذلك بتخفيف غلواء الحاكمين ، وشل حركات المعتدين ، حيث أسفر الصبح لذي عينين ، وظهر للناس ما اقترفته تلك الطغمة وما اجترحته من آثام ، فتنبه الاَحرار إلى أن الشرف في التضحية ، وفي الموت تكون الحياة ، بل الموت أفضل من حياة تنافي الاِيمان والكرامة ، وتناقض الوجدان والشهامة ، وخير للاِنسان أن يموت من أن يعيش ـ كالنعم السائمة ـ متحجر الفكر لا يدري ما الكرامة.
 

وإذا لم يكن من الموت بدّ***فمن العجز أن تعيش جبانا

سيما والحسين سبط الرسول الاَعظم ، والقيِّم على حكم الكتاب .
ووجد صرح الدين تنهار وأركانه تتداعى ، وناداه منادي الواجب ـ من داخل الضمير ـ حي على الجهاد ، وهَّيا لقمع الطغيان ، فقد بلغ السيل الزبى ، وشعر بعظم المسؤولية فنهض منتصراً للفضيلة ، ثائراً للكرامة ، صادعاً بالحق داعياً إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، هذا وإن سلاحه الصبر وحسن اليقين ولسان الحال يقول :
 

إن كان دين محمد لم يستقم***إلا بقتلي فيا سيوف خذيني(10)

قال : إن الاَخبار كلها تنص على أن الحسين لم يكن لديه أنصار ، وانه خرج هارباً من المدينة إلى مكة ، ومن مكة إلى العراق ، خوفاً من إلزامه بالبيعة ليزيد(11) مع أنه لو بايع بقي على مكانته وجاهه ، وسلم من محنة القتل ومن سبي الحريم ، فنهضته إنما كانت عناداً للسلطان(12) وإلقاءً باليد إلى التهلكة ، وقد نهى الله عن ذلك ، فقال : ( وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَّهٌلُكِة )(13).
قلت : لا ألومك على تأويلك الآية بهذا المعنى ، حيث علمت مقدرتك الفكرية ، وثبت عندي ما أنت فيه من القصور.
قال : وهل لديك معنى للاِلقاء في التهلكة غير ما ذكرته.
قلت : نعم ، وفيه وجوه ، ومنها : إن الحسين عليه السلام وهو وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وسبطه ، وإليه معاد الناس في معرفة أحكام الشريعه ، وهو المنظور إليه ، والمقتدى به في القول والفعل ، لو سلم ليزيد ووضع يده في يده ـ مع اتصاف يزيد برذائل الاَخلاق ، وتجاهره بالفسق ، واستباحة المحرمات ، لكان هذا يحط من قدر الحسين العالي ، ومكانته السامية ، ومقامه الاَعلى ومحله الاَرقى ، وكان لا يذكر إذا ذكر عظماء الرجال ؟ وهذا هو بعينه الاِلقاء باليد إلى التهلكة ، قال الشاعر :
 

ليس من مات فاستراح بميت***إنما الميت ميت الاَحياء(14)

ومنها : إن الناس ترضى عن يزيد وعن أعماله ، بل إنهم يتخذون عمل يزيد قدوة لهم ، فيعم الفساد ، وتنطمس رسوم الشريعة المحمدية الغراء ، وفي موت الشريعة موت لصاحب الشريعة ، وهو جده الرسول ، وموت للحسين عليه السلام الذي هو الوارث للشريعة والقيم عليها ، وهذا هو بعينه الاَلقاء باليد إلى التهلكة.
ومنها : إن سكوت الحسين عليه السلام وعدم غضبه لله موجب إما لغضب الله عليه ، وإمّا لحرمانه من الاَجر ، وهذا هو الاِلقاء باليد إلى التهلكة.
وقد تعبد الله قوما بهذا الحكم فقال : ( فَتُوبُوا إلى بَارِئكُم فَاقتُلوُا أَنفُسَكُم ذَلِكُم خَيرٌ لَّكُم عِندَ بَارِئكُم )(15).
ومنها : أن الحسين عليه السلام لم يكن أميناً على نفسه لو بايع ، فقد كانت نيتهم إلقاء القبض عليه ثم يقتلونه صبراً ، وذكر أصحاب المقاتل أن يزيد أرسل إلى مكة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أمية ليغتالوا الحسين على أية حال كان ، ولو في جوف البيت الحرام(16) ، وفي مقتل الخوارزمي أن الحسين عليه السلام كتب إلى عبد الله بن جعفر الطيار : فوالله يا بن العم ، لو كنت في جحر هامة من هوام الاَرض لاستخرجوني حتى يقتلوني ، ووالله ليعتدنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت(17).
إذن الحسين عليه السلام لا يرضى أن يُقتل صبراً ، قتلة الذل والصغار ، وهو بعينه الاِلقاء باليد إلى التهلكة ، فهو ـ صلوات الله عليه ـ يؤثر أن يموت ميتة العز والشرف لا ميتة الذل والصغار ، إنه ليرى الموت بين مشتجر العوالي وبوارق الصفاح هو بعينه الحياة ، وهو بعينه الخلود ، ولقد وصل إلى الهدف ونال ما أمل ، انظر إليه بعين صحيحة ، وتأمله بقلب واعٍ ، ألا ترى ـ على مرّ العصور والاَجيال ـ يذكر الحسين عليه السلام فتعبق الطيوب والعطور ، ويذكر أعداؤه فيفوح الدفر والنتن ، وأن الحسين عليه السلام لكما قيل فيه :
 

