الصفحة 216
وصوله، ويبايعونه أمام آل محمد، بعفوية وبدون اعتراض، وكأن هذه البيعة طبيعية، وكأن هذا القسم لا يعرف شيئا عن المؤامرة والانقلاب!!

وبالفعل عندما جاء الخليفة الجديد نهضت هذه المجموعة لاستقباله فقال عمر بن الخطاب: (ما لي أراكم حلقا شتى، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعه الأنصار) (1).

وكأن كلام عمر (مسحة رسول) فقام عثمان بن عفان والأمويون فبايعوا الخليفة الجديد، وقام سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا الخليفة الجديد، ولم يبق من ذلك الجمع لم يبايع إلا علي بن أبي طالب والعباس ومن معهما والزبير بن العوام الذي انضم لهما (2) وهكذا عزل الهاشميون وآل محمد كما خطط الانقلابيون ونجح القسم الذي وضع في المسجد وحوله بأداء دوره على أكمل وجه!!!

ب - قسم آخر يتحرك إلى منطقة الأنصار، ويتجمعون في سقيفة بني ساعدة كأنهم زوار لسعد بن عبادة الذي كان مريضا وطريح الفراش بإجماع كل المؤرخين، ومهمة هذا القسم أن ينتظر قدوم قادة الانقلاب، وأن يشترك بالحوار وكأنه لا علم له بما دبروا، حتى إذا ما نجح قادة الانقلاب بجر الحاضرين إلى الخوض في حديث من يخلف النبي، أمسكوا بالحديث فتابعوه حتى يتم تنصيب الخليفة المتفق عليه وهو أبو بكر، عندئذ ينهض أفراد هذا القسم ويبايعوا أبا بكر كأول خليفة للنبي، فيذهل الحاضرون من غير الانقلابيين، ويجدون أن من الحكمة مبايعة الخليفة الجديد باعتباره واقعا، وحتى يشركهم في ما بعد بالمنافع والأدوار، ويحافظوا على مصالحهم باعتبار أن هذه الخليفة هو رأس الحكومة الواقعية!!

____________

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 11، وكتابنا المواجهة ص 517.

(2) الإمامة والسياسة ج 1 ص 11.


الصفحة 217
3 - افتعال اجتماع سقيفة بني ساعدة: في وقت يطول أو يقصر سيكتشف المسلمون بإن اجتماع سقيفة بني ساعدة كان مفتعلا وقد حوله الانقلابيون من مجرد اجتماع لزوار عند مريض إلى اجتماع سياسي وقد أثبتنا ذلك (1) فسعد بن عبادة كان مريضا بالإجماع، وقاعد على فراش المرض في منزله المجاور لسقيفة بني ساعدة، ولأن سعد سيد الخزرج بلا كلام فمن الطبيعي أن تأتي وجوه الخزرج لعيادته والاطمئنان على صحته، ومن الطبيعي أن يتعرض الزوار في حديثهم العادي لوفاة الرسول، والفراغ الذي سيتركه، وفجأة حضرت الأوس المتفقة مع قادة الانقلاب، والمحصورة مهمتها بمبايعة الخليفة في اللحظة المناسبة عند ترشيحه من قبل قادة الانقلاب، وليس في حضور الأوس أو جزء كبير منهم أو حتى مجموعة من الأوس لزيارة سعد بن عبادة ما يثير الريبة، فسعد مريض وعيادة المريض وزيارته مرغوبة في الجاهلية والإسلام، وهذه الزيارة من حيث الظاهر مبادرة نبيلة من الأوس. لقد جلس الجميع واطمأنوا على صحة المريض سعد بن عبادة ومن غير المستبعد أن الجميع قد تطرقوا إلى عصر ما بعد النبوة، ويجمع المؤرخون أن الحضور قد قالوا لسعد بن عبادة أن الأمر لك، فما كنت فاعلا فلن نعصي لك أمرا، بمعنى أن سعد بن عبادة يتولى توجيه الأنصار إلى ما يمكن عمله وكيف يتم ذلك، وليس المقصود تولية سعد خليفة على المسلمين، فلو أن المقصود تولية الخلافة لسعد لبايعه الحاضرون خليفة، ولوضعوا المسلمين تحت أمر واقع كما فعل الانقلابيون!! لكن سعد لا يقبل ذلك، ولا يقبل الخزرج ذلك ولا تقبل الأوس ذلك أيضا، لأن الأنصار كانت تعرف أن الرسول قد استخلف الإمام علي بن أبي طالب، وطوال عهد الرسول المبارك وهو يؤكد هذه الحقيقة وقبل شهرين من وفاته نصبه الرسول وتوجه إماما للمسلمين في غدير خم وبايعه المسلمون وقدموا له التهاني بحضور الرسول، كأن مسألة خلافة النبي محسومة ومعروفة

____________

(1) راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام ص 311 وما فوق.


الصفحة 218
عند الجميع خاصة الأنصار، وحتى بعد أن نجح الانقلابيون بتنصيب خليفة في سقيفة بني ساعدة قالت الأنصار " لا نبايع إلا عليا أو قال بعض الأنصار: " لا نبايع إلا عليا " (1) وعلى غائب، لأن عامة المهاجرين والأنصار كانوا لا يشكون بأن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله (2) ولكن كان من الطبيعي أن ينشرح خاطر سعد مما عرضته الأوس حول تنسيق المواقف إن العرض غريب ومدهش، لكن تقبله سعد، وتقبلته الخزرج بحسن نية وبارتياح، لأن الخزرج كانت خالية الذهن تماما من موضوع الانقلاب، ومن تواطؤ أعداد كبيرة من الأوس فيه!!

