الصفحة 89
وقد اشتهر قول الإمام علي عليه السلام: (لولا أن نهى عمر عن المتعة ما زنى إلا شقي) (1).

ومن المتع الأخرى التي لم ترق للخليفة عمر ما عرف ب‍ (متعة الحج)، وهي تكون بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين إحرامي العمرة والحج، ذلك أن الاعتمار قبل الحج فرض على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام كما في قوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله وأعلموا أن الله شديد العقاب) [ البقرة / 196 ].

وقد تواتر عن الخليفة عمر قوله: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما) (2) وقال جابر بن عبد الله بشأن اختلاف عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير في متعتي النساء والحج: (فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما) (3).

والرواية التالية تشير بوضوح إلى وجود منهجين من السنة بعد رحيل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يروي البخاري عن سعيد بن المسيب قال: (اختلف عثمان وعلي (رضي الله عنهما) وهما بعسفان في المتعة (متعة الحج)، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أهل بهما جميعاً (لبيك بعمرة وحج) وقال: ما كنت لأدع السنة لقول أحد) (4) يقصد الخليفة عمر.

وكان عبد الله بن عمر مخالفاً لأبيه في هذا التحريم، حيث يروى أنه سأله أحد من أهل الشام عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عبد الله بن عمر: هي

____________

(1) جامع البيان، الطبري، ج 5 ص 9، ط بولاق مصر.

(2) التفسير الكبير للرازي، ج 5 ص 153.

(3) صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ج 3 ص 55.

(4) صحيح البخاري، كتاب الحج، ج 2 ص 371 و 374.

الصفحة 90
حلال. قال الشامي: إن أباك قد نهى عنها. فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال الرجل: بل أمر رسول صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).

2 - ابتداعه صلاة التراويح

فهذه الصلاة النافلة ذات العشرين ركعة، والتي يمارسها بهذا الاسم قطاع واسع من المسلمين جماعة في ليالي شهر رمضان، لم تكن مما شرع أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فقد سنت بعض النوافل لتصلى فرادى في ليالي شهر رمضان دون أن تعرف في عهده صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الاسم، ولا بهذا الكم من عدد الركعات.

وقد أخرج البخاري في صحيحه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). قال ابن شهاب: فتوفي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والناس على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر (معناه كما في شرح النووي على صحيح مسلم:

استمر الأمر هذه المدة على أن كل واحد يقوم رمضان في بيته منفرداً حتى انقضى صدراً من خلافة عمر) (2). قال ابن شهاب: خرجت مع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون... فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعم البدعة هذه) (3). وما يثبت قطعاً اختلاق عمر لهذه الصلاة هو قوله: (إني أرى)! حيث نسب تشريعها إلى نفسه. ثم قوله: (نعم البدعة هذه)! وما (البدعة) في اللغة والاصطلاح إلا ما

____________

(1) الجامع الصحيح - سنن الترمذي، ج 3 ص 185 - 186، ح 824، ط دار الكتب العلمية - بيروت.

(غير مؤرخ) (2) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 410.

(3) صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، ج 3 ص 126.

الصفحة 91
كان جديداً ليس له أي وجود قبل ذلك، فضلاً عن أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد ثبت حثه في أكثر من حديث لإتيان النوافل في البيوت.

3 - تصرفه في الأذان

لم يكن أذان الفجر زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن عبارة (الصلاة خير من النوم)، وإنما كانت من إضافات الخليفة عمر كما يروي الإمام مالك في موطئه:

(.. إذ بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح، فوجده نائماً. فقال: الصلاة خير من النوم. فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح) (1).

وكان الأذان زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن عبارة (حي على خير العمل) والتي كانت تأتي بعد قول (حي على الفلاح)، ولكن الخليفة عمر أسقط هذا الجز من الأذان حتى يفهم عامة الناس أن خير العمل هو الجهاد في سبيل الله ليندفعوا إليه (2). وعن عكرمة قال: (قلت لابن عباس: أخبرني لأي شئ حذف من الأذان (حي على خير العمل) قال: أراد عمر ألا يتكل الناس على الصلاة ويدعوا الجهاد، فلذلك حذفها من الأذان) (3).

4 - اجتهاده في حكم الطلاق

من المعلوم أن المرأة إذا طلقها زوجها للمرة الثالثة لا يجوز رجوعه إليها إلا بمحلل شرعي، والمقصود بالطلقة الثالثة هي تلك المسبوقة برجعتين وطلقتين، كما في قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [ البقرة / 229 ]... (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) [ البقرة / 230 ]. وأما إذا جاءت الثلاث طلقات في جملة واحدة كأن يقول الرجل لزوجته (أنت طالق، طالق، طالق) فتعد طلقة واحدة، إلا أنه وعندما جاء

____________

(1) الموطأً لإمام مالك بن أنس ص 58 حديث رقم 151.

(2) سنن البيهقي، ج 1 ص 524 - 25، السيرة الحلبية ج 2 ص 105.

(3) دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 238، والنص والاجتهاد ص 239.

الصفحة 92
الخليفة عمر جعلها ثلاث طلقات كما لا يزال الحال عند معظم فقهاء أهل السنة في عصرنا.

ففي صحيح مسلم، عن ابن عباس، قال: (كان الطلاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم) (1). وفي رواية أخرى: (قال ابن الصهباء لابن عباس:

ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر واحدة. فقال: قد كان كذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) (2).

