الصفحة 113
إلى طاقتها البشرية المعتبرة، وقدراتها الاقتصادية وغير ذلك من الاعتبارات (الاستراتيجية).

تمرد معاوية وموقعة صفين

كان قميص عثمان الممزق والمخضب بالدماء الوسيلة التي استخدمها ابن عمه معاوية، كما استخدمها أصحاب الجمل من قبله لتأليب الناس وشحنهم لتأييده في محاربة علي والمطالبة بعزله، حيث إن الإمام كان على زعمهم المحرض على قتل عثمان والمدافع عن قاتليه بسماحه لهم بالإندساس في جيشه. وقد بايع أهل الشام معاوية خليفة كما طلب منهم ذلك، بحجة أنه لا يمكن المطالبة بدم عثمان من غير خليفة.

وبعد العديد من المراسلات بين الإمام ومعاوية، ومشاورة كل منهما معاونيه، لم يكن هناك بد من الاقتتال، وقد فشلت كل محاولات الإمام بإصلاح الموقف سلمياً، وكان آخر كلام معاوية لرسل الإمام: (انصرفوا عني، فليس عندي إلا السيف) (1).

وهكذا التحم الجيشان بالقرب من الفرات بمكان يدعى صفين، وبعد أربعين يوماً من القتال، وسقوط عشرات الآلاف قتلى، لاحت تباشير النصر لصالح جيش الإمام وهزيمة أهل الشام، فلجأ معاوية إلى خدعة رفع المصاحف على رؤوس السيوف والرماح كما أشار عليه عمرو بن العاص، وبالتعاون مع جماعة في جيش الإمام أغراهم معاوية بالمال. حيث قام أحد رجال معاوية منادياً بين الجيشين: الله الله في دمائنا ودمائكم المتبقية، بيننا وبينكم كتاب الله، فقام المتآمرون مع معاوية في جيش الإمام بزعامة الأشعث بن قيس مع الذين انطوت عليهم الخدعة، لا سيما ذوي القلوب الضعيفة والذين ملوا القتال بمطالبة علي بضرورة وقف الحرب قائلين: (قد

____________

(1) ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، ص 93.

الصفحة 114
أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فاقبل منه) (1). وبهذا انشق جيش الإمام إلى شقين، وفشلت كل محاولات الإمام بإقناعهم بزيف لعبة المصاحف، مما اضطره إلى قبول التحكيم. وقام الأشعث بن قيس وهو الذي ترأس حركة المؤيدين للتحكيم في جيش الإمام بترشيح أبي موسى الأشعري ليكون ممثلاً عن معسكر الإمام في مفاوضات التحكيم، ولكن الإمام عارض ذلك قائلاً: (إن موسى ضعيف عن عمرو [ وهو ممثل معسكر الأمويين ] ومكائده... وإنه ليس بثقة، وقد فارقني وخذل الناس عني يوم الجمل ] (2).

وكان الإمام أيضاً قد عزله قبل ذلك عن ولاية الكوفة بعد تسلمه مهام الخلافة. ومع إصرار الأشعث وجماعته عليه، ورفضهم رأي الإمام بإسناد مهمة تمثيل معسكر الإمام في التفاوض إلى عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر، لم يجد الإمام مناصاً من القبول واحتساب الأمر إلى الله قائلاً: فاصنعوا ما أردتم. ثم وقع الفريقان وثيقة التحكيم الأولية تعهدا بها التوقف عن القتال لغاية ظهور نتيجة التحكيم.

وقد اجتمع الحكمان بعد هذه الموقعة بثمانية شهور في دومة الجندل ومع كل منهما أربعمئة من صحبه. وبعد أيام من المفاوضات قبل عمرو بن العاص اقتراح أبي موسى الأشعري بخلع كل من علي ومعاوية، وتعيين عبد الله بن عمر - والذي لم يكن حاضراً آنذاك - إماماً للأمة بدلاً منهما (!) ثم قاما ليعلنا للحضور نتيجة التحكيم، فبدأ أبو موسى الأشعري، وهو صهر عبد الله بن عمر قائلاً: (إن هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإني رأيت وعمرو أن نخلع علياً ومعاوية، ونجعلها لعبد الله بن عمر، فإنه لم يبسط في هذه الحرب يداً ولا لساناً).

ثم قام ابن العاص خاطباً: (أيها الناس، هذا أبو موسى شيخ المسلمين، وحكم أهل العراق، ومن لا يبيع الدين بالدنيا، قد خلع علياً وأنا

____________

(1) ابن قتيبة الدينوري، الإمامية والسياسة، ج 1 ص 135.

(2) ابن الجوزي، تذكره الخواص، ص 79.

الصفحة 115
أثبت معاوية)، فاختلط الناس، وعمت الفوضى، وتشاتم الحكمان بأخس الكلمات. ثم انصرف عمرو ومن معه إلى معاوية بالشام، ولحق أبو موسى بمكة، ورجع من كان بصحبته إلى الكوفة (1). ويقول المودودي في تعليقه على مجمل أحداث صفين: (وتصرف سيدنا علي عليه السلام وما سلكه في هذه الحرب يظهر الفرق بين خليفة راشد وملك من الملوك) (2).

الخوارج وتفكك جيش الإمام

ظهر أثناء عودة جيش الإمام من موقعة صفين مجموعة من المقاتلين ندموا على التحكيم الذي كانوا قد أرادوه وأصروا عليه، وتبين لهم أن ذلك كان خطأ وذنباً عظيماً لا يمحوه إلا العودة إلى القتال، فذهبوا إلى الإمام يطلبون منه ذلك ونقض وثيقة التحكيم، ولكنه أجابهم: (قد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً، وشرطنا شروطاً، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا) فانشقوا عن جيش الإمام، واستقروا عند قرية الحرورية قرب الكوفة، واعتبروا أن التحكيم مخالف لكتاب الله، وأن كل من لم يتب عن قبوله يعد كافراً.

