الصفحة 31
طالب فقيرا، لا مال له؟! فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة، قد تزوجت أعرابي من تميم، وتمتنع عن سادات قريش وأشرافها على ما وصفناه؟! ألا يعلم ذووا التمييز والنظر أنه من أبين المحال، وأفظع المقال؟!..) (1).

واستبعاد ما ذكر على اعتبار أن لا يمكن أن تبقى امرأة شريفة وجميلة هذه المدة الطويلة بلا زواج لا يدفع كلام صاحب الإستغاثة..

فإن ذلك لا يبرر رفضها لعظماء قريش وقبولها بأعرابي من بني تميم وأما كيف يتركها أبوها أو وليها - علما أن أباها قد قتل في حرب الفجار - وأما وليها، فلم يكن له سلطة الأب ليجبرها على الزواج ممن أراد... وبقاء المرأة الشريفة والجميلة مدة بلا زواج ليس بعزيز... إذا كانت تصبر إلى أن تجد الرجل الفاضل الكامل، الذي كان يعز وجوده في تلك الفترة.

وثالثا: لا بد وأن نشير إلى بعض الكلام حول ما نسب لخديجة من أولاد، من غير النبي صلى الله عليه وآله فنشير إلى:

  • ألف: ذكروا إن أول شهيد استشهد في الإسلام هو ابن لخديجة، اسمه الحارث بن أبي هالة، حينما جهر رسول الله صلى الله عليه وآله بالدعوة (2).

    ولكن ماذا يصنعون فيما جاء بسند صحيح، عن قتادة: إن أول شهيد في الإسلام هو سمية والدة عمار؟ (3)، وكذا روي عن مجاهد.

    ____________

    (1) الإستغاثة ج 1 / ص 70.

    (2) الأوائل ج 1 / ص 311، الإصابة ج 1 / ص 293.

    (3) الإصابة ج 4 / ص 335، طبقات ابن سعد ج 8 / ص 193.

    الصفحة 32
    باء: لقد روي أنه كانت لخديجة أخت اسمها هالة (1) تزوجها رجل مخزومي، فولدت له بنتا اسمها هالة، ثم خلف عليها رجل تميمي يقال له أبو هند فأولدها ولدا اسمه هند... وكان لهذا التميمي امرأة أخرى قد ولدت له زينب ورقية، فماتت ومات التميمي فلحق ولده هند بقومه وبقيت هالة أخت خديجة والطفلتان اللتان من التميمي وزوجته الأخرى، فضمتهم خديجة إليها وبعد أن تزوجت بالرسول صلى الله عليه وآله، ماتت هالة فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول صلى الله عليه وآله.

    وكان العرب يزعمون أن الربيبة بنت، ونسبت إليه صلى الله عليه وآله، مع أنهما ابنتا أبي هند زوج أختها وكذلك الحال بالنسبة لهند نفسه (1).

    من حياته الزوجية صلى الله عليه وآله

    قال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) (3)، فإنه كان سبب نزولها أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله من غزوة خيبر وأصاب كنز آل أبي الحقيق قلن أزواجه: أعطنا ما أصبت، فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وآله: قسمته بين المسلمين على أمر الله فغضبن من ذلك، وقلن: لعلك ترى أنك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجون، فأنف الله لرسوله فأمره

    ____________

    (1) نسب قريش ص 157.

    (2) الإستغاثة ج 1 / ص 68. مكارم الأخلاق ص 6.

    (3) الأحزاب: آية 29 - 30.

    الصفحة 33
    أن يعتزلهن فاعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وآله في مشربة أم إبراهيم تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن، ثم أنزل الله هذه الآية وهي آية التخيير، فقامت أم سلمة أول ما قامت، فقال: قد اخترت الله ورسوله فقمن كلهن فعانقنه وقلن مثل ذلك فأنزل الله (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) (1).

