3 - الغلبة والقهر:
وتكون هذه الطريقة بأخذ الخلافة بالقوة كما في حال الانقلاب العسكري. ويقول التفتازاني: (وتنعقد الإمامة بالقهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة (أهل الحل والعقد) أو استخلاف (بعهد من الإمام السابق) وقهر الناس بشوكته، انعقدت الخلافة له) (1).
ويقول الشربيني: (والطريق الثالث [ يكون ] باستيلاء شخص متغلب على الإمامة جامع للشروط المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينظم شمل المسلمين. أما الاستيلاء على [ إمامة الخليفة ] الحي ففيه أمران: فإذا كان هذا الخليفة الحي متغلباً (بمعنى أنه وصل إلى الخلافة عن طريق الغلبة والقهر) انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إماماً ببيعة أو بعهد من الإمام السابق لم تنعقد إمامة المتغلب عليه) (2).
____________
(1) المصدر نفسه. (2) الشربيني، مغني المحتاج، ج 4 ص 131 - 132.
عند الشيعة
لقد تأسست نظرية الخلافة والإمامة عند الشيعة على أساس وجود نص من الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين هوية الخلفاء والأئمة، فالشيعة يعتقدون أن الخلافة الحقة قد نص عليها بأوثق الأدلة وأوضح العبارات في علي بن أبي طالب ابتدأ، والأئمة من أهل البيت عليه السلام بصورة عامة، ولا تخرج الإمامة من نسلهم أبد الدهر، والذي سيكون آخرهم الإمام محمد المهدي (المنتظر).
وفيما يلي نقدم ما احتج به الشيعة من نصوص رئيسية ومدلولاتها عندهم في معرفة الخلفاء والأئمة، وهي على نوعين:
أولاً: النصوص في إمامة أهل البيت.
ثانياً: النصوص في إمامة علي بن أبي طالب
إمامة أهل البيت
يمكن استخلاص الأدلة التي يحتج بها الشيعة في إمامة أهل البيت، والآراء والتفسيرات التي يقدمونها في ذلك كما يلي:
عدول الكتاب:
أخرج الترمذي، بسنده عن جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أيها الناس إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (1).
وكان قوله صلى الله عليه وآله وسلم كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه: (ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب
____________
(1) صحيح الترمذي، ج 2 ص 308.
ومن هذا الحديث الذي يسلم علماء الفريقين بصحته يفهم أنه وعلى الرغم من أن الله (سبحانه وتعالى) أنزل القرآن على نبيه بأحكم صور التمام والكمال (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ) [ النحل / 89 ] و (ما فرطنا في الكتاب من شئ) [ الأنعام / 38 ]. إلا أنه لم يكن كافياً لضمان هداية الناس وإبعادهم من الضلال. لماذا؟
يجيب الشيعة عن ذلك بالقول: إن عقول الناس قاصرة عن إدراك أسرار الكتاب ومغازيه والإحاطة بجميع جوانبه (تبياناً لكل شئ)، فكان لا بد وأن يكون لهذا الكتاب من مرافق يقوم بهذه المهمة التوضيحية للناس (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) [ آل عمران / 7 ]. وهؤلاء الراسخون في العلم كما يوصفوا في موضع آخر (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون) [ الواقعة / 77 - 79 ].
فكما أن التمسك بالكتاب لا يعني الإمساك به أو القبض عليه باليد، فإن (مس) الكتاب في هذه الآية لا يعني مجرد لمسه باليد، وإنما نزلت فيمن يحق لهم تفسير الكتاب وتأويله، والذين تدخلت الإرادة الإلهية بتطهيرهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [ الأحزاب / 33 ].
وحتى أن علماء الحديث عند أهل السنة يرون أن الحديث صلى الله عليه وآله وسلم (... كتاب الله وعترتي أهل بيتي) والمشهور بحديث الثقلين، أصح مما رواه
____________
(1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ج 5 ص 272، ط دار الثعب.
ومن الأحاديث التي يحتج بها الشيعة تأييداً لحديث الثقلين، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق) (3)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف) (4).