وعندما أصر الإمام على رفض مقولتهم هذه والرجوع إلى القتال عزموا على مقاتلته، وولوا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، ثم انتقلوا إلى مكان يعرف بجسر النهروان، وجعلوه مركزاً لدعوتهم وتحركهم. وقد عرفت هذه المجموعة باسم الخوارج، وهم الذين تنبأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بظهورهم حيث وصفهم قائلاً: (قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم)، وأطلق عليهم لقب الجباه السود لكثرة سجودهم) (3).

____________

(1) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 157.

(2) المودودي، الخلافة والملك، ص 82.

(3) الحسني، سيرة الرسول وخلفائه، ج 7 ص 196.

الصفحة 116
ولما علم الإمام بما حصل في دومة الجندل بين الحكمين، أصبح في حل من وثيقة التحكيم، وقرر استئناف القتال ضد متمردي الشام، فأرسل إلى الخوارج: (أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضيناهما حكمين قد خالفا كتاب الله واتبعا هواهما بغير هدى من الله، فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا، فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام).

فكتبوا إليه: (أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نبذناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين). فلما قرأ الإمام كتابهم أيس منهم، ورأى أن يتركهم ويمضي بجيشه حتى يلقى أهل الشام (1).

ولكن الخوارج أخذوا يعترضون الناس في الطرقات، ويفعلون بهم الأفعال المنكرة، كنهب من يخالفهم والتشنيع بجثته، فاضطر الإمام أن يغير وجهة سيره، ومواجهة هذه العصابة المنشقة المفسدة في الأرض أولاً. فسار إليهم بجيشه ووعظهم أولاً، ودعاهم إلى العودة والتوبة، ولكنهم أصروا على تشددهم وعنادهم، فقاتلهم الإمام وألحق بهم شر هزيمة. ويروي المسعودي في (مروج الذهب) أنه قتل من أصحاب علي يوم النهروان تسعة نفر، ولم يفلت من الخوارج إلا عشرة بعد أن كان عددهم عند بدء القتال أربعة آلاف (2).

وبعد أن انتهى الإمام من الخوارج، أراد أن يواصل سيره من النهروان نحو الشام، ولكن غالبية أفراد جيشه أبوا عليه ذلك، متذرعين بالقول: (يا أمير المؤمنين، نفذت نبالنا وكلت أذرعنا وتقطعت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا، فارجع بنا نحسن عدتنا). وكان الإمام يدرك كل هذه الضرورات، ولكنه كان يدرك أيضاً أن معنويات جيشه في تنازل، سيفضلون الراحة، في

____________

(1) المصدر السابق، ص 202 - 203.

(2) المصدر السابق، ص 222.

الصفحة 117
حالة عودتهم إلى الكوفة، فأراد أن يسير بهم مباشرة إلى الشام وهم في عدة القتال وعزيمة الحرب. وعندما أصروا على موقفهم بالعودة إلى الكوفة، نزل بهم الإمام في معسكر قرب الكوفة، وأمرهم أن يلزموا معسكرهم ويوطنوا أنفسهم على الجهاد، وأن يقللوا من زيارة بيوتهم حتى يسيروا إلى عدوهم من أهل الشام وهم بعزيمة وقوة، ولكنهم لم يصبروا على هذه الحال سوى أيام معدودات، وبدأوا يرجعون ويتسللون إلى الكوفة، حتى تركوا الإمام ومن معه إلا نفر قليل من رجاله المخلصين، فلما رأى الإمام ذلك، رجع بمن تبقى معه إلى الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير، وحاول الإمام بعد ذلك استنهاض روح الغيرة والحمية فيهم، ولكنهم تقاعسوا وكرهوا الخروج إلى الحرب (1).

غارات معاوية على الولايات الإسلامية

استغل معاوية حالة التفكك التي أصابت معسكر الإمام في العراق، وأخذ يتطلع لتوسيع رقعة إمارته، فبدأ يرسل الجيوش إلى مختلف الولايات الخاضعة لخلافة الإمام علي عليه السلام للإغارة عليها. وكانت ولاية مصر من أهم ما كان يطمح إليه معاوية لكثرة خراجها، فأرسل إليها عمرو بن العاص بجيش كبير، وتمكن من احتلالها، وقتل واليها محمد بن أبي بكر، والتمثيل فيه. ويروي المؤرخون أن عمرو بن العاص ومعاونه معاوية بن خديج وآخرين أخذوا محمد بن أبي بكر بعد إصابته وجعلوه في جوف حمار ميت وأحرقوه بالنار وهو لا يزال حياً (2).

وكان الإمام قبل وصوله خبر مقتل محمد بن أبي بكر قد أرسل مالك الأشتر بجيش إلى مصر للدفاع عنها واستلام ولايتها، ولكن معاوية بن أبي

____________

(1) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة ج 1 ص 170 (بتوصيف).

(2) المسعودي، مروج الذهب، ج 2 ص 420.

الصفحة 118
سفيان أبرق إلى أحد رجاله بالعريش بأن يغتال مالك الأشتر قبل أن يصل إلى مصر. وهكذا حصل، فعند مرور مالك الأشتر بالعريش دعاه رئيس هذه المنطقة التابعة لمعاوية وتحايل عليه وقتله بالسم (1).

ومن هذه الغارات أيضاً التي كان يشنها رجال معاوية على المناطق الموالية للإمام علي عليه السلام غارة النعمان بن بشير على عين التمر وهي قرية قريبة من الأنبار غربي الكوفة (2)، وغارة الضحاك بن قيس الفهري على بعض القرى في الطريق بين مكة والكوفة، وقد أرسل لهم الإمام حجر بن عدي بجيش وهزمهم. وغارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار غربي العراق، حيث قام جنود معاوية بقتل عامل الإمام على هذه المنطقة أشرس بن حسان البكري، وأمعنوا في النهب وقتل السكان الآمنين (3).