4 - حضور أبي بكر وعمر وأبي عبيدة: بينما كان الزوار مجتمعين في منزل سعد بن عبادة حضر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، كان حضورهم مستهجنا من جميع الوجوه فهم أصهار الرسول، وقد جرت العادة أن يساعد الأصهار أهل الميت بتجهيزه ودفنه، إن ترك الثلاثة لرسول الله يثير الدهشة والاستغراب لكن سعد والخزرج تصوروا لأول وهلة أن زيارة الثلاثة تعبير عن المحبة والتقدير لسعد، ولفتة نبيلة تجاه الخزرج، وأن الزيارة لوجه الله تعالى! ولم يعلم سعد، ولا علمت الخزرج ساعتها أن الثلاثة اختاروا هذا المكان وهذا التجمع بالذات لينصبوا خليفة بديلا للخليفة الذي اختاره الله ورسوله!! من الطبيعي أن ينهض الجميع أو يفسحوا المجال على الأقل للزوار الثلاثة ثم يجلس الجميع، من الذي وصل الحديث!! من الذي بدأ الحديث!! كيف تطور الحديث عن خلافة النبي المحسومة! لا أحد يعلم ذلك على وجه اليقين، لم تعد الروايات التاريخية التي " هندستها " وسائل إعلام دولة الخلافة التاريخية مقبولة عقليا ولا قادرة على الوقوف أمام أي تحليل منطقي!! لكن المؤكد أن اجتماع السقيفة بالمعنى الذي تقدمه وسائل إعلام الخلافة التاريخية كان

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 120 وط أوروبا ج 1 ص 1818، وابن الأثير ج 2 ص 23.

(2) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 103، والموفقيات للزبير بن البكار ص 579 و 580.


الصفحة 219
مفتعلا، وأنه لم يكن بالأصل اجتماعا سياسيا لغاية انتخاب خليفة من الأنصار كما يزعمون!! وأن الثلاثة وأعوانهم هم الذين استغلوا وجود بعض الناس عند سعد بن عبادة، وحولوا ذلك الاجتماع إلى اجتماع سياسي لغاية تنصيب الخليفة بديل للخليفة الذي نصبه الله ورسوله، ومواجهة آل محمد وصاحب الحق الشرعي وكافة المسلمين بأمر واقع لا طاقة لهم على دفعه إلا بالقتال وتفريق وحدة المسلمين!!

5 - الثلاثة وأعوانهم يتجاهلون بالكامل الإمام الذي اختاره الله ورسوله ليخلف الرسول: بعد أن نجح الثلاثة وأعوانهم بتحويل الاجتماع عند مريض إلى اجتماع سياسي، تجاهلوا بأن الرسول قد عين خليفة، وتجاهلوا سنة الرسول التي نظمت عصر ما بعد النبوة، وتجاهلوا نظام الحكم في الإسلام وانطلقوا من نقطة الصفر قافزين عن كل الأحكام الشرعية التي أعلنها النبي، فقال أبو بكر للحاضرين، نحن عشيرة الرسول... وقال عمر: " إن العرب لا ينبغي أن تولي هذ الأمر إلا من كانت النبوة فيهم من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته " (1) وقال أبو عبيدة: " يا أيها الأنصار كنتم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وخالف " (2). أنت تلاحظ أن الثلاثة كانوا يحتجون بحجة أهل بيت النبوة، ويتصرفون كأن الرسول لم يعالج هذا الموضوع، لقد فهم الأنصار أن الثلاثة يريدون أن ينصبوا خليفة، ويضعوا الناس أمام أمر واقع، فقالت الأنصار أو قال بعض الأنصار: " لا نبايع إلا عليا " (3) وكان علي غائب، وقال المنذر بن الأرقم: " إن

____________

(1) راجع الإمامة والسياسة ص 6، وتاريخ الطبري حوادث سنة 11.

(2) المصدر السابق.

(3) تاريخ الطبري ج 3 ص 208 وط أوربا ج 1 ص 1818، وابن الأثير ج 2 ص 123 وشرح النهج ج 2 ص 265.


الصفحة 220
فيكم لرجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازله أحد " يعني علي بن أبي طالب (1).

تجاهل أبو بكر ما قالته الأنصار فقال: " هذا عمر وهذا أبو عبيده بايعوا أيهما شئتم، فقال عمر ما لأبي بكر أبسط يدك أبايعك، وكثر اللغط وكثر الاختلاف، أهل الشرعية من الأنصار يقولون لا نبايع إلا عليا والثلاثة يريدون أبا بكر والمندسون يترقبون الفرصة. لما رأى بشير بن سعد أن الثلاثة لم يقبلوا بولاية علي أدرك أن البيعة لأحدهم واقعة لا محالة، فأراد أن يكون له السبق فقال إن محمدا من قريش وأهله أحق بميراثه وتولي سلطانه... ثم قفز وبايع أسيد بن حضير ومن حضر من الأوس، وحتى ينال الخزرج جزاءا من هذا الشرف ولا يأخذه الأوس وحدهم بايع أكثرية من حضر... " (2).

6 - استقدام المرتزقة من الأعراب: استقدم الانقلابيون أعدادا كبيرة من الأعراب، وطلبوا منهم أن يتواجدوا في الوقت الذي حدوده قرب بيت سعد بن عبادة، فجاءت قبيلة أسلم قال الطبري: " إن أسلم أقبلت بجماعة حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر " (3) قال عمر بن الخطاب في ما بعد: " ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر " (4) قال عمر هذا الكلام وهو في سقيفة بني ساعدة، وهو بحاجته ماسة إلى مؤيدين ينتصر بهم على سنة الرسول وعلى صاحب الحق الشرعي!! فكيف عرف أن هذه القبيلة التي لا تسكن المدينة ستكون من المؤيدين له! إن لم تكن هنالك علاقة أو اتفاق

____________

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 103، والموفقيات للزبير بن البكار ص 579.

(2) راجع التفصيلات في الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 ص 5 وما فوق.

(3) تاريخ الطبري ج 2 ص 458 وطبعة أوروبا ج 1 ص 1833، وابن الأثير ج 2 ص 224، والزبير بن بكار برواية ابن أبي الحديد ج 6 ص 287.

(4) تاريخ الطبري ج 3 ص 458 وط أوروبا ج 1 ص 1843.


الصفحة 221
مسبق معها، ثم ما هي مصلحة هذه القبيلة باندفاعها الذي وصل إلى درجة التهور في تأييدها لذلك النفر!! قال ابن الأثير فجاءت أسلم فبايعت (1) وقال الزبير بن البكار: " فقوي بهم أبو بكر " (2) وقال المفيد: " إن القبيلة كانت قد جاءت لتمتار من المدينة " (3) لقد حسمت الأعراب الموقف وأجبرت المترددين على الاعتراف بالأمر الواقع، وهذا ليس وليد صدفة، إنما كان ثمرة تخطيط اتفاق مسبق!!

