معالم المسار كما صاغها التشريع

لم يكن الرجوع إلى النصّ الشرعي في تحديد معالم المسار الاِسلامي بعد الرسول من مختصّات الشيعة وحدهم، لقد شركهم فيه غيرهم..

لقد أحسّ الكثير من المتكلّمين وأصحاب الحديث بالحاجة إلى النصّ في تعيين أوّل الخلفاء على الاَقلّ، لتتّخذ الاَدوار اللاحقة له شرعيّتها من شـرعيّته.

فجزم ابن حزم بالنصّ على أبي بكر صراحةً، فتابعه البعض، فيما اقتنع آخرون بأنّ في هذه النصوص إشارة كافية على وجوب تقديم أبي بكر، لكن دون التصريح بذلك، وربّما رأوا في هذا مذهباً وسطاً بين الشورى والنصّ الصريح، كما رأوا فيه تثبـيتاً لمبدأ الشورى، لا نقضاً، حين وَفّقوا بين نتائج الشورى وبين إشارة النصّ.

وليس غريباً أن تتعدّد أوجه الاستدلال بتعدّد المتكلّمين وتعدّد أسـاليبهم، وتعدّد النصوص التي يعتمدونها، وكثيراً ما يتعلّق المتكلّمون بما يشفع لمذاهبهم وإنْ كانوا يلمحون فيه علامات الوضع!


الصفحة 202
لقد عرض المتكلّمون في تثبـيت خلافة أبي بكر نصوصاً من القرآن ونصوصاً من السُـنّة، نستعرض أهمّها بتركيز وإيجاز مبتدئين بنصوص السُـنّة لكونها أكثر تصريحاً، ولاَنّ النصوص القرآنية اعتُمِدت في تصحيح خلافته لا في إثبات النصّ عليه.

أوّلاً ـ نصوص من السُـنّة

النصّ الاَوّل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفّي فيه: «مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس».

فرأى بعضهم في هذا الحديث نصّاً صريحاً على الخلافة؛ لعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامّة.

واستدلّوا لذلك بقول بعض الصحابة لاَبي بكر: ارتضاك رسول الله لدينـنا، أفلا نرضاك لدنيانا؟! وأهمّ شيء في هذا القول الاَخير أن ينسب إلى عليّ بن أبي طالب!!(1).

غير أنّ جملةً من الاِثارات تحيط بهذا النصّ وبهذه الواقعة، قد تبتلع كلّ ما يُبنى عليهما من اسـتنتاجات:

الاِثارة الاَُولى:

إنّ القول بعدم الفصل بين إمامة الصلاة والاِمامة العامة قول غريب، وأغرب منه قول الجرجاني: «لا قائل بالفصل»!(2).

* فابن حزم يقطع بأنّ هذا قياساً باطلاً، ويقول: «أمّا من ادّعى أنّه إنّما

____________

(1) شرح المواقف 8|365.

(2) شرح المواقف 8|365.


الصفحة 203
قُـدِّم قياساً على تقديمه إلى الصلاة، فباطل بيقين؛ لاَنّه ليس كلّ من استحقّ الاِمامة في الصلاة يستحقّ الاِمامة في الخلافة، إذ يستحقّ الاِمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً، ولا يستحقّ الخلافة إلاّ قرشيّ، فكيف والقياس كلّه باطل؟!»(3).

* والشيخ أبو زهرة ينتقد هذا النوع من القياس ووجه الاستدلال به، فيقول: اتّخذ بعض الناس من هذا ـ النصّ ـ إشارة إلى إمامة أبي بكر العامّة للمسلمين، وقال قائلهم: «لقد رضيه عليه السلام لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا» ولكنّه لزوم ما ليس بلازم، لاَنّ سياسة الدنيا غير شؤون العبادة، فلا تكون الاِشارة واضحة.. وفوق ذلك فإنّه لم يحدث في اجتماع السقيفة، الذي تنافس فيه المهاجرون والاَنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة، أنِ احتجّ أحد المجتمعين بهذه الحجّة، ويظهر أنّهم لم يعقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسـلمين(4).

والذي يُسـتشفّ من كلامه اسـتبعاد صحّة نسبة هذا الكلام إلى الاِمام عليٍ عليه السلام؛ فهذه النسبة لا تحتمل الصحّة، لِما ثبت في الصحاح من أنّ عليّـاً عليه السلام لم يبايع إلاّ بعد ستّة أشهر(5)، كما أنّ الصحيح المشهور عن عليٍ عليه السلام خلاف ذلك، فجوابه كان حين بلغه احتجاج المهاجرين بأنّ قريشاً هم قوم النبيّ وأَوْلى الناس به، قال: «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة»!(6).