وكانت أبشع هذه الغارات هي تلك التي شنها بسر بن أرطأة العامري، وهو أشد المخلصين لبني أمية والمعروف بالفظاظة والقسوة إلى أبشع الحدود، وأغار بجيش كبير على الحجاز واليمن حيث أعمل فيها المجازر الوحشية، ونهب الأموال، وهدم البيوت، لأن أهاليها رفضوا إعطاء الطاعة والولاء لمعاوية، وأرغم أهل المدينة المنورة والتي كانت بعهدة أبي أيوب الأنصاري على مبايعة معاوية، واستخلف عليهم أبا هريرة - المعروف بكثرة روايته للحديث والولاء لبني أمية - بعد أن قتل فيها أناساً كثيرين من الموالين للإمام عليه السلام. وهكذا فعل في مكة ونجران. وفي همدان أقدم على سبي النساء وبيعهن في السوق وكان يأمر بكشف سوقهن فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتريت على عظم ساقها. وفي اليمن، ارتكب أفظع الجرائم، وقتل فيها خلقاً كثيراً من ضمنهم طفلي عبيد الله بن العباس عامل الإمام علي عليه السلام على

____________

(1) المصدر نفسه.

(2) علي فضل الله الحسني، سيرة الرسول وخلفائه، ج 7 ص 291.

(3) المصدر السابق، ص 302.

الصفحة 119
اليمن، ويروى أنه ونظراً للطريقة الوحشية التي قتل فيها الطفلان فإن أمهما التي رأت ذلك أصابها الجنون وهامت على وجهها في الجبال والوديان.

وعندما وصل الإمام خبر هذه المجازر، أمر بتجهيز جيش فتثاقلوا، حتى أجابه إلى ذلك جارية بن قدامة السعدي، فبعثه الإمام في سرية من ألفي رجل، فتعقب رجال ابن أرطأة حتى أخرجهم من جميع تلك المناطق التي عاثوا فيها الفساد (1).

آخر أيام الإمام واستشهاده

ظل الإمام يحاول جاهداً تجهيز جيش يسير به لإخماد التمرد والفساد في وكره بالشام، إلا أن أهل العراق قد بدا منهم الضعف والتقاعس عن نصرته، وعندما يئس من استنهاض هممهم، ولم يجد معهم حثه لهم على الجهاد في سبيل الله، قام وخطب فيهم خطبة طويلة تفيض بالمرارة والتأسف لما آل إليه حال المسلمين وما سيؤول. ونقتطف من خطبته هذه ما يلي: (أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء...

ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء ليلاً ونهاراً، سراً وإعلاناً، وقلت لكم أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان... فيا عجباً!

عجباً!، - والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم... فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون!... يا أشباه الرجال ولا رجال!... قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً...، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي

____________

(1) مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 30، وانظر كذلك الإستيعاب.

الصفحة 120
طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد لها مراساً، وأقدم فيها مقاماً مني! لقد نهضت فيهم وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع) (1).

وصدق من قال إن الإمام علي علياً عليه السلام عاش في غير زمانه، فكل من يتأمل أقوال الإمام وما صارت إليه الأحداث، يتقين أن الإمام وصل إلى ما وصل إليه نبي الله نوح عليه السلام عندما: (قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً) [ نوح / 5 - 6 ]. وأن استمرار وجوده بينهم لا يزيده إلا آلاماً وقهراً، وكأن الإمام في هذه الأحوال قد انتهت مهمته على وجه الأرض، وحانت ساعة الرحيل عن هذه الدنيا.

وهكذا كان، ففي غضون تلك الأيام كان نفر من الخوارج يجتمعون في مكة ويخططون لقتل الإمام. ويروي المؤرخون هذه القصة كما يلي: حج ناس من الخوارج سنة 39 ه‍، وقد اختلف عامل علي وعامل معاوية فيمن يحج بالناس، فاصطلح الناس على ثالث هو شبيب بن عثمان، فلما انقضى الموسم أقام النفر من الخوارج مجاورين بمكة، فقالوا: كان هذا البيت معظماً في الجاهلية، جليل الشأن في الإسلام، وقد انتهك هؤلاء حرمته، فلو أن قوماً منا شروا أنفسهم لله فقتلوا هذين الرجلين (علي ومعاوية) اللذين قد أفسدا في الأرض، واستحلا حرمة هذا البيت، استراحت الأمة واختار الناس لهم إماماً، فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنة الله: أنا أكفيكم أمر علي، وقال الحجاج بن عبد الله الصريمي وهو البرك: أنا أقتل معاوية، فقال عمرو بن بكر: والله ما عمرو بن العاص بدونهما، فأنا به. فتعاقدوا على ذلك، ثم اعتمروا عمرة رجب، واتفقوا على يوم واحدة يكون فيها وقوع القتل منهم في علي ومعاوية وعمرو (2).

____________

(1) محمد دشتي: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص 21 خطبة رقم (27).

(2) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 179 - 80.

الصفحة 121
وحسب هذا الموعد، قعد ابن ملجم للإمام في مسجد الكوفة حين خروجه لصلاة الصبح، وطعنه في رأسه الشريف أثناء سجوده بسيف مسموم، فأصيب الإمام عليه السلام على أثر ذلك إصابة بالغة أذنت معها ساعة الرحيل إلى الرفيق الأعلى بعد الحادثة بيومين في ليلة الجمعة من الحادي والعشرين من رمضان عام 40 ه‍. وقد أقتص من القاتل اللعين والذي كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وصفه بأشقى الآخرين.