    ومن آوى فقد نكح، ومن أرجى فقد طلق. وقيل: وكان ممن أرجى منهن سودة وصفية وجويرية وأم حبيب، فكان يقسم لهن ما شاء، وكان ممن آوى إليه أم سلمة وزينب وحفصة وعائشة وميمونة وكان يقسم بينهن على السواء (2).

    وعن أبي الصباح الكناني قال: ذكر أن زينب بنت جحش ويقال حفصة قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله: ألا تعدل وأنت رسول الله؟ وقالت حفصة إن طلقنا وجدنا أكفاءنا من قومنا، فاحتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين يوما، فأنف الله عز وجل لرسوله فأنزل:

    (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين) إلى قوله: (أجرا عظيما).

    فاخترن الله ورسوله، ولو اخترن أنفسهن لبن، وإن اخترن الله ورسوله فليس بشئ.

    عائشة نسبها، مولدها وكنيتها

    هي بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن

    ____________

    (1) الأحزاب: آية 51.

    (2) زوجات النبي وأولاده (الخيامي): / ص 382.

    الصفحة 34
    كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي، وأمها أم رومان بنت عمير بن عامر بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة.

    ولدت عائشة بمكة في السنة الثامنة قبل الهجرة (1)، وقيل في السنة التاسعة قبل الهجرة (2).

    وكانت تكنى أم عبد الله بن الزبير ابن أختها، فعن عائشة أنها قالت: لما ولد عبد الله بن الزبير أتيت به النبي صلى الله عليه وآله فتفل في فيه، فكان أول شئ دخل جوفه. وقال: هو عبد الله، وأنت أم عبد الله، فما زلت أتكنى بها، وما ولدت قط (3).

    وعنها أنها قالت: يا رسول الله ألا تكنني؟ فقال: تكني بابنك يعني عبد الله بن الزبير.

    وعنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول الله كنيت نساءك فكنني، فقال: تكني بابن أختك أم عبد الله.

    وكانت تسمى بأم المؤمنين كسائر زوجات النبي صلى الله عليه وآله وعن فاطمة الخزاعية قالت: سمعت عائشة تقول يوما: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ قال: يا حميراء، كنت عند أم سلمة.

    ____________

    (1) شرح البخاري للعجلوني وفتح الباري لابن حجر.

    (2) الأعلام للزركلي: ج 3 / ص 240، طبقات ابن سعد: ج 8 ص 58، قال فيها: وكانت عائشة ولدت السنة 4 من النبوة في أولها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله في السنة العاشرة في شوال وهي يومئذ بنت ست سنين وتزوجها بعد سودة بشهر.

    (3) أخرجه أبو حاتم.

    الصفحة 35

    زواجها من النبي صلى الله عليه وآله

    قال ابن سعد في طبقاته (ج 8 / ص 58): أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس: قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبي بكر الصديق عائشة، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد كنت وعدت بها، أو ذكرتها لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لابنه جبير، فدعني حتى أسلها منهم ففعل.

    فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم ابنه المذكور، فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان في نفسه من وعده لمطعم، فإن المطعم لما قال له أبو بكر: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ أقبل المطعم على امرأته وقال لها: ما تقولين يا هذه؟

    فأقبلت على أبي بكر وقالت: لعنا إن أنكحنا هذا الفتى ابنتك، تصيبه وتدخله في دينك الذي أنت عليه، فأقبل أبو بكر على المطعم وقال له: ماذا تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع (1)، فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعد، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، وعائشة يومئذ بنت ست سنين وكانت بكرا.

    سنة زواجها وعمرها

    تزوج النبي عائشة وهي ابنة ست، وأدخلت عليه وهي ابنة تسع، ومكثت عنده تسعا.

    عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قالت: سمعت عائشة تقول: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله في شوال سنة عشر من النبوة قبل

    ____________

    (1) السيرة الحلبية، السمط الثمين / ص 31. وانظر حياة الصحابة: ج 2 / ص 653 - 654.

