(وما هم بمؤمنين... يخادعون الله والذين ءامنوا... وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم... ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون... ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56)... ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن...
فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه... ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين (7)) فهل عنى الله سبحانه وتعالى أشباحا أم عنى مسلمين وكائنات حية، وأعضاء في المجتمع الإسلامي!!! سيقول علماء دولة الخلافة إن الله قد عنى المنافقين. في وقت من الأوقات الرسول نفسه لم يعرف المنافقين (لا تعلمهم نحن نعلمهم) ابن أبي هو المنافق الوحيد المعروف للجميع، لقد كان المنافقون شريعة كبرى من شرائع المجتمع، فهل وضع رسول الله " يافطة " لكل واحد منهم، هل منعهم من دخول المسجد، وهل منعهم من الخروج معه، هل كان يقول لكل منافق أنت منافق،!! لقد كانوا مندسين في المجتمع كالمرض الوبيل، وكانوا يتظاهرون بالإسلام، ويبطنون الكفر والفسوق والعصيان، ومع هذا كانوا يحملون الهوية أو الجواز الإسلامي، ومات الرسول وهم على هذه الحالة، لست أدري من الذي أعطى علماء دولة الخلافة صلاحية إعطاء هذه الشريحة صفة
ولم يقف علماء دولة الخلافة عند الحدود السابقة، بل أصدروا أحكاما أخرى مفادها، أن الصحابة كلهم قد كانوا على الحق بحروبهم الدامية التي جرت بينهم، وأنهم جميعا في الجنة، وأنهم جميعا مأجورون!!
فالإمام علي بن أبي طالب الخليفة الشرعي مأجور وفي الجنة، ومعاوية بن أبي سفيان الخارج عن طاعته مأجور وفي الجنة أيضا!! والإمام الحسين وأحفاد النبي وحفيداته، وأبناء عمومته الذين ذبحوا في كربلاء كما تذبح الأضاحي مأجورون وفي الجنة، ويزيد بن معاوية وقادة جيشه الذين ارتكبوا المذبحة مأجورون أيضا وفي الجنة بحجة أنهم صحابة ومجتهدون (1) لقد دخل علماء دولة الخلافة في مواجهة مكشوفة مع الفطرة والعقل، وفي
____________
(1) راجع كتابنا الاجتهاد بين الحقائق الشرعية والمهازل التاريخية.
لقد جانب علماء دولة الخلافة الصواب يوم أفتوا بأخذ سنة الرسول من كل واحد من مواطني دولة الرسول بحجة أنهم جميعا قد تشرفوا بمشاهدة رسول الله فصاروا صحابة!! كما جانبوا الصواب يوم هدموا الفوارق بين طبقات الصحابة وساووا بين الأول والأخير، والعالم والجاهل، والقاعد والمجاهد، ومن وقف مع الرسول كمن وقف ضده!! لقد فتحوا على الإسلام وعلى رسول الله أبوابا كانت مغلقة، لقد أتاحوا الفرصة أمام الجاني ينكل بضحيته، ويسخر منها، وأعطوا المبطل والمعتدي الحق ليجني ثمرة عدوانه وباطله.
5 - كان بإمكان علماء دولة الخلافة أن يستفيدوا من سيرة الرسول العملية وأن يستخرجوا منها موازين دقيقة، لكن أغلبية أولئك العلماء قد تجاهلوا سيرة الرسول تجاهلا تاما، وتجاهلوا واقعتي: بناء دولة النبي، ومسيرة الدعوة، كما تجاهلوا إسهامات الصحابة الكرام في بناء الدولة، ومسيرة الدعوة، ومواقف الناس من هاتين الواقعتين، فالإسهامات والمواقف معايير موضوعية، فالذين لازموا الرسول، وبنوا الدولة على أكتافهم، وفدوا الدعوة بأرواحهم، وعرفوا الإسلام نصا نصا بطول ملازمتهم للرسول هم وحدهم الذين يعرفون سنة الرسول، وهم وحدهم المؤتمنون عليها باستثناء القليل، فإن علماء دولة الخلافة لم يبذلوا أي جهد يذكر للاستفادة من علوم وخبرة ذلك النفر الصادق من الصحابة الذين
أين المقداد بن عمرو، أين الحباب بن المنذر، أين عمار بن ياسر، أين أبو ذر الغفاري!! ما لهم قد اختفوا بعد موت الرسول!! ما لو سائل أعلام الدولة قد تجاهلت وجودهم تماما!! لماذا طاردتهم الدولة!!! ولماذا تجاهل العلماء وجودهم وشهاداتهم، وخبرتهم بسنة الرسول.