وأما البرك فإنه انطلق إلى الشام، وعندما كان ميعادهم، قعد لمعاوية عند خروجه لصلاة الصبح، وقصد لضربه ولكن معاوية تمكن من الإدبار قليلاً فوقعت الضربة في أسفل إليته، وسببت له جرحاً شفي منه ولم تحدث له ضرراً سوى قطع نسله، فقال: عندي يزيد وعبد الله ما يقر عيني وحسبي بهما، وأمر بقتل البرك (1). وقيل إن معاوية لم يقتله وإنما قطع يده ورجله، وذهب ليقيم بالبصرة وأن ابن زياد والي معاوية هناك هو الذي قام بقتله لما بلغه خبره (2).

وأما الثالث فقصد عمرو بن العاص في مصر، ولما كانت ليلة الميعاد، لم يخرج عمرو لصلاة الصبح لألم في بطنه، فصلى بالناس بدلاً منه ابن حذافة العدوي، فقصده عمرو بن بكر التميمي وقتله ظناً به أنه ابن العاص.

ولما قبض عليه، أخذ إلى عمرو بن العاص وقتله.

____________

(1) المصدر السابق، ص 182.

(2) المسعودي مروج الذهب ج 2 ص 464.

الصفحة 122

الفصل الخامس
خلافة الحسن

عهد الإمام علي عليه السلام قبل استشهاده بالخلافة لابنه الحسن عليه السلام، وبايعه الناس على ذلك. وعند وصول خبر استشهاد الإمام إلى الشام، تحرك معاوية بجيش كبير قوامه 60 ستون ألفاً نحو العراق ليضمه إلى ملكه، ويجبر الإمام الحسن عليه السلام على الاستسلام.

ونظراً لانهيار معنويات جيش الإمام والاضطرابات التي سادت البصرة والكوفة، بالإضافة إلى تهيؤ الرومان بجيش عظيم لحرب المسلمين، الأمر الذي سيجعل من الحرب مع معاوية بنظر الإمام الحسن عليه السلام كارثة على الإسلام والمسلمين، فإنه لم يجد حلاً سوى المصالحة والمسالمة وحقن الدماء. وقد دامت خلافة الحسن عليه السلام لستة شهور فقط.

وكانت أهم بنود الصلح تسليم الخلافة على بلاد المسلمين كلها إلى معاوية على أن يعمل بالكتاب والسنة النبوية، وأن يكون الأمر بعده إلى الحسن عليه السلام، وإن توفي قبل ذلك يكون الأمر للحسين عليه السلام.

ويتعهد معاوية كذلك بوقف الشتائم ضد الإمام علي عليه السلام على المنابر وغيرها، وعدم التعرض للموالين لأهل البيت عليه السلام بالملاحقة والأذى، وأن يبقى ما في بيت مال الكوفة تحت تصرف الحسن عليه السلام.

وبعد توقيع معاهدة الصلح، اجتمع الفريقان في مسجد الكوفة، فسبق معاوية إلى المنبر وخطب: (أما بعد، فإنه لم تختلف أمة بعد نبيها، إلا غلب باطلها حقها، إلا ما كان من هذه الأمة، فإن حقها غلب باطلها (!). ثم ذكر

الصفحة 123
علياً عليه السلام ونال منه، ونال كذلك من الحسن عليه السلام إلى قوله: ألا وإن كل شئ (عهد) أعطيته الحسن تحت قدمي هاتين لا أفي به) (1).

فقام الإمام الحسن عليه السلام وخطب خطبة مطولة رد فيها على معاوية بقوله: (أيها الناس إن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول... وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله (عز وجل) وعلى لسان نبيه، ولم نزل - أهل البيت - مظلومين منذ قبض الله نبيه، فالله بيننا وبين من ظلمنا، وتوثب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفئ، ومنع أمنا ما جعل لها رسول الله، وأقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي، حين فارقهم رسول لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية... فلما خرجت (الخلافة) من معدنها، تنازعتها قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء، أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله: ما ولت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا (يقصد الجاهلية). ثم دار بوجهه إلى معاوية قائلاً: أيها الذاكر علياً، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة. فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً وشرنا قديماً وحديثاً وأقدمنا كفراً ونفاقاً) (2).

ولم يمكث الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة بعد الصلح سوى أيام معدودات، حيث اتجه إلى المدينة واستقر فيها. ويروي المؤرخون أن الله (سبحانه وتعالى) صب على الكوفة بعد خروج آل محمد منها الطاعون الجارف عقوبة عاجلة لها بسبب موقف أهلها المتخاذل من هؤلاء البررة

____________

(1) تاريخ ابن كثير ج 8 ص 131، مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص 70.

(2) راضي آل ياسين، صلح الحسن، ص 287.

الصفحة 124
الميامين، وقد أخذ هذا المرض أرواح آلاف الناس حتى أن والي معاوية على الكوفة المغيرة بن شعبة خرج منها فراراً من المرض، وعندما ظن أن هذا الوباء قد ذهب رجع إلى الكوفة فأصيب بالمرض ومات فيه (1).

واستشهد الإمام الحسن عليه السلام في سنة 49 ه‍ بعد أن دست له زوجته جعدة بنت المنافق المعروف الأشعث بن قيس السم بتحريض من معاوية، وقد وعدها بمئة ألف دينار وبالتزويج من ابنه يزيد. فأوفاها بما وعدها من مال، وأبى عليها التزويج من ابنه قائلاً لها: (أخشى أن تفعلي به كما فعلت بابن رسول الله) (2). وكان ذلك في منتصف خلافة معاوية، وهو الوقت الذي بدأ فيه يخطط بتوريث الخلافة إلى ابنه يزيد. ويروي ابن قتيبة أن معاوية لما أتاه خبر وفاة الحسن عليه السلام أظهر فرحاً وسروراً، حتى سجد وسجد من كان معه (3).

