الصفحة 193
ولرسوله، والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب) (1) وأكد جابر بن عبد الله الأنصاري وجود هذا المعيار بقوله: (ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب) (2).

فأنت تلاحظ أن ذلك النفر يلتقي مع المنافقين بكراهيتهم لولاية علي بن أبي طالب، لم يصرح ذلك النفر أنه كان يبغض علي بن أبي طالب، ولكنه عمليا كان مستعدا لارتكاب أي شئ مقابل إبعاد الإمام علي عن ولاية المسلمين، كان مستعدا لقتل الإمام، وقد هددوه بالقتل فعلا في ما بعد، كان مستعدا لحرق الإمام علي وهو حي وقد شرعوا بحرقه فعلا، كما سنوثق ذلك لكنهم لم يكونوا مستعدين أبدا لقبول ولايته!! ومن يفعل ذلك لا يمكن إلا أن يكون مبغضا للإمام علي وحاقدا عليه، كان المنافقون على علم تام بموقف هذا النفر من ولاية الإمام علي، وكان المنافقون يتابعون بمنتهى الرضا والإعجاب مشاكسات ذلك النفر لرسول الله، ومعارضاته ومزاوداته ومعصيته لرسول الله، وكراهية ذلك النفر لرئاسة آل محمد عامة وللإمام علي خاصة، فظن المنافقون - وبعض الظن إثم - بأن ذلك النفر منهم، لذلك أحب المنافقون ذلك النفر من المهاجرين حبا عظيما!! لقد جمعهم البغض المشترك للإمام علي والكراهية التامة لرئاسته، ولم يصدف طوال التاريخ أن امتنع أي منافق عن بيعة أحد من ذلك النفر، أو أن خرج عليه، أو تلكأ عن طاعته، لقد اعتبر المنافقون أنفسهم من فريق ذلك النفر نفسه، وهذا يفسر استعانة بعض خلفاء النفر بالمنافقين والفجار وإشراكهم في أمرهم (3) لذلك كان ذلك النفر على ثقة تامة بأن المنافقين عن بكرة أبيهم سيؤيدون مطلب ذلك النفر بالرئاسة من بعد النبي،

____________

(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 129 وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وكنز العمال ج 6 ص 39، والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 214.

(2) الاستيعاب لابن عبد البر ج 2 ص 464، ومجمع الزوائد ج 3 ص 123 وقال رواه الطبراني في الأوسط ورواه البزار.

(3) كنز العمال ج 5 ص 31 و 7 وج 4 ص 614 وقال رواه ابن شيبة والبيهقي.


الصفحة 194
وسيباركون تجاهل ذلك النفر للترتيبات الإلهية وإبطال مفاعيل سنة الرسول المتعلقة بمن يخلفه بعد موته، وهذا ما غذى أطماع ذلك النفر بالرئاسة من بعد النبي!! والمنافقون لم يكونوا أقلية بل كانوا شريحة كبرى من شرائح المجتمع الإسلامي الجديد، فكانوا مقدسين بين أهل المدينة، ومن حولها، وقد مردوا على النفاق وقويت شوكتهم، ولما استولى ذلك النفر على منصب الخلافة بعد موت النبي، استعان بهم، وتقاسم معهم منافع ملك النبوة!!

د - اليهود: كانت علاقة ذلك النفر مع اليهود علاقة ودية أيضا وصفحة ذلك النفر بيضاء مع اليهود، فخلال المعارك التي جرت بين اليهود والمسلمين لم يصدف أن أي واحد من أفراد ذلك النفر قد قتل أو جرح أو أسر أي يهودي!! وأبعد من ذلك فإن بعض أفراد ذلك النفر كان يغشى اليهود في يوم دراستهم طلبا للعلم!! قال اليهود لعمر بن الخطاب يوما (ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك لأنك تأتينا...) (1) لقد قال عمر للرسول شخصيا (إني مررت (بأخ لي) من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال الراوي فتغير وجه رسول الله...) (2) وقال عمر للرسول يوما: (جوامع من التوراة أخذتها من (أخ لي) من بني زريق فتغير وجه الرسول فقال عبد الله بن زيد لعمر بن الخطاب أمسخ الله عقلك!! ألا ترى الذي بوجه رسول الله!!) (3).. الخ.

فلماذا تكره الأقلية اليهودية رئاسة هذا النفر بعد موت النبي ستفضل أي واحد من أفراد ذلك النفر على الإمام علي، لأن الإمام عليا هو الذي شتت جمعهم، وهزمهم!! كان ذلك النفر يسعى لحشد تأييد كافة السكان، ليتعاطفوا مع تطلعاته ومخططاته!!

____________

(1) كنز العمال ج 3 ص 353.

(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 3 ص 469.

(3) مجمع الزوائد ج 1 ص 174.


الصفحة 195
ه‍ - الأعراب: لقد تمكن ذلك النفر من إقامة علاقة خاصة مع الأعراب، فكانت الأعراب تؤيد تجاهل الترتيبات الإلهية وإبطال مفاعيل السنة النبوية المتعلقة بمن يخلف النبي، وكانت الأعراب تؤيد رئاسة ذلك النفر للأمة بعد موت النبي!! أنظر إلى قول عمر: (ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر) (1) قال عمر هذا الكلام وهو في سقيفة بني ساعدة، وهو بحاجة ماسة إلى مؤيدين له، فكيف عرف أن هذه القبيلة التي لا تسكن المدينة ستكون من المؤيدين له إن لم تكن هنالك علاقة أو اتفاق مسبق معها!! ثم ما هي مصلحة هذه القبيلة باندفاعها الذي وصل إلى درجة التهور في تأييدها ذلك النفر (2) قال ابن الأثير (فجاءت أسلم فبايعت) (3) وروى الطبري: (إن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر) (4) قال الزبير بن البكار: (فقوي بهم أبو بكر) (5) قال المفيد: (إن القبيلة كانت قد جاءت لتمتار من المدينة) (6) لقد حسمت الأعراب الموقف، وأجبرت المترددين على الاعتراف بالأمر الواقع وزفت أبا بكر زفا إلى مسجد رسول الله... فصعد على منبر رسول الله فبايعه الناس وشغلوا عن دفن الرسول حتى كانت ليلة الثلاثاء (7) فهل كان وجود الأعراب، وتأييدهم، وزفهم لأبي بكر، وقول عمر: (ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر) وليد الصدفة أم ثمرة تخطيط واتفاق مسبق!!

