الصفحة 137
وعندما علم يزيد بذلك، عمل كما أوصاه أبوه في حالة معارضة أهل المدينة، فأرسل إليهم جيشاً كبيراً بقيادة مسلم بن عقبة اجتاح به المدينة وأباحها لجنوده ثلاثة أيام، قاموا خلالها بارتكاب أفظع الجرائم، فقتلوا ما يزيد عن خمسة آلاف من الناس، ونهبوا الأموال، وأحرقوا البيوت، واعتدوا على الأعراض، حتى قيل إنهم فتكوا بحرمة أكثر من ألف عذراء (1). وفي رواية لابن كثير أن ألف امرأة من أهل المدينة ولدت بعد هذه الجرائم من غير زوج (2). وحتى أن بعض الصحابة المتبقين كجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري هربوا إلى كهوف الجبال في تلك الأيام. (3). ثم قام مسلم بن عقبة بإكراه أهل المدينة ليبايعوا يزيد على أنهم عبيد له. واعترض الناس على ذلك، وكان منهم على سبيل المثال رجلان قالا: بل نبايع على كتاب الله وسنة رسوله، فقدمهما ابن عقبة وضرب أعناقهما (4).

ضرب الكعبة بالمنجنيق وإحراقها

بعد أن تم للجيش اليزيدي ما أراده في المدينة، توجه نحو مكة، وفي الطريق مات مسلم بن عقبة، فتولى قيادة الجيش الحصين بن نمير السكوني وحاصر الكعبة التي لاذ بها الثائر عبد الله بن الزبير، والذي سمى نفسه (العائذ بالبيت) بعد أن بايعه الناس هناك على الخلافة. فضرب الحصين الكعبة بالمنجنيق حتى انهدم معظم أجزائها، وقاتل ابن الزبير ببسالة، وساعده على الصمود رجال من أهل المدينة لحقوا به.

____________

(1) البداية والنهاية لابن كثير، ج 8 ص 265.

(2) المصدر نفسه ص 239.

(3) المصدر نفسه ص 239.

(4) تاريخ الطبري ج 7 ص 13.

الصفحة 138
وبعد أن استعصى على الجيش الأموي إخضاع ابن الزبير، وضع المحاصرون ناراً على رأس رمح، ورموا به الكعبة فاحترقت (1)، ثم بقوا محاصرين للبيت الحرام عدة شهور حتى وصلهم خبر هلاك يزيد (عام 64 هجرية). فانفكوا عنها راجعين إلى الشام مغلوبين، وتفرقوا أثناء رجوعهم لاضطراب أمرهم، فلاحقهم أهل مكة والمدينة، حتى أخذوا أربعمئة منهم إلى (الحرة) بالمدينة، وأمر مصعب بن الزبير بقتلهم، ثم بايع أهل المدينة أخاه عبد الله بالخلافة.

____________

(1) المصدر السابق ج 5 ص 498.

الصفحة 139

الفصل الثامن
خلافة عبد الله بن الزبير

بعد هلاك يزيد بن معاوية، تولى خلافة المسلمين بعده ابنه معاوية، وكان عمره آنذاك ثماني عشرة سنة أو اثنين وعشرين حسب رواية أقوال أخرى، وقيل عنه إنه كان رجلاً فيه صلاح وتقوى بخلاف أبيه، ولكنه تنازل عن الخلافة لأسباب غامضة بعد توليته بشهرين، فقال بعض المؤرخون: إنه كان مريضاً، وقال آخرون: إنه كان مكرهاً على التنحي، وهذا هو الأرجح، لأنه طعن بعد تنازله بأيام، وقيل إنه قتل مسموماً (1).

وقد استثمر الخليفة الآخر عبد الله بن الزبير حالة الفوضى في العاصمة دمشق من جراء التنافس على الخلافة بين الأمويين في توسيع نفوذه، فبويع له في البصرة والكوفة ومصر وحتى في جز من الشام، وكان أخوه مصعب قائداً عاماً لجيوشه.

ولأن معاوية بن يزيد لم يستخلف أحداً بعده، فقد وثب مروان بن الحكم على الخلافة الأموية وأجبر أهل الشام على مبايعته، ولكنه أيضاً لم تدم خلافته طويلاً، حيث قيل إن أم خالد بن يزيد قد طعنته بعد تسلمه الخلافة بتسعة شهور لسبه ابنها خالد بكلام فاحش أصابها (2). وقد عهد مروان بالخلافة من بعده لابنه عبد الملك، وكان ذلك سنة 65 هجرية.