____________

(1) مروج الذهب للمسعودي، ج 2 ص 290.

(2) المصدر السابق، ص 50.

(3) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة، السياسة، ج 1 ص 196.

الصفحة 125

الفصل السادس
خلافة معاوية

وجاء الملك العضوض

وأخيراً صفا الجو لمعاوية بعد مقتل الإمام علي عليه السلام وتسليم الحسن عليه السلام الخلافة إليه، وعندما دخل الكوفة، خطب بالناس هناك معبراً عن حقيقة نواياه تجاه الخلافة والحكم قائلاً: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون) (1). وبشأن ما صالح عليه الحسن عليه السلام قال: (ألا وإن كل شئ أعطيته الحسن فتحت قدمي هاتين) (2).

والحقيقة فإن سلوك معاوية طوال مدة خلافة، بل ومنذ أن ولاه الخليفة عمر بن الخطاب ولاية الشام، في الولاية والحكم كان مصداقاً لسلوك الملك المستبد، وهو لم يضع تحت قدميه معاهدة صلحه مع الإمام الحسن عليه السلام فقط، وانما قام بإنزال تعاليم الاسلام الربانية وقيمه السامية ذلك المنزل أيضاً. وإضافة لكل ما ذكرناه بشأن معاوية في مواضع سابقة، سترى فيما يلي بعض الشواهد الصارخة التي تؤكد هذه الحقيقة:

____________

(1) تاريخ ابن كثير، ج 8 ص 131.

(2) مقاتل الطالبيين للأصفهاني.

الصفحة 126

الأمر بلعن الإمام علي عليه السلام على المنابر

كان معاوية يعمل غاية جهده في التقليل من شأن الإمام علي عليه السلام وانكار فضائله، بل والطعن فيه حتى تجاوز كل ذلك بأمره جميع عماله في الولايات بسب الإمام ولعنه على المنابر في كل جمعة وعيد وقنوت الصلوات.

ويروي الجاحظ: (إن معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم أن أبا تراب [ يعني علياً ] ألحد في دينك، وصد عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلاً، وعذبه عذاباً أليماً. وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز، وأن قوماً من بني أمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إنك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن هذا الرجل. فقال: لا والله حتى يربو عليه [ سب الإمام ] الصغير ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلاً) (1). وقال الزمخشري: إنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب بما سنه لهم معاوية من ذلك (2).

وروي أيضاً أنه عندما كتب معاوية إلى عماله أن يلعنوا علياً على المنابر ففعلوا، كتبت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معاوية: إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله. فلم يلتفت معاوية إلى كلامها (3).

وأخرج مسلم في صحيحه (أن معاوية أمر سعد بن أبي وقاص فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب (يعني علياً)؟ فقال: أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه، لئن تكون لي واحدة منها أحب إلي من حمر النعم...

إلى آخر ما قال) (4). وفي صحيح مسلم أيضاً: (استعمل معاوية على المدينة

____________

(1) الأميني، الغدير في الكتاب والسنة والأديب، ج 2 ص 102.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق، ج 10 ص 260.

(4) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، ج 5 ص 268.

الصفحة 127
(مروان بن الحكم) فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً، فأبى سهل. فقال مروان: أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا التراب، إنه كان ليفرح إذا دعي بها) (1).

وقد أقدم مروان بن الحكم وخلافاً للسنة النبوية على تقديم خطبة العيدين على الصلاة لأن الحضور كانوا يتفرقون بعدها لكراهيتهم سماع شتم مروان في خطبته لعلي عليه السلام. وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم)، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة) (2). وقال أبو سعيد الخدري: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى، إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجذبته بثوبه فجذبني. فارتفع فخطب قبل الصلاة. فقلت له: غيرتم والله. فقال مروان: قد ذهب ما تعلم... إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلت الخطبة قبل الصلاة (3).

وكان معاوية في أحيان كثيرة يأمر بإنزال أشد العقاب بما في ذلك القتل بكل من يأبى شتم الإمام علي عليه السلام. ومن ذلك ما يروى أنه عندما كان بسر بن أرطأة يشتم علياً على منبر البصرة قال: نشدت الله رجلاً علم أني صادق إلا صدقني، أو كاذب إلا كذبني. فقال أبو بكرة: اللهم لا نعلمك إلا كاذباً. فأمر به ابن أرطأة فخنق (4). وحسبك في ذلك ما جرى لحجر بن عدي وأصحابه.

قتل حجر بن عدي وأصحابه

روي أن زياداً والي معاوية على العراق إذا خطب يوم الجمعة فإنه يكثر من مدح عثمان والانتقاص من علي مما كان يغضب له حجر بن عدي،

____________

(1) المصدر السابق، ص 274.

(2) صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد، ج 2 ص 42.

(3) المصدر السابق، كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، ج 2 ص 40.

(4) تاريخ الطبري، ج 6 ص 96.

الصفحة 128
وأطال زياد يوماً في خطبة الجمعة وآخر الصلاة، فقال له حجر: الصلاة، فمضى زياد في خطبته. فخشي حجر فوات الصلاة فقام وأراد تأدية الصلاة ولحقه الناس، فلما رأى زياد ذلك نزل وصلى بالناس. ثم كتب إلى معاوية في أمر حجر وصحبه. فكتب معاوية إلى واليه أن شدهم في الحديد واحملهم إلي.