7 - زقة الخليفة الجديد: بايع أبا بكر الانقلابيون من المهاجرين والطلقاء والأنصار والمنافقين والمرتزقة من الأعراب في سقيفة بني ساعدة، وبعد أن تمت بيعتهم له أحاطوا به وزفوه زفا إلى المسجد (4) ولما وصل موكب الخليفة الجديد المسجد استقبله الأمويون برئاسة عثمان بن عفان فبايعوا، وبنو زهرة برئاسة سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف فبايعوا، وتبعا لهم بايعت بطون قريش باستثناء بني هاشم والزبير وخالد بن سعيد الأموي، وهكذا واجه الانقلابيون الأمة بأمر واقع لا سبيل إلى دفعه ، إلا برجوعهم إلى الحق وهذا غير وارد فلو أرادوا الحق لما خرجوا منه، أو بحرب غير متكافئة تفرق وحدة المسلمين.

8 - توقع الخليفة الجديد وأعوانه المباركة الفورية من آل محمد عامة ومن صاحب الحق الشرعي خاصة: بعد ما نصب الانقلابيون الخليفة الجديد وحشدوا ذلك الحشد الهائل من الأتباع والأعوان ومن أعداء الله ورسوله وواجهوا صاحب الحق الشرعي وآل محمد بهذا الواقع المر، توقع الخليفة الجديد وأعوانه بأن يسكت صاحب الحق الشرعي، وأن يسكت أهل بيت

____________

(1) ابن الأثير ج 2 ص 224.

(2) شرح النهج ج 6 ص 287.

(3) الجمل للمفيد ص 43.

(4) الموفقيات ص 578، والرياض النضرة للطبري ج 1 ص 164، وتاريخ الخميس ج 1 ص 188.


الصفحة 222
النبوة وأن يبادروا على الفور للاعتراف بهذه الأمر الواقع وإن يبادروا إلى مبايعة الخليفة الجديد خاصة وأنه قد استعرض قواته أمام بيت العزاء!!

لكن ما توقعه الانقلابيون لم يحدث ولم يتقدم الإمام علي بن أبي طالب ولا أحد من بني هاشم إلى مبايعة الخليفة الجديد أو إظهار الاعتراف بالأمر الواقع بل اعتبروه عملا غير شرعي بل ومعدم شرعا!! كذلك فقد توقع الخليفة وأعوانه أن تتقدم الفئة القليلة المؤمنة فتبايعه، وتبارك له وتعترف بالأمر الواقع، وتتناسى كل ما قاله رسول الله!! ولكن ذلك لم يحدث، فقد رفضت القلة المؤمنة الاعتراف بالأمر الواقع، وبالوضع الجديد!! قال عمر بن الخطاب في ما بعد: " وإنه كان من خبرنا حين توفي نبينا أن عليا والزبير ومن معهما - سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وأبي بن كعب - تخلفوا عنا في بيت فاطمة (1).

____________

(1) مسند أحمد ج 1 ص 55 وتاريخ الطبري ج 2 ص 466 وط أوروبا ج 1 ص 1822، وابن الأثير ج 2 ص 124، وابن كثير ج 5 ص 246، وابن أبي الحديد ج 1 ص 123، وتاريخ السيوطي ص 145، وسيرة ابن هشام ج 4 ص 328، وتيسير الوصول ج 2 ص 41، وتاريخ الخميس ج 1 ص 188، وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156، وابن شحنة بهامش الكامل ص 112.


الصفحة 223

المواجهة مع صاحب الحق الشرعي ومع آل محمد والقلة المؤمنة

تأثر أبو بكر ونائبه والانقلابيون من فعلة الإمام علي وآل محمد والقلة المؤمنة ومن تلكئهم عن بيعته وعدم اعترافهم بالأمر الواقع، فأرسل أبو بكر عمر بن الخطاب وقال له: " إئتني به بأعنف العنف " (1) فجاء عمر وجرى بينه وبين الإمام حديث (2) فقال الإمام علي لعمر: " والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غدا " (3) أو قال له: " إحلب حلبا لك شطره واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا " (4) فعلي بن أبي طالب يعلم علم اليقين بأن أبا بكر سيستخلف عمر بن الخطاب. ومن الطبيعي أن تنتهي المناقشة عند هذا الحد ومن الطبيعي أن لا يجرؤ عمر على الاصطدام مع الإمام علي دون وجود قوة كافية تحميه من الإمام، لأن عمر ليس من رجال علي، ولا يجيد القتال، فخرج عمر ثم عاد ومعه قوة من جيش الخليفة الجديد، فيهم أسيد بن حضير، وعبد الرحمن بن عوف، وزياد بن لبيد وزيد بن ثابت، وسلمة بن أسلم، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس، وسلمة بن سالم بن

____________

(1) أنساب الأشراف ج 1 ص 587.

(2) أنساب الأشراف ج 1 ص 587.

(3) أنساب الأشراف ج 1 ص 587.

(4) الإمامة والسياسة ص 11 - 12.


الصفحة 224
وقش (1) ومعهم طائفة من مرتزقة الأعراب بهدف إخراج الإمام علي وال محمد ومن عندهم من المؤمنين المعزين ليبايعوا أبا بكر، أو ليدخلوا في ما دخلت فيه الأمة على حد تعبير عمر بن الخطاب، وقال أبو بكر لعمر قائد تلك السرية: " وإن أبوا فقاتلهم " (2) ومع أن الفارق العددي بين السرية وبين الذين في منزل الإمام كبير جدا، فقد رأى عمر بن الخطاب أن حرق البيت على من فيه هو الأسلم والأضمن، فإن استسلم الإمام ومن معه كان به، وإن أبوا الخروج ومبايعة الخليفة الجديد، يتم حرقهم وهم أحياء!! وهكذا يتجنب عمر بن الخطاب ومن معه مواجهة الإمام!! لذلك صمم على عدم المواجهة مع الإمام وحرق البيت على من فيه.

أقبل عمر ومعه قبس من النار ليضرم النار على من في البيت، فلقيته فاطمة بنت الرسول فقالت له: يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ فقال لها عمر: نعم أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة!! (3).

قال البلاذري: فتلقته فاطمة على الباب فقالت له: " يا بن الخطاب أتراك محرقا علي بابي؟ فقال عمر: نعم " (4).

قال اليعقوبي: فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار وكسروا سيف علي ودخلوا الدار (5).

قال الطبري: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير

____________

(1) تاريخ الطبري ج 2 ص 443 - 444، وأبو بكر الجوهري في كتابه السقيفة حسب رواية ابن أبي الحديد ج 1 ص 130 - 134.