وظهرت في العراق بتلك الحقبة الزمنية حركات ثورية ضد الأمويين تحت قيادة المختار الثقفي وسليمان بن صرد تحت عنوان حركة (التوابين)

____________

(1) مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 89.

(2) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 2 ص 23.

الصفحة 140
لندمهم على عدم نصرة الحسين عليه السلام. وكانت مهمة هذه الحركة تتبع قتلة الحسين وأصحابه والانتقام منهم، فقتلوا كثيراً من أولئك القتلة بما فيهم عمر بن سعد وعبيد الله بن زياد. ثم استشهد ابن صرد وحمل رأسه إلى مروان بن الحكم في الشام. وقد قضي على حركة التوابين بمقتل المختار والآلاف من أتباعه في حرب نشبت بينهم وبين مصعب بن الزبير سنة 67 هجرية في العراق، ثم أرسل ابن الزبير برأس المختار إلى أخيه الخليفة عبد الله في مكة (1). وأما أسباب نشوب الحرب بينهم فهي تعود لكثرة ما قتل ابن الزبير من أنصار أهل البيت عليه السلام في العراق بالفترة القصيرة الذي أصبح تحت سيطرته. ومن المعروف إن عبد الله بن الزبير كان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب عليه السلام منذ يوم الجمل حيث كان حينها قائداً لجيش أم المؤمنين عائشة.

وبالنسبة للأمويين، فإن ابن كثير يروي بأنه: لما بويع لعبد الملك بن مروان بالخلافة، كان في حجره مصحف فأطبقه قائلاً: (هذا فراق بيني وبينك) (2). ثم انصرف في بداية تسلمه الخلافة إلى إعادة ترتيب أوضاع البيت الأموي في الشام وبعد أن تم له ذلك، بدأ يوجه أنظاره إلى القضاء على خلافة ابن الزبير، وقد استفاد في ذلك من الحرب التي جرت بين المختار ومصعب، حيث أدى مقتل الآلاف من أتباع المختار وشيعة العراق على أيدي الزبير إلى قيام أهل العراق بخلع بيعتهم لعبد الله، وإعلانهم التأييد لخلافة عبد الملك بن مروان.

فسار عبد الملك بجيش إلى العراق لمحاربة جيش ابن الزبير، وقد انتهت المعركة سريعاً بمقتل القائد مصعب وبعد أن انضم كثير من جنده إلى المعسكر الأموي. فدخل عبد الملك الكوفة وبايع له أهل العراق.

____________

(1) المصدر السابق، ص 32.

(2) تاريخ الطبري، ج 7 ص 102.

الصفحة 141
ثم بعث عبد الملك حملة على الحجاز بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي للقضاء النهائي على خلافة ابن الزبير، وكان له ذلك عندما حاصر مكة وقطع عنها الإمدادات الغذائية حتى أخذ ينضم إليه أتباع ابن الزبير، وقد بلغ تعداد الخارجين إليه من مكة العشرة الآلاف من بينهم ابني الخليفة عبد الله وهما حمزة وحبيب. ثم دخل الحجاج مكة وأخذ البيعة من أهلها، وقام بإعدام عبد الله بن الزبير ومعاونيه، وصلب أجسادهم في الحرم وسلخها. وكالعادة، فقد أرسل الحجاج رؤوس الضحايا إلى الخليفة الأموي عبد الملك في الشام وكان ذلك سنة 73 هجرية.

وبقي الحجاج والياً على الحجاز لثلاث سنوات حتى كتب له عبد الملك: سر إلى العراقيين واحتل لقتلهم، فإنه قد بلغني عنهم ما أكره (1) إلى هذا الحد ينتهي القدر الذي رأيناه كافياً لإعطاء صورة واقعية للواقع التاريخي لدولة الخلافة (الإسلامية؟) بعدهم من الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين، حيث تم القضاء عليها عام 1924 م.

____________

(1) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 2 ص 39.