وعند وصولهم إلى الشام في مرج عذراء قرب دمشق جاءهم رسول معاوية وقال لهم: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم. فقالوا: لسنا فاعلي ذلك، وقاموا فصلوا. وقال حجر: أما والله لئن قتلتموني بها [ مرج عذراء ] فإني لأول المسلمين كبر في نواحيها، وأول فارس من المسلمين هلك في واديها [ فحجر بن عدي هو الذي قام بفتح منطقة مرج عذراء أيام خلافة عمر ] فقتلوه، وقتلوا ستة من أصحابه. وقال اثنان منهما: إبعثوا بنا إلى أمير المؤمنين، فإنا نقول في علي مقالته، فأذن لهما معاوية. فأما الأول فقد تبرأ من علي فعفا معاوية عنه. ونفاه إلى الموصل، وأما الثاني وهو عبد الرحمن العنزي فقال لمعاوية:

أشهد أن علياً كان من الذاكرين لله تعالى كثيراً، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس. فرده معاوية إلى زياد وأمر أن يقتل شر قتلة، فدفنه زياد حياً) (1).

شرب الخمر

وقد أثبت هذه الحقيقة بعض رجال الحديث والسير، ومن هؤلاء أحمد بن حنبل في مسنده، حيث روى عن عبد الله بن بريدة، قال: (دخلت أنا وأبي على معاوية فأجلسنا على الفرش، ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب، فشرب معاوية ثم ناول أبي (فرده) قائلاً: ما شربته منذ حرمه رسول الله) (2).

____________

(1) المصدر السابق، ج 6 ص 155 - 60.

(2) مسند أحمد ج 5 ص 347، تاريخ ابن عساكر ج 7 ص 211.

الصفحة 129

أخذ البيعة للابن الفاجر يزيد

بعد أن تم الأمر لمعاوية وقد تنعم بالملك سنوات طوال، أراد أن يجعل الخلافة ملكاً خاصاً ببني أمية، فقرر توريثها لابنه يزيد وأخذ تحضيره لذلك سنوات عديدة (فلم يزل يروض الناس لبيعته، يشاور ويعطي الأقارب ويداني الأباعد) (1). وكما قال أبو الفرج الأصفهاني: (أراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيئاً أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص، فدس إليهما السم فماتا) (2).

وكان يثقل على معاوية لما كان يربطه بالإمام الحسن عليه السلام من عهد ينص على أن يكون الأمر من بعده للحسن وليس له أن يعهد بالخلافة لأحد، ولما كان لسعد بن أبي وقاص من مكانة مرموقة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الوحيد الباقي من الستة الذين كان عمر بن الخطاب قد رشحهم للخلافة بعده. وأما يزيد فهو لم يتجاوز العشرين من عمره، وكان كما أجمع المؤرخون شابا ماجنا مدمناً على الخمر واللعب مع الكلاب والقرود، وعديم الخبرة ولا يعرف من الدين شيئاً.

ونظراً لوجود مثل هذه الصعوبات، فقد أصر معاوية على أخذ البيعة لابنه من الناس قبل موته، فبدأ يستقدم الوفود من البلاد لهذا الغرض، وكان يهدد من يرفض ويجزل العطاء لمن يبايع، حتى أنه ولى بعضهم الإمارة كسعيد بن العاص على المدينة بعد عزله مروان عنها لتباطئه بأخذ البيعة من الناس، وسعيد بن عثمان بن عفان على خراسان تسكيناً له بعد أن وجد فيه ميلاً للإمارة، وثبت المغيرة بن شعبة بعد أن كان يخطط لعزله.

____________

(1) العقد الفريد في تاريخ الخلفاء، ج 3 ص 130 - 31.

(2) أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبين، ص 43.

الصفحة 130
وعندما أراد أخذ البيعة من أهل الشام، خطب فيهم وسألهم عن رأيهم فيمن يخلفه، فقالوا: رضينا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فشق ذلك عليه وأسرها في نفسه. ومرة ألم بعبد الرحمن مرضاً، فأرسل إليه معاوية طبيبه الخاص وكان يهودياً - وقيل هو ابن رثال النصراني - وسقاه بأمر من الخليفة سقية قتله بها (1).

وبالنسبة لبيعة أهل العراق، فقد تكفل بها كل من المغيرة بن شعبة والي الكوفة، وزياد بن عبيد الله والي البصرة. ثم ارتحل معاوية إلى الحجاز ومعه ألف فارس لأخذ البيعة من أهل مكة والمدينة بعد أن استعصى أمرهم على ولاته. وكان من كبار المسلمين الذين أبوا البيعة هناك: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر. فاجتمعوا في الحرم وقال المعارضون كلمتهم، فقام معاوية خطيباً وقد جعل على رأس كل من الأربعة رجلين بسيفيهما فإن تكلم أحدهم بكلمة يرد بها عليه قتلاه، وقال: (إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله) فبايع الناس (2).

____________

(1) الإستيعاب ج 2 ص 396، أسد الغابة ج 3 ص 289.

(2) ابن الأثير ج 3 ص 216 - 18، العقد الفريد ج 3 ص 130 - 31.

الصفحة 131

الفصل السابع
خلافة يزيد

استلم يزيد زمام الخلافة بعد وفاة أبيه عام 60 ه‍، ولم تدم خلافته سوى ثلاث سنوات ارتكب خلالها ثلاث جرائم من أجل إخضاع الأمة لإمارته، وكانت كل واحدة من هذه الجرائم كافية لوصم الخلافة الإسلامية وتاريخ المسلمين بوصمة عار لا تمحى أبد الدهر. فأما بالأولى فقد ذبح أهل بيت النبوة عليه السلام، وبالثانية استباح دماء أهل المدينة المنورة وأغراضهم، وبالثالثة قذف الكعبة بالمنجنيق وحرقها. وإليك بيان كل واحدة منها بشئ من التفصيل:

ذبح أهل بيت النبوة عليه السلام

بعد أن أخذ يزيد بيعة أهل الشام، كتب إلى عامله على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: (أما بعد، فخذ حسيناً، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام) (1).