____________

(3) الفِصَل 4|109.

(4) المذاهب الاِسلامية: 37.

(5) صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر| ح 3998، صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسِيَر 3|1380 ح 52، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 6|300.

ورواه أصحاب التاريخ أيضاً: الطبري 3|202، ابن الاَثير| الكامل في التاريخ 2|331، ابن أبي الحديد| شرح نهج البلاغة 6|46.

(6) نهج البلاغة: 97 الخطبة 67، وانظر: الاِمامة والسياسة ـ لابن قتيبة ـ: 11.


الصفحة 204

الاِثارة الثانية:

إنّ إمامة الصلاة وفقاً لفقه هذه المدرسة لا يترتّب عليها أيّ فائدة في التفضيل والتّقديم، فالفقه هنا يجيز مطلقاً إمامة المفضول على الفاضل، بل يجيز إمامة الفاسق والجائر لاَهل التقوى والصلاح، وكثيراً ما نرى الاستدلال لذلك بصلاة بعض الصحابة خلف الوليد بن عقبة وهو سكران، وصلاتهم خلف أُمراء بني أُميّة ممّن لم تكن له فضيلة تُذكر!

الاِثارة الثالثة:

أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي: أنّ عبـد الرحمن ابن عوف قد صلّى إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (7). وهذه الرواية أثبت ممّا ورد في تقديم أبي بكر ـ كما سيأتي ـ فالحجّة فيها إذن لعبد الرحمن بن عوف أظهر، فتقديمه أَوْلى وفقاً لذلك القياس(8).

الاِثارة الرابعة:

في صحيح البخاري: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمّ المهاجرين الاَوّلين وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد قباء، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وعامر بن ربيعة(9).

____________

(7) مسند أحمد 4|248 و250 و251، صحيح مسلم: الطهارة ـ باب المسح على الناصية والعمامة، سنن أبي داود: المسح على الخفّين ح 149 و152، سنن ابن ماجة: ح 1236، سنن النسائي: الطهارة ح 112.

(8) أُنظر: ابن الجوزي| آفة أصحاب الحديث: 99.

(9) صحيح البخاري: كتاب الاَحكام ح 6754.


الصفحة 205
وكان عمرو بن العاص أميراً على جيش ذات السلاسل، وكان يؤمّهم في الصلاة حتّى صلّى بهم بعض صلواته وهو جنب، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة(10).

فهل يُسـتدلّ من هذا أنّ سالماً وعمرو بن العاص أفضل من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وأَوْلى بالخلافة منهم؟!

الاِثارة الخامسة:

نتابعها في النقاط التالية:

أ ـ ثبت في جميع طرق هذا الحديث بروايته التامّة أنّه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة، خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتهادى بين رجلين ـ عليٍ والفضل ابن العبّاس ـ فصلّى بهم إماماً وتأخّر أبو بكر عن موضعه مؤتمّـاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه.

أثبت ذلك تحقيقاً أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب صنّفه لهذا الغرض، فقسّمه إلى ثلاثة أبواب: فجعل الباب الاَوّل في إثبات خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن إمامتها، وخصّص الباب الثاني في بيان إجماع الفقهاء على ذلك، فذكر منهم: أبا حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأثبت في الباب الثالث وهن الاَخبار التي وردت بتقدّم أبي بكر في تلك الصلاة، ووصف القائلين بها بالعناد واتّباع الهوى!(11).

وقال العسقلاني: تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الاِمام في تلك الصلاة(12).

ومن هنا قال بعضهم: متى نظرنا إلى آخر الحديث احتجنا إلى أن نطلب

____________

(10) سيرة ابن هشام 4|272، البداية والنهاية 4|312.

(11) أبو الفرج ابن الجوزي| آفة أصحاب الحديث ـ الباب الاَوّل، والثاني، والثالث.

(12) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2|123.


الصفحة 206
للحديث مخرجاً من النقص والتقصير، وذلك أنّ آخره: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وجد إفاقةً وأحسّ بقوّة خرج حتّى أتى المسجد وتقدّم فنحّى أبا بكر عن مقامه وقام في موضعه. فلو كانت إمامة أبي بكر بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لَتَركه على إمامته وصلّى خلفه، كما صلّى خلف عبـد الرحمن بن عوف(13).

ب ـ ممّا يعزّز القول المتقدّم ما ورد عن ابن عبّاس من أنّه قبل أن يؤذّن بلال لتلك الصلاة قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أُدعوا عليّـاً». فقالت عائشة: لو دعوت أبا بكر! وقالت حفصة: لو دعوت عمر! وقالت أُمّ الفضل: لو دعوت العبّاس! فلمّا اجتمعوا رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه فلم ير عليّـاً!!(14).