الصفحة 142

الصفحة 143

القسم الثالث
دليل التشريع وشهادة التاريخ
في
معرفة الخلفاء والأئمة

  • تقديم
  • الفصل الأول: مقياس لمعرفة الخلفاء والأئمة
  • الفصل الثاني: لمحات من سيرة الخلفاء الاثني عشر

    الصفحة 144

    تقديم

    لقد قدمنا في القسم الأول عرضاً موضوعياً لآراء أهل السنة والشيعة فيما فهموه من التشريع الإسلامي في قضية الخلافة والإمامة، وفي القسم الثاني قدمنا عرضنا للواقع التاريخي لدولة الخلافة في صدر الإسلام. وفي كلا القسمين، كان العرض معتمداً بصورة رئيسية على آيات الكتاب والأحاديث والمرويات من كتب الصحاح والتاريخ بالإضافة أحياناً إلى أقوال بعض العلماء فيها. وفي هذا القسم، ونظراً للإشكالات العديدة والمجادلات العقيمة التي تصاحب إجابة هذا النوع من التساؤلات، فقد رأينا تقديم طريقة خاصة في تحديد ومعرفة هوية الخلفاء والأئمة يدمج فيها بين العقل والنقل من جهة، وبين دليل التشريع وشهادة التاريخ من جهة أخرى.

    فالمسألة هي ليست مفاضلة بين أشخاص، بقدر ما هي بحثاً عن منهج منسجم مع بقية مناهج الإسلام وتعاليمه من حيث الوضع والعقلانية، يستطيع الناس من خلاله تعيين أو اختيار الخليفة في كل عصر، ولا بد أن يكون الشارع المقدس قد وفر ذلك وإلا لكان للناس العذر في جهله، بل ومخالفته.

    وسنقدم تفصيل هذا الأمر على فصلين:

    الأول: مقياس لمعرفتهم.

    الثاني: لمحات من سيرتهم.


    الصفحة 145

    الفصل الأول
    مقياس لمعرفة الخلفاء والأئمة

    بين خلافتي أبي بكر وعلي

    اشتهر عند جميع الفرق الإسلامية حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). أو كما جاء بألفاظ أخرى: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية) (1)، أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) (2). وصحة هذا الحديث تعد من البديهيات عند رجال الحديث دون خلاف بينهم.

    ومع أن هذا الحديث قد ورد بألفاظ متعددة، إلا أنها تدور كلها حول معنى واحد وهو الخسران الأخروي لمن يموت دون مبايعة إمام المسلمين، لأن طاعته واجبة على كل مسلم، كونها امتداداً لطاعة الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (3) [ النساء / 59 ].

    وسيكون هذا الحديث وما يحمله من معان هو المقياس الضابط في معرفة أئمة المسلمين واجبي الطاعة، والذين يصدق أن يكون مصير الخارج عن طاعتهم موتة جاهلية.

    وسننظر فيما يلي إلى خلافتي أبي بكر وعلي من خلال هذا المقياس:

    ____________

    (1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، ج 4 ص 517.

    (2) مسند أحمد، ج 3 ص 446.

    (3) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ج 5 ص 382.

    الصفحة 146

    خلافة أبي بكر

    من الثابت أن عمر بن الخطاب وصف بيعة أبي بكر ب‍ (الفلتة) ولكن - على رأيه - (وقى الله شرها). وقد قال عمر بمقولته هذه نظراً للمشاحنات التي سبقت تلك البيعة وما بعدها، حيث كان تنازع المهاجرين والأنصار، ثم تخلف العديد من كبار الصحابة عن بيعة الخليفة أبرزهم علي الذي لم يبايع إلا بعد ستة شهور في ظروف شرحت في موقع سابق.

    ولكن ما يهمنا هنا إلقاء الضوء على امتناع فاطمة الزهراء ابنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وزوج علي عليه السلام عن مبايعة الخليفة، إلى أن ماتت وهي على هذه الحال، بل وهي غاضبة عليه وأوصت أن لا يصلي عليها، ولا حتى أن يحضر دفنها كما أخرج البخاري في الصحيح: (... فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة أشهر...

    فلما توفيت، دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها) (1).

    ونحن بهذا المثال أمام احتمالين لا ثالث لهما:

    فإما أن يكون أبو بكر هو الخليفة الواجب الطاعة، فتكون فاطمة قد ماتت ميتة جاهلية. وإما أن فاطمة لم تمت ميتة جاهلية، فيكون أبو بكر ليس بخليفة واجب الطاعة.