6 - إن المشكلة ما زالت قائمة وأن علماء دولة الخلفاء لا يعلمون على وجه اليقين ما قاله الرسول مما تقوله الرواة عليه، وهم يعلنون بكل صراحة لحد الآن بأنهم يتبعون " ما يغلب الظن على صدقه " وأن الظن لا يغني من الحق شيئا، وكل ما جمعه العلماء موجود، ومحفوظ في الكتب، الصحيح منه برأيهم وغير الصحيح حسب رأيهم!!
لقد فشلت الموازين التي أوجدها علماء دولة الخلافة، فحديث خلق الله السموات والأرض في سبعة أيام صحيح حسب كل موازين علماء دولة الخلافة فقد قال أبو هريرة بأن الرسول قد أخذ بيده وقاله له! وإسناده من أوله إلى آخره صحيح حسب موازينهم، ورجاله كلهم ثقات حسب موازينهم، وأبو هريرة صحابي ومن العدول حسب تلك الموازين، ومن المحال عقلا أن يكذب على رسول الله؟ حسب الموازين الله سبحانه وتعالى يؤكد في أكثر من آية محكمة أنه قد خلق السموات والأرض في ستة أيام والرسول لا ينطق عن الهوى، بل يتبع ما يوحى إليه من ربه، فمن نصدق حسب رأيكم هل نصدق القرآن أن نصدق موازينكم!! وهل يعقل أن يناقض الوحي نفسه!! ومعنى ذلك أن الخلل يكمن في الموازين لا في الدين!!
وأن الخلل ما زال موجودا ماذا يغير علماء دولة الخلفاء اليوم لو حملوا مشكلتهم، وطرحوا سؤالهم من جديد على أهل بيت النبوة!! أيها السادة لا داعي للخوف إن معاوية ميت فلن يعاقبكم ولن يقطع عنكم العطاء!! أيها السادة إن الخلفاء في ذمة الله، أنتم أحرار الآن!! نبيكم يذكركم بحديث
لقد خربوا سنة رسول الله فلم تعد تدري أيا من أي!!!
1 - وضع الخلفاء الثلاثة الأول الذين منعوا رواية وكتابة الأحاديث النبوية (1) من اجتهاداتهم الخاصة المبادئ العامة لمنظومة حقوقية متكاملة وجديدة وقفت على قدم المساواة مع المنظومة الحقوقية الإلهية، بل ورجحت عليها عند التضارب بين أحكام المنظومتين!! فإذا أوجد الخلفاء من اجتهاداتهم حكما لواقعة من الوقائع، كان الرسول قد بين لها حكما آخر، فإن الذي يطبق هو الحكم الذي وضعه أو ارتآه الخلفاء، ومن
____________
(1) اقتبسنا هذا الفصل من كتابنا الاجتهاد بين الحقائق الشرعية والمهازل التاريخية.
2 - لما استولى معاوية على منصب الخلافة أصدر سلسلة من المراسم، الملكية وعممها على كافة الولاة والعمال في كل مكان من أرجاء مملكته في نسخة واحدة وطلب منهم تنفيذها بدقة تامة، جاء في أحدها أن برئت الذمة ممن روى شيئا في فضل أبي تراب وأهل بيت النبوة، وجاء في آخر " لا تدعوا شيئا يروي في فضل أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة " (1) وأمر الناس أن يروي في فضل عثمان، ثم في فضل أبي بكر، ثم في فضل عمر، ثم في فضل الصحابة مجتمعين ومتفردين باستثناء علي بن أبي طالب ومن والاه ووعد الرواة بجوائز سنية، وأعطوا بالفعل عطايا تفوق حدي التصور والتصديق!! فانبجست الأرض فجأة عن آلاف الرواة وفاضت الدنيا بالروايات، التي تمدح الخلفاء ومن والاهم، وتذم أهل
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 595 و 596 تحقيق حسن تميم نقلا عن كتاب الأحداث للمدائني.