رأى أن ظهر الذلّ أخشن مركباً***من الموت حيث الموت منه بمرصد
فآثر أن يسعى على جمرة الوغى***برجلٍ ولا يعطي المقادة عن يد(18)

ونهضة الحسين عليه السلام كشفت ما عليه القوم من سوء النويا للدين ولاَهله ، فإذا لم يرعَوا لرسول الله صلى الله عليه وآله حرمةً بولده ، فأحرى بهم أن لا يُراعوا له حرمة في نفسه ، لو كان موجوداً أو بيدهم سلطان .
واعلم أن بقتل الحسين عليه السلام تنبه المؤمنون ، وثار الحق على الباطل ، وأقدم الاَحرار على التضحية ، فلو لم تكن تضحية الحسين عليه السلام هي عين الصواب لَم يقتدِ به عظماء الرجال في ذلك الوقت ، أمثال أبناء الزبير والمختار وآل المهلب ، وغيرهم ممن آثروا الموت على الحياة ، ولم يعطوا الطاعة لقوم لم يجدوهم أكفاء لهم شرفاً ومكانة ، ولو لم يقتل الحسين عليه السلام بقيت الاَيدي مكتوفة ، والاَفواه مكمومة ، والمؤمنون يقتلون تحت كل حجر ومدر.
قال : إني أجد في هذه المعاني روحاً من الحقيقة ، ولكن الذي أنتقد عليه هو ما يحصل في مجالس التعزية من السُباب لبعض الصحابة ، وما يحصل من الاَعمال الشبيهة التي تسيء إلى الاَخلاق والمعنويات ، كضرب السيوف والسلاسل وإركاب النساء على الجمال مما لا ضرورة إليه.
قلت : قد قلنا سابقاً إن الغرض من إقامة العزاء إنما هو تجديد لذكرى هذا الرجل العظيم ، وحيث للناس أن يقتدوا به في علو الهمّة والشمم والاِباء وعزة النفس ، والمحافظة على الدين مهما كلّف الاَمر ، ولو أدى إلى إزهاق النفوس والاَرواح .
وأما سب الصحابة فإن هذا محض افتراء ، نعم لا نتحرج أن نقول : اللهم ألعن من ظلم محمداً وآل محمداً ، لاَن ظالم محمد صلى الله عليه وآله يجب لعنه ، لاَنّه ردّ على الله برده على رسول الله ، وظالم آل محمد يجب لعنه ، لاَنّه لم يوف الرسول أجر الرسالة ، وهو مودته في قرباه ، قال الله عزّ وجلّ : ( قُل لا أَسألُكُم عَليهِ أَجراً إلاّ المَودَّةَ في القُربَى )(19)اًن وظالم آل محمد مؤذ لرسول الله في عترته ، وهذا ملعون في كتاب الله ، قال الله عزّ وجلّ : ( إنَّ الّذينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسولَهُ لَعَنهمُ اللهُ فِي الدنيا والآخِرةِ وَأعَدَّ لَهمة عَذاباً مُّهينا ، وَالَّذينَ يُؤذُونَ المؤمنينَ والمُؤمناتِ بِغَيرِ ما اكتَسَبوا فَقَد احتَمَلُوا بُهتاناً وإِثماً مُّبِيناً )(20)