    فبالنظر إلى الاحتمال الأول، نجد أن الزهراء عليه السلام من بين الذين لم يتطرق إلى مسألة بشارتهم بالجنة أدنى شك، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة الإنسان بكاملها في هذا الصدد، وهي التي أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

    (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة) (2) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك: (يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة) (3) وهي التي يغضب

    ____________

    (1) المصدر السابق، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب فاطمة، ج 5 ص 75.

    (2) المصدر السابق، كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي رسول الله، ج 8 ص 202.

    (3) المصدر السابق، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب فاطمة، ج 5 ص 75.

    الصفحة 147
    النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغضبها، وبالتأكيد على كل من يغضبها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني) (1)، وليس مهماً هنا النظر فيمن أغضب فاطمة بقدر ما هو مهم معرفة أن من يغضب الله ورسوله لغضبها، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون ميتتها جاهلية والعياذ بالله، وهي من الذين نزل بحقهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) [ الأحزاب / 33 ]. فلا يبقى أمامنا سوى الأخذ بالاحتمال الثاني.

    خلافة علي

    من المعلوم أن الأمة قديمها وحديثها أجمعت على صحة خلافة علي، باستثناء فئة خالفته ورفضت مبايعته، بل حاربته وأحدثت فتنة وشكوكاً بين مسلمي ذلك الوقت. ومن أبرز هؤلاء الخارجين عن طاعة الإمام هما عائشة في موقعة الجمل، ومعاوية في صفين كما مر تفصيل هاتين الحادثتين في قسم سابق من هذا الكتاب.

    فأما عائشة، فقد تنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجها عن طاعة إمام زمانها قائلاً:

    (كأني بإحداكن قد نبحها كلاب الحوأب وإياك أن تكونيها يا حميراء) (2).

    وفي رواية أخرى، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليت شعري، أيتكن صاحبة الحمل الأديب تسير حتى تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يسارها، وعن يمينها خلق كثير) (3). وفي رواية ثالثة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حميراء، كأني بك تنبحك كلاب الحوأب، تقاتلين علي وأنت له ظالمة) (5). وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: (يا علي إن وليت من أمرها - يقصد عائشة - فارفق بها) (5).

    ____________

    (1) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 82.

    (2) تاريخ ابن كثير، ج 6 ص 221.

    (3) العقد الفريد لابن عبد ربه، ج 3 ص 108.

    (4) تاريخ ابن كثير، ج 6 ص 221.

    (5) ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ج 1 ص 82.

    الصفحة 148
    ذلك أنه وأثناء مسير عائشة بجيشها نحو البصرة لاستنهاض أهلها ضد الإمام علي عليه السلام، مروا ببقعة ماء في الصحراء، فنادى مناد: ها قد وصلنا ماء الحوأب. فلما سمعت عائشة ذلك صاحت: ردوني، ردوني. ما أراني إلا راجعة. ثم أخبرت محمد بن طلحة ما كان من تنبؤ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتحذيره لها، فقال لها ابن طلحة: تقدمي رحمك الله، ودعي هذا القول. ثم جاءها عبد الله بن الزبير وحلف لها بالله أن هذا المكان ليس بماء الحوأب، ثم جاء لها بخمسين أعرابياً من الذين رافقوهم أثناء سيرهم وشهدوا لها زوراً بأن هذا المكان ليس بماء الحوأب كما أمرهم ابن الزبير (1).

    ومن تنبوءات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الفتنة التي أحدثتها عائشة ما أخرجه البخاري في صحيحه، عن عبد الله قال: (قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا، فأشار نحو مسكن عائشة فقال: هاهنا الفتنة، ثلاثاً، من حيث يطلع قرن الشيطان) (2).

    وقد اعتبر الصحابي الجليل عمار بن ياسر أن من أطاع عائشة في خروجها، كان عمله هذا مقابل طاعة الله حيث قال: (... ولكن الله تبارك وتعالى إياه تطيعون أم هي) (3).

    وقيل إن الدافع الحقيقي لخروجها ضد الإمام هو كراهيتها الدفينة له منذ أن سمعته يقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دعاه ليستشيره في فراقها بشأن ما أفتري عليها به، وقد رآه مغموماً: (يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير). وبسبب هذه الضغينة، فإنها كانت كما في إحدى الحوادث التي رواها البخاري لا تطيق أن تذكر اسم الإمام على لسانها. ولكنها ندمت على كل حال على خروجها ضده، ولا ندري إن كانت قد بايعته بعد ذلك.