" قال المدائني في كتابه " الأحداث ": " كتب معاوية إلى عماله بعد عام " الجماعة " أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيت النبوة.
وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم واكتبوا إلي بكل ما يروي رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ويفيضه، في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجئ أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه، وشفعه، فلبثوا في ذلك حينا، ثم كتب إلى عماله " إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ولا تتركوا خيرا يرويه واحد من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة مفتعلة!! فإن هذا أحب إلي، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله "، فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة،
وخلال هذه الفترة سب معاوية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمر الناس جميعا بشتمه ولعنه، وجعل ذلك سنة يجهر بها على منابر المسلمين في كل عيد وجمعة، وما زال الخطباء في جميع أنحاء البلاد تعد تلك المنكرة جزءا من خطبة الجمعة والعيدين حتى عام 99 ه، عندما أزال هذه المنكرة عمر بن عبد العزيز وتلك حقيقة متواترة (3).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 15، وفجر الإسلام لأحمد أمين ص 275، ومعالم المدرستين للعسكري ج 2 ص 53.
(2) شرح النهج تحقيق حسن تميم ج 3 ص 595 و 597.
(3) العقد الفريد ج 2 ص 301، وأسد الغابة ج 1 ص 134، والإصابة ج 1 ص 77، والغدير للأميني ج 1 ص 260 و 265 وج 8 ص 164 و 167، والمحلى لابن حزم ج 5 ص 86.
نماذج من الأحاديث التي وضعت لإرضاء معاوية!!
1 - قال عمرو بن العاص " سمعت رسول الله يقول: " إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين " أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
2 - قال أبو هريرة: " يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار، والله لقد سمعت رسول الله يقول: " إن لكل نبي حرم، وأن المدينة حرمي، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ثم قال وأشهد بأن عليا قد أحدث فيها!!
فلما بلغ معاوية هذا الحديث أجاز أبا هريرة وأكرمه وولاه إمارة المدينة " (2).
3 - قال الزهري، حدثني عروة بن الزبير، قال حدثني عائشة قالت:
" كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي فقال الرسول يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي أو قال غير ديني ".
هذه الأحاديث وأمثالها من التي رويت لإرضاء معاوية، ولتبرير أفاعيله ساقطة بكل المعايير، لأنها تتناقض مع مئات الأحاديث النبوية الصحيحة
____________
(1) شرح النهج ج 1 ص 358 باب شرح قول أمير المؤمنين " أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رجب البلعوم... ".
(2) شرح النهج ج 4 ص 63 - 73، وشيخ المضيرة أبو هريرة ص 236.
والخلاصة أن هذه الأحاديث التي وضعت في عهد معاوية خاصة، كان القصد منها خلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، وطمس معالم الشريعة الإلهية خاصة الأحكام التي عالجت نظام الحكم في الإسلام، والقضاء التام على تميز صاحب الحق الشرعي علي بن أبي طالب وتميز أهل بيت النبوة وهدم مراتبهم العلية، حتى لا تقوم لهم قائمة، فيصفو وجه الخلافة له ولذريته خاصة وللأمويين عامة.
3 - وعندما رفعت الدولة الحظر عن رواية وكتابنا الأحاديث النبوية في المجالات الأخرى بعد مائة عام من منع رواية وكتابة الأحاديث النبوية، هب العلماء للبحث عن سنة الرسول بين الأنقاض!! فوجدوا أنفسهم أمام هذه السيول المتدفقة من المرويات الكاذبة، والتي تتبعها الدولة وشهدت بصحتها، والتي اقتنع بها العامة بمرور الوقت وتدينوا بها، ولم يكن بوسع أحد من الخاصة أن يطعن بمثل تلك الأحاديث، لأن الطعن بها سيفسر بأنه
لذلك أخذوا يبنون فوقها، ويضيقون عليها، ويستشهدون بها، بل صارت المرويات الكاذبة التي افتعلت في زمن بني أمية أقرب إلى الصحة شكلا من المرويات اللاحقة، فعمرو بن العاص مثلا كان يقول سمعت رسول الله يقول، وما أن يتم عمرو جملته حتى تتلقفها وسائل إعلام الدولة فتنشرها على الرعية بكل وسائل النشر والإعلان، لأن عمرو بن العاص من أركان دولة معاوية، وفي الوقت نفسه صحابي شاهد الرسول وجالسه وهو بحسب نظرية عدالة الصحابة صادق مصدق يمتنع عليه الكذب أو الغلط!!