    الصفحة 36
    الهجرة لثلاث سنين وأنا ابنة ست سنين، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله فقدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، أعرس بي في شوال على رأس ثمانية أشهر من المهاجر، وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين (1).

    ونحن نقول إن ذلك غير صحيح، وإن عمرها كان أزيد من ذلك بكثير، ونستند في ذلك إلى ما يلي:

    أولا: إن ابن إسحاق قد عد عائشة في جملة من أسلم أول البعثة، قال: وهي يومئذ صغيرة. وأنها أسلمت بعد ثمانية عشر إنسانا فقط (2)...

    فلو جعلنا عمرها حين البعثة سبع سنين مثلا فإن عمرها حين العقد عليها يكون سبع عشر سنة، وحين الهجرة عشرين سنة.

    ثانيا: وفي مقام رفع التنافي بين قوله صلى الله عليه وآله لفاطمة: أنها سيدة نساء العالمين وبين ما نسب إليه صلى الله عليه وآله من أنه لم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وأن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام...

    يقول الطحاوي:

    (وقد يحتمل أن يكون ما في هذا الحديث قبل بلوغ فاطمة، واستحقاقها الرتبة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله لها.. إلى أن قال: إن كل فضل ذكر لغير فاطمة، مما قد يحتمل أن تكون فضلت به فاطمة، محتملا لأن يكون وهي صغيرة (عائشة) ثم بلغت بعد ذلك... الخ (3).

    ____________

    (1) طبقات ابن سعد: ج 8 / ص 40.

    (2) راجع سيرة ابن هشام ج 1 / ص 371، تهذيب الأسماء واللغات ج 2، البدء والتاريخ ج 4.

    (3) مشكل الآثار ج 1 / ص 52.

    الصفحة 37
    قال الطحاوي هذا، بعد أن جزم قبل ذلك بقليل، بأن فاطمة (صلوات الله عليها وسلامه) كان عمرها حين توفيت خمسا وعشرين سنة (1).

    وهذا يعني أنها قد ولدت قبل البعثة بسنتين، والغرض أن فاطمة كانت صغيرة حينما كانت عائشة بالغة مبلغ النساء...

    وقد حمل بعض العلماء حديث فضل عائشة كفضل الثريد... الخ على المزاح منه صلوات الله عليه وآله معها لأن جوها لا ينسجم مع جو التفضيل كما في قوله صلى الله عليه وآله: فاطمة سيدة نساء العالمين، لم يكمل من النساء إلا مريم وآسية الخ... ولا سيما بملاحظة: أن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن من المهتمين بأمور الأطعمة، واللذيذ منها ليأتي بها كمثال على تفضيل في أمر حساس كهذا...

    ثالثا: يذكر ابن قتيبة أن عائشة قد توفيت سنة ثمان وخمسين هجرية، وعند غيره سنة سبع وخمسين هجرية، وقد قاربت السبعين (2) فإذا لاحظنا: أن البعض يقول إن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بثلاث أو بأربع أو بخمس سنين، وروي عن عائشة قولها: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا بنت تسع سنين (3).

    نرى أن هذه الرواية هي الأقرب بقرينة ما قدمناه، ولكثرة الخلط بين كلمتي (سبع) و (تسع) بسبب عدم نقط تلك الكلمات في السابق.. وهذا الرقم أيضا مشكوك فيه لما تقدم، ولأن المرأة تميل إلى تقليل مقدار عمرها عادة... وعلى كل حال... فكلام ابن قتيبة والذي بعده يدل على أنها قد ولدت إما سنة البعثة أو قبلها... وهذا الثاني هو

    ____________

    (1) مشكل الآثار ج 1 / ص 47.

    (2) المعارف لابن قتيبة ص 59.

    (3) راجع حديث الإفك ص 93.

    الصفحة 38
    الأرجح لما قدمناه...

    إذا لاحظنا كل ذلك: فتكون النتيجة هي - أن عمر عائشة كان حين عقد النبي صلى الله عليه وآله عليها سنة عشر من البعثة كانت أكثر من ست سنين بكثير، أي ما بين ثلاثة عشر وسبعة عشر سنة...