وقد كان رد الحسين عليه السلام على الوليد في مجلس عام: (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة... ويزيد رجل فاسق شارب الخمر وقاتل النفس المحرمة ومعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله) (2)، ثم مضى الحسين ومعه أهل بيته إلى مكة. وهكذا فعل عبد الله بن الزبير، وأما عبد الله بن عمر فقد كان خارج المدينة حين وصول خبر موت معاوية، وقال للحسين وابن الزبير حين

____________

(1) تاريخ الطبري، ج 6 ص 188.

(2) ابن الأعثم، ج 5 ص 17.

الصفحة 132
لقيهما أثناء توجههما نحو مكة: اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين، وعندما وصل المدينة بايع يزيد (1).

وكان توجه الحسين عليه السلام إلى مكة بوصفها قاعدة الإسلام الكبرى، ومنها بدأ يعلن من خلال اتصاله بالناس ضرورة رفض مبايعة يزيد.

وعندما سمع أهل الكوفة بأنباء معارضة الحسين عليه السلام، بدأوا بإرسال رسائل التأييد والمبايعة والاستعداد لاستقباله في العراق، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ليستطلع صدق نواياهم. وعندما وصل مسلم إلى الكوفة وتحقق من صحة الموقف أرسل إلى الإمام: (بايعك أكثر من 20 ألفاً من أهل الكوفة، عندما يصلك كتابي عجل بالمسير) (2). وقيل إن عدد المبايعين وصل إلى 40 ألفاً، فانطلق الإمام بحشد كبير متوجهاً نحو العراق.

وبالطبع فإن هذا التأييد الجماهيري الكبير الذي لاقاه مسلم بن عقيل قد ساء الموالين للأمويين في الكوفة، فكتبوا إلى يزيد يخبرونه بالأمر، وأن النعمان بن بشير الذي تولى الكوفة بعد موت زياد لا طاقة له على المقاومة، فقرر يزيد عزله باستشارة من كاتبه وأنيسه النصراني سرجون وتعيين عبيد الله بن زياد بدلاً منه وكانت أولى كلمات ابن زياد لأهل العراق في بداية حملة القمع والتخويف: (لئن بلغني رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تسمعوا ولا يكون فيكم مخالف) (3). وقال مهدداً لكل من يستضيف مسلم بن عقيل في بيته: (أيما عريف وجد عنده أحد من بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا صلب على باب داره) (4).

____________

(1) البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 148.

(2) ابن الأعثم، ج 5 ص 150.

(3) تاريخ الطبري ج 6 ص 200.

(4) عبد الرزاق الموسوي، مقتل الحسين، ص 150، نقلاً عن الإرشاد للشيخ المفيد.

الصفحة 133
وعندما علم ابن زياد عن طريق أحد العيون عن نزول مسلم بن عقيل عند هانئ بن عروة، قام من فوره باستدعاء هانئ ثم حبسه وعذبه لرفضه تسليم ابن عقيل له أو الإخبار عن مكانه. ولدى علم ابن عقيل بما حدث لهانئ، نادى بأصحابه وعبأ أربعة آلاف وسار بهم نحو قصر ابن زياد، ولكنهم بدأوا يتناقصون في الطريق حتى وصلوا إلى ثلاثمائة عند وصولهم القصر، ذلك أنه وأثناء مسيرهم، كانت أبواق ابن زياد تدور على دور الكوفة محذرة ومخوفة بقدوم جيش يزيد من الشام، فرجع ابن عقيل دون حصول مواجهة، إلا أن ابن زياد تمكن من ملاحقته واعتقاله، ثم قام بقتله مع هانئ بن عروة، ومثل بجسديهما.

وعندما وصلت هذه الأخبار إلى الإمام الحسين عليه السلام أثناء مسيره نحو العراق، تيقن مما قاله له الفرزدق (الذي كان متوجهاً إلى مكة قادماً من العراق) قبل ذلك حين سأله الإمام عن الوضع في الكوفة وكانت إجابته:

(قلوب الناس معك وسيوفهم عليك)، فقام الإمام عليه السلام معلناً لمرافقيه: (أيها الناس، لقد خذلنا شيعتنا، فمن أراد منكم الإنصراف فلينصرف). فتفرقوا من حوله يميناً ويساراً ولم يبق معه سوى أهل بيته ونفر من أصحابه الذين رافقوه من مكة والمدينة. (وبالنظر لطبيعة الظروف السياسية الخاصة في تلك الأيام تيقن الإمام أن حركة المعارضة هذه ستمنى بالفشل العسكري، ولكن من الواضح أن هذه الحرب الغير متكافئة بين الحسين والأمويين كانت لها أسباب ودوافع معنوية أخرى لا يمكن فهمها أو تحليلها بالمنظار السياسي المتعارف) (1).

وهكذا واصل الإمام الحسين عليه السلام مسيره نحو الكوفة حتى خرجت له كتائب ابن زياد وأجبرته على النزول في منطقة قرب الفرات تدعى كربلاء، وكان ذلك في الثاني من محرم سنة 60 هجرية. ثم منع الماء عن الحسين وأصحابه وفشلت جميع المفاوضات التي دارت هناك لسبعة أيام، وكانت

____________

(1) جعفريان، الحياة الفكرية والسياسة لأئمة أهل البيت، ص 128.

الصفحة 134
ترمي هذه المفاوضات إلى إقناع الحسين لأعدائه بالعدول والتخلي عن تنفيذ جريمتهم، في نفس الوقت الذي كان يحاول فيه قادة جيش ابن زياد وعلى رأسهم عمر بن سعد بن أبي وقاص إقناع الحسين بالاستسلام ومبايعة يزيد.