ج ـ ويشهد لذلك كلّه ما ثبت عن عليٍ عليه السلام من أنّه كان يقول: إنّ عائشة هي التي أمرت بلالاً أن يأمر أباها لِيُـصَـلّ بالناس، لاَنّ رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ليصلّ بهم أحدهم» ولم يعيّن!! وكان عليٌّ عليه السلام يذكر هذا لاَصحابه في خلواته كثيراً، ويقول: إنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: «إنّكنّ لَصُويحبات يوسف» إلاّ إنكاراً لهذه الحال، وغضباً منها لاَنّها وحفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب(15).

فهذه صور منسجمة ومتماسكة لا تُبقي أثراً للاستفادة من هذا النصّ أو تلك الواقعة، ويمكن أن يضاف إليها ملاحظات أُخر ذات قيمة لا يُستهان بها:

منها: الاختلاف الشديد والتعارض بين روايات هذه الواقعة، وقد صرّح بهذا ابن حجر العسقلاني، ثمّ حاول التوفيق بينها بعد جهد(16).

____________

(13) ابن الاِسكافي| المعيار والموازنة: 41 ـ 42.

(14) مسند أحمد 1|356، وأخرجه الطبري في تاريخه 3|196 ولم يذكر فيه قول أُمّ الفضل.

(15) ابن أبي الحديد| شرح نهج البلاغة 9|197.

(16) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2|122 ـ 123.


الصفحة 207
ومنها: ملاحظة بعض نقّاد الحديث أنّ هذا الحديث لم يصحّ إلاّ من طريق عائشة، لذا لم تقم حجّته(17).

ومنها: أنّ ابن عبّاس قد طعن هذا الحديث طعناً عبقريّاً لم يتـنبّه له الرواة، إذ كانت عائشة تقول في روايتها لهذا الحديث: «خرج النبيّ يتهادى بين رجلين، أحدهما الفضل بن العبّاس» ولا تذكر الرجل الآخر، فلمّا عرض أحدهم حديثها على عبـدالله بن عبّاس، قال له ابن عبّاس: فهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسَـمِّ عائشة؟

قال: لا.

قال ابن عبّاس: هو عليّ بن أبي طالب، ولكن عائشة لا تطيبُ نفساً له بخـير!(18).

الاِثارة السادسة:

أثبت كثير من أصحاب التاريخ والسِيَر أنّ أبا بكر كان أيّام مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاَخير هذا، كان مأموراً بالخروج في جيش أُسامة، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشدّد كثيراً بين الآونة والاَُخرى على التعجيل في إنفاذ هذا الجيش.. فكيف ينسجم هذا مع الاَمر بتقديمه في الصلاة؟! ناهيك عن قصد الاِشارة إلى استخلافه!

لقد أدرك ابن تيميّة ما بين الاَمرين من منافاة وتعارض صريحين، فنفى نفياً قاطعاً كون أبي بكر ممّن سُـمّي في بعثة أُسامة!!(19).

____________

(17) المعيار والموازنة: 41.

(18) عبـد الرزّاق| المصنّف 5|429 ـ 430، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 2|123.

(19) ابن تيميّة| منهاج السُـنّة 3|213.


الصفحة 208
لكنّ مثل هذا النفي لا ينقذ الموقف، خصوصاً وأنّ ابن تيميّة لم يقدّم برهاناً ولا شبهةً في إثبات دعواه، فيما جاء ذِكر أبي بكر في مَن سُـمّي في ذلك الجيش في مصادر عديدة وهامّة، أصحابها جميعاً من القائلين بصحّة تقدّم أبي بكر!(20).

أمّا نفي ذلك، أو تحرّج بعض المؤرّخين عن ذِكره، فإنّما مرجعه إلى الاختيار الشخصي في مساندة المذهب، لا غير، حين أدركوا بيقين أنّ شيئاً ممّا استدلّوا به على إمامته سوف لا يتمّ لو كان أبو بكر في مَن سُـمّي في جيش أُسامة، إذ هو مأمور بمغادرة المدينة المنوّرة أيّام وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تحت إمرة أُسامة بن زيد الشابّ ابن الثماني عشرة سـنة!(21).