    رد على مايك

    ليس غريبا على المستشرقين أو المسيحيين العاديين أمثال مايك من أمريكا - كما تحدث عنه الدكتور البوطي - ليس غريبا أن يستنكروا أن يتزوج رجل عمره ثلاث وخمسين سنة بطفلة عمرها ست سنوات، وجوابنا له بكل بساطة: وإن عمرها ليس ست سنوات وإنما على الأقل سبع عشرة سنة وأن أحاديث البخاري لا يؤخذ بها كلها لأنها مغلوطة.

    وليس لك يا حضرة الدكتور البوطي أن تدافع عن سن عائشة الصغير عند زواجها لأنه بالأصل عمر ملفق ومكذوب.

    وأرى أن الحق معه (مايك) وأمثاله لأن يقول هذا وقد قرأه في كتبنا المعتمدة (البخاري وتوابعه...) ولكن الدكتور لم يجرؤ على القول بخطأ البخاري والتشكيك ببعض رواياته.


    الصفحة 39

    الفصل الثاني: صفات عائشة

    أمومة المؤمنين

    تجدر الإشارة في أول بحثنا أن يعرف القارئ بأن كل امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله تحمل هذا اللقب، فيقال لها أم المؤمنين خديجة، وأم المؤمنين حفصة، وأم المؤمنين مارية.. الخ.

    وهي أمومة تشريفية لا غير، أقول هذا لأني فوجئت خلال حديثي مع كثير من الناس بأنهم لم يفهموا معنى الأمومة التي لقبت بها أزواج النبي صلى الله عليه وآله، وبما أن حديث أهل السنة أكثره عن عائشة إذا تحدثوا عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله، وأغلب الأحاديث النبوية ينقلونها عن عائشة، ونصف الدين يأخذونه عن الحميراء عائشة، فكأنهم فهموا من كلمة (أم المؤمنين) أنها فضيلة تخصها من بين سائر أزواجه صلى الله عليه وآله، والحال أن الله حرم على المؤمنين الزواج من نساء النبي بعد وفاته بقوله تعالى:

    (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم عند الله عظيما) (1).

    وقال تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم...) (2).

    ____________

    (1) الأحزاب: آية 53.

    (2) الأحزاب: آية 6.

    الصفحة 40
    فقد جاء في تفسير ابن كثير وتفسير القرطبي وتفسير الآلوسي وغيرهم: أنه جاءت هذه الآية بحق طلحة بن عبيد الله الذي كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: إن مات رسول الله تزوجت عائشة فهي بنت عمي، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله قوله فتأذى من ذلك.

    ولما نزلت آية الحجاب واحتجب نساء النبي صلى الله عليه وآله، قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا؟ فإن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده. ولما تأذى رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك نزل قول الله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا)، فأراد الله سبحانه أن يقول للمؤمنين بأن نساء النبي حرام عليكم نكاحهن كحرمة أمهاتكم.

    مع العلم أن عائشة كانت عقيما فلم تحمل ولم تخلف.

    عائشة في حياة النبي صلى الله عليه وآله

    إذا ما بحثنا حياتها مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله، وجدناها كثيرة الايذاء للنبي صلى الله عليه وآله، فقد جاء في صحيح البخاري (كتاب الطلاق - باب لم تحرم ما أحل الله لك) عن عائشة قالت:

    كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب العسل والحلواء، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت، فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وآله منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي أكلت مغافير؟، فإنه سيقول لك لا، فقولي

    الصفحة 41
    له ما هذه الريح التي أجد منك، فإنه سيقول سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحلة العرفط، وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك.