5 - تحريمه البكاء على الميت

البكاء كما هو معروف عند البشر من طبيعة النفس الإنسانية، ويأتي للتعبير عن مشاعر الرحمة والحزن لا سيما عند فقدان الإنسان لعزيز عليه.

وقد بكى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما تواتر عنه في كتب السير والحديث. فهذا البخاري مثلاً يروي بشأن بكائه صلى الله عليه وآله وسلم عند زيارته لسعد بن عبادة وقد اشتد عليه المرض، فظن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه مات: (... فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه) (3).

ولكن الخليفة عمر كان ينهى عن البكاء على الميت بقوله: (إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت يعذب في قبره بما نيح عليه) (4). وفي رواية أخرى، عن عبد الله بن قال: (لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه.

____________

(1) صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب الطلقات الثلاث، ج 3 ص 668.

(2) المصدر السابق، ص 670.

(3) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، ج 2 ص 220.

(4) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، ج 2 ص 590.

الصفحة 93
فلما أفاق، قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاء الحي) (1). وحتى أن الخليفة عمر أحياناً لم يكن يكتفي بالنهي عن ذلك بلسانه. ففي صحيح البخاري: (وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وكان عمر (رض) يضرب فيه بالعصى ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب) (2).

وقد روي أن عائشة كانت تنفي قول عمر حول هذه المسألة كما يذكر ابن عباس: (فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقال: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، ولكنه قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، ثم قالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [ الإسراء / 15 ]. وقال ابن عباس: وعند ذلك والله أضحك وأبكي) (3).

6 - تجاوزه الحد الشرعي بإقامة الحدود

ومن ذلك أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر في مصر، قام واليه هناك عمرو بن العاص بحلق رأسه وجلده الحد الشرعي بحضور أخيه عبد الله بن عمر. ولكن الخليفة عمر عندما علم بذلك أمر بإحضاره مقيداً بإحكام إلى المدينة ثم أقام عليه الحد مرة ثانية وبغلظة بالرغم من مرضه الشديد وصياحه المتكرر: قتلتني يا أبتاه. وقد مات الابن بعد شهر من الحبس (4).

ومن ذلك أيضاً محاولته رجم امرأة مجنونة زنت، لولا قول الإمام علي عليه السلام له: أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة... إلخ، وكذلك محاولته رجم امرأة حامل زنت لولا قول الإمام على عليه السلام: وما سلطانك على ما في بطنها (5).

____________

(1) المصدر السابق.

(2) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، ج 2 ص 220 - 21.

(3) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، ج 2 ص 593 - 594.

(4) سنن البيهقي، ج 8 ص 312. العقد الفريد لابن عبد ربه، ج 3 ص 470.

(5) راجع مصادر هاتين الحادثتين في موضع سابق من هذا الكتاب.

الصفحة 94

7 - إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم

من المعلوم أن الله (سبحانه وتعالى) أمر بصرف سهم من مصاريف الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وهم غالباً من الذين يسلمون ونياتهم ضعيفة، فيؤلف قلوبهم بهذا العطاء كما في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب...) [ التوبة / 60 ].

ولكن الخليفة عمر منع هذا السهم عنهم، ولما جاءه بعض المؤلفة قلوبهم يسألونه حصتهم، قال لهم: (لا حاجة لنا بكم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلا السيف بيننا وبينكم) (1).

أمر الخليفة بالعمل بسيرة الشيخين بجانب الكتاب والسنة

قام عمر بن الخطاب قبل موته بإصدار أمر بالعمل بكل ما صدر عنه وعن سلفه أبي بكر أثناء خلافتهما من قول أو فعل بما في ذلك كل التأويلات والاجتهادات والتي عرفت بمجموعها بسيرة الشيخين أو سنة الشيخين وليكون العمل بها ملازماً للعمل بكتاب الله وسنة نبيه أبد الدهر. وهذا ما يفسر استمرار العمل باجتهادات عمر والتي عرضنا أمثلة منها عند كثير من المسلمين بالرغم من وضوح معارضتها لكتاب الله وسنة نبيه.

وسترى فيما يلي ماذا أفرزه أول تطبيق عملي لسيرة الشيخين هذه.

استخلاف عمر مجلساً للشورى

عندما طعن الخليفة عمر، دخل عليه المهاجرون وقالوا: يا أمير المؤمنين استخلف علينا. قال: والله لا أحملكم حياً وميتاً، إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أدع فقد ودع من هو خير مني، يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولما أحس بالموت قال لابنه: إذهب إلى عائشة واستأذنها أن

____________

(1) الجوهرة النيرة على مختصر القدوري في الفقه الحنفي، ج 1 ص 164.

الصفحة 95
أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر. فأتاها عبد الله بن عمر فأعلمها، فقالت: نعم وكرامة. ثم قالت: يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، واستخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة. فأتى عبد الله إلى أبيه وأخبره. فقال عمر: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته وما جعلتها شورى (1).

ثم قال: إن رجالاً يقولون إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، وإن بيعة عمر كانت من غير مشورة، والأمر بعدي شورى، وقد جعلت أمركم شورى إلى ستة نفر من المهاجرين الأولين وهم: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ودعاهم إليه (2).