وعندما رفعت الدولة الحظر عن رواية وكتابة الأحاديث النبوية بعد مائة عام من حظرها وبسبب الفارق الزمني، اضطر المعنيون بجمع الحديث إلى القول " حدثنا فلان، قال حدثنا علان، قال حدثنا زيد، قال حدثنا زيدان قال حدثنا عمرو بن العاص أنه قال سمعت رسول الله... ".
ولأن الأكثرية الساحقة من الرعية قد اقتنعت بصحة المرويات الكاذبة التي اختلقها الأمويون وأشياعهم، فقد وضعوا تحت تصرف الباحثين الجدد عن حديث رسول الله كافة تلك المرويات التي ورثوها، جيلا بعد جيل، فترسخ الكذب، وألبس ثوب الصدق!! فصار من حيث الشكل صدقا، وفق كل المعابير التي وضعها العلماء الباحثون عن حديث الرسول لضبط عملية نقل الحديث وروايته لذلك انطلقوا منها، وبنوا فوقها، لأنها مدعومة من
فتداول الناس المرويات التي اختلقها الأمويون، والمرويات التي تمخض عنها جهد العلماء الباحثين فعلا عن حديث رسول الله، واعتبروا المجموعتين أجزاء من منظومة أو مجموعة واحدة، أو وجوها متعددة لشئ واحد، وتجاوزت مرويات هذه المجموعة الملايين، وكلها من حيث الشكل مروية بطريقة مقبولة وأدرك البعض أنه من المستحيل عقلا أن تصدر كل هذه المرويات عن رسول الله!! خاصة، وأن بعضها يناقض بعض!!
وكان من المتعذر عليهم أن يجهروا بهذه القناعة الخفية خوفا من العامة، لذلك رأى البعض أن من الأنسب اختيار كميات محدودة من هذه الملايين، وجمعها بمجموعات خاصة، ووضعها تحت تصرف المسلمين، وأعمالا لهذه الرؤية، وضعت كتب الحديث التي سماها أصحابها أو عرفت عند العامة... بالصحاح وبرزت من هذه المجموعات " الصحاح الستة " وكان لجامع كل صحيح أسلوبه الخاص باختيار رجاله، ومروياته وتبويب كتابة، وظهرت المسانيد، والسنن، وهي كلها عبارة عن كتب حديث مختارة من المجموعة الكبرى التي أشرنا إليها قبل قليل.
والخط العام الذي انتهجه أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، هو خط دولة الخلافة، والرواة كلهم على الأغلب من الموالين لها، ومن الذين أشربوا ثقافتها ولا عبرة بسابقة الرواة للإسلام أو حداثتهم فيه، ولا لعلمهم في الدين أو جهلهم فيه، ولا لجهادهم أو قعودهم، فأبو هريرة الذي لا يعرف على وجه التحقيق اسمه الحقيقي لم يصحب النبي أكثر من سنتين
وأحيانا كان الخليفة يجتهد اجتهادا ما في أي أمر من الأمور العامة أو الخاصة، فيقال صدقا أو كذبا أن اجتهاد هذا الخليفة أو ذاك مخالف للشرع الحنيف، عندئذ يخرج من بين المجموع الموالية من يتبرع بوضع الحديث على رسول الله ليبرر اجتهاد الخليفة، وليثبت التزام الخليفة بالشرع، فيروي المؤمنون الصادقون أحاديث صحيحة سمعوها بالفعل من رسول الله، ويعبرون عن دهشتهم واستنكارهم للأحاديث الموضوعة في هذا المجال أو ذاك!! ولكن في النتيجة تقف الأحاديث الموضوعة على رسول الله جنبا إلى جنب مع الأحاديث الصادرة بالفعل عن رسول الله، ولأن الأحاديث الموضوعة تخدم الدولة وتوجهاتها، والأحاديث الصحيحة تتعارض مع توجهات الدولة، فإن الدولة بما لها من نفوذ وقدرة إعلامية تسلط الأضواء على الأحاديث المكذوبة، وتظهرها بمظهر الصحيحة، وتعتم على الأحاديث الصادرة بالفعل عن رسول الله، وتحيطها بالشكوك، ومن الأمثلة على ذلك متعة الحج ومتعة النساء، ومنع رواية وكتابة الأحاديث النبوية، فقد رويت أحاديث تحرم متعة الحج ومتعة النساء، كما تحرم كتابة ورواية
____________
(1) راجع كتاب " شيخ المضيرة أبو هريرة " وكتاب أضواء على السنة النبوية للشيخ محمود أبو ريا.