    قالت: تقول سودة فوالله ما هو إلا أن قام على الباب فأردت أن أباديه بما أمرتني به فرقا منك (خشية) فلما دنى منها قالت له سودة: يا رسول الله أكلت مغافير، قال: لا، قالت: فما هذه الريح التي أجد منك، قال: سقتني حفصة شربة عسل، فقالت: جرست نحلة العرفط، فلما دار إلي قلت له نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه، قال لا حاجة لي فيه، قالت سودة: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي، فنزل قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم).

    وفي رواية: أن عائشة قد تآمرت مع حفصة على النبي صلى الله عليه وآله وأن العسل كان عند سودة، وكانت هاتين (عائشة وحفصة) متآخيتين فقالت إحداهما للأخرى: أما ترين إلى هذا قد اعتاد هذه، يأتيها في غير نوبتها، يصيب من ذلك العسل، فإذا دخل عليك فخذي بأنفك فإذا قال لك: ما لك؟ فقولي أجد منك ريحا لا أدري ما هو؟.

    وفي رواية أن العسل كان من عند زينب بنت جحش وفيه نزل:

    (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك).

    أقول: تعددت الروايات والمتهم الأول والمتسبب الرئيسي في آية التحريم واحد هو شخص عائشة.


    الصفحة 42
    وفي ذكر المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وآله وتخييره نساءه (1) أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا معمر بن راشد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وآله اللتين قال الله لهما: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإدواة (إناء من جلد يوضع فيه الماء) فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يده فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وآله اللتان قال الله تعالى فيهما: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس.

    قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه عنه، قال: هما حفصة وعائشة، قال ثم أخذ يسوق الحديث، فقال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زايد في العوالي (ضيعة بينها وبين المدينة أربعة أميال) قال: فتغضبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك وابنتك تؤذي النبي صلى الله عليه وآله (2)؟.

    قال: فانطلقت فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله؟.

    قالت: نعم، قلت وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم،

    ____________

    (1) طبقات ابن سعد: ج 8 / ص 182.

    (2) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الرضاع - باب في الايلاء واعتزال النساء ورواه ابن جرير في تفسيره: ج 28، ورواه أحمد بن حنبل: ج 1 / ص 48 باختلاف في اللفظ.

    الصفحة 43
    قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؟ فإذا هي قد هلكت! لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك.

    قال عمر: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك. قال وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل (تتهيأ للحرب) لتغزونا، فنزل صاحبي يوما ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم! فقلت: وماذا؟

    أجاءت غسان؟.

    قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق الرسول نساءه، فقلت:

    فقد خابت حفصة وخسرت! قد كنت أظن هذا كائنا، حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي قائمة تلتدم (تضرب الوجه والصدر) فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وآله؟

    فقالت: لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة (الغرفة) فأتيت غلاما له أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت:

    استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني.

    فقال: ادخل فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا هو متكئ على رمل حصير، وقد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: لا، فجلست فرفعت رأسي في

    الصفحة 44
    البيت فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا آهبة ثلاثة (الآهبة جمع إهاب وهو الجلد)، فقلت: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا ثم قال:

    أفي شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت طيباتهم في الحياة الدنيا. فقلت: استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم أن لا يدخل عليهم شهرا من شدة موجدته (غضبه) عليهن.

    فتركهن رسول الله صلى الله عليه وآله تسعا وعشرين ليلة ثم نزل: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا).

    وروي غير ذلك: قال ابن سعد في طبقاته (1)، وابن جرير في تفسيره: ج 28 (روى بسنده) عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) إلى قوله (وهو العلي الحكيم)، قال: كانت حفصة وعائشة متحابين وكانتا زوجتي رسول الله صلى الله عليه وآله، فذهبت حفصة إلى أبيها فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله إلى جاريته أم إبراهيم مارية القبطية، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة فرجعت حفصة فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وغارت غيره شديدة فأخرج رسول الله صلى الله عليه وآله مارية ودخلت حفصة، فقالت: رأيت من كانت عندك والله لقد سئتني، فقال النبي صلى الله عليه وآله والله لأرضينك فإني مسر إليك سرا فاحفظيه، قالت: ما هو؟، قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضا لك.