نصـوص أُخر

لم يقف القائلون بالنصّ عند النصّ المتقدّم، بل رجعوا إلى ما رأوا فيه نصّاً جليّاً على الخلافة، لكنّها في الحقيقة نصوص تثير على نفسها بنفسها شكوكاً كثيرة لا تُبقي احتمالاً لصحّتها، شكوكاً تثيرها الاَسانيد والمتون معاً.. وأهمّ هذه النصوص:

1 ـ أنّ امرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ جئتُ فلم أجدك؟ ـ كأنّها تُريد الموت ـ

____________

(20) الطبقات الكبرى 4|66، تهذيب تاريخ دمشق 2|395 و3|218، مختصر تاريخ دمشق 4|248 رقم 237 و5|129 رقم 56 ترجمة أُسامة بن زيد وأيّوب ابن هلال، تاريخ اليعقوبي 2|77، تاريخ الخميس 2|172، شرح نهج البلاغة 1|159 و220 و9|197.

(21) الطبقات الكبرى 4|66.


الصفحة 209
فقال: «فإن لم تجديني فأتي أبا بكر»(22).

وهذا الحديث متّحد عند الشيخين في سلسلة واحدة، وهي: إبراهيم ابن سعد، عن أبيه، عن محمّـد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه جُبير بن مطعم: أنّ امرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...

فلم يروه من الصحابة إلاّ جُبير بن مطعم، ولم يروه عن جُبير إلاّ ولده محمّـد، ولم يروه عن محمّـد غير سعد (وهو ابن إبراهيم بن عبـد الرحمن ابن عوف) ولم يروه عن سعد غير ولده إبراهيم! ثمّ أخذه الرواة عن إبراهيم ابن سعد!

السـند: نظرة واحدة في هذا الاِسناد، بعيداً عن التقليد، تُحبط الآمال التي يمكن أن تُعقد عليه:

* فجبير بن مطعم: من الطلقاء، وهو صاحب أبي بكر، تعلّم منه الاَنساب وأخبار قريش(23)، وكانت عائشة تُسمّى له وتُذكر له قبل أن يتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (24)، وذكره بعضهم في المؤلّفة قلوبهم وفي مَن حَسُن إسلامه منهـم(25).

وكان شريفاً في قومه بني نوفل وهم حلفاء بني أُميّة في الجاهلية

____________

(22) أخرجه البخاري ومسلم في باب فضائل أبي بكر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7|14 ـ 15، صحيح مسلم بشرح النووي 8|154. وانظر: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: 90 رقم 56.

(23) ترجمة جبير بن مطعم في: سير أعلام النبلاء 3|95 رقم 18، الاِصابة 1|226 رقم 1092.

(24) ابن أبي الحديد| شرح نهج البلاغة 14|22.

(25) الاستيعاب ـ بهامش الاِصابة ـ 1|231، مختصر تاريخ دمشق 6|7، وهؤلاء الّذين حسن إسلامهم معدود فيهم مع جبير: أبو سفيان ومعاوية، كما في المعارف ـ لابن قتيبة ـ: 342.


الصفحة 210
والاِسلام. وهو أحد الخمسة الّذين اقترحهم عمرو بن العاص على أبي موسى الاَشعري للمشورة في التحكيم ـ وهم: جبير بن مطعم، وعبـدالله بن الزبير، وعبـدالله بن عمرو بن العاص، وأبو الجهم بن حذيفة، وعبـد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة ـ وكلّهم مائل عن عليٍ عليه السلام، فابن الزبير وعبـد الرحمن بن الحرث كانا في أصحاب الجَمل الّذين قاتلوا عليّـاً في البصرة، وعبـدالله بن عمرو مع أبيه عمرو بن العاص في أصحاب معاوية، وجبير وأبو الجهم من مسلمة الفتح هواهما مع بني أُميّة!(26).

وجُبير بن مطعم هو سيّد الغلام الحبشي وحشيّ، وهو الذي قال له يوم أُحد: إن قتلت محمّـداً فأنت حُرّ، وإن قتلت عليّـاً فأنت حُرّ، وإن قتلت حمزة فأنت حُرّ!(27).

وروي لابن عبّاس معه حديث هامّ! كان ابن عبّاس يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المتعة، فقال جُبير بن مطعم: كان عمر ينهى عنها. فقال له ابن عبّاس: يا عُـدَيَّ نفسه، من هنا ضللتُم! أُحدّثكم عن رسول الله، وتحدّثني عن عمر!!(28).

* محمّـد بن جبير بن مطعم: وهو القائل لعبد الملك بن مروان وقد سأله: هل كنّا نحن وأنتم ـ يعني أُميّة ونوفل ـ في حلف الفضول(29)؟ فقال له

____________

(26) راجع تراجمهم في: الاستيعاب، وأُسد الغابة، والاِصابة، ومختصر تاريخ دمشق، وسير أعلام النبلاء.

(27) راجع أخبار غزوة أُحد في تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، الكامل في التاريخ، البداية والنهاية.