3 - طبيعة العلاقات الخاصة بين أفراد ذلك النفر: ارتبط أفراد ذلك

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 458 وط أوروبا ج 1 ص 1843.

(2) المصدر السابق.

(3) ابن الأثير ج 2 ص 224.

(4) تاريخ الطبري ج 2 ص 458 وط أوروبا ج 1 ص 1843.

(5) شرح النهج ج 6 ص 287.

(6) الجمل للمفيد ص 43.

(7) الموفقيات ص 578، والرياض النضرة للطبري ج 1 ص 164، وتاريخ الخميس ج 1 ص 188، والمراجعات ج 1 ص 169.


الصفحة 196
النفر بعضهم ببعض بعلاقات قديمة جدا تعود لتاريخ اعتناقهم الإسلام، كانت مواقف أفراد ذلك النفر متشابهة، كانوا يحرصون على أن يكون لهم موقف موحد أمام رسول الله، وبعد موت النبي كانت لهم المواقف عينها من وليه وابن عمه الإمام علي، كانت مواقف أولادهم وبناتهم متشابهة، كانوا بمثابة الفريق الواحد كان أبو بكر وعمر وجهان لشئ واحد، وكانت عائشة وحفصة بمثابة الفريق الواحد في تعاملهما مع الرسول أنظر إلى قوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه) (1) قال عمر بن الخطاب في ما بعد: إن اللتين تظاهرتا على رسول الله هما: (حفصة ابنة عمر وعائشة ابنة أبي بكر) (2) ولهما ضرب الله مثلا (امرأة نوح وامرأة لوط) (3) وكانتا تكرهان ولاية الإمام علي، وعندما بايع الناس الإمام عليا، قادت عائشة بنفسها جيشا وخرجت عليه، وامتنع عبد الله بن عمر من بيعة الإمام ووقف ابن أبي بكر مع معاوية وقاتل الإمام!! لقد كان الفريق متماسكا أسرويا وحول الهدف، كان معنيا بالوصول إلى ما يهدف إليه، وبإثبات قوته، وإرغام أنوف خصومه كانوا يتوزعون الأدوار بشكل محكم، ويحصلون على نتائج متفق عليها سلفا، عندما ذهبوا إلى سقيفة بني ساعدة لم يخبروا أحدا من أولياء أهل بيت النبوة، ولم يذهبوا جميعا إنما ذهب قسم منهم، في داخل السقيفة أراد عمر أن يتكلم فنهاه أبو بكر، قال عمر: (والله ما ترك من كلمة أعجبتني إلا قال مثلها قال أبو بكر وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فأخذ بيد عمر وبيد أبي عبيدة قال عمر: (فارتفعت الأصوات وكثر اللغط وفرقت من الاختلاف فقلت أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته...) (4) وكان عمر يومئذ متحجرا يهرول بين يدي أبي بكر ويقول:

____________

(1) سورة التحريم، الآية 4.

(2) راجع تفسير هذه الآية في صحيح البخاري ج 3 ص 136 - 137.

(3) تفسير القرطبي ج 18 ص 202، وفتح القدير للشوكاني ج 5 ص 255.

(4) ملخص ما ذكره الطبري في ذكره الحوادث بعد وفاة الرسول، وراجع سيرة ابن هشام ج 4 ص 336.


الصفحة 197
(ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر) (1) وقام عثمان بن عفان ومن معه من بني أمية فبايعوا، وقام سعد بن أبي وقاص ومن معه من بني زهرة فبايعوا.. (2) وقبل أن يتوفى أبو بكر، دعا عثمان ليكتب له عهده فكتب عثمان اسم عمر، ولما أفاق أبو بكر من غيبوبته ورأى ما كتب عثمان قال له: (لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها) (3) ولما مات أبو عبيدة وقع اختيار ذلك النفر على عثمان ليكون الخليفة الثالث بعد عمر لأنه أول زعيم من زعماء المهاجرين قد بايع أبا بكر، وتبعا لبيعته بايع الأمويون، ولم يذكر أن عثمان قد خالف أبا بكر أو عمر خلال حياتهما بأي وقت من الأوقات، لذلك كان موضع ثقة أبي بكر وعمر فكان الناس إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شئ رموه بعثمان أو بعد الرحمن بن عوف وكان عثمان يدعى في إمارة عمر بالرديف والرديف بلسان العرب الرجل الذي يأتي بعد الرجل والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم (4) ومن يدقق في وصية عمر وعهده للستة يتيقن أنه قد عهد عمليا لعثمان وأن إشراك الآخرين معه كان مجرد ديكور ليس إلا، وكان هدف عمر من تسمية أصحاب الشورى هو تكثير المنافسين للإمام علي، ووضع العوائق بين الإمام وبين حقه بالخلافة، فإذا مات عثمان فإن الآخرين من أصحاب الشورى سينافسون الإمام عليا بحجة أن عمر جعلهم مثل علي من أصحاب الشورى، وإذا مات الستة فإن أولاد الخمسة سينافسون أولاد الإمام علي!! ولنفترض بأن الإمام عليا قد غلب من تبقى من أصحاب الشورى، فقد أوجد عمر منافسا قويا احتياطيا للإمام علي وهو معاوية الذي أعده لهذه الغاية، وكشف عمر بن الخطاب عن هذا المنافس بقوله لأصحاب الشورى: (إذا اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان

____________

(1) كتاب السقيفة للجوهري شرح النهج ج 1 ص 133.

(2) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 11.

(3) تاريخ الطبري ج 2 ص 428، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 37، وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 85.

(4) نظام الحكم للقاسمي ص 419 كما نقلها عن الطبري من ابتداء معركة القادسية.


الصفحة 198
من الشام) (1) لقد أدخل عمر الإمام عليا مع أهل الشورى استخفافا بمقام الإمام علي وجحودا بحقه، فأبو بكر وعمر وعثمان وبقية ذلك النفر يعلمون علم اليقين أن رسول الله قد نصب الإمام عليا إماما من بعده، وأن ذلك النفر قد بايع الإمام عليا وهنأه بحضور الرسول (2)، ثم إن الإمام عليا قد واجه أبا بكر وواجه عمر عندما طلبا منه البيعة فقال لهما: (... أنتم أولى بالبيعة لي) فإذا كان الإمام علي يرى بأنه أولى بالخلافة من الأول ومن الثاني فكيف يحشر مع تلك النظائر!! من خلال هذه النصوص التي تعكس صورا متحركة يتبين لنا أن هذا النفر قد تصرف كفريق متلاحم حتى استولى على منصب الخلافة، وبقي على تلاحمه وعلى إخلاصه للأهداف التي التف حولها قبل استيلائه على منصب الخلافة وبعد استيلائه عليها قويت شوكته واتسع نفوذه، وصار مصير الأمة بيده!!