ثم قال: إن استقام أمر خمسة منكم وخالف واحد، فاضربوا عنقه، وإن استقام أمر أربعة وخالف اثنان، فاضربوا أعناقهما وإن استقر ثلاثة واختلف ثلاثة فاحتكموا إلى ابني عبد الله، فلأي الثلاثة قضى، فالخليفة منهم وفيهم، فإن أبى الثلاثة الآخرون فاضربوا أعناقهم (3). وفي رواية الطبري: (فإن لم يرغبوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ولكن بشرط أن يعاهد من يبايع له بأن يعمل بسيرة الشيخين بجانب العمل بكتاب الله وسنة نبيه) (4).

وأما بالنسبة للمرشحين الستة، فإنه كل من كان بمعرفة بمواقفهم السابقة يعلم أنهم كانوا سينقسمون إلى ثلاثتين كما حصل فعلاً. فقد كان علي وطلحة والزبير في جانب ومرشحهم للخلافة هو علي، وفي الجانب الآخر كان سعد

____________

(1) طبقات ابن سعد، ج 3 ص 248.

(2) تاريخ الطبري (وفاة عمر بن الخطاب).

(3) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 42 - 43.

(4) طبقات ابن سعد ج 3 ص 61، تاريخ الطبري، تاريخ ابن الأثير.

الصفحة 96
عثمان وعبد الرحمن بن عوف ومرشحهم للخلافة هو عثمان. وبما أن الترجيح جعل بيد ابن عوف على حسب الشرط المذكور، فإن جواب الإمام علي عليه السلام بشأن العمل بسيرة الشيخين كان بالرفض قائلاً: (أعمل بكتاب الله وسنة نبيه واجتهادي) (1)، بينما كان جواب عثمان بالقبول، فآلت إليه الخلافة تبعاً لذلك.

وفي صحيح البخاري تجد جزءاً من هذه الحادثة كما يرويها ابن مخرمة، قال: (طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت، فقال:

أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، انطلق فأدع لي الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعاني فقال: أدع لي علياً فدعوته، فناجاه حتى ابهار الليل. ثم قام علي من عنده وهو على طمع (بمعنى رفضه شرط العمل بسيرة الشيخين)، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى بالناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل عبد الرحمن بن عوف إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا، تشهد ثم قال: أما بعد، يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً. فقال عثمان: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس) (2).

ولنا أن نتساءل: لماذا أضاف الخليفة عمر شرط العمل بسيرة الشيخين فضلاً عن استحداث مثل هكذا مصطلح أصلاً؟ ولماذا أعلن عمر عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتفاءه بكتاب الله، وأصبح الآن عند وفاته هو يقول وكأن كتاب الله وسنة نبيه لا يكفيان إلا إذا أضيف إليهما سنة الخليفتين؟؟

____________

(1) خالد محمد خالد، خلفاء الرسول، ص 272.

(2) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس.

الصفحة 97

الفصل الثالث
خلافة عثمان

ولادة الدولة الأموية

يذكر المؤرخون أن أبا سفيان قال لابن عشيرته عثمان بن عفان بعد انعقاد البيعة له: (يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة) (1). وأبو سفيان الذي لا يريد أن يصرح بحلفه باللات والعزى يعبر بقوله هذا عن طبيعة التفكير القبلي والجاهلي الذي تطبع على أساسه وشاب.

والخليفة عثمان - على كل حال - لم يخيب ظنه، حيث بدأ فور تسلمه الخلافة بعزل جميع الولاة الذين عينهم سلفه عمر باستثناء ابن عمه معاوية، واستبدلهم بأقاربه من بني أمية.

ومن ذلك تعيين عثمان لابن عمه مروان بن الحكم معاوناً له، وهو بمثابة منصب وزير الدولة الأول، وعزل سعد بن أبي وقاص من ولاية الكوفة وتوليته عليها بدلاً منه أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثم توليته عليها فيما بعد سعيد بن العاص وهو أحد أقاربه أيضاً. وكذلك عزل أبا موسى الأشعري عن ولاية البصرة وعين مكانه ابن خاله عبد الله بن عامر، وعزل أيضاً عمرو بن العاص من حكومة مصر وولاها لأخيه بالرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وكان معاوية في خلافة عمر قد عهد إليه ولاية دمشق وحدها أو حسب روايات أخرى بعض أعمالها، وعندما جاء عثمان جمع له

____________

(1) المسعودي، مروج الذهب: 2 / 230.

الصفحة 98
ولاية بلاد الشام كلها، حيث كانت هذه المنطقة من الناحية العسكرية أهم مناطق الدولة الإسلامية، لأنها كانت بمثابة السد العازل، بمقدور حاكمها أن يعزل الولايات الشرقية عن الغربية، وقد تربع معاوية على سدتها مدة طويلة حتى استقرت جذوره فيها لدرجة جعلته يشعر أن بمقدوره الاستقلال عن العاصمة المركزية، بل ومحاربتها كما حصل فعلاً زمان خلافة علي.

وبهذه التعيينات يكون عثمان قد وضع البذور لدولة أموية، أو كما وصف العلامة أبو الأعلى المودودي بأن عهد عثمان كان بداية التحول من الخلافة الراشدة إلى الملك، وأنه لم تكن هناك حجة كافية لأن تخضع الدولة كلها من خراسان شرقاً إلى شمال إفريقيا غرباً لحكام من بيت واحد (1).