وراجع ترجمة حمزة في الاستيعاب وأُسد الغابة والاِصابة، وغيرها.

(28) ابن أبي الحديد| شرح نهج البلاغة 20|25. وروى مثله أحمد في عروة بن الزبير بدلاً من جُبير بن مطعم.

(29) حلف الفضول: حلف جمع بني هاشم وزُهرة وتَيم، اجتمعوا عند عبـد الرحمن

=


الصفحة 211
محمّـد بن جُبير بن مطعم: لا والله يا أمير المؤمنين، لقد خرجنا نحن وأنتم منه، ولم تكن يدنا ويدكم إلاّ جميعاً في الجاهلية والاِسلام!(30).

وقد اعتزل محمّـد عليّـاً والحسن عليهما السلام في حربهما مع معاوية، فلمّا تمّ الصلح كان محمّـد ممثَّلاً في وفد المدينة إلى معاوية للبيعة(31).

* وأمّا سعد بن إبراهيم بن عبـد الرحمن بن عوف: فقد كان قاضياً لبعض ملوك بني أُمية على المدينة(32)، وفي دولة بني العبّاس انتقل إلى بغداد فعمل قاضياً لهارون الرشيد على واسط، ثمّ ولي قضاء عسكر المهدي ببغـداد(33).

* وأمّا ولده إبراهيم بن سعد: فهو صاحب العُود والغناء، كان يعزف ويغنّي، جاءه أحد أصحاب الحديث ليأخذ عنه، فوجده يغنّي، فتركه وانصرف، فأقسم إبراهيم ألاّ يحدّث بحديث إلاّ غنّى قبله! وعمل والياً على بيت المال ببغداد لهارون الرشيد(34).

وخطوة أُخرى إلى الاَمام في التحقيق تضعنا أمام صورة أكثر وضوحاً، حيث تُرينا كيف حلّ هذا الحديث محلّ الحديث الصحيح الوارد في عليٍ عليه السلام بعين هذا المتن!

لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت صفيّة أُمّ المؤمنين: يا رسول الله، لكلّ امرأةٍ من نسائك أهل تلجأ إليهم، وإنّك أجليت أهلي، فإنْ حَدَثَ حَدَثٌ

____________

=

ابن جدعان فتحالفوا جميعاً على دفع الظلم واسترداد الحقّ من الظالم وإعادته إلى صاحبه المظلوم.

(30) الاَغاني 17|295.

(31) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13|98.

(32) تاريخ بغداد 6|83، الاَغاني 15|329.

(33) تاريخ بغداد 7|123 ـ 124.

(34) تاريخ بغداد 6|81 ـ 86، الاَعلام 1|40.


الصفحة 212
فإلى مَن؟

قال: «إلى عليّ بن أبي طالب». أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيـح(35).

فإذا لم نكن قد نسـينا ما قرأناه في «هويّـة التاريخ»(36) فإنّ نظرة واحدة في هذه السلسلة الواحدة لهذا الحديث تكشف لنا الكثير عن حقيقته، وربّما مصدره أيضاً حين نرى أنّ رأس هذه السلسلة ـ جبير بن مطعم ـ قد عاش نحو سبع عشرة سنةً في خلافة معاوية على أغلب الاَقوال، لم يُفرّقهما شيء في جاهلية ولا في إسلام..

والمفترض أن يكون جبير أبعد أفراد هذه السلسلة عن تهمة الوضع في الحـديث(37).

____________

(35) مجمع الزوائد 9|113.

(36) راجع: مقال «هويّة التاريخ» المنشور في «تراثنا» العددين 38 ـ 39، ص 43 ـ 45.

(37) ثمّة رواية تنسب إلى الاِمام جعفر الصادق عليه السلام، تقول: «ارتدّ الناس بعد الحسين عليه السلام إلاّ ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أُمّ الطويل، وجبير بن مطعم، ثمّ إنّ الناس لحقوا وكثروا» غير أنّ في هذه الرواية أكثر من مشكلة تقف دون اعتمادها:

أ ـ فمن الناحية السندية: وردت في مصدرين، الاَوّل: رجال الكشّي ـ ترجمة يحيى بن أُمّ الطويل ـ وفي إسنادها مجهول، والثاني: كتاب «الاختصاص» ولا يُعرف مؤلّفه على وجه التحديد، ونسـبته إلى الشيخ المفيد موضع خلاف.

ب ـ الثابت أنّ جبير بن مطعم قد توفّي قبل استشهاد الحسين عليه السلام بنحو أربع سنين على الاَقلّ!