(2) تاريخ ابن شحنة ج 11 ص 113 بهامش الكامل وشرح النهج ج 1 ص 134.

(3) العقد الفريد لابن عبد ربه ج 3 ص 64، وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156.

(4) أنساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 586، وكنز العمال ج 3 ص 140، والرياض النضرة للطبري ج 1 ص 167، والسقيفة للجوهري برواية ابن أبي الحديد ج 1 ص 132 وج 6 ص 2، وتاريخ الخميس ج 1 ص 178، وشرح النهج ج 1 ص 134.

(5) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 105.


الصفحة 225
ورجال من المهاجرين، فخرج عليهم الزبير مصلتا سيفه فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (1).

هكذا فعلوا بال محمد في اليوم الثاني لوفاة الرسول!! ومن المؤكد أن الحضور قد جاؤوا للتعزية والمواساة، وقسم منهم كان قد بايع الخليفة، لكنها القوة الغاشمة!! والشروع بحرق بيت فاطمة بنت رسول الله على من فيه من آل محمد ومن المعزين من الحقائق الثابتة في التاريخ، فقد رواها جمع كبير من الناس يمتنع عقلا اجتماعها على الكذب، وكانت من الثبوت والقوة بحيث لم يجرؤ أحد من الناس على إنكارها وقد أجمع المؤرخون على ذكرها وتأكيد وقوعها والظروف التي أدت إليها (2).

وقد اعتبرها بعض الشعراء من مفاخر ومناقب عمر ابن الخطاب، قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:

وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها * أمام فارس عدنان وحاميها

ولكن غاب عن شاعر النيل، أنه لم يكن بوسع عمر أن يفعل ذلك لو لم يكن مدعو ما بجيش يعد بالآلاف، في الوقت الذي كان فيه الإمام يقف وحيدا لقد قدر الإمام علي والسيدة الزهراء أن القوم جادون بعزمهم على حرق البيت

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 443 و 444 وطبعة أوربا ج 1 ص 1818 و 1820 و 1822، وعبقرية عمر للعقاد ص 173، والرياض النضرة للطبري ص 167، وتاريخ الخميس ج 1 ص 188، وشرح النهج ج 1 ص 122 و 123 وج 6 ص 2، وكنز العمال ج 3 ص 128.

(2) راجع الرياض النضرة للطبري ج 1 ص 167، والسقيفة للجوهري، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 132 وج 6 ص 293، وتاريخ الخميس ج 1 ص 188، وتاريخ اليعقوبي، وتاريخ ابن شحنة ص 113 بهامش الكامل لابن الأثير ج 11، وشرح النهج ج 1 ص 4، والعقد الفريد لابن عبد ربه ج 3 ص 64، وتاريخ أبي الفداء ج 1 ص 156، وأنساب الأشراف للبلاذري ج 1 ص 586، وكنز العمال ج 3 ص 140، ومروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 100.


الصفحة 226
على من فيه إن لم يخرجوا، وإن أحرقوا البيت على من فيه فستنقطع ذرية النبي، وسيباد آل محمد عن بكرة أبيهم وسيقسم ظهر الفئة القليلة المؤمنة ولن يبقى للحق شهود، لذلك آثر الإمام أن يعارض معارضة سلمية، لا تضطر القوم لقتله، لذلك خرج الإمام وآل محمد والمعزون، وانقضت السرية على الإمام والذين آمنوا، وحملوا الإمام إلى أبي بكر، فقيل له بايع، فقال الإمام أمام الجميع: " أنا أحق بهذا الأمر، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله فأعطوكم المقادة، وسلموا لكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم مؤمنين، واعرفوا لنا من الأمر مثلما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعرفون ".

قال أبو عبيدة: " يا أبا الحسن إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك... ولا أرى أبا بكر إلا أقوى منك على هذا الأمر... فسلم له وارض به... ".

فقال الإمام علي: " يا معشر المهاجرين، الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم أما كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه لدين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الحق بعدا " (1).

ثم التفت الإمام إلى أبي بكر وقال له: " أفسدت علينا أمورنا، ولم تستشر، ولم ترع لنا حقا "، فقال أبو بكر: " بلى ولكني خشيت الفتنة " (2).

قال بشير بن سعد وهو أول من بايع أبا بكر وأحد أقطاب الانقلاب:

____________

(1) الإمامة والسياسة ص 11 - 21، وتاريخ الطبري حوادث سنة 11.

(2) مروج الذهب للمسعودي ج 1 ص 414، والإمامة والسياسة ج 1 ص 12 - 14 مع اختلاف يسير، وشرح النهج ج 6 ص 285، والسقيفة للجوهري.


الصفحة 227
لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان ولكنهم بايعوا ". (1) قال عمر بن الخطاب مخاطبا عليا: إنك لست متروكا حتى تبايع!!

فقال له علي: " إحلب حلبا لك شطره واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا " قال عمر بايع، فقال علي إن لم أبايع فمه؟ قال عمر: والله الذي لا إله إلا هو لنضربن عنقك!! قال علي: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله!! فقال عمر: أما عبد الله فنعم وأما أخو الرسول فلا!! " (2). فعمر لا يعترف بأخوة علي لرسول الله، ولكنه يعترف بأخوته لأبي بكر وبموجب هذه الأخوة ورث عمر أبا بكر، فإعلان الرسول أخوته لعلي كانت وقت الغضب فهو غير ملزم لأن محمدا بشر، وأما إعلان الرسول للأخوة بين عمر وأبي بكر فملزم لأنه قد صدر من محمد الرسول!!!!! لقد أعلن النبي هذه المؤاخاة قبل الهجرة (3) وأعلنها بعد الهجرة (4).

وانصرف علي إلى منزله ولم يبايع، ولم يبايع أحد من بني هاشم حتى بايع علي بعد ستة أشهر (5).

قال اليعقوبي في تاريخه: واجتمع جماعته إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة فقال لهم الإمام علي: " اغدوا علي محلقين الرؤوس فلم يغدو عليه إلا ثلاثة نفر " (6).

____________

(1) الإمامة والسياسة ص 12 وشرح النهج نقلا عن السقيفة ج 6 ص 285.

(2) الإمامة والسياسة ص 11 (3) تذكره الخواص للسبط ابن الجوزي ص 23، وترجمة علي من تاريخ الدمشق لابن عساكر ج 1 ص 107 و 105، وكنز العمال ج 6 ص 290، والمستدرك للحاكم ج 3 ص 109، وصحيح الترمذي ج 5 ص 30 وأسد الغابة ج 2 ص 221، والطبقات الكبرى ج 3 ص 220...