وفي شرحه لتركيبة العائلة الأموية، يقول المودودي: (إن أفراد هذه العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعاً من الطلقاء. والمراد بالطلقاء تلك البيوت المكية التي ظلت إلى آخر وقت معادية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللدولة الإسلامية، فعفا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم بعد فتح مكة ودخلوا في الإسلام.

ومعاوية، والوليد بن عقبة، ومروان بن الحكم كانوا من تلك البيوت التي أعطيت الأمان وعفا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم. أما عبد الله بن أبي سرح فقد ارتد بعد إسلامه، وكان واحداً من الذين أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم حتى ولو وجدوا تحت أستار الكعبة. وبالطبع ما من أحد يقبل أن يعزل السابقون الأولون الذين خاطروا بأرواحهم في سبيل رفعة الإسلام فارتفع لواء الدين بتضحياتهم، وأن يحكم الأمة بدلاً منهم مثل هؤلاء الناس الذين لم يكونوا يصلحون لتولي زعامة المسلمين... وهم يقفون في آخر صفوف الصحابة والتابعين لا في أولها) (2).

____________

(1) المودودي، الخلافة والملك (تعريب أحمد إدريس)، ص 65.

(2) المصدر السابق، ص 65 - 66.

الصفحة 99

عثمان وسيرة الشيخين في الحكم

من الواضح أن الخليفة عثمان قد حاد عن سيرة الشيخين والتي عقدت له الخلافة على أساس تعهده بالعمل بها، وذلك بإعطائه لأقاربه المناصب الكبرى، وبإغداقه عليهم الأموال من بيت مال المسلمين، وبخصهم بامتيازات أخرى اعترض الناس عليها. ويضرب المودودي مثالاً لفداحة ما صنعه عثمان في هذا الأمر: (ولنأخذ وضع مروان بن الحكم مثالاً: فقد أسلم أبوه الحكم بن العاص عم سيدنا عثمان (رض) في فتح مكة، ثم قدم المدينة واستقر بها، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه منها - بعد أن بدت منه بعض الأمور - وأمره بالإقامة في الطائف. وقد ذكر ابن عبد البر في الإستيعاب أن من أسباب ذلك أن الحكم بن العاص كان يفشي المشاورات التي كانت تتم سراً بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأكابر الصحابة والتي كان يسمعها بطريقة أو بأخرى وثاني الأسباب أنه كان يقلد الرسول حتى رآه ذات مرة وهو يفعل ذلك. وعلى أي حال، فلا بد أنه ارتكب ذنباً كبيراً أصدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أساسه أمراً بإخراجه من المدينة، وكان مروان وقتئذ في الثامنة من عمره فسكن الطائف مع أبيه، ولما تولى الخلافة كل من أبي بكر وعمر كان يلتمس في كل مرة منهما السماح بالعودة إلى المدينة ورفضا. ولما تولى عثمان (رض) الخلافة أعاده المدينة... فكان صعباً على الناس أن يصدقوا أن ابن هذا الشخص الذي أخطأ في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون أهلاً لأن يصبح معاون الخليفة من دون أكابر الصحابة (رضوان الله عليهم)، خاصة إذا كان الوالد المذنب على قيد الحياة وله قدر من النفوذ على أمور الدولة عن طريق ابنه) (1). وبقي الحكم بن العاص حياً حتى آخر عهد عثمان وتوفي سنة 32 هجرية.

____________

(1) المودودي: الخلافة والملك، (تقريب أحمد إدريس)، ص 66 - 67.

الصفحة 100
وهكذا كان، فقد استغل مروان بن الحكم منصبه كمعاون للخليفة ومستشاره الأول في ارتكاب الأعمال الفاسدة، واختلاس الأموال، وتهديد الصحابة الكبار بكلمات لم يكن يتحمل سماعها من لسان الطلقاء، حتى أن نائلة نصحت الخليفة (وهي زوجته) قائلة: (فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة) (1). إلا أن الخليفة عثمان أصغى إلى نصيحتها هذه على ما يبدو بإعطائه لمروان (500 خمسمئة ألف دينار)، وهي قيمة خمس غنائم إفريقيا!

إيذاء خيرة الصحابة

لم تكن اعتراضات الناس ونقمتهم على الخليفة لمجرد إسناده أهم مناصب الدولة لأقاربه، والإغداق عليهم من بيت مال المسلمين، وإنما أيضاً للانتهاكات الخطيرة في تعاليم الإسلام وآدابه، والمظالم التي ارتكبت بحق خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا سيما أبي ذر الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وإليك قصة ما حدث لكل واحد منهم:

1 - أبو ذر الغفاري

وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر) (2)، ولكنه لاقى النفي إلى الشام لاعتراضه على الخليفة عثمان في مسألة توزيع الأموال وتبذيرها على أقاربه، ثم لاقى النفي مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى البادية في قرية تدعى (الربذة) خارج المدينة عقاباً له من الخليفة لاعتراضه على والي الشام معاوية بن أبي سفيان لاكتنازه الأموال وتبذيرها على حساب بيت مال المسلمين.

ويروي زيد بن وهبة هذه الحادثة قائلاً: (مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر الغفاري (رض) فقلت له: ما أنزلك منزلك هكذا؟ قال: كنت بالشام

____________

(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 296، البداية والنهاية ج 7 ص 172.

(2) أسير، هل قوت أبا ذر 4، ص 90.