4 - الاستهانة بسنة الرسول: طبيعة نظرة ذلك النفر للرسول الأعظم، جعلته يستهين بسنته، ولا يثق بكل ما يقوله الرسول أو يفعله أو يقرره!! أو كانوا لا يصدقون بأن كل سنة الرسول من عند الله!! وبشكل أو بآخر أقنع أفراد ذلك النفر أنفسهم بأن الرسول بشر مثلهم يخطئ ويصيب!! وأن ليس كل ما يقوله صحيحا، وبالتالي فلا ينبغي أن يحمل كل شئ يقوله الرسول على محمل الجد!!

أنظر إلى قولهم لعبد الله بن عمرو بن العاص متعجبين من شناعة فعله لأنه كان يكتب كل شئ سمعه من رسول الله (... وقالوا تكتب كل شئ سمعته من رسول الله ورسول الله بشر!! يتكلم في الغضب والرضا!!) (3)

____________

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 535.

(2) وثقنا هذه الناحية توثيقا كافيا راجع ذلك تحت عنوان وقائع حفل تنصيب وتتويج من يخلف الرسول بعد موته.

(3) مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 2 ص 207.


الصفحة 199
وكلامهم من الوضوح بحيث يكشف أن ليس كل ما يقوله الرسول صحيحا حسب زعمهم!! وقد روجوا هذه الشائعة الباطلة وكان لها أثر على الناس حتى أثناء حياة الرسول فها هو أحد الصحابة يقول للرسول: (أكتب كل ما أسمع منك؟) فيجيبه الرسول قائلا: (نعم)، فيقول الصحابي: (قلت للرسول بالرضا والغضب؟!) قال الرسول: (نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا..!!) (1) ومع هذا لم يقنع ذلك النفر بتأكيد الرسول!! بل بقي ذلك النفر على قناعته بأن ليس كل ما يقوله الرسول أو يفعله صحيحا!!

وتوصلوا إلى وهم مفاده أنهم وحدهم الذين يعرفون ما هو الصحيح من أقوال الرسول وأفعاله وما هو الخطأ!! وما هو من عند الله، وما هو من عند رسول الله شخصيا!!

فقد اعتبروا أن أمر الرسول بقتل المنافق ذي الثدية، أمر غير صائب، لذلك امتنعوا عن تنفيذه!! (2) وكرر الرسول أمره بقتل ذلك المارق، وعلله، ولكنهم امتنعوا عن تنفيذ أمر الرسول (3) لاقتناعهم بأن أمر الرسول بالقتل غير صائب، وقتل هذا المارق غير جائز!!!

لقد أمر الرسول أسامة بن زيد، على جيش (4) وحث المسلمين على الخروج معه، إلا أن ذلك النفر قد رأى أنه ليس من المناسب أن يتأمر أسامة الفتى على شيوخ من المهاجرين والأنصار لذلك طعنوا بتأمير الرسول لأسامة، ونجحوا في تثبيط المسلمين عن الخروج في جيش أسامة، ومع أن

____________

(1) سنن أبي داود ج 2 ص 126، وسنن الدارمي ج 1 ص 125 ومسند أحمد ج 2 ص 162 و 207 و 216، والمستدرك للحاكم ج 1 ص 105.

(2) الإصابة لابن حجر ج 1 ص 484، وحلية الأولياء ج 2 ص 317، وتاريخ ابن كثير ج 7 ص 98، والنص والاجتهاد للعاملي ص 94.

(3) النص والاجتهاد ص 94.

(4) المغازي للواقدي ج 3 ص 1117، والسيرة الحلبية ج 3 ص 207، والطبقات الكبرى ج 2 ص 190.


الصفحة 200
الرسول كان على فراش المرض إلا أنه نهض وصعد المنبر ودافع عن قراره بتأمير أسامة، ومع هذا فقد بقي ذلك النفر على قناعته بأن تأمير الرسول لأسامة عمل غير صائب، وأن غير أسامة أولى منه بالإمارة!! ومات الرسول وهم على هذه القناعة، وتزعم عمر بن الخطاب جبهة الرافضين لتأمير الرسول لأسامة وطلب من الخليفة الأول أن يعزل أسامة، فقال له أبو بكر:

(ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه) (1).

وقد يتظاهرون بأنهم أعرف من النبي بعواقب الأمور، لقد انتهكوا حرمة منزل النبي دون إذنه وهو مريض، وحالوا بينه وبين كتابة ما أراد كما وثقنا بحجة أن القرآن وحده يكفي ولا حاجة لوصية الرسول ولا لتوجيهاته النهائية!!، فهنا يتصرفون كأنهم أوصياء على الرسول وعلى الإسلام!! وفي ما بعد اعترفوا بالسبب الذي دعاهم للحيلولة بين الرسول وبين ما أراد كتابته قائلين: (حتى لا يجعل الأمر لعلي بن أبي طالب) (2) ثم اعترف أحدهم بلسان الجميع فقال:

(بأن الأمر كان لعلي بن أبي طالب فزحزحوه عنه لحداثة سنه والدماء التي عليه) (3) ثم قالوا: (إن النبي من بني هاشم، ولا ينبغي أن تكون الخلافة في بني هاشم) (4) لهذه الأسباب (حداثة السن، والدماء التي عليه، وكونه من بني هاشم) فقد كانوا يرون أن استخلاف الرسول لعلي عمل غير صائب وغير مناسب!! كما سنوضح بعد قليل، والأنسب أن تكون الخلافة من بعد النبي لرجل آخر، لهذا السبب تجاهلوا سنة الرسول التي عالجت موضوع من يخلف

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 226، الكامل في التاريخ ج 2 ص 335، والسيرة الحلبية ج 2 ص 209 و 236.

(2) شرح النهج ج 7 ص 114 سطر 27 الطبعة الأولى بيروت وج 2 ص 79 سطر 7 أبي الفضل مكتبة الحياة وج 5 ص 167 طبعة دار الفكر.

(3) شرح النهج ج 2 ص 18، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 130.

(4) الكامل في التاريخ ج 3 ص 24 آخر سيرة عمر من حوادث 23، وشرح النهج مجلد 3 ص 107، وكذلك في أحوال عمر مجلد 3 ص 97.