وفي بعض طرق هذه الرواية ما يحلّ الاِشكال الثاني، إذ ورد فيها: (محمّـد بن جبير) لكن حتّى هذا لم يثبـت، إذ كشف المحقّق التستري رحمه الله أنّ هذا محرّف عن حكيم بن جبير بن مطعم! انظر: قاموس الرجال| ترجمة محمّـد بن جبير بن مطعـم.

=


الصفحة 213
كما تجيبـنا قراءتنا في «هويّة التاريخ» عن أهمّ ما يعترضنا هنا، وهو: كيف أصبح هؤلاء جميعاً في عداد رجال الشيخين ـ البخاري ومسلم ـ فيما أُقصيَ آخرون لا يقاس هؤلاء بهم، كالاِمام جعفر الصادق عليه السلام، الذي كان ينبغي أن يكون حديثه أكثر اعتماداً، إذ لا يفصله عن البخاري سوى واسطة أو واسطتين؛ توفّي الصادق عليه السلام سنة 148هـ، ووُلد البخاري سنة 194هـ!

هذا النصّ، الذي جاء بهذه السلسلة الوحيدة، هو الذي رأى فيه ابن حزم وغيره نصّاً جليّاً على خلافة أبي بكر!(38) غير أنّ الجرجاني والتفتازاني لم يذكراه، فيما ذكرا نصوصاً كثيرة أضعف منه سنداً، وأقلّ منه دلالة!(39).

2 ـ قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ادعي لي أبا بكر أباك، حتّى أكتب كتاباً، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أَوْلى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر»(40).

أسند مسلم هذا الحديث كما يلي: عبيدالله بن سعيد، عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

____________

=

والحقّ أنّ هذه الرواية فيها أكثر ممّا تقدّم، فهي تذكر بعد هؤلاء جماعة، منهم: سعيد بن المسيّب، وتقول إنّه نجا من الاَُمويّين لاَنّه كان آخر أصحاب رسول الله! وهذا لا يصحّ، لاَنّ سعيد بن المسيّب تابعيٌّ وليس صحابي! وهذا أيضاً وقف عليه المحقّق التستري في ترجمة سعيد بن المسيّب من «قاموس الرجـال».

(38) الفِصَل 4|108. وانظر أيضاً: تثبيت الاِمامة وترتيب الخلافة: 90 ـ 91 رقم 56، نظام الخلافة بين أهل السُـنّة والشيعة: 39.

(39) انظر: الجرجاني| شرح المواقف 8|364 ـ 365، التفتازاني| شرح المقاصد 5|263 ـ 367.

(40) صحيح البخاري ـ كتاب الاَحكام ـ باب الاستخلاف ج 6 ح 6791، صحيح مسلم ـ باب فضائل أبي بكر ج 5 ح 2387 والنصّ منه.


الصفحة 214
فقد ظهر إبراهيم بن سعد في هذا الحديث أيضاً، وهو صاحب الحديث المتقدّم، صاحب العود والغناء، صاحب هارون الرشيد.

أمّا الزهري وعروة وعائشة فقد عرفنا بدقّة موقفهم من الخلافة ومن عليٍ عليه السلام خاصّة وبني هاشم عامّة.

وأورده البخاري من طريق آخر ينتهي أيضاً إلى عائشة، فهي وحدها رأس هذا الحديث في جميع طرقه!

ولعلّ أقوى ما يُثار هنا: أنّ هذه الاَحاديث قد رواها الشيخان، فكيف يمكن الشكّ فيها والطعن عليها؟!

وما أيسر الجواب لمن تجرّد للحقيقة دون سواها، فقبل قليل فقط قرأنا تفسير ذلك على ألسنة الكبار ممّن حقّق في طبيعة هذا الاَمر وتطوّره:

* قرأنا عن نفطويه: أنّ أكثر الاَحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختُلِقت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم في ما يظنّون أنّهم يُرغِمون به أُنوف بني هاشـم!

* وقرأنا عن المدائني قوله: فرُوِيَـتْ أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة، لا حقيقة لها... حتّى انتقلت تلك الاَخبار والاَحاديث إلى الديّانين الّذين لا يستحلّون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة ما رووها ولا تديّنوا بها!

* وقرأنا عن الاِمام الباقر عليه السلام قوله: حتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير، ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً، يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض مَن قد سلفَ من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت وقعت، وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ولا بقلّة ورع!

فليس بمستنكَرٍ إذن أن تنفذ هذه الاَخبار إلى الصحيحين وغيرهما...

الصفحة 215
فمن أين يأتي الاستنكار وهم ما رووها إلاّ وهم يعتقدون صحّتها؟!