الصفحة 101
فاختلفت أنا ومعاوية في الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة وينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) [ التوبة / 34 ]. قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان: أن أقدم المدينة فقدمتها) (1).

وكانت شكوى معاوية إلى الخليفة أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام، حتى تعالت كلماته على لسان الناس في البيوت والطرقات: (بشر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة) (2).

2 - عبد الله بن مسعود

وهو الذي كان صاحب بيت المال في الكوفة، وقد كان يعترض على والي الخليفة عثمان الوليد بن عقبة - وهو أخوه لأمه - بسبب عدم إرجاعه المال الذي يستدينه من بيت مال المسلمين، ولكثرة إدمانه الخمر، حتى أنه صلى الصبح بالناس أربع ركعات وهو سكران، ثم التفت إلى الناس وقال:

أزيدكم؟

ولكن عبد الله بن مسعود هو الذي عوقب أولاً من الخليفة لاعتراضه على الوليد حيث قال له عثمان: (إنما أنت خازن لنا) (3) ثم أمر غلمانه بضربه حتى لاقى كسراً في أضلاعه. وبعد كثرة تذمر الناس من تصرف الخليفة هذا، أمر بإقامة الحد على الوليد (4).

ومما يجدر ذكره أن الوليد بن عقبة كان من الذين أسلموا بعد فتح مكة، وكلفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مرة بجباية صدقات بني المصطلق، إلا أنه بعد أن

____________

(1) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، ج 2 ص 278.

(2) خالد محمد خالد، رجال حول الرسول، ص 79.

(3) تاريخ الطبري ج 5 ص 134.

(4) صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب حد الخمر. الخلافة والملك للمودودي ص 67 - 68.

الصفحة 102
وصل حدود المنطقة التي تسكنها هذه القبيلة خاف لسبب ما ورجع إلى المدينة، وكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول أن بني المصطلق رفضوا دفع الزكاة وأرادوا قتله، فغضب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأرسل إليهم جيشاً لقتالهم، وكادت أن تقع واقعة كبرى لولا أن رؤساء بني المصطلق علموا بالأمر وجاءوا إلى المدينة ليخبروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يأتهم أحد لجباية الزكاة، فنزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [ الحجرات / 6 ]، عندما أصبح عثمان خليفة، عزل عن ولاية الكوفة سعد بن أبي وقاص بطل القادسية، وعين بدلاً منه هذا الفاسق.

3 - عمار بن ياسر

وهو الذي قام بالصلاة على عبد الله بن مسعود ودفنه دون إعلام الخليفة بذلك بناء على وصية من ابن مسعود حتى لا يصلي عليه لما لقيه منه من أذى (1). وكان هذا العمل مما أغضب الخليفة، إلا أن تصرف عمار الذي أثار حفيظة عثمان ضده وجعله يعاقبه عليه أشد العقاب هو - كما يروي ابن قتيبة - تجرؤه بحمل كتاب احتجاج ضد الخليفة وأقاربه كتبه عشرة من الصحابة من ضمنهم المقداد، وذكروا فيه مخالفات عثمان لسنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم وسنة صاحبيه (أبي بكر وعمر) وما كان من هبته لخمس خراج إفريقيا لمروان وفيه حق الله ورسوله، ومنهم ذوو القرابة واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة لأهله وبناته، وبنيان مروان القصور، وما كان من الوليد في الكوفة إذ صلى بالناس الصبح أربعة وهو سكران وتعطيله ثم تأخيره الحد عليه، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شئ ولا يستشيرهم، وضربه ظهور الناس بالسياط وغير ذلك

____________

(1) تاريخ اليعقوبي، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

الصفحة 103
مما كتب في ذلك الكتاب الاحتجاجي والذي قام عمار بتقديمه إلى الخليفة.

فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من ورائه. فقال عثمان لغلمانه: اضربوه! فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه وغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأدخل منزلها، وغضب له بنو المغيرة وكان حليفهم، وغضب له أيضاً علي عليه السلام وكبار الصحابة، حتى أن علياً قال لعثمان: (... فأنا أقول كما قال العبد الصالح (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) [ يوسف / 18 ].. إلى آخر الرواية) (1).

وغضبت له عائشة أيضاً، فكانت تحمل قميص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: (هذا قميص النبي لم يبل وقد أبليت سنته) إلى أن قالت: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر) (2).

كيف كان مقتل الخليفة؟

مع كل تلك الممارسات التي قام بها عثمان وأقاربه بانتهاك كل الشرائع والسنن، فقد كان فضلاء الصحابة يحاولون نصح الخليفة، ولكن دون جدوى، وكانت تأتيه الوفود من الأقاليم تحمل معها رسائل احتجاج ومطالبات معينة، فكانت ترفض بشدة في كل مرة، ولا يعطي الخليفة لها أية قيمة أو انتباه.

فلم يكن مستغرباً بعد كل ذلك أن تثور ثورة الثائرين، والذين تزعم حركتهم أناس من مصر، والكوفة، والبصرة، حيث تبادلوا الاتصالات فيما بينهم سراً، حتى توجهوا بعدد يزيد على الألفين، وحاصروا الخليفة لمدة أربعين يوما، وطالبوا بعزله. إلا أن عثمان رفض التفاوض معهم. وعند

____________

(1) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة ج 1 ص 50 - 51.