فالحديث الذي وضعه عمرو بن العاص " أن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين " أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهم يعلمون أن الإمام عليا، والحسن والحسين وذرية النبي المتبقية هم من آل أبي طالب، فإذا كان علي والحسن والحسين والأئمة الأعلام من الذرية الطاهرة ليسوا بأولياء النبي، فمن هم أولياؤه إذا!! ومن هم صالح المؤمنين الذين عناهم عمرو؟! أكبر الظن بأن عمرو أراد أن يوحي للمسلمين بأنه ومعاوية والمغيرة بن شعبة وابن أبي سرح وأمثالهم هم صالح المؤمنين!!!
ومع هذا يروي البخاري حديث المنزلة " أنت مني بمنزلة هارون من موسى... " ويروي مسلم حديث الثقلين " كتاب الله وعترتي أهل بيتي " وهذه الأحاديث المتناقضة صحيحة، بدليل أن البخاري ومسلم قد أخرجاها، وأفردا لها مكانا في صحيحيهما!!
ليس هذا فقط إنما الكثير من الأحاديث التي اعتبروها صحيحة مخالفة للقرآن الكريم مخالفة واضحة، فقد أخرج البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه باب من آذيته ومسلم في صحيحه كتاب البر والصلة باب من لعنه النبي أن رسول الله كان يغضب، فيلعن ويسب ويؤذي من لا يستحقها، فدعا الله أن تكون لمن بدرت منه زكاة وطهورا، هذا الحديث الموضوع
لقد خلطوا الحق بالباطل، وضحوا بالحقائق الشرعية ليستروا على فضائح التاريخ، وليضفوا عليها ثوب الستر والشرعية، لأنهم قد خلطوا الدين بالتاريخ، والحق بالرجال، فعرفوا الحق بالرجال، مع أن الرجال يعرفون بالحق، فأجمعوا أمرهم على أن يستوفوا الجميع معا!!
في الوقت الذي منع فيه الخلفاء كتابة ورواية الأحاديث النبوية، وفي الوقت الذي أحرقوا فيه المكتوب منها، فإنهم قد فتحوا الباب على مصراعيه للثقافة والخرافات اليهودية والنصرانية، فكعب الأحبار مثلا، قدم المدينة، وأسلم على عهد عمر، وبقي فيها بناء على طلب عمر، وقد خصص له الخليفة عمر ساعة في كل أسبوع يتحدث فيها قبل صلاة الجمعة، بمسجد رسول الله، ولما آلت الخلافة لعثمان جعل الوقت ساعتين بدلا من ساعة، وكان موضع سر الخليفتين عمر وعثمان يسألانه ويرجعان إليه في مبدأ الخلق، وقضايا المعاد وتفسير القرآن وغير ذلك، مع أن الرجل لم يصحب الرسول، ولا يعرف شيئا عن الإسلام وثقافته يهودية من جميع الوجوه، وأمام هذه الثقة التي خص الخلفاء بها كعبا، علا شأنه وذاع صيته وأخذ
____________
(1) سورة القلم آية 4.
