مناظرة ابن طاووس مع فقيه من المستنصرية (1)

قال ابن طاووس ـ عليه الرحمة ـ :
إني كنت في حضرة مولانا الكاظم والجواد ـ عليهما السلام ـ فحضر فقيه من المستنصرية ، كان يتردد عليَّ قبل ذلك اليوم ، فلما رأيت وقت حضوره يحتمل المعارضة له في مذهبه ، قلت له : يا فلان ما تقول لو أن فرسا لك ضاعت منك وتوصلت في ردها إليَّ أو فرسا لي ضاعت مني وتوصلت في ردها إليك أما كان ذلك حسنا أو واجبا ؟
فقال : بلى.
فقلت له : قد ضاع الهدى ، إما مني واما منك والمصلحة أن ننصف من أنفسنا وننظر ممن ضاع الهدى فنرده عليه.
فقال : نعم.
فقلت له : لا أحتج بما ينقله أصحابي لانهم متهمون عندك ، ولا تحتج بما ينقله أصحابك لانهم متهمون عندي أو على عقيدتي ، ولكن نحتج بالقرآن ، أو بالمجمع عليه من أصحابي وأصحابك ، أو بما رواه أصحابي لك وبما رواه أصحابك لي.
فقال : هذا إنصاف.
فقلت له : ما تقول فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ؟
فقال : حقّ بغير شك.
فقلت : فهل تعرف أن مسلما روى في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه قال ما معناه : إن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خطبنا في ( خم ) فقال : أيها الناس إني بشر يوشك أن أدعى فأجيب ، وإني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (2).
فقال : هذا صحيح.
فقلت : وتعرف أن مسلما روى في صحيحه (3) في مسند عائشة أنها روت عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنه لما نزلت آية ( إنما يُريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (4) جمع عـليا وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ فقال : هؤلاء أهل بيتي.
فقال : نعم هذا صحيح.
فقلت له : تعرف أن البخاري ومسلما رويا في صحيحيهما ، أن الانصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة وأنهم ما نفذوا إلى أبي بكر ولا عمر ولا إلى أحد من المهاجرين حتى جأ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة لما بلغهم في اجتماعهم ، فقال لهم أبو بكر : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، يعني عمر وأبا عبيدة ، فقال عمر : ما أتقدم عليك فبايعه عمر وبايعه من بايعه من الانصار (5) وأن عليّا ـ عليه السلام ـ وبني هاشم امتنعوا من المبايعة ستة أشهر (6) ، وأن البخاري ومسلما قالا فيما جمعه الحميدي من صحيحيهما : وكان لعليّ ـ عليه السلام ـ وجه بين الناس في حياة فاطمة ـ عليها السلام ـ فلما ماتت فاطمة ـ عليها السلام ـ‍ بعد ستة أشهر من وفاة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ انصرفت وجوه الناس عن علي ـ عليه السلام ـ فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه خرج إلى مصالحة أبي بكر (7).
فقال : هذا صحيح.
فقلت له : ما تقول في بيعة تخلّف عنها أهل بيت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الذين قال عنهم : أنهم الخلف من بعده وكتاب الله جل جلاله ، وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيهم : أذكركم الله في أهل بيتي (8).
وقال عنهم : انهم الذين نزلت فيهم آية الطهارة (9) ، وإنهم ما تأخروا مدة يسيرة حتى يقال : إنهم تأخروا لبعض الاشتغال ، وإنما كان التأخر للطعن في خلافة أبي بكر بغير إشكال في مدة ستة أشهر ، ولو كان الانسان تأخر عن غضب يرد غضبه أو عن شبهة زالت شبهته بدون هذه المدة ، وإنه ما صالح أبا بكر على مقتضى حديث البخاري ومسلم إلاّ لما ماتت فاطمة ـ عليها السلام ـ ورأى انصراف وجوه الناس عنه خرج عند ذلك إلى المصالحة.
وهذه صورة حال تدل على أنه ما بايع مختارا ، وأن البخاري ومسلما رويا في هذا الحديث أنه ما بايع أحد من بني هاشم حتى بايع علي ـ عليه السلام ـ.
فقال : ما أقدم على الطعن في شيء قد عمله السلف والصحابة.
فقلت له : فهذا القرآن يشهد بأنهم عملوا في حياة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو يرجى ويخاف والوحي ينزل عليه بأسرارهم في حال الخوف وفي حال الامن وحال الصحة وإلايثار عليه ما لا يقدروا ان يجحدوا الطعن عليهم به ، وإذا جاز منهم مخالفته في حياته وهو يرجى ويخاف فقد صاروا أقرب إلى مخالفته بعد وفاته وقد انقطع الرجاء والخوف منه وزال الوحي عنه.
فقال : في أيّ موضع من القرآن ؟
فقلت : قال الله جل جلاله في مخالفتهم في الخوف : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ) (10) ، فروى أصحاب التواريخ أنه لم يبق معه إلاّ ثمانية أنفس ، علي ـ عليه السلام ـ والعباس ، والفضل بن العباس ، وربيعة ، وأبو سفيان ، ابنا الحارث بن عبد المطلب ، وأسامة بن زيد ، وعبيدة بن أم أيمن وروي أيمن بن أم أيمن (11).