(2) تاريخ الطبري ج 5 ص 172، تاريخ ابن الأثير، ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 / 66.

الصفحة 104
اشتداد الحصار عليه، قام باستشارة عبد الله بن عمر بالأمر (وكأن فكرة التنازل قد بدأت تراوح في ذهنه) فأشار عليه ابن عمر بالبقاء في الحكم قائلاً: (لا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام، كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه) (1). وبعد ذلك اقتحم الثوار القصر وقتلوا الخليفة، وبقي جسده مسجى على الأرض لثلاثة أيام دون أن يدفن.

____________

(1) ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 3 ص 66.

الصفحة 105

الفصل الرابع
خلافة علي

مبايعة الإمام

بعد مقتل الخليفة عثمان، توجهت أنظار الناس إلى الإمام علي عليه السلام وطلبوا مبايعته، أو كما يقول المودودي: (تقول الروايات الصحيحة كلها إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم من أهل المدينة راحوا إليه، وقالوا له إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك) (1).

ولكن الإمام علي عليه السلام رفض عليهم ذلك، لا لأنه لم يجد في نفسه القدرة على تحمل تبعات الخلافة، بل لأنه (رأى المجتمع الإسلامي قد تردى في هوة من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والتي زادت عمقا واتساعاً بسبب سياسة ولاة عثمان خلال مدة الخلافة، ورأى أن التوجيهات الإسلامية ومفاهيمها العظيمة التي عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياته على إرساء أصولها في المجتمع الإسلامي الناشئ قد فقدت فاعليتها في توجيه حياة الناس، وإنما صار الناس إلى واقعهم هذا لأنهم فقدوا الثقة بالقوة الحاكمة التي تهيمن عليهم).

ويفهم أيضاً أن سبب رفض الإمام عليه السلام قبوله الفوري لطلبهم هو لاختبارهم وكشف مدى استعدادهم لتحمل المنهج الإسلامي الصحيح في الحكم، حيث خاطبهم قائلاً: (دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له

____________

(1) أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، ص 75

الصفحة 106
وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم) (1). وعندما أصر الناس بمطالبتهم، استجاب لهم الإمام عليه السلام وتمت له البيعة، والتي اعترفت بها جميع الولايات الإسلامية باستثناء ولاية الشام.

منهج الإمام وسياسته في الحكم

حينما تولى الإمام علي عليه السلام أمور المسلمين، فإنه ورث من سلفه عثمان صعوبات كثيرة، وواقعاً في غاية الفساد والانحراف، لا سيما انشقاق معاوية عن الدولة الإسلامية وتفرده بالشام، الأمر الذي شق المجتمع الإسلامي إلى شقين، في كل منهما كيان لا يعترف بالآخر. وقد سارع الإمام إلى إعلان منهجه وسياسته إلى الناس منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم وبين لهم: (إن المسألة بالنسبة إليه ليست تبديل شخص بشخص آخر، وليست مسألة فارق اسمي بين زعيم الأمس وزعيم اليوم، وإنما المسألة اختلاف شامل للمنهج، وفي كل القضايا المطروحة) (2).

ومن هذه القضايا، إلغاء مبدأ التفاضل في العطاء وإعلان مبدأ المساواة بين المسلمين، واعتبارهم سواء في الحقوق والواجبات، وهو يقول: (الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه) (3). ويقول في كتابه لمالك الأشتر عندما عينه والياً على مصر: (إنصف الله وانصف الناس في نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من

____________

(1) الأديب، دور أئمة البيت في الحياة السياسة، ص 86.

(2) نهج البلاغة، ج 1، ص 59.

(3) نهج البلاغة، ج 1 ص 217.

الصفحة 107
رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده... وليكن أحب الأمور أوسطها في الحق وأعمها في العدل) (1).

وبشأن سياسته عليه السلام في توزيع المال يقول: (وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أمره، ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شئ) (2). وبهذه الإجراءات فقد صادر الإمام عليه السلام جميع ما وهبه عثمان من الأموال العظيمة لطبقة الإرستقراطيين، وألغى كذلك كل أشكال التمييز في توزيع المال على الناس مؤكداً أن التقوى والسابقية في الإسلام، وهي الأسس التي كان يعتمدها الخليفة عمر في توزيع العطاء أمور لا تمنح أصحابها امتيازات في الدنيا، فالله يتولى جزاءه، أما في هذه الدنيا فالناس سواسية في الواجبات والحقوق (3) ويقول الإمام عليه السلام في ذلك: (وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى أن الفضل له على سواه لصحبته، فإن الفضل النير غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله) (4).

وعلى الصعيد الإداري والسياسي، فقد قام الإمام عليه السلام بعزل الولاة الذين عهد إليهم عثمان ولاية الأقاليم الإسلامية. وبين أسباب عزلهم بقوله:

(ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإن فيهم من شرب فيكم الحرام، وجلد حداً في الإسلام، وإن منهم من لم يسلم حتى رضخت له على الإسلام الرضائخ) (5). وكما يوضح الشهيد الصدر: (فإن الإمام

____________

(1) المصدر السابق، ص 438.

(2) المصدر السابق، ص 59.

(3) الأديب، دور أئمة أهل البيت في الحياة السياسة، ص 89 - 90.

(4) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، ج 1 ص 269. (5) نهج البلاغة ج 1 ص 59.