(4) المناقب للخوارزمي ص 246، وأسد الغابة ج 1 ص 206، والصواعق المحرقة ص 171.

(5) تاريخ الطبري ج 2 ص 448 وطبعة أوروبا ج 1 ص 1825، والصحيح البخاري كتاب المغازي ج 3 ص 38، وابن أبي الحديد ج 1 ص 122، ومروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 414.

(6) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 105.


الصفحة 228
ثم إن الإمام عليا أخذ معه السيدة فاطمة ويداه في يدي ابنيه الحسن والحسين، وسار بهم ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فيقول علي:

" أفكنت أترك رسول الله ميتا في بيته لم أجهزه، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه!! وتقول فاطمة: ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه " (1) وإلى هذه الواقعة أشار معاوية (2).

لقد أمتنع الأنصار عن نصرة الإمام علي وحمايتهم له ولأولاده بحجة أنهم قد بايعوا أبا بكر، وقبل بيعتهم لأبي بكر كانوا قد بايعوا رسول الله على أن يحموه ويحموا ذريته كما يحمون أنفسهم وذراريهم، لذلك قال الإمام جعفر الصادق يوما: " فوالله ما وفوا له حتى خرج من بين أظهرهم، ثم لا أحد يمنع يد لامس، اللهم اشدد وطأتك على الأنصار على الأنصار " (3).

إما التسليم أو الدخول في مواجهة انتحارية

الانقلابيون هم القوة الحقيقية في المجتمع، فقد ضم تحالفهم بطون قريش كلها المهاجر منها والطليق والمنافق بلا استثناه، بالإضافة إلى أكثرية الأنصار التي هالتها قوة هذا التحالف فاستسلمت الأنصار لتسلم، وتورط الكثير منهم بالانقلاب طمعا بالمغانم وهروبا من المغارم، بالإضافة إلى المرتزقة من الأعراب الذين يوالون من يعطيهم، والمرتزقة على علم بأن المال والمغانم ستكون بيد الانقلابيين ومن والاهم لذلك مالوا مع الانقلابيين، ولقد مد الانقلابيون نفوذهم حتى داخل بيت الرسول، فصارت عائشة أم المؤمنين معهم وحافزها على ذلك حبها لأبيها ولقومها بطون

____________

(1) الإمامة والسياسة ص 15.

(2) شرح النهج ج 2 ص 67، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 182.

(3) مقاتل الطالبين ص 219 - 220.


الصفحة 229
قريش وحقدها على علي بن أبي طالب قاتل أبناء عمومتها، وعلى ذريته، لأنها قد توهمت بأن عليا وذريته قد سرقوا زوجها منها، قال الإمام علي:

" أما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل اليقين " (1) لقد عرفت عائشة موقعها في قلب النبي فقالت له يوما: " والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك مني ومن أبي " (2) فمعنى ذلك أن التحالف يشكل الأغلبية الساحقة جدا من الناس!! وهذا يعني أنه لا فرصة أمام الإمام علي للانتصار في أية مواجهة مع التحالف، وأن أية مواجهة عسكرية مع التحالف هي بمثابة الانتحار.

قال الإمام علي: "... فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنية، فأغضيت على القذى، وجرعت ريقي على الشجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار " (3) وهنالك سبب آخر أفصح عنه الإمام علي بقوله: " إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدني وهن، ويعكسه أقل خلاف " (4).

لقد قدر الإمام أن المواجهة في تلك الظروف انتحار حقيقي له بوصفه مستودع علم النبوة، ولأهل بيته باعتبارهم شجرة النبوة وثقل الإسلام الأصغر، لقد استنفد كافة الجهود للحصول على النصرة أو الانتصار ولم يجدهما.

____________

(1) شرح النهج ج 9 ص 189، ووضوء النبي للسيد علي الشهرستاني ص 235.

(2) مسند الإمام أحمد ج 4 ص 275 ح 18450.

(3) شرح النهج ج 3 ص 69 خطبة 211.

(4) شرح النهج ج 1 ص 248 - 249.


الصفحة 230
لذلك قرر الإمام أن يقعد في بيته، وأن يحتج على الانقلابيين احتجاجا سلميا لا يفرق كلمة المسلمين، ولا يوهن الدين، ثم يسلم بالأمر الواقع ما سلمت أمور المسلمين وهكذا ابتعد الإمام عن المواجهة غير المتكافئة، إذ لو واجههم بالقوة لقتلوه، وقتلوا ابنيه، وأبادوا أهل بيت النبوة، وقلعوا شجرة النبوة من جذورها، ثم لأشاعت وسائل أعلامهم بأن عليا وابنيه مثل أبي طالب ماتوا على الشرك، فهم في ضحضاح من النار مع أبي طالب!! ومع الأيام تنجح وسائل أعلامهم بتحويل الشائعات إلى قناعة يتبناها العامة، كأنها وحي من السماء، وصمم الإمام علي أن يبدأ بتكوين قاعدة شعبية تفهم الإسلام على حقيقته كما أنزله الله وبينه الرسول لتتصدى وتكشف ألاعيب الطامعين بالسلطة وتحريفاتهم، ولتكون نواة لأمة محصنة ضد الانحراف، وكعمل عاجل ركز الإمام على إيجاد كوادر فنية يعلمها ما أمكن من علم النبوة لتنقله إلى الأجيال اللاحقة من غير تحريف، فلبد في بيته، يجيب إذا سئل، ويهدي إذا استهدي، وصبر وصابر على ضغوط الانقلابيين وممارساتهم الغاشمة وتجاهلهم التام لشرع الله.

1 - فقد حرموا أهل بيت النبوة من إرث النبي بحجة أن الأنبياء لا يورثون (1) فسألت السيدة الزهراء أبا بكر من يرثك إذا مت؟ فقال أبو بكر ولدي وأهلي! فقالت الزهراء: فما لنا لا نرث النبي؟! " وورث سليمان داود " " يرثني ويرث من آل يعقوب " فكيف نوفق بين قولك الأنبياء لا يورثون وبين هاتين الآيتين!! هذا كتاب الله ينطق بالحق، ولم تكتف الزهراء بذلك بل بسطت قضيتها أمام الأنصار والمهاجرين بكلمة عصماء جاء فيها: ".. أفعلى

____________

(1) صحيح الترمذي ج 7 ص 111، ومسند أحمد ج 1 ص 10 ح 60، وسنن الترمذي ج 7 ص 1009، والطبقات لابن سعد ج 5 ص 77، وتاريخ ابن الأثير ج 5 ص 286، وكنز العمال ج 5 ص 365، والطبقات ج 2 ص 315.