من هم أهل البيت؟
وقد اختلف المسلمون أيضاً في تحديد هوية أهل البيت، ويقول الشيعة:
إن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، ويحتجون في ذلك بالأحاديث التالية:
فمن صحيح مسلم بالإسناد إلى عائشة قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين
____________
(1) المستدرك للحاكم، ج 1 ص 93.
(2) لقد ضعف هذه الرواية كل من البخاري، والنسائي، والذهبي، وغيرهم، وذكر الدكتور أحمد بن حمدان (السني) في تحقيقه لكتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) ص 80 بشأن توثيق هذا الحديث: سنده ضعيف، وقال يحيى: ليس بشئ ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك).
(3) المستدرك على الصحيحين للحاكم، ج 2 ص 343، ح 4715.
(4) المصدر نفسه، ج 3 ص 149.
ومن صحيح مسلم أيضاً، قال سعد بن أبي وقاص: (لما نزلت الآية:
(فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم..) [ آل عمران / 61 ] دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، فقال:
اللهم هؤلاء أهلي) (2). وقد نزلت هذه الآية في حادثة المباهلة مع نصارى نجران، حيث إن (أبناءنا) إشارة إلى الحسن والحسين، و (نساءنا) إشارة إلى فاطمة، و (أنفسنا) إشارة إلى علي، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (أنت مني وأنا منك).
ومن صحيح الترمذي، بالإسناد إلى عمرو بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لما نزلت الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [ الأحزاب / 33 ] في بيت أم سلمة، دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة، وحسناً، وحسيناً، وعلي خلف ظهره، فجللهم بكساء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت على خير) (3).
وفي مسند أحمد، تروي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة: (ائتيني بزوجك وابنيك) فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكياً، ثم وضع يده عليهم ثم قال: (اللهم إن هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وآل محمد، إنك حميد مجيد). قالت أم سلمة:
فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يدي وقال: إنك على خير) (4).
____________
(1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل الحسن والحسين، ج 5 ص 287.
(2) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ص 268.
(3) صحيح الترمذي، ج 2 ص 209.
(4) مسند أحمد، ج 6 ص 306.
نساؤه؟ قال: لا، وأيم والله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده) (1).
ولكن أهل السنة يحتجون بالآيات التالية من سورة الأحزاب دليلاً على أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هن أيضاً من أهل البيت: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن...) [ الأحزاب / 28 ] إلى قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [ الأحزاب / 33 ]. ولكن الشيعة يردون ذلك من عدة وجوه منها:
إن مجئ آية تطهير أهل البيت ضمن سياق الآيات النازلة في نساء النبي لا يعني بالضرورة أن يكون المقصود فيهما واحدا، ذلك أنه يوجد العديد من آيات الكتاب الكريم التي تحوي الواحدة منها أمرين مختلفين تماماً عن بعضهما. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) [ المائدة / 3 ].
ومن وجه آخر: فقد جاء ضمير المخاطب لمن شملهم التطهير ب (عنكم، يطهركم) وليس بغير المخاطب لجمع المؤنث (عنكن - يطهركن)، كما جاء في المواضع السابقة لذلك والتي خوطبت بها نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ب (كنتن، منكن، لستن، تخضعن، وقرن... الخ).
____________
(1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ج 5 ص 274.
رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الحسن بن علي عليه السلام يشبهه) (3).
وهذه المزايا الاستثنائية لأهل البيت عليه السلام جعلتهم يقارنون بآل إبراهيم عليه السلام كما يروي البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال:
(إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (4).
إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام
لقد أحاط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علياً منذ صغره بعناية خاصة، حيث تولى تربيته وإعداده، ودأب على الإشادة بمكانته وفضائله في كثير من المواقف حتى قام بتنصيبه رسمياً حسب اعتقاد الشيعة ليكون خليفة وإماماً للأمة بعده. ومن أشهر وأهم ما يقدمه الشيعة من أدلة على ذلك ما يلي:
1 - بلاغ الغدير
بعد أن أدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حجه الأخير في السنة الحادية عشرة للهجرة، والتي عرفت ب (حجة الوداع) وحضرها معه ما لا يقل عن تسعين ألفاً حسب
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب ما قيل في الصواغ، ج 3 ص 171.
(2) المصدر نفسه، كتاب التهجد، ج 2 ص 126.