وهذا الحديث بالذات ممّا شهد المعتزلة بأنّ البكرية وضعته في مقابل الحديث المرويّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ائتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً» فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله!(41).

وممّا يشهد لهذا القول، بل يجعله يقيناً لا شكّ فيه، ما ثبت عن ابن عبّاس في وصف اختلافهم عند النبيّ الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب، فقد كان ابن عبّاس يصف هذا الحدث بأنّه «الرزيّة، كلّ الرزيّة» ويذكره فيقول: «يوم الخميس، وما يوم الخميس!» ويبكي حتّى يبلّ دمعُه الحصى(42) فلو كان الاَمر كما وصفه الحديث المنسوب إلى عائشة «يأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر» لم تكن ثمّة رزية يبكي لها ابن عبّاس كلّ هذا البكاء ويتوجّع كلّ هذا التوجّـع.

إنّ بكاء ابن عبّاس وتوجّعه الشديد لهذا الحديث لهو دليلٌ لا شيء أوضح منه على أنّ الذي أراده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك الكتاب لم يتحقّق، بل تحقّق شيء آخر غيره لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراده ولا أشار إليه أدنى إشارة.

وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً حين ندرك أنّ ابن عبّاس هو واحد من سادة بني هاشم الّذين لم يبايعوا لاَبي بكر إلاّ بعد ستّة أشهر!(43).

فمع هذه الثوابت لا يبقى احتمال لصحّة الحديث المنسوب إلى عائشة!

____________

(41) ابن أبي الحديد| شرح نهج البلاغة 11|49.

(42) صحيح البخاري ـ كتاب المرضى ـ باب 17 ح 5345، صحيح مسلم ـ كتاب الوصيّة ح 15 و 21 و 22، مسند أحمد 1|324، السيرة النبوية ـ للذهبي ـ: 384، البداية والنهاية 5|248.

(43) السنن الكبرى 6|300، تاريخ الطبري 3|208، مروج الذهب 2|316، الكامل في التاريخ 2|331، جامع الاَُصول 4|482.


الصفحة 216
3 ـ حديث: «اقتدوا باللَّذَين مِن بعدي، أبي بكر وعمر».

أخرجه الترمذي وابن ماجة(44)، واعتمده كثيرون في إثبات النصّ على أبي بكر وعمر، أو في إثبات صحّة خلافتهما(45).

لكنّ ابن حزم استهجن كثيراً الاستدلالَ بهذه الرواية، وعدّه عيباً يترصّدُ أمثالَه الخصوم، فقال ما نصّه: «ولو أنّنا نستجيز التدليس والاَمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً، أو أبلسوا أسفاً، لاحتججنا بما روي (اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر) ولكنّه لا يصحّ، ويُعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصحّ(46).

4 ـ نصوص أُخر نُسبت إلى عليٍ عليه السلام، إمعاناً في سدّ الثغرات، وقطع الطريق على الخصم، استبعد المحبّ الطبري صحّة شيءٍ منها لتخلّف عليٍ عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر، ونسبته إلى نسيان الحديث في مثل هذه المدّة بعيـد(47).

وهذا حـقٌّ يؤيّده ما اشتهر عن عليٍ عليه السلام من ذِكر حقّه في الخلافة(48).

هذه جملة ما اعتمدوه من النصوص الحديثية في النصّ على أبي بكر وتقديمـه.

ثانياً ـ نصوص من القرَان الكريم

1 ـ قوله تعالى: (وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات

____________

(44) سنن الترمذي ـ مناقب أبي بكر ج 5 ح 3662، سنن ابن ماجة 1|97.

(45) شرح المواقف 8|364، شرح المقاصد 5|266، تثبيت الاِمامة: 92 رقم 59.

(46) الفِصَل 4|108.

(47) الرياض النضرة: 48 ـ 49.

(48) سيأتى في هذا البحث.


الصفحة 217
ليستخلِفنّهم في الاَرض كما استخلف الّذين من قبلهم وليمكّـنَنّ لهم دينهم الذي ارتضى لهـم)(49).

قالوا: الخطاب هنا للصحابة، فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكّن بها الدين، ولم يوجد على هذه الصفة إلاّ خلافة الخلفاء الاَربعة، فهي التي وعد الله بها(50). حتّى صرّح بعضهم بأنّ الآية نازلة فيهم، أو في أبي بكر وعمر خاصّةً!(51).

وهذا الاستدلال ضعّفه المفسّرون بأمرين:

الاَوّل: ما ذهبوا إليه من أنّ المراد في هذه الآية هو «الوعد لجميع الاَُمّة في ملك الاَرض كلّها تحت كلمة الاِسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (زُوِيَتْ لي الاَرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلك أُمّتي ما زُوِيَ لي منها)». وأنّ «الصحيح في هذه الآية أنّها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملّكهم البلاد ويجعلهم أهلها.