الصفحة 231
عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم... وزعمتم أن لا حق لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج منها نبيه أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثون ألست أنا وأبي من أهل ملة واحدة...

أفحكم الجاهلية تبغون.. " (1) وأصر أبو بكر على قراره، ولما سألوه من يرث النبي إذا قال أبو بكر يرثه الذي يقوم مقامه، وبما أن أبا بكر هو الذي قام مقام النبي فهو وارثه الوحيد (2).

وتحقيقا للعدالة ورحمة بأهل بيت النبوة، فقد أخذ أبو بكر كل تركة الرسول، ولكنه تفضل وأعطى آلة الرسول ودابته وحذائه لعلي (3)!!!

2 - حرمان أهل بيت النبوة من منح الرسول ومصادرة المنح التي أعطاهم الرسول لهم: أثناء حياة الرسول منح منحا كثيرة للناس، ومنح أهل بيت النبوة منحا كغيرهم، فترك أبو بكر كافة المنح التي منحها رسول الله للناس - احتراما لمشيئة الرسول وإرادته - وتقديرا للذين دخلوا في طاعة الخليفة أما المنح التي منحها رسول الله لأي فرد من أهل بيته فقد قرر أبو بكر مصادرتها وحرمان أهل البيت منها، وليضفي على ذلك رداء الإسلام لم يسأل الناس البينة على أن الرسول قد منحهم تلك المنح، إنما سأل أهل البيت، فشهد علي، وأم أيمن ورباح مولى رسول الله!! ولكن الخليفة كان قد قرر المصادرة (4).

3 - جاء في شرح النهج، وفي تاريخ الإسلام للذهبي وفي كنز العمال للهندي: أنه لما منعوا ابنة الرسول من إرث أبيها، ومن منح الرسول

____________

(1) بلاغات النساء ص 16 - 17.

(2) مسند أحمد ج 1 ص 4 ح 14، وسنن أبي داود ج 3 ص 50، وتاريخ ابن كثير ج 5 ص 289، وتاريخ الذهبي ج 1 ص 246، وشرح النهج ج 4 ص 81 نقلا عن الجوهري.

(3) شرح النهج ج 4 ص 87 - 89، وبلاغات النساء ص 12 - 15.

(4) فتوح البلدان ج 3 ص 34 - 35.


الصفحة 232
طالبتهم بسهم ذوي القربى، فقالت لأبي بكر: " لقد حرمتنا أهل البيت فأعطنا سهم ذوي القربى وتلت آية: " واعلموا أنما غنمتم من شئ ء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " فقال لها أبو بكر: سمعت رسول الله يقول:

سهم ذوي القربى للقربى حال حياتي وليس لهم بعد مماتي (1).

4 - والكارثة مع هذه القرارات أن الصدقة محرمة على آل محمد، وغير جائزة عليهم (2).

5 - من أين يأكل أهل بيت النبوة!! إذا حرمت السلطة أهل بيت النبوة من تركة النبي، وصادرت المنح التي أعطاها رسول الله لهم، وحرمتهم من الخمس الوارد في القرآن الكريم، وإذا كانت الصدقة محرمة على آل محمد فمن أين يأكلون بحق الله ورسوله!!!

6 - إذا أراد أهل بيت النبوة الحياة فعليهم أن يسألوا الحاكم ويوالوه!!! قال أبو بكر لفاطمة - ربما تساءلت بهذه التساؤلات - إني أعول من كان رسول الله يعول، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه (3) فآل محمد يأكلون ليس لهم أن يزيدوا على المأكل (4).

فالحاكم يقدم لأهل بيت النبوة المأكل ولا يزيد عليه، فطوال التاريخ يجب على أهل بيت النبوة أن يمدوا أيديهم للحاكم الذي هو على استعداد أن يقدم لهم المأكل فقط، ومن الحشمة وحسن الخلق أن يطيع الإنسان من

____________

(1) شرح النهج ج 4 ص 81 نقلا عن الجوهري تاريخ الإسلام للذهبي ج 1 ص 347، وكنز العمال ج 5 ص 367.

(2) صحيح مسلم ج 3 ص 121، ومجمع الزوائد ج 3 ص 90، وصحيح البخاري ج 1 ص 81، وصحيح مسلم ج 3 ص 117، وسنن أبي داود ج 1 ص 212 باب الصدقة على بني هاشم.

(3) سنن الترمذي ج 7 ص 111.

(4) صحيح البخاري ج 2 ص 200 باب مناقب قرابة الرسول، وسنن أبي داود ج 3 ص 49 كتاب الخراج، وسنن النسائي ج 2 ص 79 قسم الفئ، ومسند أحمد ج 1 ص 6 - 9.


الصفحة 233
يطعمه، تلك سنة أبي بكر وعمر وهذا هو عدلهم، وهذا هو برهم لصديقهم وصهرهم محمد بن عبد الله، وها هي طاعتهم لأوامره، وهذا هو تعاملهم مع ثقل الإسلام الأصغر!!


الصفحة 234

الاحتجاجات لا تجدي أمام قرارات السلطة

ضج أهل بيت النبوة واحتجوا على هذه القرارات الأليمة والمذلة والمعارضة لكتاب الله وسنة رسوله وأخلاق الإسلام بل وشيم البشر النبيلة، وذهبت الزهراء بنفسها، واحتجت أمام المهاجرين والأنصار بخطبة من عيون خطب العرب ذكرها الجوهري في كتابه السقيفة (1) وسمع الخليفة وعمر وأركان حزبهما ورقص المنافقون طربا، وازداد ولاؤهم للسلطة، وهم يرونها تدوس أقدس مقدسات الإسلام، وأحب الخلق إلى رسول الله، ولم يستنكر المهاجرون والأنصار هذه القرارات لا بيد ولا بلسان!! وكيف يستنكرونها وبالأمس لم يستنكروا تهديد السلطة للإمام بالقتل إن لم يبايع، وشروعها بحرق بيت آل محمد على من فيه وهم أحياء!!