(3) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ج 4 ص 486.
(4) المصدر نفسه، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي، ج 8 ص 45.
(أيها الناس، إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجاهدت، فجزاك الله خيراً. قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد، ثم قال: أيها الناس، ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.
قال: فإني فرط على الحوض فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين. فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا. ثم أخذ بيد علي فرفعها، وعرفه القوم أجمعون فقال: أيها الناس، من أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه - قالها ثلاث مرات - اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه،
____________
(1) الرازي: التفسير الكبير، الواحدي: أسباب النزول.
ويتلخص تفسير الشيعة لهذه الخطبة بالنقاط التالية:
أ - إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أراد من خطبته هذه أن يوصي الأمة بأمر في غاية الأهمية متعلق بما سيكون عليه المسلمون بعد رحيله لأنه افتتح خطبته بالتلميح بقرب الأجل (أوشك أن أدعى فأجيب).
ب - كانت مقدمة خطبته صلى الله عليه وآله وسلم بتذكير المسلمين بأهم أركان الإيمان وأصول الدين (التوحيد، النبوة، اليوم الآخر)، ثم أراد أن يضيف إليها أمراً جديداً بقوله: (فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين). فما معنى إقران أهل البيت عليه السلام بالقرآن (إنهما لن يفترقا) إلا إذا كان هذا الأمر ركناً جديداً ذا أهمية قصوى ومتعلقاً بالحساب الأخروي (حتى يردا علي الحوض)، بمعنى أن الناس سيسألون عن تمسكهم بأهل البيت تماماً كما سيسألون عن تمسكهم بالكتاب.
ج - جاءت كلمة (مولى) بمعنى أسمى من مجرد المحب والصديق كما يقول المخالفون للشيعة في تفسيرهم لهذا الحديث. فمن المستبعد أن يكون قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فعلي مولاه) يريد به (من كنت حبيبه وصديقه فهذا علي حبيبه وصديقه). فما الجديد في ذلك وقد وردت الكثير من التوجيهات النبوية التي تحض على حب جميع المؤمنين وموالاتهم بعضهم البعض؟ وإذا كان هذا هو المعنى المقصود، فلماذا سيقتصر هذا التوجيه والبلاغ بعلي وحده دون غيره، فلا بد إذا أن يكون لهذا التخصيص مراد في غاية الأهمية ومنسجم مع أهمية البلاغ والظروف الزمانية والمكانية التي
____________
(1) هذه الخطبة بالنص الذي أوردناه هي مجمل ما أخرجه العشرات من رجال الحديث بألفاظ متعددة، فراجع صحيح الترمذي، ج 6 ص 298، وسنن ابن ماجة، ج 1 ص 43، ومسند أحمد ج 4 ص 281، وصواعق ابن حجر ص 25، وخصائص أمير المؤمنين النسائي ص 93.
د - ومما يدل على عظمة هذا البلاغ (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) أن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه بعد الانتهاء من خطبة الغدير وقبول تفرق جموع الحجيج (1): (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [ المائدة / 3 ].
وما يرتبط أيضاً بولاية علي عليه السلام - حسب اعتقاد الشيعة - قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي) (2)، وقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [ المائدة / 55 ]. وقد ذكر مفسرو الشيعة وأغلب مفسري أهل السنة أن هذه الآية نزلت في علي عندما تصدق بخاتمه أثناء ركوعه في صلاة غير مفروضة (3). وكذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [ النساء / 59 ]. فعن علي إنه سأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا نبي الله من هم؟ قال: أنت أولهم (4).
وعن أبي بصير، أنه سأل الإمام محمد الباقر عليه السلام عن قوله تعالى:
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، قال: (نزلت في علي بن أبي طالب، قلت: إن الناس يقولون: فما منعه أن يسمي علياً وأهل بيته في كتابه، فقال الباقر عليه السلام: قولوا لهم: إن الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله يفسر ذلك، وأنزل الحج فلم ينزل
____________
(1) السيوطي: الدر المنثور، الخطيب البغدادي تاريخ بغداد.
(2) صحيح الترمذي، ج 2 ص 297.
(3) تفسير الطبري، أسباب النزول للواحدي، شواهد التنزيل للحسكاني.