الصفحة 201
النبي، لأن هذه السنة برأي ذلك النفر ليست ملائمة ولا تخدم مصلحة المسلمين!! بل (وتؤدي إلى الإجحاف على حد تعبير الخليفة الثاني عمر!!) (1) فالصواب هو رأي ذلك النفر، أما ترتيبات الرسول واستخلافه لعلي بن أبي طالب فليس صوابا!! (2).

والأعظم من ذلك بأن ذلك النفر كان يعتقد بأن كل الناس أعلم من رسول الله بشؤون الدنيا، وحتى يصدق اللاحقون ما قالوا فقد زعموا أن رسول الله قد قال للناس: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) (3) لاحظ كيف عنون مسلم هذا الباب!! فأقوال الرسول بالأمور الدينية يمكن قبولها، أما الأمور الدنيوية فلا بأس من مخالفة الرسول فيها!!!

ولم يتورع ذلك النفر عن الادعاء، بأن الرسول قد سحر - سحره اليهود - لدرجة أنه كان يتخيل أنه قد فعل الشئ وما فعله (4) وصوروا الرسول بصورة أدنى من صورة الإنسان العادي، فقالوا: إنه كان يغضب فيلعن ويسب ويؤذي الناس بدون سبب (5) الله سبحانه وتعالى يصف النبي (وأنك لعلى خلق عظيم) وذلك النفر يصور الرسول بتلك الصور القبيحة!!

وقالوا أيضا إن الرسول كان يستمع غناء جوار من الأنصار، فأتى أبو بكر فنهرهن (6) فلولا أن أبا بكر قد نهر الجواري لبقي رسول الله يستمع

____________

(1) راجع الكامل في التاريخ ج 3 ص 24، واقرأ بتمعن نص المحاورة بين ابن عباس وعمر.

(2) صحيح مسلم كتاب الفضائل (باب وجوه امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الناس)، وسنن ابن ماجة باب تلقيح النخل.

(3) المصدر السابق.

(4) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس، وكتاب الطب باب هل يستخرج السحر وباب السحر، وصحيح مسلم باب السحر.

(5) صحيح البخاري كتاب الدعوات باب قول النبي من آذيته، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة باب من لعنه النبي (وليس له أهلا).

(6) صحيح البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي باب مقدم النبي وأصحاب المدينة وكتاب العيدين باب سنة العيدين، وصحيح مسلم كتاب صلاة العيدين باب الرخصة في لعب يوم العيد.


الصفحة 202
لغنائهن، وتتكرر الحادثة فيدعون أن الرسول قد رفع عائشة على منكبه لتنظر إلى الحبشة الذين يلعبون في المسجد، فلاحظ عمر هذا السلوك الخاطئ فنهرهم (1)!! وفي رواية الترمذي: فطلع عمر فانفض الناس فقال الرسول:

(إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر) (2) فأنت تلاحظ أن شياطين الجن والإنس لم يفروا من الرسول إنما فروا من عمر!! وفي رواية ثانية أن جارية ضربت بالدف وغنت بين يدي رسول الله بعد رجوعه من إحدى غزواته، فدخل عمر، فألقت الجارية الدف تحت أستها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله: (إن الشيطان ليخاف منك يا عمر) (3)، فالشيطان حسب زعمهم كان يجلس مع رسول الله آمنا دون خوف فلما دخل عمر، ارتجفت أوصال الشيطان من الخوف والذعر!! وأنت تلاحظ أن الرواة الموالين لذلك النفر قد أعطوا دور البطولة للخليفتين، وخصصوا للرسول الأدوار الثانوية اللازمة لإبراز بطولة الخليفتين وعظمتهما!!! لقد أقنعوا أنفسهم، بأن الرسول الأعظم من النوع العادي جدا من البشر، لدرجة أن كل الناس أعلم منه بشؤون الدنيا، والأعظم من ذلك أنه كان يرفع أناسا وهم يستحقون الوضع... ويضع أناسا وهم يستحقون الرفع، فقد مدح علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة ورفعهم، وقد لعن فئة أخرى من الناس وسبهم وشتمهم وآذاهم بدون سبب وقد وثقنا تلك المزاعم في الصفحات السابقة، فكان قصد ذلك النفر وقصد أوليائهم من اختلاق هذه الاختلاقات وأمثالها وإشاعتها بين المسلمين هو التشكيك بأحاديث الرسول وبسنته التي عالجت موضوع نظام الحكم أو الخلافة من بعد النبي وصولا إلى القول بأن تنصيب الرسول للإمام علي ليكون أو إمام أو خليفة من بعده ونص

____________

(1) صحيح مسلم صلاة العيدين المدينة 18 - 22.

(2) سنن الترمذي باب مناقب عمر.

(3) سنن الترمذي باب مناقب عمر ومسند أحمد ج 5 ص 353، ومعالم المدرستين ج 1 ص 41 - 42.


الصفحة 203
الرسول على أحد عشر إماما آخرين يأتون بعد الإمام علي، وكلهم من ذرية النبي ومن صلب علي ليس أمرا من الله، ولا بيانا من رسول الله لآية (وأولي الأمر منكم) إنما كان مجرد تدبير خاص من محمد شخصيا، فعندما يخالفون هذا التدبير، فإنهم لا يخالفون الله - بزعمهم - لأن التدبير المحمدي الشخصي هذا ليس موجودا في القرآن ثم إن الناس أعلم بشؤون دنياهم - كما اعترف محمد بذلك - ثم إن هذا النفر أعلم بمصلحة الناس من الرسول نفسه!! هذا ما سهل على ذلك النفر تجاهل السنة النبوية التي عالجت موضوع الحكم أو من يخلف النبي، وسهل عليهم الاستهانة بسنة الرسول بل وبمقام النبوة نفسه!!! فتركوا الترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول، وأوجدوا ترتيبات من عند أنفسهم، لاعتقادهم بعدم صواب الترتيبات التي أعلنها الرسول، وأن الترتيبات التي اخترعوها من عند أنفسهم هي الأصوب والأنسب، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!!