    ____________

    (1) صحيح البخاري، كتاب الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي، ج 4 ص 217.

    (2) المصدر السابق، كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، ج 9 ص 171.

    (3) المصدر السابق، كتاب التفسير، باب لولا إذ سمعتموه، ج 6 ص 252.

    الصفحة 149
    وأما معاوية، فقد كان تنبأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ببغيه وعدوانه على إمام زمانه من المسلمات التاريخية. فعن خالد العرني قال: دخلت أنا وأبو سعيد الخدري على حذيفة فقلنا: يا أبا عبد الله حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفتنة. قال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دوروا مع الكتاب الله حيث ما دار. فقلنا: فإذا اختلف الناس، فمع من نكون؟ فقال: أنظروا الفئة التي فيها ابن سمية [ يعني عمار بن ياسر ] فالزموها، فإنه يدور مع كتاب الله... ثم قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول لعمار: يا أبا اليقظان لن تموت حتى تقتلك الفئة الباغية، عن الطريق (1). وفي صحيح البخاري، كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار) (2).

    وقد صدقت نبوءة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذه عندما استشهد عمار في موقعة صفين وهو يقاتل الأمويين تحت راية الإمام علي عليه السلام فهل بعد هذا القول من ريب حول معاوية ومصيره، فكلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تحتمل أي معان أخر، فعمار ومن معه طريقهم إلى الله، وأعداؤهم البغاة الخارجين عن طاعة إمام زمانهم طريقهم إلى النار.

    ولم يكتف معاوية بالتمرد على الإمام، بل نصب نفسه خليفة خلال عهد خلافة علي، وقد بايعه أهل الشام على ذلك، ثم هاجم مصر واقتطعها من خلافة الإمام، كما هاجم مناطق أخرى عديدة في الجزيرة العربية وغرب العراق، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا النوع من التجرؤ: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) (3).

    ____________

    (1) المصدر السابق، كتاب الوضوء، باب حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوءه على المغمى عليه، ج 1 ص 133.

    (2) مستدرك الحاكم، ج 2 ص 148.

    (3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب مسح الغبار عن الرأس، ج 4 ص 52.

    الصفحة 150
    وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن بن عبد قال: دخلت المسجد، فإذا عبد الله بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (... ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإذا جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر). قال الراوي: فدنوت من عبد الله وقلت له: أنشدك الله، أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بالباطل ونقتل أنفسنا... قال: فسكت ابن العاص ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله (1).

    وقال النووي في سياق شرحه لهذه الحادثة أن الراوي اعتبر (هذا الوصف في معاوية لمنازعته علياً، وكانت قد سبقت بيعة علي، فرأى هذا أن نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب علي ومنازعته ومقاتلته إياه [ تعتبر ] من أكل المال بالباطل، ومن قتل النفس لأنه قتال بغير حق فلا يستحق أحد مالاً في مقاتلته) (2).

    ومما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاوية عندما بعث إليه يوماً بن عباس يدعوه، فوجده يأكل، فأعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس إليه يطلبه فوجده يأكل - إلى ثلاث مرات - فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا أشبع الله بطنه) (3).

    وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (... أما معاوية فصعلوك لا مال له) (4). وفي موتته الجاهلية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه: (يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي) فطلع معاوية (5)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في معاوية وشريكه عمرو بن

    ____________

    (1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، ج 4 ص 519.

    (2) المصدر السابق، ص 511 - 12.

    (3) المصدر السابق، ص 512.

    (4) المصدر السابق، كتاب البر والصدقة والآداب، باب من لعنة النبي، ج 5 ص 462.

    (5) المصدر السابق، كتاب الطلاق، باب المطلقة البائن، ج 3 ص 693.

    الصفحة 151
    العاص: (اللهم أركسهما في الفتنة ركساً ودعهما إلى النار دعاً) (1). وما ينطبق على معاوية أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتله جاهلية) (2).

    إن هذين المثالين كافيان لإثبات صحة خلافة الإمام علي عليه السلام، وأولويتها مقارنة بخلافة أبي بكر. فالخروج عن طاعة أبي بكر لم يستلزم التهديد بسوء المصير، بينما لزم ذلك بحق الخارجين عن طاعة علي.