    وكانت عائشة وحفصة تظاهرت على نساء النبي صلى الله عليه وآله فانطلقت

    ____________

    (1) طبقات ابن سعد: ج 8 / ص 135 وابن جرير في تفسير: ج 28، أنظر الصحيح المسند من أسباب النزول: / ص 60.

    الصفحة 45
    حفصة إلى عائشة فأسرت إليها أن أبشري إن النبي قد حرم فتاته، فلما أخبرت عائشة بسر النبي صلى الله عليه وآله أظهر الله عز وجل ذلك على النبي صلى الله عليه وآله فعرف أن حفصة أفشت سره، فقالت له حفصة: من أنبأك هذا، قال:

    أنبأني العليم الخبير.

    فأنزل الله (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أنا بداخل عليكن شهرا.

    ولما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فبدأ بها، قالت عائشة: يا رسول الله، أما كنت أقسمت ألا تدخل علينا شهرا، وإنما أصبحت من تسع وعشرين أعدها لك عدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:

    الشهر تسع وعشرون ليلة. وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين، قالت عائشة: ثم أنزل الله آية التخيير فبدأ بي أول نسائه، فقال: إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك.

    قالت عائشة: فاعلم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قال: قال الله: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما)، فقلت له: ففي هذا أستأمر أبوي! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.

    ثم خير نساءه فقبلن جميعا واخترن الله ورسوله غير العامرية اختارت قومها، فكانت بعد تقول: أنا الشقية، وكانت تلقط البعر وتبيعه وتستأذن على أزواج النبي صلى الله عليه وآله، وتسألهن وتقول: أنا الشقية.


    الصفحة 46

    غيرة عائشة

    كانت الغيرة تسيطر على قلب عائشة وعقلها فتتصرف بحضرة النبي تصرفا بغير احترام ولا أدب، فمرة قالت للنبي صلى الله عليه وآله عندما ذكر عندها السيدة خديجة (رض): ما لي ولخديجة، إنها عجوز حمراء الشدقين، أبدلك الله خيرا منها، فغضب لذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى اهتز شعره (1).

    وروي أنه قالت عائشة معترفة: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وآله ما غرت به على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وآله يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعث في صدائق خديجة (صديقاتها) فقلت: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول:

    إنها كانت وكان لي منها الولد (2).

    وعنها قالت: كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزا، قد أبدلك الله خيرا منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني النساء (3).

    ومرة أخرى بعثت أم سلمة عليها السلام بطعام في صحفة لها، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه (وكان في بيتها) فجاءت عائشة مستترة بكساء

    ____________

    (1) صحيح البخاري: ج 4 باب تزويج النبي صلى الله عليه وآله خديجة وكذلك صحيح مسلم.

    (2) طبقات ابن سعد - صحيح البخاري.

    (3) الإستيعاب لابن عبد البر.

    الصفحة 47
    ومعها فهر (حجر) فتلقت به الصحنه فكسرتها، فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (غارت أمكم، غارت أمكم)، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة (رضي الله عنها) (1)...

    وعنها أنها قالت: ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وآله إناء فيه طعام فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله: وما كفارته؟ قال: إناء كإناء وطعام كطعام.

    وقالت للنبي مرة أخرى: أنت الذي تزعم أنك نبي الله؟ (2).

    وقصة ذلك: أن عائشة خرجت مع رسول الله في حجة الوداع، وخرج معه نساؤه، قالت: وكان متاعي فيه خف، وكان على جمل ناج، وكان متاع صفية بنت حيي فيه ثقل، وكان على جمل تقال بطئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: حولوا متاع عائشة على جمل صفية وحولوا متاع صفية على جمل عائشة حتى يمضي الركب.