5 - عدالة قضية ذلك النفر، وإحساسهم بأنهم يحسنون صنعا إن استولوا على منصب الخلافة بعد وفاة النبي: لقد كان الإسلام الحقيقي في نظر راكبي موجته هو الملك، والملك وحده، لقد وقفت بطون قريش وقفة رجل واحد ضد النبي وضد بني هاشم الذين احتضنوه، لا حبا بالأصنام، ولا دفاعا عن دين الشرك، فحسب، ولكن دفاعا عن الصيغة السياسية الجاهلية التي كانت توزع مناصب الشرف بين البطون، ولأنها كانت تكره أن يكون النبي من بني هاشم، ولأنها كانت موقنة بأن النبوة ستتمخض عن ملك يتولاه محمد الهاشمي، ويخل بموازين القوى، وللحيلولة دون ذلك وقفت البطون وقفة فريق واحد فقاومت النبي وقاومت دينه، وحاربتهما بكل الوسائل، ولم تلق تلك البطون السلاح حتى يئست تماما من هزيمة النبي، وهزيمة دينه!! كانت بطون قريش وأبناء البطون المتعصبون لها يعتقدون بأن الهدف من الصراع هو الملك بشكل من أشكاله!! وقد عبر أبو سفيان عن قناعة هذا التيار حينما رأى جيوش النبي تزحف نحو مكة فقال للعباس:.


الصفحة 204
(لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما ما رأيت ملكا مثل هذا لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الأصفر) (1) ولم تتغير هذه القناعة حتى بعد دخول أبي سفيان في الإسلام، نظر أبو سفيان مرة للنبي فقال في نفسه:

(ليت شعري بأي شئ غلبني محمد)، فأوحى الله إلى نبيه بما جال في صدر أبي سفيان فقال له الرسول (غلبتك بالله) (2) بعد أن دخل رسول الله مكة وتلفظ بالشهادتين جئ به إلى رسول الله، فقال له الرسول: (يا أبا سفيان أما آن لك أن تعلم بأني رسول الله؟ فقال أبو سفيان أما والله فإن في النفس حتى الآن منها شئ... فصاح به العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن أضرب عنقك)، هنا فقط بعد ذكر ضرب العنق، وبعد الإحاطة، وضعف الحيلة، تظاهر بوقف صراعه مع النبي!!

لقد أحس ذلك النفر أن رئاستهم العامة للأمة بعد موت النبي تشكل فرصة تاريخية للمصالحة بين تيار أتباع النبي المخلصين، وبين تيار أتباع زعامة الشرك السابقة!!، وأن استيلاء ذلك النفر على الملك سيضع حدا لصراع طال أجله، وسيعيد الصيغة السياسية الجاهلية القائمة على اقتسام مناصب الشرف ولكن بثوب إسلامي، وبشكل إسلامي!!

كان ذلك النفر موقنا بأن الترتيبات الإلهية التي أعلنها النبي والمتعلقة بمن يخلفه، ترتيبات غير عادلة وغير منصفة - والعياذ بالله - فمن غير الممكن حسب تفكير ذلك النفر أن يكون النبي من بني هاشم، وأن يكون خلفاؤه الاثني عشر من بني هاشم أيضا!! إن هذه الترتيبات مجحفة بحق البطون ومن المحال حسب عقولهم أن تكون من الله، فلا بد أنها من تدابير محمد كبشر!! لقد أقنع ذلك النفر أنفسهم بذلك، لذلك هان عليهم

____________

(1) السيرة الحلبية ج 3 ص 79.

(2) السيرة الحلبية ج 3 ص 79.


الصفحة 205
الاستهانة بكامل نصوص السنة النبوية التي عالجت هذا الموضوع، وهان عليهم نقض أول عروة من عرى الإسلام وهي نظام الحكم!!

لذلك صمموا أن يتجاهلوا هذه الترتيبات الإلهية، وأن يتجاهلوا نصوص السنة النبوية التي فصلت هذه الترتيبات، وفي ما بعد أنكروا وجود الترتيبات الإلهية، وأنكروا وجود السنة النبوية، بل والأعظم من ذلك كله أنهم قد وضعوا ترتيبات وضعية بديلة للترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول وفي ما بعد، ولغايات الدعاية والاستهلاك المحلي، قالوا بأن الخلافة ليست مقصورة على بطون قريش وحدها، إنما هي حق لكل المسلمين ما عدا الهاشميين، لأن الهاشميين قد نالوا بالنبوة من الشرف ما يكفيهم، ولا ينبغي أبدا أن يتولوا منصب الخلافة، أو يشاركوا في أعمالها!!! وللتدليل على حسن النية، وعلى الجدية قال عمر بن الخطاب: (لو أدركت معاذ بن جبل استخلفته) ومعاذ بن جبل هذا من الأنصار، وكان عمر بن الخطاب وغيره من ذلك النفر يرون في سقيفة بني ساعدة أن الخلافة غير جائزة للأنصار، وأنها محصورة في عشيرة النبي (1) وهكذا منى عمر الأنصار بالخلافة، والأبعد من ذلك أن عمر قد قال: (ولو أدركت سالم مولى أبي حذيفة استخلفته)، وسالم هذا من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب!! وهكذا منى عمر الموالي أيضا بالخلافة!! ففتح شهية الجميع لمنصب الخلافة فلم تعد لأي من العرب أو الموالي مصلحة بعودة الترتيبات الإلهية التي أعلنها النبي بل ولم تعد لهم مصلحة بالاعتراف بهذه الترتيبات!!!

قال الإمام علي مرة: (اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فقد قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي، وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص، فقلت:

____________

(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 198، والإمامة والسياسة ص 8 وما فوق ج 2 ص 266 من شرح النهج وكتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 127.


الصفحة 206
بل أنتم والله أحرص وإنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه) (1) وقال مرة: (فجزت قريش عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أمي) (2).

والخلاصة أن الهدف الرئيسي لذلك النفر قد انصب بالدرجة الأولى والأخيرة على إبعاد آل محمد عن حقهم برئاسة الأمة، لأن ذلك النفر قد قرر أنه ليس من الإنصاف ولا من الصواب أن يأخذ الهاشميون الملك والنبوة معا، وأن يحرموا بطون قريش من هذين الشرفين معا، والصواب أن يأخذ الهاشميون النبوة وحدهم لا يشاركهم فيها أي إنسان من غيرهم وقد أخذوها، وأن تأخذ بطون قريش الخلافة لا يشاركهم فيها أي هاشمي، ومهمة ذلك النفر أن يفرضوا ذلك بالقوة، لقد أقنعوا أنفسهم أن الترتيبات الإلهية المتعلقة بمن يخلف النبي والمتضمنة تولية الإمام علي بن أبي طالب واستخلافه، واستخلاف أحد عشر من ذرية النبي، والتي أعلنها الرسول ليست عادلة ولا مناسبة، وأنها ليست من عند الله، إنما هي تدابير وضعها محمد كبشر، وأن واجبهم الديني!! يفرض عليهم تجاهل سنة النبي في هذه الناحية، ووضع سنن بديلة لها!!!