الصفحة 108
علياً عليه السلام لو كان قد أمضى هذه الأجهزة الفاسدة التي خلفها عثمان من قبله، فليس من المعقول بمقتضى طبيعة الأشياء أن يستطيع أن يمارس عملية التغيير الحقيقي في هذه التجربة التي يتزعمها) (1).

وأمام هذا الواقع الجديد الذي أراد الإمام عليه السلام إجراءه، فإنه ولدوافع متعددة لم يرق لبعض الناس هذه التغييرات، ولا رؤية الإمام علي في سدة الحكم، فقاموا ضده وأثاروا الفتن وسيروا الجيوش معلنين العصيان والتمرد وحتى أولئك الذين وقفوا موقف الحياد كان لهم دورا كبير في تفاقم الأوضاع وسلبيتها حيث يصف العلامة المودودي موقفهم بقوله: (إن وقوف بعض أكابر الصحابة موقف الحياد في بيعة علي (رضي الله عنه) قد ساعد على تفاقم الفتنة التي أرادوا درأها (ومن هؤلاء الصحابة: عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة الأنصاري، وغيرهم) ممن كان له نفوذا كبير، فبعث حيادهم وانعزالهم الشك والارتياب في قلوب الناس، في حين كان على الأمة أن تتعاون مع سيدنا علي لإعادة أمن وسلام نظام الخلافة الراشدة) (2).

وسترى فيما يلي تفصيلاً لحوادث العصيان والتمرد التي سيرت ضد خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإمام المسلمين.

خروج عائشة وموقعة الجمل

عندما علمت عائشة بمقتل عثمان ومبايعة الناس للإمام علي عليه السلام، قالت لعبد الله بن أم كلاب (والله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك، ردوني ردوني، فانصرف إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه، فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟ فوالله إن فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت! ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، قالت: إنهم

____________

(1) تقديم كتاب (تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة) للدكتور عبد الله فياض.

(2) المودودي: الخلافة والملك، م. س.

الصفحة 109
استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب:

فمنك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعاناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر... إلخ

فانصرف إلى مكة، فنزلت على باب المسجد، فقصدت للحجر، فسيرت واجتمع إليها الناس، فقالت: يا أيها الناس، إن عثمان قتل مظلوماً، ووالله لأطلبن بدمه (1). وقد وقف إلى جانب عائشة كل من طلحة والزبير، وكان الإمام قد استرد منهما ولايتي اليمن والبحرين، ورفض إعطاءهما ولايتي البصرة والكوفة كما رغبا، فنكثا عهديهما مع الإمام وادعا أنهما كانا قد أكرها على مبايعته، وذهبا إلى مكة يحثان أم المؤمنين عائشة على محاربته بحجة المطالبة بدم عثمان والاقتصاص من قاتليه الذين زعم أنهم قد اندسوا في جيش الإمام علي عليه السلام وما شجع أم المؤمنين على الاستجابة لحثهما هو علمها بخبر رفض معاوية وأهل الشام مبايعة علي، وكذلك وصول عبد الله بن عامر الذي كان آخر وال لعثمان على البصرة، ودعوته لها بالتوجه إلى البصرة ووعده إياها هناك بالمساندة بالمال والرجال.

فأمرت عائشة بعمل هودج لها من حديد، وخرجت متوجهة إلى البصرة ومعها الزبير، وطلحة، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، وأتباعهم من بني أمية وعلى رأسهم مروان بن الحكم والذي كان هارباً من المدينة بعد أن علم أن الإمام علياً عليه السلام يطلبه (2). وحاولت عائشة أن تقنع أمهات المؤمنين بمرافقتها إلى البصرة، ولم يوافقها إلى ذلك سوى حفصة إلا أن أخاها

____________

(1) تاريخ الطبري، دار المعارف، ط 5، القاهرة، ج 4 ص 459.

(2) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 70 - 72.

الصفحة 110
عبد الله بن عمر المحايد منعها من الذهاب. وأما أم سلمة فقد نصحت عائشة بعدم الخروج.

ويذكر ابن قتيبة أنه عند وصول موكب أم المؤمنين إلى البصرة، اصطف لهم الناس بالطريق وهم يتساءلون: ما الذي أخرج أم المؤمنين من بيتها؟

فقامت عائشة وقالت في خطبة لها: (أيها الناس، والله ما بلغ من ذنب عثمان أن يستحل دمه، ولقد قتل مظلوماً. غضبنا لكم من السوط والعصا (تقصد سوط عثمان وغلمانه) ولا نغضب لعثمان من القتل؟ وإن من الرأي أن تنظروا إلى قتلة عثمان فيقتلوا به، ثم يرد هذا الأمر شورى على ما جعله عمر بن الخطاب). فمن قائل يقول: صدقت، وآخر يقول: كذبت (1).

وعندما بدأت تظهر ملامح الاقتتال، تعاهد والي الإمام على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري مع أم المؤمنين وجيشها على صلح مؤقت لغاية قدوم علي عليه السلام. وقد تعاهدا على أن يحتفظ عثمان بدار الإمارة ومسجدها وبيت المال، وأن ينزل القادمون من مكة حيث شاؤوا عدا هذه الأماكن.