وكان عمر بن سعد كارهاً لقتال الحسين، ولكن إمارة الري في خراسان التي وعده بها ابن زياد في حالة إخضاعه للحسين قد أعمته عن رؤية الحق والصواب. وأما الحسين عليه السلام فقد كان موقفه النهائي: (إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً). وفي غضون ذلك تحول 20 عشرون مقاتلاً من جيش الكوفة إلى معسكر الحسين عليه السلام: وكان من أبرز المنضوين تحت راية الحسين: الحر بن يزيد الرياحي الذي كان قائداً لأولى الكتائب التي خرجت لمواجهة الحسين قبل وصوله كربلاء.

وفي تلك الأثناء أيضاً، كان ابن زياد يواصل إكراه الكوفيين على الذهاب إلى المعسكر اليزيدي، حتى وصل تعداد ما أرسله ثلاثين ألفاً، ولكن أكثرهم كانوا يهربون في منتصف الطريق لكراهيتهم قتال الحسين، ولم يشارك منهم في تلك الجريمة سوى أربعة آلاف أو أكثر من ذلك على حسب روايات أخرى. ويقول ابن قتيبة في ذلك: (إن ابن زياد كان إذا بعث قائداً وأرسل معه عدداً كبيراً من الجنود إلى كربلاء، فإنهم يصلون هناك ولم يبق منهم إلا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين فيرتدعون فيتخلفون) (1).

وهكذا، فقد كان اشتباك الطرفين في العاشر من محرم بعد أن تقدم عمر بن سعد نحو معسكر الحسين ورمى بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير إني أول من رمى. ثم لحقه في ذلك رجاله، فلم يبق من أصحاب الحسين أحد إلا أصيب من سهامهم. فقال الحسين لأصحابه: قوموا رحمكم الله إلى

____________

(1) ابن قتيبة الدينوري، الأخبار الطوال، ص 254.

الصفحة 135
الموت الذي لا بد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم (1)، فحملوا حملة واحدة أدت إلى استشهاد العديد منهم. وكان الحر بن يزيد الرياح أول من استشهد منهم. ثم أخذ القتال يتحول إلى مبارزات فردية، وأحياناً كان الرجلان أو الثلاثة أو الأربعة يغيرون على الكوفيين أحدهم يضرب والآخر يحمي ظهره، فكان قتلى ابن زياد أكثر بكثير من شهداء الحسين، حتى صاح عمرو بن الحجاج الذي هاله ما رأى من كثرة قتلاهم: إنكم تقاتلون شجعان العرب وقوماً مستميتين لا يبرز إليهم أحد إلا قتلوه (2)... حتى قالوا: قاتلوا من مرق عن الدين وفارق الجماعة! (3).

فحمل جيش ابن زياد حملة واحدة على الإمام وأصحابه، فاستشهدوا واحداً تلو الآخر حتى سقطوا جميعاً شهداء، بمن فيهم طفل الحسين الرضيع.

والذي كان الإمام عليه السلام قد حمله ليستعطف قلوب القوم وطلب منهم أن يسقوه شربة ماء، ولكنهم بدلاً من ذلك صوبوا إلى عنقه سهماً، ثم واصل القتلة وحشيتهم بتقطيع رؤوس الشهداء، وحملوها هدايا يتقاسمونها هدايا فيما بينهم، ثم رفعوها على رؤوس رماحهم متوجهين بها إلى ابن زياد في الكوفة لأخذ الأجر والمكافأت، والذي بدوره أرسلها إلى يزيد بن معاوية في الشام ومعها نساء أهل البيت عليه السلام سبايا، وفي اليوم الأول من صفر، وصل ابن زياد ورجاله دمشق، وخرج الناس إليهم يستقبلونهم بالدفوف والبوقات، وهم في فرح وسرور، وعندما رأى يزيد السبايا والرؤوس على أطراف الرماح، ضرب رأس الحسين بعصا الخيزران، ثم تمثل بأبيات ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تشل

____________

(1) تاريخ الطبري ج 4 ص 326.

(2) المصدر السابق، ج 6 ص 249.

(3) البداية والنهاية لابن كثير ج 8 ص 182.

الصفحة 136

قد قتلنا العزم من ساداتهم * وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل

وفي أبيات أخرى أنشدها وهو جالس في منظرة على جيرون بالشام:

لما بدت تلك الحمول وأشرقت * تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت أو لا تصح * فلقد قضيت من الرسول ديوني

ومن الواضح أن الديون التي يقصدها يزيد في هذه الأبيات هي مقتل العديد من أشياخه (يعني أجداده) في بدر بسيوف علي وحمزة. وقد أفتى كل من سبط بن الجوزي والقاضي أبو يعلى والتفتازاني والجلال السيوطي، وجميعهم من أعلام أهل السنة القدامى بكفر يزيد وجواز لعنه (1) استناداً إلى هذه الأبيات وما جاء فيها من اعترافات صارخة لمن لم يكن ليفهم من فضائح الأعمال!

وكان كما قاله ابن الجوزي: (ولو لم يكن في قلب يزيد أحقاد جاهلية وأضغان بدرية لاحترم الرأس لما وصل إليه وكفنه ودفنه وأحسن إلى آل الرسول) (2).

إستباحة دماء أهل المدينة وأعراضهم

من المعروف أن أهل المدينة المنورة لم يناصروا الحسين عليه السلام عندما بدأ حملته المعارضة لمبايعة يزيد، ولكنهم عندما ذاقوا مرارة ظلم يزيد وجور ولاته، ولما ظهر من فسق الخليفة وشربه للخمر وقتله لأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم قاموا بالتحرك أخيراً ضد يزيد، فخلعوا بيعتهم له وطردوا واليه على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان.

____________

(1) روح المعاني للآلوسي ج 26 ص 73.

(2) من الجدير ذكره أن الإمام علي بن الحسين قام باسترجاع الرؤوس وألحقها بالأبدان ودفنها.