وقال الله جل جلاله في مخالفتهم له في الامن : ( وإذا رأوا تجارة أولهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ) (12) ، فذكر جماعة من المؤرخين أنه كان يخطب يوم الجمعة فبلغهم أن جمالاً جاءت لبعض الصحابة مزينة فسارعوا إلى مشاهدتها وتركوه قائما ، وما كان عند الجمال شيء يرجون الانتفاع به (13).
فما ظنك بهم إذا حصلت خلافة يرجون نفعها ورئاستها ، وقال الله تعالى في سوء صحبتهم ما قال الله جلّ جلاله : ( ولو كنت فظا غليظ‍ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر ) (14) ، ولو كانوا معذورين في سوء صحبتهم ما قال الله جلّ جلاله ( فاعف عنهم واستغفر لهم ) ، وقد عرفت في صحيحي مسلم والبخاري معارضتهم للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في غنيمة هو أذن لمّا أعطى المؤلفة قلوبهم أكثر منهم ، ومعارضتهم له لما عفى عن أهل مكة ، وتركه تغيير الكعبة وإعادتها إلى ما كانت في زمن ابراهيم ـ عليه السلام ـ خوفا من معارضتهم له (15) ومعارضتهم له لما خطب في تنزيه صفوان بن المعطل لما قذف عائشة ، وأنه ما قدر أن يتم الخطبة ، أتعرف هذا جميعه في صحيحي مسلم والبخاري ؟
فقال : هذا صحيح.
فقلت : وقال الله جلّ جلاله في إيثارهم عليه القليل من الدنيا : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم ‌الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) (16) ، وقد عرفت أنهم امتنعوا من مناجاته ومحادثته لاجل التصدق برغيف وما دونه حتى تصدّق عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ بعشرة دراهم عن عشر دفعات ناجاه فيها ثم نسخت الاية بعد أن صارت عارا عليهم وفضيحة إلى يوم القيامة بقوله جلّ جلاله : ( أأشفقتم أن تُقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ) (17) فإذا حضرت يوم القيامة بين يدي الله جلّ جلاله وبين يدي رسوله ـ‍ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ وقالا لك : كيف جاز لك أن تقلّد قوماً في عملهم وفعلهم وقد عرفت منهم مثل هذه الامور الهائلة ، فأيّ عذر وأيّ حجة‌تبقى لك عند الله وعند رسوله في‌تقليدهم فبهت وحارحيرة عظيمة. فقلت له : أما تعرف في صحيحي البخاري ومسلم في مسند جابر ابن سمرة وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ قال في عدّة أحاديث : لا يزال هذا الدين‌عزيزاً ماوليهم اثناعشر خليفة كلهم من قريش ، وفي بعض أحاديثه ـ عليه وآله والسلام ـ من الصحيحين : لا يزال امر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (18).
وأمثال هذه الالفاظ كلّها تتضمن هذا العدد الاثنا عشر فهل تعرف في الاسلام فرقة تعتقد هذا العدد غير الامامية الاثني عشرية فإن كانت هذه أحاديث صحيحة كما شرطت على نفسك في تصحيح ما نقله البخاري ومسلم ، فهذه مصححة لعقيدة الامامية وشاهدة بصدق ما رواه سلفهم وإن كانت كذبا فلاي حال رويتموها في صحاحكم.
فقال : ما أصنع بما رواه البخاري ومسلم من تزكية أبي بكر وعمر وعثمان وتزكية من تابعهم ؟
فقلت له : أنت تعرف أنني شرطت عليك أن لا تحتج عليّ بما ينفرد به أصحابك ، وأنت أعرف أن الانسان ولو كان من أعظم أهل العدالة وشهد لنفسه بدرهم وما دونه ما قبلت شهادته ، ولو شهد في الحال على أعظم أهل العدالة بمهما شهد من الامور مما يقبل فيه شهادة أمثاله قبلت شهادته والبخاري ومسلم يعتقدان إمامة هؤلاء القوم ، فشهادتهم لهم شهادة بعقيدة نفوسهم ونصرة لرئاستهم ومنزلتهم.
فقال : والله ما بيني وبين الحق عداوة ، ما هذا إلاّ واضح لا شبهة فيه ، وأنا أتوب إلى الله تعالى بما كُنتُ عليه من الاعتقاد ، فلما فرغ من شروط‍ التوبة ، إذا رجل من ورائي قد أكبّ على يدي يقبلها ويبكي.
فقلت : من أنت ؟
فقال : ما عليك اسمي ، فاجتهدت به حتى قلت : فأنت الان صديقٌ أو صاحب حق ، فكيف يحسن لي أن لا أعرف صديقي وصاحب حق علي لاكافئه فامتنع من تعريفي اسمه.
فسألت الفقيه الذي من المستنصرية.