(4) الحسكاني شواهد التنزيل ج 1 ص 148.
2 - منزلة هارون:
قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عندما خلفه على المدينة يوم غزوة تبوك: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) (2).
والمراد بذلك أن المرتبة التي كانت لعلي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي نفسها التي كانت لهارون من موسى عليه السلام باستثناء النبوة. ولكن ما هي هذه المرتبة التي كانت لهارون من موسى؟ وتجد الإجابة في سياق الآيات التالية:
(وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) [ الأعراف / 142 ] (قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً * ونذكرك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً، قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) [ طه / 25 - 36 ].
(وأخي هارون هو أفصح مني لساناً، فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون * قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) [ القصص / 34 - 35 ].
وتتلخص أوجه الشبه بين علي وهارون حسب تفسير الشيعة لذلك الحديث وهذه الآيات بما يلي:
أ - كان هارون أخاً للنبي موسى عليه السلام، وكذلك كان اعتبار علي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما أخرج الترمذي في صحيحه أنه عندما آخى
____________
(1) المصدر نفسه، ج 1 ص 150.
(2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، ج 5 ص 492.
ب - كان هارون وزيراً وشريكاً لموسى عليه السلام لقوله تعالى على لسان موسى: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري) [ طه / 29 - 31 ]، وكذلك فقد طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم العون من أقاربه عند نزول قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) [ الشعراء / 214 ] حيث جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقاربه من بني عبد المطلب وكانوا يومئذ أربعين رجلاً، وقال لهم: (يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله (عز وجل) أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم. فسكت القوم، وأعاد ذلك، وكلما كان يسكت القوم يقول علي: أنا، وحتى إذا كانت المرة الثالثة، أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي وقال: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا) (4).
وروى الحافظ المحدث أبو نعيم الأصفهاني، بسنده عن ابن عباس، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إن موسى بن عمران سألك وأنا محمد نبيك
____________
(1) سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب 20، ح 3720.
(2) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب 9.
(3) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب 4، ح 32 - (2404).
(4) مسند أحمد ج 1 ص 111، تاريخ الطبري ج 2 ص 62 - 63.
ح - كان هارون المفضل عند موسى على جميع بني إسرائيل ليس لكونه أخاه، وإنما لاتصافه بمزايا تؤهله للقيام بمهام الدعوة والتبليغ والاستخلاف (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح) [ الأعراف / 142 ] ولو لم يكن كذلك لاستحال اختياره. وهكذا فإن علياً لا بد وأن يكون كذلك في الأفضلية لنيله واستحقاقه عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم المراتب نفسها التي كانت مستحقة لهارون عند موسى عليه السلام.
ومن كل ما سبق، فإن ما كان لهارون عند موسى عليه السلام من مراتب الوزارة، والاستخلاف، والشراكة، والأفضلية تنتقل جميعها إلى علي عليه السلام كمراتب خاصة له باستثناء النبوة.
ومن المعلوم أن هارون عليه السلام مات في حياة موسى ولو عاش بعده لكان خليفته، وحل مكانه يوشع بن نون (أو اليسع كما ذكر في القرآن) (2) كوصي لموسى عليه السلام. وأما وجه الشبه بين علي ويوشع بن نون فهو كما ذكر المحقق السيد مرتضى العسكري: (إن يوشع بن نون كان مع موسى في جبل ولم يعبد العجل، وأمر الله نبيه موسى أن يعينه وصياً من بعده لئلا تكون بني إسرائيل كالغنم بلا راع وكان الإمام علي مع النبي في غار حراء، ولم يعبد صنماً قط وأمر الله نبيه في رجوعه من حجة الوداع أن يعينه بمسمع من الحجيج قائداً للأمة بعده، ولا يترك أمته هملاً، وقد صدع بذلك
____________
(1) الرياض النضرة، ج 2، ص 163.
(2) (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلا فضلنا على العالمين) الأنعام: 86، (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار) ص: 48.
3 - باب مدينة العلم والحكمة
في الحديث الشريف، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فيأت الباب) (2). قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين (البخاري ومسلم) ولم يخرجاه. وفي صحيح الترمذي، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها) (3).
وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في علم علي: (أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي) (4)، وفي صحيح البخاري، قال عمر بن الخطاب: (أقرؤنا أبي وأقضانا علي) (5)، ومن البديهي أن يكون الأقضى هو الأعلم بقوانين الشريعة وأحكامها.
ولا غرابة في كثرة رجوع الصحابة إليه بعد رحيل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كلما كانت تواجههم معضلة.
ومن ذلك، ما رواه ابن عباس قال: (أتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناساً، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت. فأمر بها عمر أن ترجم فقال:
ارجعوا بها، ثم أتاه وقال: يا عمر أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة، عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال:
بلى. قال: فما بال هذه ترجم؟ قال: لا شئ، قال: فأرسلها. قال ابن عباس:
____________
(1) مرتضى العسكري، معالم المدرستين، ج 1 ص 292، ط 5.
(2) المستدرك على الصحيحين، ج 3 ص 126.
(3) صحيح الترمذي ج 2 ص 299.
(4) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 122.
(5) صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 6 ص 10.
وقد كان عمر يقول تكراراً كلما كان يجيبه علي عليه السلام عما يسأله ليفرج عنه: (لولا علي لهلك عمر). وقوله: (لا أبقاني الله بعدك يا علي) (3).
وقوله: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس علي فيها) (4).
وإذا كانت صحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعتبر شرفاً وعلو منزلة، فإن علياً عليه السلام لم يفارق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته. فمنذ صغره قبل البعثة وقد أصاب قريش أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال، فأخذ العباس جعفراً ليخفف عنه، وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً، فكان أول من اتبعه وصدقه عندما بعثه الله نبياً ويقول علي عليه السلام في ذلك: (وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني فراشه ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ فيلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل)... إلى قوله: (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة، وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة) (5). ويقول أيضاً: (وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته) (6).
____________
(1) سنن أبي داود، باب المجنون يسرق أو يصيب أحداً.
(2) صحيح البخاري، كتاب المحاربين، باب لا يرجم المجنون والمجنونة.
(3) ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 107.
(4) فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج 17 ص 105.
(5) نهج البلاغة، الخطبة رقم 190، ج 2 ص 182 - 184.
(6) المصدر نفسه، الخطبة رقم 208.
وفي قول آخر: (فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل...) (3) وروى ابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: (لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (سلوني) إلا علي) (4).
4 - ميزان الإيمان:
في صحيح مسلم، قال علي عليه السلام: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) (5). وعن أم سلمة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحب علياً منافق ولا يبغضه مؤمن) (6). وقال أبو سعيد الأنصاري: (إنا كنا لنعرف المنافقين - نحن معشر الأنصار - ببغضهم علي بن أبي طالب) (7)، وعن أبي ذر الغفاري قال: (ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب) (8).
____________
(1) كنز العمال، ج 6 ص 392.
(2) البلاذري: أنساب الأشراف ج 1 ص 98.
(3) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج 2 ص 101.
(4) ترجمة الإمام علي من تاريخ مدينة دمشق ج 2 ص 24، رقم 1045.
(5) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب حب علي كرم الله وجهه، ج 1 ص 262.
(6) صحيح الترمذي، ج 2 ص 299.
(7) المصدر نفسه
(8) الحاكم: المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 129، وقال (الحاكم): هذا الحديث صحيح على شرط مسلم.
وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (يا علي طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك) (2)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (إن الأمة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش على ملتي، وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني ومن أبغضك أبغضني) (3). وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى) (4).
5 - عديل الحق والقرآن:
قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) (5)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (علي مع الحق والحق معه، يدور الحق معه حيث دار) (6). ومن الواضح أن هذه الأحاديث منسجمة في معناها مع حديث الثقلين الذي مر سابقاً. في صفحات هذا الكتاب.
وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن منكم من يقاتل على تأويله (القرآن) كما قاتلت على تنزيله). قال أبو سعيد الخدري: فقام أبو بكر وعمر. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
(لا، ولكن خاصف النعل. وكان علي يخصف نعله) (7) وقد فهم مفسرو القرآن من الشيعة من هذا الحديث أن الآية: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) [ آل عمران / 7 ] نزلت في أهل البيت عليه السلام.