واكتفى الخليفة وعمر وأركان حزبهما بالسماع وبقيت القرارات الغاشمة سارية المفعول!! وسعد عمر بالأثر المؤلم الذي تركته تلك القرارات على آل محمد، وتذكرت القلة المؤمنة من المهاجرين حصار بطون قريش ومقاطعتهم لبني هاشم في شعاب أبي طالب!! وكيف أن بطون قريش قصدت المجاهرة والمقاطعة على البيع والشراء والنكاح، وتمنت القلة المخلصة لو طبق هذا الحصار ثانية على أهل البيت لكان أخف وطأة

____________

(1) شرح النهج ج 4 ص 87، وبلاغات النساء ص 12 - 15.


الصفحة 235
وأسهل حملا على أهل بيت النبوة وأقوم قيلا، ولم يبق أمام آل محمد غير الصبر والتسليم إلى حين!!!

ولم يكتفوا بذلك

لم يكتف أبو بكر وعمر وحزبهما بذلك إنما حرموا على الهاشميين أن يتولوا أي منصب من مناصب الدولة أو أي وظيفة من وظائفها العامة، وحرموا ذلك أيضا على من والاهم، فلم يصدف طوال التاريخ أن ولى أبو بكر أو عمر أو عثمان أي رجل من آل محمد أو ممن والاهم أي عمل من الأعمال أو أية إمارة من الإمارات أو أية وظيفة من الوظائف العامة!!! بل على العكس كانوا لا يولون ولا يستعينون إلا بالكارهين لآل محمد أو الحاقدين عليهم، أو من أولئك الذين حذر منهم الرسول أو من أولئك الذين لعنهم الرسول، أو من أصحاب السجلات الحافلة بمعاداة الله ورسوله!!! (1) لقد نصب أبو بكر خالد بن سعيد الأموي على حملة الروم، فجاءه عمر وقال له: أتولي خالدا وقد حبس عليك بيعته وقال لبني هاشم ما قال؟! فحسنات الرجل أنه أموي ولكن تبين بأنه موال لآل محمد، وأنه قد أسلم قبل إسلام أبي بكر، وبسبب موالاة هذا الأموي لآل محمد انصرف عنه أبو بكر وولى بدلا منه أبا عبيدة حليفهم، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة (2) لقد عرض الخليفتان الأولان على العباس بعض الأمر له ولعقبه لكن هذا العرض لم يكن لله، فقد كان هدفهم أن يفرقوا آل محمد وأن يوقعوا بين الإمام علي وبين عمه العباس، فاكتشف العباس هذه

____________

(1) إرجع إلى الفصل تحت عنوان تحذيرات الرسول لترى أن كل ولاة الدولة كانوا من أعداء الله ورسوله، ومن الكارهين لآل محمد، ومن الذين حذر منهم الرسول!!!

(2) شرح النهج ج 2 ص 58 - 59.


الصفحة 236
اللعبة لذلك رفض عرضهم (1) لقد مد الخلفاء أيديهم للجميع، وفتحوا قلوبهم للجميع إلا لآل محمد ومن والاهم، فكافة ولاة الدولة وأمرائها، وعمالها وموظفيها من أعداء الله السابقين ومن الكارهين لآل محمد أو الحاقدين عليهم!! لقد أصبح آل محمد ومن والاهم - وهم القلة المؤمنة - طبقة منبوذة ومجردة من كافة حقوقها السياسية والمدنية، لقد قال عمر بن الخطاب بكل صراحة للعباس بن عبد المطلب بأن الأمة ليست بحاجة لآل محمد ولا لبني هاشم (2).

كانوا يبذلون كل ممكن ليؤلفوا أعداء الله السابقين حولهم في الوقت الذي كانوا فيه يمنعون آل محمد أبسط حقوقهم، يبدو أن أبا سفيان لا يعلم عن تورط أولاده مع الانقلابيين، وأن الانقلابين قد استثنوه، وتحالفوا مع أولاده لأن عداوة أبي سفيان بالذات لله ولرسوله ظاهرة، وكان الرسول قد أرسل أبا سفيان لجمع الصدقات فعاد بعد وفاة الرسول، ولما علم بتنصيب أبي بكر قال: " إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم "، فخاف الخليفة وخاف عمر، وتركا له ما بيده من الصدقات فسكت (3) وقال يوما: " ما لنا ولأبي فصيل إنما هي بنو عبد مناف " (4) فقالوا له: إنه قد ولى ابنك يزيد، فقال أبو سفيان: " وصلته رحم " (5) ورضي ومع أن الأشعث بن قيس قد ارتد، وتم أسره، وكان أبو بكر يعرف أن الأشعث لا يرى شرا إلا أعان عليه (6) إلا أن أبا بكر عفا عنه، وزوجه أخته وأشركه بالمهام.

____________

(1) الإمامة والسياسة ج 1 ص 15، والسقيفة وفدك ص 43، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 1225 طبعة لندن، والسنة بعد الرسول للسيد علي الشهرستاني ص 109 من مجلة تراثنا العدد 59 و 60.

(2) الإمامة والسياسة ج 1 ص 15.

(3) السقيفة وفدك ص 37، وشرح النهج ج 2 ص 44، والسنة بعد الرسول ص 111 مجلة تراثنا العدد 59 و 60. (4) المصدر السابق.

(5) تاريخ الطبري ج 3 ص 202.

(6) تاريخ الطبري ج 4 ص 52.


الصفحة 237
وباختصار لقد تآمروا على أهل بيت النبوة، والفئة القليلة المؤمنة وأمروا عليهم أعداء الله ورسوله السابقين، والكارهين لآل محمد والحاقدين عليهم. قال الإمام علي يصف حالهم:

" لما قبض الله نبيه، وكنا أهله وورثته وعترته وأولياءه من دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصار الأمر لغيرنا، وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويعتزر علينا الذليل، فبكت الأعين منا لذلك، وخشيت الصدور، وجزعت النفوس، وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا عليه " (1).

____________

(1) شرح النهج ج 1 ص 248 - 249، وراجع كتابنا المواجهة ص 526 وما فوق.