    قالت عائشة: فلما رأيت ذلك، قلت: يا لعباد الله، غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله صلى الله عليه وآله، قالت: فقال صلى الله عليه وآله: يا أم عبد الله، إن متاعك كان في خف، وكان متاع صفية فيه ثقل فأبطأ بالركب، فحولنا متاعها على بعيرك وحولنا متاعك على بعيرها، قالت: فقلت:

    أليس تزعم أنك رسول الله؟، قالت: فتبسم (ونحن نقول إنه غضب) وقال: أو في شك أنت يا أم عبد الله؟، قالت: فقلت: ألست تزعم أنك رسول الله؟.

    ____________

    (1) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: ج 2.

    (2) السمط الثمين: / ص 81.

    الصفحة 48
    فهلا عدلت، فسمعني أبو بكر وكان فيه عرب أي حدة فأقبل علي ولطم وجهي.

    فقال صلى الله عليه وآله: مهلا يا أبا بكر، فقال: يا رسول الله، أو لم تسمع ما قالت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الغيران لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه (1).

    ومرة غضبت عنده فقالت له: إعدل وكان أبوها حاضرا فضربها حتى سال دمها (2).

    وبلغ بها الأمر من كثرة الغيرة أن تكذب على أسماء بنت النعمان لما زفت عروسا للنبي صلى الله عليه وآله: فقالت لها: إن النبي صلى الله عليه وآله ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له أعوذ بالله منك، وغرضها من وراء ذلك هو تطليق تلك المرأة البريئة الساذجة، والتي كانت أجمل أهل زمانها وأشبه، وقالت عائشة في ذلك: فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوج العزائب قلت: قد وضع يده في العزائب، وهن يوشكن أن يصرفن وجهه عنا، وكان قد خطبها - حين وفدت كندة عليه - إلى أبيها، فلما رآها نساء النبي صلى الله عليه وآله حسدنها، فقالت لها عائشة: إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه إذا دخل عليك، فلما دخل وألقى الستر، مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: أمن عائذ الله، إلحقي بأهلك.

    فطلقها الرسول بسبب هذه المقالة (3).

    وقد بلغ من سوء أدبها مع حضرة الرسول صلى الله عليه وآله أنه كان يصلي وهي باسطة رجليها في قبلته، فإذا سجد غمزها فقبضت رجليها، وإذا

    ____________

    (1) أخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي.

    (2) كنز العمال: ج 7، إحياء العلوم للغزالي.

    (3) طبقات ابن سعد: ج 8، الإصابة لابن حجر: ج 4، تاريخ اليعقوبي: ج 2.

    الصفحة 49
    قام أعادت بسطهما في قبلته (1).

    وفي طبقات ابن سعد (ج 8) (روى بسنده) (2) عن أبي معشر: قال تزوج النبي صلى الله عليه وآله مليكة بنت كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، وكانت بكرا، فدخلت عليها عائشة: فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك، فاستعاذت من رسول الله صلى الله عليه وآله فطلقها (وكان هذا مراد عائشة) فجاء قومها إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقالوا: يا رسول الله، إنها صغيرة، وإنها لا رأي لها، وإنها خدعت فارتجعها، وكان أبوها قتل يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد.

    وعن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن من رسول الله صلى الله عليه وآله، وكنت أقول: تهب المرأة نفسها؟ ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، فلما أنزل الله عز وجل: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) (3). ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

    وكانت عائشة إذا غضبت (وكثيرا ما كانت تغضب) تهجر اسم النبي صلى الله عليه وآله فلا تذكر اسم محمد، وإنما تقول ورب إبراهيم (4)، ففي طبقات ابن سعد (ج 8 / ص 89): أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله:

    يا عائشة ما يخفى علي حين تغضبين علي وحين ترضين، قلت: بم تعرف ذلك يا رسول الله؟ قال: أما حين ترضين فتقولين لا ورب محمد، وأما حين تغضبين فتقولين لا ورب إبراهيم، قالت: قلت له

    ____________

    (1) صحيح البخاري: ج 1، باب الصلاة على الفراش.