____________
(1) المصدر نفسه ج 3 ص 128، وقال (الحاكم): هذا الحديث صحيح الإسناد.
(2) المصدر نفسه ج 3 ص 135، حديث صحيح الإسناد.
(3) المصدر نفسه، ج 3 ص 142.
(4) المصدر نفسه، ج 3 ص 121.
(5) المصدر نفسه ج 3 ص 124.
(6) الهيثمي: مجمع الزوائد ج 7 ص 234.
(7) مسند أحمد ج 3 ص 34.
الفصل الثالث
مؤهلات الخلفاء والأئمة
عند أهل السنة
الشروط الأساسية:
يذكر البغدادي الشروط الأساسية التالية التي ينبغي توفرها في الخلفاء والأئمة، ويمثل رأيه موقف غالبية العلماء عند أهل السنة:
1 - العلم: وأقل ما يكفيه منه أن يبلغ فيه مبلغ المجتهدين بالحلال والحرام.
2 - العدل والورع: وأقل ما يجب فيه من هذه الخصلة أن يكون ممن يجوز قبول شهادته.
3 - الاهتداء إلى وجوه السياسة، وحسن التدبير، والمعرفة بمراتب الناس، والحروب.
4 - أن يكون نسبه من قريش (1). ويضيف آخرون للشروط المذكور: - الذكورة، والبلوغ، والعقل، والشجاعة، والحرية، وغيرها.
ولا يشترط أهل السنة في الخليفة أو الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه، ودليل ذلك يوضحه الباقلاني بقوله: (وأما ما يدل على جواز العقد للمفضول وترك الأفضل لخوف الفتنة والتهارج فهو أن الإمام إنما ينصب لدفع العدو، وحماية البيضة، وسد الخلل، وإقامة الحدود، واستخراج الحقوق، فإذا خيف بإقامة أفضلهم الهرج، والفساد، والتغالب، وترك الطاعة، واختلاف
____________
(1) البغدادي، أصول الدين، ص 277.
ويقول ابن حجر المكي: (إنه لو لزم تعيين الأفضل، لقام عمر بتعيين عثمان دون الحاجة لجعلها شورى في ستة) (2)، لأن عثمان برأيه كان أفضل من علي عليه السلام والأربعة الآخرين.
وأما بشأن العلم اللازم للخليفة أو إمام الأمة، فالباقلاني يقول: (إن الأمة لا تحتاج إلى علم متميز له، وإن غلط في شئ من مهماته الموكلة إليه، فإن الأمة من ورائه ستقومه) (3) حيث إن الأمة ستمارس سلطاتها من خلال هيئة تمثلها تعرف ب (مجلس أهل الحل والعقد).
العصمة للخلافة وليست للخليفة
ومما يلفت الانتباه أن أحد علماء أهل السنة البارزين يقول بعصمة منصب الخلافة والإمامة وإن لم يكن الخليفة أو الإمام معصوماً. فهذا فخر الدين الرازي يرى في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [ النساء / 59 ]، أن فيها دلالة على هذه العصمة، فهو يقول: (إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم والقطع، فلا بد أن يكون [ ولي الأمر ] معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن
____________
(1) الباقلاني، التمهيد، ص 184.
(2) ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 9.
(3) الباقلاني، التمهيد، ص 184.
ولأنه وافق برأيه هذا قول بعض الفرق الأخرى القائلة بعصمة الأئمة، فإنه استدرك على الفور قائلاً: (إننا في زماننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليه، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه، فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الأمة، بل المراد هو أهل الحل والعقد من الأمة) (2).
وأهل الحل والعقد هم الذين تثق بهم الأمة من العلماء ورؤساء الجنود، والسرايا، وأولياء الدولة، وسراة القوم، وغيرهم من يمثلون الأمة، فتكون العصمة للمجلس الذي يضم هؤلاء الممثلين وليس لأي فرد منهم، ورأيهم النهائي لا يمكن وقوع الخطأ فيه على حسب رأي الرازي، بل لا بد وأن يكون دائماً مصيباً وموافقاً للكتاب والسنة، وهو من عناية الله على الأمة. ثم يستدل على ذلك بما نسب قوله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تجتمع أمتي على خطأ) (3).