الصفحة 238

الصفحة 239

الباب الخامس
منع كتابة سنة الرسول قبل وبعد استيلائهم على الخلافة


الصفحة 240

الصفحة 241

الفصل الأول
تملك منصب الخلافة

منصب الرئاسة العامة في الإسلام هو السلطة الحقيقية فالإمام أو الرئيس العام هو الذي يعين الولاة والأمراء والعمال وقادة الجيش وكبار الموظفين، وحتى صغارهم وهو يتمتع بصلاحيات هائلة، لذلك اشترط الإسلام أن يكون هذا الرئيس هو الأعلم وهو الأفضل وهو الأتقى وهو الأقرب لله ولرسوله، وهذه صفات لا تتوفر إلا في نبي أو ولي، ولا يعرفها إلا الله تعالى لذلك اختص جلت قدرته بتعيين الرؤساء أو الأئمة، بعد تأهيلهم وإعدادهم لهذه المهمة، فالله تعالى هو الذي اختار نبيه، وهو الذي اختار الإمام عليا وهو الذي اختار الأئمة الشرعيين الأحد عشر الذين سيتولون الرئاسة العامة بالتعاقب بعد موت الإمام علي ودور الرسول كان مقتصرا على اتباع ما يوحى إليه من ربه، فوجود الإمام المعصوم هو الضمانة الوحيدة ضد الاستبداد وإساءة استعمال هذه الصلاحيات الهائلة التي يتمتع بها الرئيس العام أو الخليفة.

وكان ما كان من تجاهل ذلك النفر لكافة الترتيبات الإلهية التي وضعها الله وأعلن نبيه، ومن استيلائهم على منصب الرئاسة العامة أو الخلافة بالقوة والتغلب، ومن إصرارهم على أنهم خلفاء " فعليون " للنبي ومن حقهم أن يتمتعوا بكافة صلاحيات واختصاصات النبي، مع أن شروط الرئاسة العامة لا تتوفر بهم، وليسوا مؤهلين لها، ومؤهلهم الوحيد هو الغلبة!!


الصفحة 242
لما نجحوا بعزل الإمام الشرعي وأهل بيت النبوة والفئة القليلة المؤمنة، وبإذلالهم، وتجريدهم من حقوقهم المدنية والسياسية والمالية، قبضوا على السلطة بيد من حديد، وأخذوا يتصرفون فيها تصرف المالك بملكه صارت الخلافة كأنها شاة أو بعير أو ثوب للغالب، فله الحق أن يقلدها لمن يشاء، لقد عهد أبو بكر بالخلافة لعمر، وقال لعثمان الذي كتب له عهده: " لو كتبت اسمك لكنت أهلا لها " (1)!! ولما طعن عمر وقعد علي فراش الموت جائته رسالة من عائشة مفادها أن " استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا، فتساءل عمر ومن تأمرني أن استخلف؟ " (2) ألا ترى أن صلاحياته باختيار ولي عهده صلاحيات مطلقة، وأنه يمكنه أن يتصرف بمنصب الخلافة تصرف المالك للشئ بملكه الخاص، فلو أمرته أم المؤمنين أن يستخلف أي شخص لفعل لسبب ظاهري بسيط هو أنه وأم المؤمنين يكرهان أن تبقى أمة محمد هملا، ورأفة بهذه الأمة!!!!!

ويتوجه عمر وهو على فراش الموت، ويبحث عن صاحب الحظ السعيد الذي سيقوم مقامه، ويلتزم بسياسة ذلك النفر، فيقول: " لو كان أبو عبيدة حيا لوليته واستخلفته، ولو أدركت معاذ بن جبل لوليته واستخلفته، ولو أدركت خالد بن وليد لوليته واستخلفته، ولو رأيت سالم مولى أبي حذيفة لوليته واستخلفته " (3).

يمكنه أن يعطي الخلافة لمهاجر كأبي عبيدة، أو لواحد من الطبقة الحادية عشر من طبقات الصحابة، كخالد بن الوليد، أو لا حد الموالي كسالم مولى أبي حذيفة الذي لا يعرف له نسب في العرب!!

____________

(1) راجع تاريخ الطبري ج 2 ص 429، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 37، وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 85.

(2) الإمامة والسياسة لابن قطيبة ج 1 ص 23.

(3) راجع مرض عمر وموته في تاريخ الطبري، وطبقات ابن سعد ص 15 وما فوق من الإمامة والسياسة لابن قطيبة.


الصفحة 243
ويجدر بالذكر أن عمر نفسه كان يرى في سقيفة بني ساعدة أن الخلافة لا تجوز للأنصار بل هي حق خالص لأهل محمد وعشيرته " يعني نفسه وأبا بكر " فكيف جوزها في ما بعد للأنصار وحتى للموالي، وأبعد من ذلك فإن عمر بن الخطاب قد أشار إلى معاوية كخليفة مرتقب في حال اختلاف الستة (1) ومعاوية طليق ومن المؤلفة قلوبهم وهو عدو الله ورسوله، وابن عدوهما، ومع هذا قال عمر للستة إن اختلفتم دخل عليكم معاوية من الشام!!! واختيار للستة ديكور، لقد عهد عمليا بالخلافة لعثمان، فلو دققنا في كل المصادر التي روت عهد عمر نجد أنه بالمآل سيكون الخليفة عثمان حسب وصية عمر، فعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد في شقة وعلي وزبير في شقة أخرى، وطلحة غائب، لقد أوصى عمر " إذا كانوا ثلاثة ثلاثة وهذا لن يحدث لأن طلحة غائب فاختار الذي في صف عبد الرحمن بن عوف، ولنفترض أن طلحة قد جاء وشكل مع علي والزبير ثلاثة، فإن الخليفة سيكون عثمان، والقصد من إشراك الآخرين مع أهل الشورى هو أن يكثر عمر منافسي الإمام علي على الخلافة فبعد موت عثمان سيدعي الأربعة أنهم أولى بالخلافة من علي أو فرصهم فيها كفرصة علي!!! وفي حالة موت الستة سيتصدى أولاد الخمس لابن علي وينافسونه على منصب الخلافة إنه تجذير لمعارضة المسلمين لأهل بيت النبوة، وعوائق بين أهل بيت النبوة وبين حقهم بالرئاسة العامة!!، ولكن بجبة إسلامية!!!.

ثم إن عثمان كان أول زعيم من زعماء المهاجرين قد بايع الخليفة الأول وكان يدعى في إمارة عمر بالرديف والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم (2).

وما يعنينا في هذا المقام أن ذلك النفر كان يتصرف بمنصب الخلافة،

____________

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 535.

(2) نظام الحكم للقاسمي ص 197 و 198.