تزييف التاريخ
آل محمد الذين التفوا حول النبي قبل الهجرة وحموه وحموا دعوته خلال تلك الفترة هم الذين وضعوا أساس التاريخ الإسلامي كله، وتحملوا وحدهم أعباء المواجهة مع بطون قريش فحوصروا وحدهم من دون الناس جميعا، وقوطعوا وحدهم من دون الناس أيضا، وكان دور غيرهم من المسلمين مقتصرا على إعلان إسلامه فقط أو إخفاء هذا الإسلام، أو الفرار بدينه حتى لا يفتنه المشركون، أما المواجهة وحماية الداعية والدعوة فقد كانت مقتصرة على الهاشميين والمطلبيين، تلك حقيقة مطلقة لا يماري بصحتها إلا جاهل، أو ناصبي خبيث، والحقيقة المطلقة الثانية أن أبا طلب هو الذي تولى قيادة عمليتي حماية الداعية والدعوة وهو الذي تصدى لزعامة البطون طوال الفترة التي سبقت الهجرة والتي امتدت حتى موت أبي طالب، ولما مات أبو طالب سمى الرسول العام الذي مات فيه بعام الحزن، وأخذ يعد العدة الهجرة إلى قوم يتولون حمايته وحماية دعوته، والخلاصة أنه لولا الهاشميين والمطلبيين لما قامت الإسلام قائمة ولقتل النبي أو أجهضت الدعوة قبل الهجرة.
____________
(1) معالم المدرستين للعسكري ج 2 ص 48 وما فوق.
والخلاصة أنه وعلي أيدي آل محمد والفئة القليلة المؤمنة قد تم نصر الله والفتح، وبأسيافهم وبطولاتهم الخارقة خضعت زعامة بطون قريش خاصة والعرب عامة للحق وهم كارهون، ولولا هذه الطليعة المباركة لما تحقق الذي تحقق ولنغير وجه التاريخ تماما، فصلاة الله وسلامه على محمد وآله محمد، ورحمة الله ورضوانه على أصحابه المخلصين.
تزييف التاريخ وسرقة نتائجه
المفترض أن يكون لآل محمد والفئة القليلة المؤمنة الصادقة الذين صنعوا تاريخ الإسلام دور خاص في قيادة الدولة التي بنيت على أكتافهم وبسواعدهم، وفي إدارتها ورسم سياستها العامة وهذا مفهوم بالفعل وبالضرورة وبتجارب البشرية قبل أن يفهم بروح الدين والنصوص الشرعية لكن حدث عكس ذلك فبعد موت النبي تم الاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة والتغلب كما أشرنا في البحوث السابقة، وبعد يوم واحد من وفاة النبي شرعت السلطة الجديدة بحرق آل محمد وهم أحياء كما وثقنا، وجردتهم من ممتلكاتهم وكافة حقوقهم الاقتصادية، وجردتهم من كافة حقوقهم السياسية حيث حرمت عليهم تولي الوظائف العامة، وفرضت
ولم تكتف السلطة الجديدة بذلك، إنما استعانت بأعداء الله ورسوله السابقين الذين حذر منهم الرسول فولتهم المناصب الحساسة في الدولة، فكانوا هم الأمراء والولاة وقادة الجند والعمال، وأطلقت السلطة الجديدة يدهم في الأقاليم لينشروا ثقافة الانحراف، وليقدموا الإسلام الذي يجهلون أحكامه وتاريخه، وليسردوا على الشعوب تاريخ صراع الإسلام مع الشرك، مع أن أولئك الولاة كانوا هم قادة جبهة الشرك!! والأعداء الألداء لله ولرسوله وللفئة المؤمنة!!
وخلال فترة عمل أولئك الولاة تحدثوا بأحاديث باطلة، مناقضة لكتاب الله وسنة رسوله، ولتاريخ الإسلام، وشاعت أحاديثهم، وكونت الرأي العام، وتحول الرأي العام الذي أو جدوه إلى قناعات لدى العامة.
وفي ما بعد تسربت بعض حقائق التاريخ الإسلامي، ولكنها لم تعد كونها سطورا أو صفحات من مجلدات التاريخ الواهم الذي صنعه الولاة ووضعوه تحت إشرافهم، وسوقت السلطة الحقائق القليلة والأباطيل الكثيرة معا!!