فنحن بقولنا : اللهم العن ظالم محمد وآل محمد نلعن من لعنه الله في كتابه ، وأنتم كذلك تقولون ، واللعنة تعرف أهلها ، وقد عاشرتمونا مدة طويلة فهل اطلعت على شيء غير هذا ؟
قال : معاذ الله ، ولكن يقال إنكم تسبون الصحابة .
قلت له : ويحك ، لا يطلب أثرٌ بعد عين ، نحن غير خائفين منكم لنتقيكم ، ولا لكم ذلك السلطان وتلك القوة ، وأنت وحدك بين ظهرانينا لك أكثر من خمس وعشرين سنة ، أما كان الاَجدر في هذه المدة الطويلة أن يغلط واحد منا ولو غلطة واحدة ، هذا لو كان الاَمر كما تدعيه ، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام ما أضمر أحدٌ شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه ، وصفحات وجهه(21)وهذا أنت تعترف أنه لم يظهرلك من ذلك أي أثر ، ومع هذا فقد تركت المشاهدات التي أحسستها ولمستها وتتبعت إشاعات أهل الاَراجيف ، ومن شأنهم الاَرجاف وإلقاء بذور الشقاق ، والتفرقة بين المسلمين لقاء دريهمات يتقاضونها من أعداء الدين والاِسلام .
ولنعم ما قال سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : بين الحقّ والباطل أربع أصابع ، ثم وضع أربع أصابعه بين عينه واُذنه فقال : ما رأيته بعينك فهو الحق ، وقد تسمع بأذنيك باطلاً كثيراً(22)
وأنا أفيدك ، أن هذا الذي ادعيت سماة من جملة ذلك الباطل الكثير الذي لا حقيقة له ، وبرهاناً أنك مع ضعفك وأنت مقيم بين الشيعة وفي محيط شيعي لم يغلط أحد منهم أمامك غلطة واحدة تذكره طيلة خمسة وعشرين عاماً.
فقال : صدقت ، وإن الذي تذكره لاَبين من الشمس وأوضح من النهار.
قلت : وأما أعمال الشبيه ، فلاَن جلَ الناس أمّيون ، وليس كلهم يقرأ السيرة ، بل ولا كلهم يفهم ما يقوله القارىء ، وأعمال الشبيه رواية تمثيلية تمثل الواقعة ليعرفها الجاهل ـ شاهد عيان ـ مع المحافظة على النواميس الاَخلاقية ، فيتحصل لديه ، معرفة كرامة هؤلاء ولؤم أولئك .
..... واعلم أن أعظم المصائب هي مصيبة الرسول صلى الله عليه وآله وهي التي يجب أن تقدم على كل مصيبة ، وأن المسلم ليجدر به أن يحزن لحزن الرسول صلى الله عليه وآله ويفرح لفرحه ، ومن لا يحزن لحزن الرسول صلى الله عليه وآله ويفرح لفرحه فليس بمسلم .
قال : هذا صحيح ، ولكن هذه المصيبة مرَّ عليها أربعة عشر قرناً ، ومن العوائد أن مدة بقاء الحزن لغاية أربعين يوماً ، ولو تعاظم الاَمر فإلى الحول ، فما معنى هذا التجديد دائماً ، وقد مرَّ عليها عشرات المئات من الاَعوام .
فقلت له :
 