    (2) طبقات ابن سعد: ج 8 / ص 105، الإصابة.

    (3) السمط الثمين: / ص 81.

    (4) صحيح البخاري: ج 6 باب غيرة النساء ووجدهن.

    الصفحة 50
    صدقت يا رسول الله، إنما أهجر اسمك!.

    وقد أساءت عائشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله كثيرا، وجرعته الغصص، ولكن النبي صلى الله عليه وآله رؤوف رحيم، وأخلاقه عالية وصبره عميق، فكان كثيرا ما يقول لها (ألبسك شيطانك يا عائشة)، وكثيرا ما كان يأسى لتهديد الله لها ولحفصة بنت عمر، وكم من مرة ينزل القرآن بسببها، فقد قال تعالى لها ولحفصة (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)، أي إنها زاغت عن الحق وانحرفت، وقوله: (إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح الملائكة بعد ذلك ظهيرا) وهو تهديد صريح من رب العزة لها ولحفصة التي كانت كثيرا ما تنصاع لها وتعمل بأوامرها.

    وقال الله لهما: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات)، وهذه الآيات (كما ذكرنا) نزلت في عائشة وحفصة بشهادة عمر بن الخطاب كما جاء في البخاري، فدلت هذه الآية لوحدها على وجود نساء مؤمنات في المسلمين خير من عائشة.

    ومرة بعثها رسول الله صلى الله عليه وآله لما أراد أن يخطب لنفسه شراف أخت دحية الكلبي، وطلب من عائشة أن تذهب وتنظر إليها، ولما رجعت كانت الغيرة قد أكلت قلبها فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله: ما رأيت يا عائشة؟

    فقالت: ما رأيت طائلا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد رأيت طائلا، لقد رأيت خالا بخدها اقشعرت منه كل شعرة منك، فقالت: يا رسول الله ما دونك سر، ومن يستطيع أن يكتمك (1).

    وعن فاطمة الخزاعية قالت: سمعت عائشة تقول يوما: دخل علي رسول الله يوما، فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ فقال: يا حميراء، كنت

    ____________

    (1) طبقات ابن سعد: ج 8 / ص 115.

    الصفحة 51
    عند أم سلمة، فقلت: أما تشبع من أم سلمة؟ (1). (أي أدب هذا تواجه به عائشة سيد الكائنات؟!).

    وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فخرجتا معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان بالليل سار مع عائشة فيتحدث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظري وأنظر، قالت:

    بلى، فركبت عائشة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بعير عائشة وعليه حفصة، فسلم ثم سار معها حتى نزلوا، وافتقدته عائشة فغارت غيرة شديدة أكلت قلبها، فلما نزلوا جعلت تجعل رجليها بين الإذخر وتقول:

    يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني، رسولك ولا أقول له شيئا (2).

    عن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج من عندها ليلا، قالت:

    فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: ما لك يا عائشة غرت؟، فقلت:

    وما لي، لا يغار مثلي على مثلك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لقد جاءك شيطانك، قالت: يا رسول الله أمعي شيطان؟ قال: نعم، قلت: ومعك يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: نعم، لكن أعانني الله عليه، حتى أسلم (3) وتخبر عائشة عن نفسها، وتعترف أن غيرتها تجعلها تقسم كذبا.

    قالت: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله أم سلمة (رضي الله عنها) حزنت حزنا شديدا، ولما ذكروا لنا من جمالها قلت: فتلطفت لها حتى رأيتها، فرأيتها، والله أضعاف ما وصفت لي في الحسن والجمال، قالت:

    فذكرت ذلك لحفصة، وكانتا يدا واحدة (وأقول يدا واحدة في إيذاء

    ____________

    (1) طبقات ابن سعد: ج 8 / ص 55.

    (2) أخرجه مسلم والبخاري في كتاب النكاح باب القرعة بين النساء.

    (3) السمط الثمين - المشكاة: / ص 280، حياة الصحابة: ج 2 / ص 639.