ولنعرف حجم بشاعة هذا التزييف، فإن أولياء الله وأعداءه على السواء يعرفون بأن علي بن أبي طالب هو أقرب الناس للنبي، فهو ابن عمه الشقيق وزوج ابنته البتول، ووالد سبطيه، ويعرف الجميع سجله الحافل بالأمجاد فهو فارس الإسلام الأوحد الذي لم يقهر في حرب قط، وحامل راية الرسول في كل المواقع، وهو الولي والخليفة والوصي بالنص الشرعي،
مع أنه لا خلاف بين اثنين من المسلمين على تاريخ معاوية في الدين والتاريخ، فهو ابن آكلة الأكباد بلا خلاف، وأبوه رأس الأحزاب، ومعاوية وأبوه وإخوته وبنو عمومته هم الذين وحدوا بطون قريش لمقاومة النبي ودعوته قبل الهجرة، وهم الذين عبأوا هذه البطون، وألبوا العرب على رسول الله وعلى الإسلام، وهم الذين جيشوا الجيوش وحاربوا رسول الله بكل وسائل الحرب بعد الهجرة، ولم يتوقفوا عن حرب الرسول إلا بعد أن أحاط بهم، وأتاهم بما لا قبل لهم به، هنالك فقط استسلموا، واضطروا مكرهين أن يتلفظوا بالشهادتين، فسماهم الرسول بالطلقاء، واعتبرهم من المؤلفة قلوبهم، وحذر الرسول من شرورهم قبل موته كما وثقنا، وتلك حقائق لا يماري بها إلا الجاهلون!! وبالرغم من هذا التاريخ الحافل بالعداء لله ولرسوله وللمؤمنين فقد ولى الخلفاء الأول معاوية على بلاد الشام وهي تاج ولايات الدولة الإسلامية، وأطلقوا يده فيها طوال عشرين عاما ليتصرف كملك حقيقي بلا رقيب ولا حسيب، في الوقت الذي جردوا فيه الإمام وأولياءه خلال تلك السنين من كافة حقوقهم السياسية والاقتصادية.
وبعد أن ألغى عمر بن عبد العزيز تلك المراسيم رغما عن إرادة النواصب اعتبر فقهاء الدولة، أن مراسيم اللعن ومطاردة أهل بيت النبوة كانت من قبيل " الاجتهاد " ليس إلا!!! وأن الحروب الطاحنة التي شنها معاوية على الإمام الشرعي ما هي أيضا إلا اجتهاد!!! وصراع بين " صحابيين " هما " علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان " " رضي الله عنهما " وهكذا ترضى الفقهاء عن علي تبعا لترضي الدولة عليه، وكانوا بالأمس قد لعنوه وأفتوا بلعنه والبراءة منه عملا بأمر الدولة!! لأنهم ليسوا أكثر من دمى أو حجارة شطرنج تلعب بهم الدولة المتغلبة كما تشاء، فلو أن الدولة قد أمرتهم بلعن رسول الله نفسه لنفذوا أمرها، ولأوجدوا لهذا الأمر عذرا!! لقد سبوا رسول الله فعلا كما قالت أم المؤمنين أم سلمة، فهم يعرفون قولا مستفيضا عن رسول الله " من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله ".
وبالرغم من أن تلك الأفعال لا يمكن الاعتذار عنها إلا أنهم قد ادعوا بأنها من أفعال البر والخير!! التي تستوجب رضا الله وأجره، وأن معاوية
والخلاصة حسب رأيهم فإنه لا فرق إطلاقا بين علي ومعاوية على حد تعبير وفتوى ابن تيمية!!! ولا فرق بين من يتبع إمام الهدى أو من يتبع إمام الضلالة!! وهكذا جعل الآخر كالأول، وولي الله كعدوه!! ومن نصر الله ورسوله في كل المواقع تماما كمن حارب الله ورسوله في كل المواقع!!
وساروا بين من يقترف المحرمات وبين من يعمل الصالحات!! وعمموا هذه الأفكار المنحرفة حتى صارت قناعات مطلقة لدى العامة!!! وهكذا خلطوا الحق بالباطل، والحابل بالنابل، والدين بالتاريخ وسوقوا الجميع معا، فإما أن تقبل هذه الصفقة فتكون مسلما، أو تترك الباطل وتأخذ الحق وحده فتكون كافرا!! لأنهم أعطوا أنفسهم صلاحية إصدار صكوك الأجر والغفران!!