لقد أسمعت لو ناديت حيّاً*** ولكن لا حياة لمن تنادي

أنا أتكلّم ، وأنت لا تفهم ، أما علمت أن مصيبة كلٍ بقدره ، وإذا كان محمد صلى الله عليه وآله ، هو سيد الكائنات فلا جرم أن مصيبته أعظم من جميع الكائنات ، أوما علمت أن محمداً صلى الله عليه وآله له الفضل كل الفضل على جميع المسلمين ، من أول بعثته إلى يوم القيامة ، فيجب على كل مسلم أن يشاطر الرسول همومه ، ويؤدي له الحق من الحزن لحزنه وإقامة المآتم لولده.
بربك خبرني لو أن الحسين عليه السلام قتل في حياة جده هل كان الرسول صلى الله عليه وآله يحزن لقتله أم يفرح ؟
قال : بل كان يحزن ، بالطبع .
قلت له : الآن ثبت عندي أنك غير مسلم .
قال : ولماذا وصمتني بهذه الوصمة ، أما هو حرام عليك ؟
قلت : لي الحق في ذلك ، لاَنك تعتقد أن الرسول صلى الله عليه وآله يحزن لقتله فيما لو كان حيّاً ، ويقعد لاِقامة العزاء ، ثم إنكم تجعلون يوم قتله عيداً ، وتتباركون به ، وتستعملون الزينة فيه والدهن والكحل والتوسعة على العيال ، وتستحبون صومه ، لاَنه يوم بركة كما تزعمون عناداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وشماتةً به .
هذا مع اعترافكم ـ كما في صحيح البخاري(23)ـ أن اليهود كانت تجعله عيداً ، وأن اليهود والعرب في الجاهلية كانوا يصومونه ، فأراكم في هذا قد قلدتم اليهود وأعراب الجاهلية ، ورغبتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتركتم سنته وقد قال : من رغب عن سنتي فليس مني(24) اعترفتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فُرض عليه صيام شهر رمضان ترك صوم يوم عاشوراء(25) وأنتم تصومونه خلافاً عليه ، كأنكم أعلم من الرسول صلى الله عليه وآله بموارد الطاعات ، أو أنكم أحرص على مرضاة الله منه .
قال : إني لا أعترف بهذا أبداً .
قلت : هذا صحيح البخاري موجود ، وقمت لآتيه به ، فقال : لا حاجة بنا إليه ، ولست اُكذبك فيما تقول إنه موجود فيه.
قلت له : وصحّ أن النبي صلى الله عليه وآله لما رجع من غزوة اُحد وسمع نساء المهاجرين والاَنصار يَنُحنَ على قتلاهن دمعت عيناه وقال : ولكن حمزة لا بواكي له(26) ، فذهب جابر بن عبدالله وجماعة من الاَنصار وأمر والنساء أن لا تنوح على قتلاها حتى ينحنَّ على حمزة عليه السلام ، وجئنَّ إلى دار رسول الله صلى الله عليه وآله ونِحْنَ على حمزة عليه السلام وندبنه حتى طاب قلب رسول الله صلى الله عليه وآله ولم ينكر ذلك .
والولد ـ بلا شك ـ أعز من العم ، فإذا لم يطب قلب النبي صلى الله عليه وآله حتى اُقيم العزاء على عمّه حمزة عليه السلام ، وسمّاه سيد الشهداء ، فبالاَحرى أن يكون ذلك منه لولده الحسين عليه السلام وارث علمه وحكمته ، وخليفة الله في الاَرض من بعد جده وأبيه وأخيه عليهم السلام .
وأمّا إركاب النساء على الجمال : فهذا ما لا نقره ولا نرضى به ، نعم إذا كنَّ غير مكشوفات ولا يُعرَفن فلا بأس بذلك ، لاَن ذلك ـ كما قدمنا ـ تمثيل للواقعة أمام الجاهل ، فما أنكرت علينا إلاّ حبنا لاَهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله ومولاتنا حفظاً لمودة الرسول في قرباه ، وإحياءنا ذكرهم ، وأخذنا بهديهم ، ونحن لا يضرنا إنكار المنكر إذا كان عملنا يرضي الله ورسوله .
 

عليّ نحت القوافي من معادنها***وما عليّ إذا لم تفهم البقر(27)

