مناظرة (1) هشام مع عمرو بن
عبيد (2) في مسجد البصرة
عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد
الله ـ عليه السلام ـ جماعة من أصحابه
فيهم حمران بن أعين ، ومؤمن الطاق ، وهشام
بن سالم ، والطيار ، وجماعة من أصحابه ،
فيهم هشام بن الحكم ، وهو شاب .
فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : يا
هشام !
قال : لبيك يا بن رسول الله !
قال : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد
وكيف سألته ؟
قال هشام : جعلت فداك يابن رسول الله ،
اني أجلك وأستحييك ، ولا يعمل لساني بين
يديك .
فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : إذا
أمرتكم بشيء فافعلوه !
قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد
، وجلوسه في مسجد البصرة ، وعَظُم ذلك
عليَّ ، فخرجت إليه ، ودخلت البصرة يوم
الجمعة ، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا
بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه
شملة سوداء مؤتز بها من صوف وشملة مرتد
بها ، والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس
فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على
ركبتيّ ، ثم قلت : أيها العالم أنا رجل
غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة ؟
قال : أسأل !
قلت له : ألك عين ؟
قال يا بني أي شيء هذا من السؤال ، إذاً
كيف تسأل عنه ؟
فقلت : هذه مسألتي .
فقال : يا بني ! سل وإن كانت مسألتك حمقى
.
قلت : أجبني فيها .
قال : فقال لي : سل !
فقلت : ألك عين ؟
قال : نعم .
قلت : قال : فما تصنع بها ؟
قال : أرى بها الالوان والاشخاص .
قال : قلت : ألك أنف ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أشم به الرائحة .
قال : قلت : ألك لسان ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أتكلم به .
قال : قلت : ألك أذن ؟
قال : نعم .
قلت : فما تصنع بها ؟
قال : أسمع بها الاصوات .
قال : قلت : ألك يدان ؟
قال : نعم .
قلت : فما تصنع بهما ؟
قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللّيّن من
الخشن .
قال : قلت : ألك رجلان ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع بهما ؟
قال : أنتقل بهما من مكان إلى مكان .
قال : قلت : ألك فم ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أعرف به المطاعم والمشارب على
اختلافها .
قال : قلت : ألك قلب ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أميّز به كلما ورد على هذه الجوارح
.
قال : قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن
القلب ؟
قال : لا .
قلت : وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة ؟
قال : يا بني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء
شمته أو رأته أو ذاقته ، ردّته إلى القلب
، فتيقن بها اليقين ، وأبطل الشك .
قال : فقلت : فإنما أقام الله عز وجل
القلب لشك الجوارح ؟
قال : نعم .
قلت : لابد من القلب وإلاّ لم يستيقن
الجوارح .
قال : نعم .
قلت : يا أبا مروان ، إن الله تبارك
وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها
إماماً ، يصحح لها الصحيح ، وينفي ما شكّت
فيه ، ويترك هذا الخلق كلّه في حيرتهم ،
وشكهم ، واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً
يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك
إماماً لجوارحك ، تردّ اليه حيرتك وشكك ؟
! .
قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً .
قال : ثم التفت إليّ فقال لي : أنت هشام ؟
قال : قلت : لا .
فقال لي : أجالسته ؟
فقلت : لا .
قال : فمن أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة
.
قال : فأنت إذاً هو . ثم ضمني إليه ،
وأقعدني في مجلسه ، وما نطق حتى قمت ،
فضحك أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ ، ثم
قال : يا هشام ، من علّمك هذا ؟ قلت :
يابن رسول الله جرى على لساني .
قال : يا هشام هذا والله مكتوب في صحف
إبراهيم وموسى (3) .
____________
(1) كل مناظرات هشام بن الحكم تدل على
قوته الجدلية وحذقه بصناعة الكلام ، وحضور
الجواب عنده بالبداهة مستخدماً في كثير
منها الادلة الشرعية ، إلا أن هذه
المناظرة تدل على قوة حجته على خلافة امير
المؤمنين ـ عليه السلام ـ بالادلة العقلية
، ولذا قيل انه أول من اخضع بحث الامامة
للمقاييس العقلية .
(2) هو : عمرو بن عبيد بن باب ، ويقال :
ابن كيسان التميمي ، أبو عثمان البصري ،
مولى بني تميم ، من أبناء فارس ،شيخ
القدريّة والمعتزلة في عصره ، كان جده من
سبي فارس وأبوه نساجاً ثم شرطياً للحجاج
في البصرة ، وفيه قال المنصور الدوانيقي :
كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد ، ولد سنة
80 ، وتوفي بمَرَّان بقرب مكة سنة 144 ،
ورثاه المنصور ولم يُسمع بخليفة رثى من
دونه سواه .
راجع : تهذيب الكمال ج22 ص123 ترجمة رقم :
4406 ، سير أعـلام النبـلاء ج6 ص 104 رقم
: 27 ، وفيات الاعيان .
(3) الاحتجاج للطبرسي ج2 ص367 ، مروج
الذهب ج4 ص105 ، رجال الكشي ص271 ح 490 ،
الاصول من الكافي ج1 ص169 ح3 ، علل
الشرائع ج1 ص193 ح2 ب152 ، بحار الانوار ج
23 ص6 ح11 .
|
|
|
|