الباب الثامن
أهل بيت النبوة وسنة الرسول
الفصل الأول
أهل بيت النبوة في سنة رسول الله
لم تركز سنة الرسول الأعظم على فئة معينة من المسلمين أكثر مما ركزت على أهل بيت النبوة، وهذا التركيز ليس مبعثه أو مصدره من الرسول بالذات، إنما كان تنفيذا لأوامر الله تعالى، والرسول كان يتبع ما يوحى إليه، وينفذ ما يؤمر به، ولعل العلة والسر في هذا التركيز الخاص يمكن في أن الله تعالى قد أراد أن يكون للمسلمين ملجأ يلجؤون إليه بعد وفاة نبيهم، أو نقطة يتجمعون حولها كلما تفرقوا وينطلقون منها كلما اجتمعوا، لقد أراد الله تعالى أن يكون وجود أهل بيت النبوة امتدادا لوجود الرسول بعد موته، أو بتعبير العصر لقد أرادهم الله أن يكونوا هيئة تأسيسية للأمة بعد وفاة رسول الله، ترشد الأمة إلى الخطوات الواجب أتباعها في كل موقف من المواقف التي تحتاج إلى خطوات، وفي كل مشكلة تعترض مسيرة الأمة بعد وفاة نبيها، أما لماذا اختار أهل بيت النبوة لهذه المهمة ولم يختر غيرهم!!
فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن كونهم الأقرب للنبي وصفوة أكثر الناس عناء في نصرة النبي، وأكثر فهما والتزاما بدين النبي كل هذا يجعل القرار الإلهي معقولا حتى بالنسبة للموازين البشرية القاصرة، فإن كان لا بد من إسناد هذه المهام إلى فئة معينة من الناس، فإسنادها لأهل بيت النبوة هي الأكثر منطقا، فليس منطقيا أن تسند هذه المهام إلى أهل بيت أبي بكر
وهكذا يبدوا واضحا أن القوم أطوع لبعضهم من طاعتهم لله ولرسوله حتى في الأمور المتماثلة موضوعيا!! فلو أمر الله ورسوله القوم بأن يذبحوا بقرة لأغرقوا الدنيا بتساؤلاتهم، عن اللون، والعمر والشكل والمضمون، ولكن لو أمرهم أحد قادة التاريخ أن يذبحوا بقرة، فإنهم ينفذون أمره، ويذبحون أفضل البقر فورا وبدون أسئلة، وبلا تباطؤ!! لقد استمرؤوا ذلك وتعودوا عليه، واستثقلوا أمر الله ورسوله وتعودوا على النفور ومحاولة التهرب منه!!
وما يعنينا في هذا المقام هو التأكيد على أن الله سبحانه وتعالى قد اختار أهل بيت نبيه لهذا الدور ليقوموا به بعد وفاة رسول الله وطوال عمر التكليف وأمر الله رسوله أن يعد ويؤهل أهل بيته ليقوموا بهذا الدور بعد وفاته على الأكمل وجه، وصدع الرسول بأمر ربه فأعد أهل بيته وأهلهم لذلك
ولكن الأكثرية الساحقة من المسلمين، ومنذ اللحظة التي قعد فيها رسول الله على فراش الموت تنكرت بالكامل لتلك الأحكام الإلهية، وأنكرت منزلة أهل بيت النبوة عند الله وعند رسوله، بل والأعظم من ذلك أنها صارت تنظر لأهل بيت النبوة نظرتها لأعداء، وصارت تعاملهم بطريقة أسوأ بألف مرة من معاملتها لليهود وللنصارى كما بينا ذلك في البحوث السابقة وقد جرى ذلك بتحريض وتشجيع من قادة التاريخ!! لقد أصبحت هذه المعاملة فصلا مهما من فضول سنة الخلفاء!!!
نماذج من الآيات القرآنية النازلة في أهل بيت النبوة وبيان سنة الرسول لها
1 - آية التطهير قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1).
لقد بين رسول الله من خلال سنته الشريفة هذه الآية كما بين غيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم، وحدد المقصود من كلمة " أهل البيت " ومن كلمة " الرجس " ومن كلمة " التطهير "، ووضحها الرسول تماما كما أوضح آيات الصلاة، والزكاة والحج... الخ وأمر المسلمين أن يعوا هذا البيان، لقد بين الرسول في سنته الطاهرة أن أهل البيت الذين عناهم الله في
____________
(1) سورة الأحزاب آية 33.