1 - اعتراف عمر بن الخطاب بذلك: قال عمر بن الخطاب أثناء خلافته لعبد الله بن عباس: (يا بن عباس أتدري ما صنع قومكم منكم بعد موت محمد؟! قال ابن عباس فكرهت أن أجيبه، فقلت إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدري، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة فتجحفوا على قومكم بجحا بجحا فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت!! قال ابن عباس: فقلت يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت، فقال عمر: تكلم، قال ابن عباس: فقلت: أما

____________

(1) شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 1 ص 25.

(2) شرح النهج ج 3 ص 67.


الصفحة 207
قولك يا أمير المؤمنين، اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشا اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله عز وجل قد وصف قوما بالكراهية فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) فقال عمر: هيهات يا بن العباس قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقر عليها فتزيل منزلتك مني، قال ابن عباس فقلت: يا أمير المؤمنين فإن كان حقا فلا ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كان باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: صرفوها عنا حسدا وبغضا، قال ابن عباس فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين ظلما فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسدا، فإن آدم حسد، ونحن ولده المحسودون. قال عمر هيهات، هيهات أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا لا يزول! قال ابن عباس فقلت مهلا يا أمير المؤمنين لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) (1).

هذه المحاورة تؤكد ما ذهبنا إليه، وتكشف عقيدة ذلك النفر وطبيعة مشاعرهم نحو أهل بيت النبوة!!!

2 - وعمليا وطوال رئاسة ذلك النفر للأمة لم يصدف أن استعملوا أو استعانوا بأي رجل من آل محمد، ولا بأي رجل يتعاطف مع آل محمد، وذلك من قبيل سد الذرائع!!!

قال عبد الله بن عباس: إن عمر قد أرسل إليه وقال له: (إن عامل حمص قد هلك وكان من أهل الخير، وأهل الخير قليل وقد رجوت أن تكون منهم، وفي نفسي منك شئ لم أره منك وأعياني ذلك فما رأيك

____________

(1) راجع الكامل لابن الأثير ج 3 ص 94، وشرح النهج ج 3 ص 107 أخرجه عن الإمام أحمد بن أبي الطاهر في تاريخ بغداد مجلد 2 ص 97.


الصفحة 208
بالعمل لي!! قال ابن عباس فقلت: لن أعمل لك حتى تخبرني بالذي في نفسك؟ قال عمر ما تريد إلى ذلك؟ قال ابن عباس فقلت: أريده فإن كان شئ أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت، وإن كنت بريئا من مثله علمت أني لست من أهله فقبلت عملك هنالك، فإني قلما رأيتك طلبت شيئا إلا عاجلته، فقال عمر: يا بن عباس إني خشيت أن تأتي الذي هو آت (الموت) وأنت في عملك فتقول هلم إلينا ولا هلم إليكم دون غيركم...) (1).

من فرط حرص عمر على مصلحة المسلمين وكراهيته المطلقة لرئاسة آل محمد يريد حتى بعد وفاته أن يتأكد، بأنه لا يوجد في ولايات الدولة ولا أعمالها رجل واحد يؤيد حق آل محمد بالرئاسة!! وهو يثق بمعاوية، ويثق بكل ولاته لأنه وإياهم على خط واحد، ولهم هدف واحد وهو الحيلولة بين آل محمد وبين الرئاسة العامة للأمة، لأن ذلك النفر لا يرون أنه ليس للأمة مصلحة في رئاسة آل محمد، بل المصلحة كل المصلحة بإبعاد آل محمد عن حقهم برئاسة الأمة وإبعاد أولياء آل محمد عن الولايات والإمارات والأعمال والوظائف العامة حتى لا يوطدوا لآل محمد!!

لهذه الأسباب هان على ذلك النفر تجاهل سنة الرسول وكافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بنظام الحكم أو بمن يخلف الرسول، وأقنعوا أنفسهم بأن الترتيبات الإلهية التي أعلنها الرسول في هذا المجال ليست في مصلحة الإسلام ولا في مصلحة المسلمين!!! ومع الأيام أقنعوا الأكثرية التي حكموها بذلك!! إن هذا لهو البلاء المبين!!

____________

(1) مروج الذهب للمسعودي مجلد 2 ص 253 - 254.


الصفحة 209

الفصل الثالث
كيف تجاهلوا سنة الرسول ونقضوا أولى عرى الإسلام وهي نظام الحكم؟

من خلال سلسلة متكاملة ومتلاحقة من الخطوات، تمكن ذلك النفر من تجاهل سنة الرسول التي رتبت من يخلف النبي بعد موته، ونتيجة لذلك نقضوا أول عروة من عرى الإسلام وهي نظام الحكم حتى قبل أن يدفن الرسول الأعظم!!

الخطوة الأولى: هي الحيلولة بين جيش أسامة وبين الخروج

لقد نجح ذلك النفر بتثبيط المسلمين عن الخروج في جيش أسامة، مع أن الرسول الأعظم قد عبأ هذا الجيش بنفسه، وعبأ ذلك النفر فيه، وأعطى الرسول الراية لأسامة بنفسه، وحث الرسول هذا الجيش على الخروج سريعا (1)، وقال الرسول جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه (2) لكن ذلك النفر وأولياءهم كانوا يرون أن تأمير الرسول لأسامة على

____________

(1) المغازي للواقدي ج 3 ص 117 والسيرة الحلبية ج 3 ص 207، والطبقات الكبرى ج 2 ص 190.

(2) الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 23 وج 1 ص 20 بهامش الفصل لابن حزم ج 1 ص 24.