فقال : هذا فلان بن فلان من فقهاء النظامية (19) سهوت عن اسمه الان (20).
____________
(1) المستنصرية : جامعـة فـي بغداد ، أنشأها المستنصر بالله الخليفة العباسي ، لاتزال آثارها قائمة. (المنجد).
(2) مسند أحمد ج3 ص17 ، طبقات ابن سعد ج2 ص194 ، المستدرك للحاكم ج3 ص109 ، كنز العمال ج1 ص185 ح944 ، بحار الانوار ج23 ص114 ح23 ، والحديث له مصادر وطرق كثيرة وروي بألفاظ متفاوتة ، وقد تقدمت تخريجاته فيما سبق.
(3) صحيح مسلم : ج4 ص1883 ح61 ـ (2424).
(4) سورة الاحزاب : الاية 33.
(5) صحيح البخاري : ج5 ص8.
(6) صحيح البخاري : ج8 ص210.
(7) صحيح البخاري : ج5 ص177.
(8) تقدمت تخريجاته.
(9) وهي قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) سورة الاحزاب : الاية 33 وقد تقدمت تخريجات نزولها فيهم ـ عليهم السلام ـ.
(10) سورة التوبة : الاية 25.
(11) راجع : تاريخ اليعقوبي ج2 ص62 ، السيرة الحلبية ج3 ص67 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج13 ص278 ، الافصاح للمفيد ص58 ، الارشاد للمفيد ص74 ، مجمع البيان ج5 ص28 ، بتفاوت.
(12) سورة الجمعة : الاية 11.
(13) راجع : مسند أحمد ج3 ص313 وص370 ، صحيح البخاري ج6 ص179 ، الجامع الصحيح للترمذي ج5 ص386 ح3311 ، الدرّ المنثور ج8 ص165 ، جامع البيان للطبري ج28 ص67 ، مجمع البيان ج10 ص433.
(14) سورة آل عمران : الاية 159.
(15) راجع : صحيح مسلم : ج2 ص968 ـ 972 ح398.
(16) سورة المجادلة : الاية : 12.
(17) سورة المجادلة : الاية 13 فقد روى الثعالبي والواحدي وغيرهما من علماء التفسير أن الاغنياء اكثروا مناجاة النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وغلبوا الفقراء على المجالسة عنده حتى كره رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ذلك واستطال جلوسهم وكثرت مناجاتهم فانزل الله تعالى : ( يا ايها الذين امنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خيرٌ لكم واطهر فإن الله غفورٌ رحيم ).
فأمر بالصدقة امام المناجاة فأما اهل العسرة فلم يجدوا واما الاغنياء فبخلوا ، وخف ذلك على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وخف ذلك الزحام وغلبوا على حبه والرغبة في مناجاته حب الحطام ، واشتد على اصحابه ، فنزلت الاية التي بعدها راشقة لهم بسهام الملام ناسخة بحكمها حيث احجم من كان دأبه الاقدام وقال علي ـ عليه السلام ـ ان في كتاب الله لآية ما عمل بها أحدٌ قبلي ولا يعمل احدٌ بها بعدي وهي اية المناجاة ، فإنها نزلت كان لي دينار فبعته بدراهم ، وكنت اذا ناجيت الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ تصدقت حتى فنيت فنسخت بقوله : ( ءأشفقتم ان تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ) الاية.
راجع : تفسيرالطبري ج28 ، ص14 ، اسباب النزول للواحدي ص235 ، خصائص النسائي ص39 ، احكام القرآن للجصاص ج3 ص428 ، الدر المنثور ج6 ص185 ، تفسير الفخر الرازي ج29 ، ص272 ، كنز العمال ج3 ص155 ، كفاية الطالب ص135 ، الثعالبي ج4 ص279 ـ 280 منشورات الاعلمي بيروت ، سفينة البحار ج2 ص579 ، الكشاف للزمخشري ج4 ص493 ـ 494 ، نشر الكتاب العربي بيروت ، الحاكم في المستدرك ج2 ص482 ، فرائد السمطين ج1 ص357 ح283 وص358 ح284.
وكان ابن عمر يغبط امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على هذه الفضيلة التي لم يسبقه ولم يلحقه اليها احدٌ ، وكان يقول : كان لعلي ثلاثة ، لو كان لي واحدة منها ، كانت أحب إليّ من حمر النّعم : تزويجه بفاطمة ـ عليها السلام ـ ، واعطاء الراية يوم خيبر ، وآية النجوى. منتخب كنز العمال المطبوع في هامش مسند أحمد ج5 ص35 ، وكفاية الطالب ص137.
(18) تقدمت تخريجاته.
(19) النَظّامية : فرقة من المعتزلة أصحاب أبي أسحاق إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظام البصري المتوفي سنة 231 هـ ، وهو ابن أخت أبي الهُذيل العلاف شيخ المعتزلة ، وكان أستاذاً للجاحظ. معجم الفرق الاسلامية ص250.
(20) كشف المحجة لابن طاووس ص76 ـ 80.

العودة