ولم تمض أيام قليلة على هذه المعاهدة حتى أتى طلحة، والزبير، ومروان بن الحكم بجماعة منهم دار الإمارة في منتصف الليل، وقتلوا أربعين من الحرس، ثم أسروا عثمان وقتلوا معاونيه، وحتى أن مروان قام بتعذيب عثمان ونتف لحيته ورأسه وحاجبيه (2). وكان هذا التصرف إيذاناً بإعلانهم الحرب وقد عبأوا جيشهم انتظاراً لوصول الإمام علي عليه السلام.

ولكن الإمام في ذلك الحين كان يعد العدة للتوجه إلى الشام وقمع تمرد معاوية الذي أعلن نفسه خليف هناك. ثم اضطر إلى العدول عن هذا المخطط لدى علمه بما حصل لواليه على البصرة، وقرر التوجه إلى العراق بجيش لردع المعتدين هناك. وكان من بين أفراد جيشه

____________

(1) المصدر السابق، ص 87 - 88.

(2) المصدر السابق، ص 88 - 89.

الصفحة 111
المعتدين هناك. وكان من بين أفراد جيشه خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعمار بن ياسر، وعبد الله بن عباس ومحمد بن أبي بكر، وأخيه عبد الرحمن وغيرهم.

وقد حاول الإمام عليه السلام لدى وصوله البصرة إقناع المتمردين بالعدول عن مخططهم، فبدأ بالزبير بن العوام حيث خرج إليه علي حاسراً على بغلة رسول الله لا سلاح معه، فنادى: يا زبير أخرج إلي، فخرج إليه الزبير شاكاً في سلاحه، فقيل ذلك لعائشة، فقالت: واثكلك يا أسماء (وهي أختها وزوج الزبير)، فقيل لها: إن علياً حاسر، فاطمأنت، واعتنق كل واحد منهما صاحبه. فقال علي: ويحك يا زبير، ما الذي أخرجك، قال: دم عثمان، قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، أتذكر يوم لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...

فضحك إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وضحكت إليه، وأنت معه، فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع علي زهوه، فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟ فقلت:

إني والله لأحبه، فقال لك: إنك والله ستقاتله وأنت ظالم له، فقال الزبير:

أستغفر الله، والله لو ذكرتها ما خرجت، فقال له: يا زبير، إرجع. فقال الزبير:

كيف أرجع الآن وقد التفت حلقتا البطان؟ هذا والله العار الذي لا يغسل، فقال: يا زبير إرجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار، فرجع الزبير وهو يقول:

اخترت عاراً على نار مؤججة * ما إن يقوم لها خلق من الطين
نادى علي بأمر لست أجهله * عار لعمرك في الدنيا وفي الدين (1)

وأثناء انسحابه مبتعداً عن ساحة القتال، لحق به عمرو بن جرموز، وهو من أنصار أم المؤمنين وقتله (2).

وبعد تراجع الزبير، نادى علي طلحة، وقال له: يا أبا محمد، ما الذي أخرجك؟ فقال: الطلب بدم عثمان، قال علي: قتل الله أولانا بدم عثمان، يا

____________

(1) مروج الذهب، ج 2 ص 400 - 402.

(2) ابن قتيبة الدينوري، الإسلامية والسياسة، ج 2 ص 95.

الصفحة 112
طلحة أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، وأنت أول من بايعني، ثم نكثت، وقد قال الله عز وجل: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) [ الفتح / 10 ]، فقال طلحة: أستغفر الله ثم رجع.

وعندما رأى مروان بن الحكم ذلك وهو حليفه، قال: رجع الزبير ويرجع طلحة، ما أبالي رميت ههنا أم ههنا، فرماه في أكحله بسهم فقتله، وقال طلحة وهو يجود بنفسه:

ندمت ما ندمت وضل حلمي * ولهفي ثم لهف أبي وأمي
ندمت ندامة الكسعي لما * طلبت رضى بني جرم بزعمي

وقد التحم الجيشان بعد فشل مساعي الإمام في موقعة ساخنة، كان النصر فيها حليف علي، وقتل فيها ثلاثة عشر ألفاً من الطرفين، وأسرت عائشة، فجهز لها الإمام موكباً يؤمن رجوعها سالمة إلى المدينة. وأسر كذلك مروان بن الحكم وبعض رؤوس بني أمية، وعفا عنهم الإمام بعد أن طلبوا الصفح منه وبايعوه. وقد تمكن عبد الله بن الزبير من الهرب عندما لاحت تباشير النصر لجيش الإمام، وأما محمد بن طلحة فقد قتل أثناء المعركة، وكانا من أشد المحرضين على قتال الإمام حتى اللحظات الأخيرة.

وقد عرفت هذه الحادثة بموقعة الجمل، لاتخاذ عائشة جملاً قوياً جعلت عليه هودجها الفاخر، والذي أصبح بمثابة العلم الذي يتقدم الجيوش المحتشدة حوله، وكان صمود هذا الجمل والهودج الذي عليه رمزاً لصمود الجيش بكامله طوال المعركة. وقد كان انتهاء المعركة عندما ضرب الجمل، وأسر الهودج.

وبعد انقضاء هذه المعركة، وما ولدته من مقتضيات وظروف جديدة، فقد قرر الإمام نقل عاصمة الخلافة الإسلامية من المدينة إلى الكوفة. ومن الأسباب التي شجعته لذلك أيضاً هو موقع الكوفة الجغرافي المتوسط بين البقاع الإسلامية، وقربها من الشام والبصرة، وهما عاصمتا التمرد، بالإضافة