الصفحة 210
الجيش وهو فتى غير مناسب!!! والأفضل أن يعين الرسول بدلا منه!! هذه هي الحجة التي احتجوا بها حتى لا يخرجوا مع الجيش، فاضطر الرسول أن ينهض من فراش الموت وهو معصوب ومحموم، وأن يصعد المنبر، وأن يدافع عن قراره بتأمير أسامة وأن يؤكد ذلك بقوله: (... وأيم الله إنه لخليق بالإمارة (1) ومع هذا فقد أصروا على موقفهم بأن تأمير الرسول لأسامة غير مناسب ويتوجب على الرسول أن يستبدله!!! ومن الطبيعي أن يصر الرسول على قراره فكان يقول: (جهزوا جيش أسامة، أرسلوا بعث أسامة) وكرر ذلك مرات متعددة وهم متثاقلون (2) ويبدو أن ذلك النفر قد ضغط على أسامة ضغطا شديدا، فدخل على رسول الله فأمره رسول الله بالسير وقال له: (أغدو على بركة الله (3) فقال أسامة للرسول: دعني أمكث حتى تشفى، فقال الرسول أخرج وسر على بركة الله، فقال أسامة: إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي قلبي قرحة، فقال الرسول: سر على النصر والعافية فقال أسامة: يا رسول الله إني أكره أن أسائل عنك الركبان فقال الرسول: أنفذ لما أمرتك به) (4) فقام أسامة، ثم أغمي على الرسول، واستفاق وأخذ بقول: أنفذوا بعث أسامة، لعن الله من تخلف عن بعث أسامة!! ومع هذا لم يخرجوا ولم يستجيبوا لرسول الله، وأصروا على رأيهم بأن تأمير الرسول لأسامة عمل غير صائب فلا ينبغي لأسامة وهو فتى أن يتأمر على شيوخ المهاجرين والأنصار!! وحتى بعد أن توفي الرسول أصروا على رأيهم وضغطوا على الخليفة الأول كي ينزع أسامة!! لأن تأمير (1) المغازي للواقدي ج 3 ص 119، والطبقات الكبرى ج 2 ص 190، وشرح النهج ج 1 ص 57، والسيرة الحلبية ج 3 ص 207 و 243.

(2) كنز العمال ج 10 ص 573، ومنتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد ج 4 ص 182.

(3) المغازي للواقدي ج 3 ص 112، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 191، والسيرة الحلبية ج 3 ص 208 وص 235، والسيرة الدحلانية ج 2 ص 340، وشرح النهج ج 1 ص 160، وكنز العمال ج 10 ص 571.

(4) السقيفة للجوهري راجع شرح النهج ج 6 ص 52.


الصفحة 211
الرسول لأسامة ليس مناسبا ولا صحيحا!! فأخذ الخليفة الأول بلحية عمر بن الخطاب وقال له: (ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه) (1).

لقد استمات ذلك النفر للحيلولة بين جيش أسامة وبين الخروج لأن الرسول قد عبأهم بهذا الجيش بنفسه، فإن تخلفوا عنه سينكشفون ثم إن خروجهم بهذا الجيش سيقوض كل خططهم الرامية إلى زحزحة الخلافة عن صاحبها الشرعي والاستيلاء عليها بالقوة والتغلب بعد تجاهل سنة الرسول التي رتبت نظام الحكم بعد موت النبي!! فلو خرجوا مع الجيش لانتقلت الخلافة في غيابهم إلى صاحبها الشرعي انتقالا سلميا ولما اختلف اثنان لقد فطن ذلك النفر إلى تدبير النبي، لذلك استماتوا للحيلولة بين جيش أسامة وبين الخروج، وكانت هذه هي الخطوة الرئيسية الأولى لتجاهل سنة الرسول تجاهلا تاما ونقض أول عروة من عرى الإسلام وهي نظام الحكم!!

الخطوة الثانية: الحيلولة بين الرسول وبين كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة

لما علم النبي أن ذلك النفر قد نجح بالحيلولة بين جيش أسامة وبين الخروج صمم على كتابة وصيته وتوجيهاته النهائية للأمة ليسهل عملية الانتقال السلمي إلى خليفته الشرعي الذي اختاره الله وأعلنه رسوله، وقبله الجميع وبايعه الجميع في غدير خم بما فيه أفراد ذلك النفر.

ومن المؤكد أن الرسول الأعظم قد ضرب موعدا لذلك، ودعا إليه بعض الخلص من أصحابه ليشهدوا كتابة الوصية والتوجيهات النهائية، ومن

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 226، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 335، والسيرة الحلبية ج 3 ص 209 و 236، والسيرة الدحلانية ج 2 ص 340.


الصفحة 212
المؤكد أن شخصا ممن كان يسكن مع النبي قد سمع بذلك، ومن المؤكد أن ذلك الذي سمع كان متعاطفا مع ذلك النفر وضالعا معهم في المؤامرة، فنقل الخبر إلى عمر بن الخطاب (1) ولأن عمر بن الخطاب رجل حازم فقد أطلع أركان حزبه على ما سمع واتفقوا على أن يجمعوا وبصمت أكبر عدد ممكن من أعوانهم، وأن يدخلوا حجرة الرسول في الوقت الذي حدده لكتابة وصيته وتوجيهاته النهائية!!

حضر الذين اصطفاهم الرسول ليكتب أمامهم وصيته وتوجيهاته النهائية وليلخص أمامهم الموقف للأمة، جلست هذه الصفوة بين يدي رسول الله!!

فجأة وبدون استئذان دخل عمر بن الخطاب ومعه أركان حزبه وعدد كبير من أعوانه الذين اتفق معهم على خطة تحول بين الرسول وبين كتابة ما أراد كتابته!!

ماذا يفعل النبي أمام هذه المفاجأة!! لم يلغ الموعد، ويضرب موعدا جديدا لأن الموت يدركه، بل مضى إلى حيث أمره الله متجاهلا وجود المتآمرين ونواياهم!!

فقال للذين دعاهم (إئتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا) (2).

ما إن أتم الرسول جملته حتى تصدى له عمر بن الخطاب، وقال متجاهلا طلبه، ومتجاهلا وجود الرسول، وموجها كلامه للصفوة التي اختارها الرسول: (لا حاجة لنا بكتابه، إن المرض قد اشتد به، إن النبي يهجر، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) (3) وما إن أتم عمر جملته حتى قال أعوانه بصوت واحد متجاهلين وجود الرسول وموجهين كلامهم للحضور:

____________

(1) في كتابنا المواجهة ص 503 - 506 كشفنا الذي سرب هذا الخبر وأثبتنا بأنه كان أحد المتآمرين.

(2) حسب الروايات التي نقلها رواه القوم وثقاتهم، فإن الرسول الأعظم لم يتلفظ سوى بجملة واحدة تحمل هذا المعنى، وفي الفصول السابقة سقنا كافة هذه الروايات.

(3) راجع صحيح البخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 7 ص 9، وصحيح مسلم آخر =

الصفحة 213
(القول ما قال عمر، إن رسول الله يهجر، ما له أهجر!! ما شأنه أهجر!!