بماذا ينخلع الخليفة؟
تبين مما سبق أن أهل السنة لا يشترطون في إمام الأمة العصمة ولا الأعلمية ولا حتى الأفضلية، بل يكتفون بأن يكون عنده قدر من العلم وإن قل، ودرجة من العدالة والتقوى تكفي لقبول شهادته، وحسن التدبير في شؤون
____________
(1) الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 10 ص 144.
(2) جعفر السبحاني، مع الشيعة الإمامية، ص 62.
(3) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج 5 ص 403.
يجيب أبو بكر الباقلاني عن ذلك: (لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شئ مما يدعو إليه من معاصي الله) (1).
ويقول الطحاوي: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله (عز وجل) فريضة ما لم يأمر بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة) (2).
وقال أيضاً: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة) (3).
ويرد سعد الدين التفتازاني موقف أهل السنة في عدم جواز الخروج عن طاعة الإمام الفاسق بقوله: (ولا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة الله تعالى أو بالجور، لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، وكان السلف ينقادون لذلك، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم) (4).
____________
(1) الباقلاني، التمهيد، ص 181.
(2) الطحاوي: شرح العقيدة الطحاوية، ص 397.
(3) المصدر نفسه، ص 387.
(4) سعد الدين التفتازائي، الشرح، ص 185 - 186.
عند الشيعة
نظراً لعلو منصب الإمامة عند الشيعة، واعتبارهم له منصباً إلهياً وامتداداً للنبوة في وظائفها الرسالية، فإنهم يعتقدون بوجوب اتصاف الأئمة بمواصفات استثنائية، وفوق مستوى الناس العاديين. وأهم هذه المواصفات:
1 - العصمة
بمعنى إستحالة ارتكاب الإمام لأي من الرذائل صغيرها وكبيرها، وما ظهر منها وما بطن. وأهم ما يستدل به الشيعة على مبدأ العصمة من آيات الكتاب ما يلي:
أ - قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [ البقرة / 124 ]. فالآية الكريمة تشير إلى أن نيل عهد الله وهو إمامة البشرية المتمثلة بالأنباء وخلفائهم، لا يمكن أن تكون من نصيب ظالم، والخطيئة كبيرها وصغيرها، ظاهرها وباطنها تجعل من مرتكبها ظالماً.
ب - قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [ الأحزاب / 33 ]. فالرجس في هذه الآية هو الإثم، والمراد من إذهابه الرجس عن أهل البيت هو تنزيههم عن كل ما يوجب نقصاً فيهم، وأي ذنب مهما صغر وبطن فإنه موجب في نقص متصرفة، فكانت إرادة الله عز وجل) تطهيرهم من كل الذنوب. ويرى الشيعة إن المراد بالتطهير في هذه الآية لا يمكن أن يكون مجرد التقوى بالاجتناب عن النواهي، حيث إن هذا المعنى لا يختص بأهل البيت عليه السلام وحدهم، وإنما هو لعموم الناس لقوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) [ المائدة / 6 ]،
2 - الأفضلية
ويعتقد الشيعة أيضاً أن الإمام ينبغي أن يكون أفضل أهل زمانه في صفات الكمال من شجاعة، وكرم، وعفة، وصدق، وعدل، وتدبير، وعقل، وحكمة، وخلق.
3 - الأعلمية
ولأن الإمام عند الشيعة ليس مجرد رجل سياسة وحرب كما هو عند غيرهم، بل الحافظ للشرع بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمبين للناس أحكام الدين والكاشف لأسراره، فإنه ينبغي أن يكون علمه منسجماً مع هذه المهمة العظيمة. وبالتأكيد، فإن هذا الانسجام لا يتحقق إلا بدرجة استثنائية من العلم وليس مجرد معرفة الحلال والحرام.
يقول الشيخ محمد رضا المظفر في هذا الصدد: (أما علمه، فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام الذي قبله، وإذا استجد شئ لا بد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة الحدسية التي أودعها الله فيه، ولا يحتاج في ذلك إلى البراهين العقلية، ولا إلى تلقينات المعلمين) (1).
____________