____________
(1) راجع : مسند أحمد بن حنبل : ج2 ص297 ، صحيح البخاري : ج1 ص22 ، تاريخ بغداد : ج14 ص207 ، مجمع الزوائد : ج1 ص 87 .
(2) سورة المنافقون : الآية 4 .
(3) راجع : صحيح البخاري : ج8 ص 17 ، إتحاف السادة المتقين للزبيدي : ج9 ص 547 .
(4) سورة الشورى : الآية 23 .
(5) راجع : مسند أحمد بن حنبل : ج4 ص172 ، سنن ابن ماجه : ج1 ص51 ح144 ، سنن الترمذي : ج5 ص617 ح3775 ، المستدرك للحاكم : ج3 ص177 ، فرائد السمطين : ج2 ص 129 ح428 وص 131 ح429 .
(6) راجع : تاريخ ابن عساكر (ترجمة الاِمام الحسين عليه السلام ) ص172 ـ 185 ح220 ـ 335 ، المستدرك للحاكم : ج3 ص 176 ـ 179 ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج1 ص158 ، الخصائص الكبرى للسيوطي : ج2 ص 125 (ب إخبار النبي صلى الله عليه وآله بقتل الحسين عليه السلام ).
(7) راجع : مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج2 ص7 ، اللهوف ص42 ، مقتل الحسين عليه السلام للمقرم : ص 234 .
(8) مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج2 ص 33 ، اللهوف لابن طاووس : ص 32 ، مقتل الحسين 7 للمقرم : ص 180 .
(9) ديوان السيد حيدر الحلي رحمه الله : ج 1 ص 72 .
(10) للشيخ محسن أبو الحب .
(11) روى المؤرخون أن أبا هرة الاَزدي ـ وهو من الكوفة ـ قد التقى بالحسين عليه السلام وهو في مسيره إلى كربلاء فسأله قائلاً : يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد صلى الله عليه وآله ؟ فقال له الحسين عليه السلام : يا أبا هرة إن بني اُمّية قد أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، يا أبا هرّة لتقتلني الفئة الباغية ، وليلبسهم الله تعالى ذلاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وليسلطنّ الله عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ ، إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم . راجع : مقتل الحسين للخوارزمي : ج 1 ص 226 ، مقتل الحسين للمقرم : ص 170 .
(12) أقول : يا لها من جرأةٍ على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسيد شباب أهل الجنة ، وهل يحتمل مسلم منصف أن ريحانة النبي صلى الله عليه وآله خرج عناداً للسلطة ، وهل القائل والصادق في قوله عليه السلام : وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا ظالماً ، وإنما خرجتُ لطلب الاِصلاح في أمة جدي ، أريد أن أمُرَ بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام ، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ... الخ .
راجع : مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج 1 ص 188 ـ 189 ، بحار الاَنوار : ج 44 ص329 .
(13) سورة البقرة : الآية 195 .
(14) هذا البيت لعدي بن الرعلاء الغساني ، راجع : شرح أبيات مغني اللبيب : ج3 ص 197.
(15) سورة البقرة : الآية 54 .
(16) بحار الاَنوار : ج 45 ص 99 ، المنتخب للطريحي : ص 435 ،لواعج الاَشجان للسيد محسن الاَمين : ص 69 ، الخصائص الحسينية للتستري : 399 ، مثير الاَحزان للجواهري : ص 30 ـ 31 ، أسرار الشهادة للدربندي : ج 1 ص 55 .
(17) مقتل الحسين للخوارزمي : ص 217 ـ 218 ، تاريخ الطبري : ج 5 ص 385 ، الكامل لابن الاَثير : ج4 ص 38 ، مقتل الحسين عليه السلام للمقرم : ص166 .
(18) ديوان السيد حيدر الحلّي عليه السلام : ج 1 ص 71 ـ 72 .
(19) سورة الشورى : الآية 23 .
(20) سورة الاَحزاب : الآية 57 و 58 .
(21) راجع : نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : ص 472 ، قصار الحكم رقم : 26 ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج72 ص204 ح 11 .
(22) بحار الاَنوار للمجلسي : ج75 ص 197 ح16 ، وجاء في نهج البلاغة للاِمام علي عليه السلام ص198 ، من كلام له في النهي عن سماع الغيبة رقم : 141 ؛ قوله عليه السلام : أَمَا إنَّه ليس بينَ الحقِّ والباطلِ إلاَّ أربعُ أصابع. فسُئل ، عليه السلام ، عن معنى قوله هذا ، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثم قال : الباطلُ أن تقولَ سمعتُ ، والحقُّ أن تقول رأيت !
(23) صحيح البخاري : ج3 ص 57 .
(24) راجع : مسند أحمد بن حنبل : ج2 ص 158 وج3 ص 241 ، صحيح البخاري : ج7 ص2 ، حلية الاَولياء : ج3 ص 228 ، تاريخ بغداد للخطيب : ج3 ص 330 ، السنن الكبرى للبيهقي : ج7 ص 77 ، وسائل الشيعة : ج 14 ص 9 (ب2 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 9).
(25) كما ورد النهي أيضاً عن صيامه راجع : صحيح البخاري : ج3 ص 57 .
(26) تقدمت تخريجاته .
(27) الحقيبة مناظرات ومحاورات للسيد مصطفى مرتضى ص 81 ـ 92 .
 

العودة