وأنّ هذه الحال ـ التيّ تصفها الآية ـ لم تختصّ بالخلفاء حتّى يُـخَـصُّوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين، بل وغيرهم. ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أُحد وغيرها، وخاصّةً الخندق، حتّى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم وإذ زاغت الاَبصار وبلغت القلوبُ الحناجر وتظنّون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً)(52).

ثمّ إنّ الله ردّ الكافرين لم ينالوا خيراً، وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم

____________

(49) سورة النـور 24: 55.

(50) شرح المواقف 8|364، شرح المقاصد 5|265.

(51) تفسير القرطبي 12|195.

(52) سورة الاَحزاب 33: 10 و 11.


الصفحة 218
وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله: (لَيستخلِفنّهم في الاَرض). وقوله: (كما استخلف الّذين من قبلهم) يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم، فقال: (وأورثنا القوم الّذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الاَرض ومغاربها)(53). وهكذا كان الصحابة مستضعَفين خائفين، ثمّ إنّ الله تعالى أمّنهم ومكّنهم وملّـكهم، فصحّ أنّ الآية عامّة لاَُمّة محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم غير مخصوصة، إذ التخصيص لا يكون إلاّ بخبر ممّن يجب له التسليم، ومن الاَصل المعلوم التمسّك بالعموم»(54).

وهذا يعني بوضوح أنّ الخطاب غير محصور بالصحابة رضي الله عنهم، بل هو عامّ لكلّ أُمّة محمّـد في كلّ زمان(55).

والثاني: ما ذكروه في سبب نزول الآية، فإنّه منطبق تماماً على ما ذُكر آنفاً، لا يُساعد على تخصيصها في الخلفاء الراشدين أو بعضهم، وإنْ كان فيه ما يفيد تخصيصها بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه(56).

ففي رواية البراء، قال: فينا نزلت ونحن في خوف شديد.

وفي رواية أبي العالية، يصف حال أصحاب الرسول وهم خائفون، يُمسون في السلاح ويُصبحون في السلاح، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله الآية، فأظهر الله نبيّه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح.

____________

(53) سورة الاَعراف 7: 137.

(54) تفسير القرطبي 12|196 ـ 197. وانظر أيضاً: الميزان في تفسير القرآن 15|167، الاِفصاح في الاِمامة ـ للشيخ المفيد ـ: 91 ـ 100، فتح القدير (تفسير الشوكاني) 4|47.

(55) فتح القدير 4|47.

(56) كما تقدّم في آخر الكلام المنقول عن القرطبي، وهو ما ذهب إليه محمّـد جواد مغنية في تفسيره الكاشف 5|436.


الصفحة 219
ومثلها رواية أُبيّ بن كعب، وقوله في رواية ثانية عنه: لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (وَعَدَ اللهُ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات) الآية، بشّر هذه الاَُمّة بالسَـنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الاَرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب(57).

أمّا رواية عبـد بن حُميد عن عطيّة ففيها تخصيص آخر مخالف للتخصيص المذكور في الخلفاء الراشدين، إذ قال عطيّة: هم أهل بيتٍ هاهنا! وأشار بيده إلى القِبلة(58).

وفي هذا عطف على ما ذهب إليه بعض مفسّري الشيعة من أنّ الآية في المهديّ الموعود عليه السلام الذي تواترت الاَخبار على أنّه سيظهر فيملأ الاَرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وأنّ المراد بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات هنا: النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمّة من أهل بيته عليهم السلام (59).

هذه هي الآية الاَُولى، ومع ظهور ما تقدّم من إفادتها العموم، لا يبقى وجه للتمسّك بها هنا، وهي أيضاً عند المتمسّـكين بها دليل على صحّة الخلافة، وليست نصّاً في الاستخلاف، وكذا مع الآية الثانية.

2 ـ قوله تعالى: (قُل للمخلَّفين من الاَعراب ستُدعون إلى قوم أُولي بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يُسلمون فإنْ تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً)(60).

فقد جعل الداعي مفترض الطاعة، والمراد به أبو بكر وعمر وعثمان، فوجبت طاعتهم بنصّ القرآن، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحّت

____________

(57) الدرّ المنثور 6|215 ـ 216.

(58) الدرّ المنثور 6|216.

(59) مجمع البيان 4|152، الميزان 15|166 ـ 167، الاِفصاح في الاِمامة: 102.

(60) سورة الفتح 48: 16.