استفهموه إنه يهجر) (1).

صعقت الصفوة التي اختارها النبي من هول ما سمعت، فقالت: إلا تسمعون رسول الله يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده!! وكرر عمر أقواله السابقة وعلى الفور ضج أتباع عمر فرددوا اللازمة التي اتفقوا عليها قبل دخولهم إلى منزل النبي (القول ما قال عمر إن الرسول يهجر...) كان واضحا أن عمر وحزبه على استعداد لفعل أي شئ يحول بين الرسول وبين كتابة ما أراد، سمعت النسوة، فقالت النسوة لعمر وحزبه: (ألا تسمعوا رسول الله يقول قربوا يكتب لكم...) فصاح بهن عمر: (إنكن صويحبات يوسف...).

هنا تدخل الرسول فقال: (دعوهن فإنهن خير منكم) (2) دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه قوموا عني لا ينبغي عندي تنازع (3) لقد اكتفى الرسول بتأكيداته السابقة، ورد على عمر وحزبه ردا يليق بجلال النبوة وطبيعة الظروف وهذا ما تمناه عمر وحزبه، لقد تحققت غايتهم من اقتحامهم لمنزل الرسول ولم يعد هنالك ما يوجب بقاءهم، وهكذا كسروا خاطر النبي الشريف، وقصموا ظهر الدين والأمة معا، وتركوا النبي يصارع الموت تحف بجنابه الأقدس ملائكة الرحمن.

وقد فعل عمر وحزبه ذلك (حتى لا يجعل الأمر خطيا لعلي بن أبي

____________

= كتاب الوصية ج 5 ص 75 وج 2 ص 16، وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 94 - 95 ومسند أحمد ج 1 ص 355، وصحيح البخاري ج 4 ص 31، وتاريخ الطبري ج 2 ص 194، والكامل لابن الأثير ج 2 ص 320، وتذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ص 62، وسر العالمين، وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي.

(1) المصدر السابق.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 7 ص 114 الطبعة الأولى بيروت وج 2 ص 79 سطر 3 تحقيق محمد أبو الفضل مكتبة الحياة وج 3 ص 167 طبعة دار الفكر، وكتابنا المواجهة ص 503 وما فوق.

(3) المصدر السابق.


الصفحة 214
طالب) فيؤكد تأكيداته اللفظية بتأكيد خطي، وقد اعترف عمر بذلك، لأنه كان يعتقد أن مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي أن لا يتولى الخلافة علي وأن اختيار الرسول للإمام علي كاختياره لأسامة عمل غير صحيح وغير مناسب!!

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الخطوة الثالثة: توزيع الأدوار

من اللحظة التي قعد فيها رسول الله على فراش الموت، استنفر ذلك النفر قاعدتهم الشعبية، وقامت قيادتهم بتحديد الخطوات اللازمة للاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة.

1 - تحديد ساعة الصفر أو الاعلان عن وجود انقلاب على الشرعية الإلهية: قدر ذلك النفر أن أفضل وقت لتنفيذ الانقلاب هو الفترة الواقعة ما بين وفاة النبي وبين دفنه، حيث يكون الإمام الشرعي وأهل بيت النبوة والفئة القليلة المؤمنة مشغولين بتجهيز الرسول لمواراته في ضريحه المقدس فإذا نجح الانقلابيون بتنصيب خليفة خلال هذه الفترة فسيواجهون الإمام الشرعي وآل محمد والفئة القليلة المؤمنة بأمر واقع لا طاقة لهم على دفعه، وهذا ما حدث بالفعل، فلم يشارك ذلك النفر بتجهيز الرسول ولا شاركوا بدفنه مع أن أبسط حقوق الرسول على ذلك النفر هو المشاركة بالتجهيز والدفن خاصة وأن أبا بكر وعمر قد نالا شرف مصاهرة الرسول.

قال ابن سعد: (ولي وضع الرسول في قبره هؤلاء الرهط الذين غسلوه العباس وعلي، والفضل وصالح مولاه (وخلى أصحاب رسول الله بين رسول الله وأهله فولوا أجنانه) (1).

____________

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 70، وكنز العمال ج 4 ص 54 و 60، ومعالم المدرستين ج 1 ص 121.


الصفحة 215
وقال ابن عبد ربه: (دخل القبر علي والفضل وقثم أبناء العباس وشقران مولاه ويقال أسامة بن زيد وهم تولوا غسله وتكفينه وأمره كله) (1).

وأن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن الرسول (2).

قالت عائشة: ما علمنا بدفن الرسول حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء (3) والقوم مجمعون على أن رسول الله قد مرض في حجرة عائشة وتوفي فيها، ومع هذا فإن عائشة لم تعلم بدفن الرسول لأنها كانت مشغولة كأبيها وكعمر بمصلحة المسلمين وتنصيب خليفة مناسب غير الخليفة الذي اختاره الله ورسوله!!

قال ابن سعد: (ولم يله إلا أقاربه، ولقد سمعت بنو غنم صريف المساحي حين حضر، وأنهم لفي بيوتهم) (4).

هذه الروايات رواها أولياء الخلفاء وهي تدل ضمنا وصراحة على أنهم قد تركوا رسول الله جنازة في أيدي أهله وأقاربه، وذهبوا ليستولوا على ملك النبوة، ويتقاسموه في غياب أهله الشرعيين ويضعوا المسلمين أمام أمر واقع، فإذا كان هذا تعاملهم مع الرسول شخصيا فكيف يتعاملون مع سنته!!

2 - تقسيم أنصار ذلك النفر على شكل سرايا كل سرية لها مهمة محددة!!

أ - قسم يبقى في المسجد وحوله، ليكون قرب آل محمد، يراقب تحركاتهم وينتظر اللحظة التي يأتي بها الخليفة الجديد، فيستقبلونه مجرد

____________

(1) العقد الفريد ج 3 ص 63، وقريب منه تاريخ الذهبي ج 1 ص 321 و 324 و 326.

(2) كنز العمال ج 3 ص 140.

(3) سيرة ابن هشام ج 4 ص 344، وتاريخ الطبري ج 2 ص 452 و 455 وط أوروبا ج 1 ص 1833 و 1837، وابن كثير ج 5 ص 270، وابن الأثير في أسد الغابة ج 1 ص 34 ترجمة الرسول، ومعالم المدرستين ج 1 ص 121.

(4) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 1 ص 121.