    وقد كان الأولى إثبات هذه الحقيقة مما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحق الإمام نفسه وليس بحق مخالفيه. أفلا يكفي أن يكون علي من أهل البيت عليه السلام الذين جعل الله جل وعلا التمسك بهم مع كتاب الله بعد نبيه هداية وأماناً للناس من الضلال؟ وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فعلي هذا مولاه، اللهم وآل من والاه، وعاد من عاداه).

    السنة النبوية بين طريقين!

    إن أكثر ما يتمسك به أهل السنة في الرد على إمامة أهل البيت عليه السلام هو قولهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتمسك بعده بالكتاب والسنة النبوية، بمعنى التمسك بالكتاب والحديث المروي عن أي من الصحابة عملاً بالحديث المزعوم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) والذين يكون التمسك بهم عند أهل السنة بديلاً عن التمسك بأهل البيت عند الشيعة.

    وإذا علمنا أن مهمة تحقيق السنة النبوية صحيحها من ضعيفها قد أوكلت للبخاري ومسلم، واعتماد كتابيهما المعروفين بالصحيحين كأصح الكتب بعد كتاب الله، وبل واعتبار صحة كل ما جاء فيهما عند الغالبية العظمى من فقهاء أهل السنة وعلمائها ومفكريها، فإن التمسك بكتاب الله وسنتي، يعني التمسك

    ____________

    (1) تاريخ الطبري، ج 11 ص 357.

    (2) مسند أحمد، ج 4 ص 421.

    الصفحة 152
    بالبخاري وسلم أكثر من التمسك بأي شخص كان. فهذان الشيخان جعلا باجتهاد هما فقط من مرويات أبي هريرة أو غيره من الصحابة والتابعين ممن نقلوا الروايات جيلا بعد جيل تسمع وتعتمد عند أهل السنة على مر العصفور، وهما أيضا باجتهادهما فقط جعلا من مرويات علي أو غيره من أئمة أهل البيت عليه السلام الذين تحدثوا بالسنة ونقلوا الرواية جيلاً بعد جيل تغفل وتصبح بلا قيمة عند أهل السنة على مر العصفور!.

    وإذا علمنا أن أهل السنة اعتمدوا صحة كل اجتهادات الخليفة عمر العديدة، والتي خالف في بعضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم صراحة كما بينا من ذلك أمثلة، بل ومنعه تدوين السنة النبوية فإن التمسك (بكتاب الله وسنتي) يعني: التمسك بعمر أكثر من صاحب السنة نفسها!، وسترى في هذه المسألة تفصيلاً في القسم الأخير من هذا الكتاب.

    وإذا علمنا أيضاً أن الدور الخطير الذي لعبه معاوية في حرف مسار الخلافة بصورة مأساوية، والتأثير على أبي هريرة وغيره من الرواة كما سترى لاحقاً، قد لاقى قبول غالبية أهل السنة وموافقتهم، واعتبروه خليفة شرعياً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن التمسك بكتاب الله وسنتي يعني التمسك بمعاوية أكثر من التمسك بخصمه علي أو حتى عمر وأبي بكر الذين خالفهم جميعاً بمنهجه القبلي والجاهلي في الخلافة والحكم.

    وإذا علمنا أخيراً، أن تفسير آيات الكتاب قد اعتمد أغلبها على الأحاديث المروية فإن التمسك (بكتاب الله وسنتي) بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني بصورة عملية وواقع الحال التمسك بتركيبة من أشخاص أبرزهم: عمر - عائشة - معاوية - أبو هريرة - البخاري.

    بينما التمسك (بكتاب الله وعترتي أهل بيتي) بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني بواقع الحال التمسك بتركيبة من أشخاص هم: علي - فاطمة - الحسن والحسين... إلى آخر الأئمة الاثني عشر عليه السلام.


    الصفحة 153
    ومن ناحية أخرى، وكما بينا في موضع سابق، فإن علماء الحديث ومحققيه عند أهل السنة وغيرهم قالوا بضعف رواية (كتاب الله وسنتي)، وصحة رواية (كتاب الله وعترتي أهل بيتي).

    يضاف إلى هذه الحقيقة أن السنة المروية عن الصحابة لا تفيد علماً واضحاً أو ترشد إلى طريق هاد. فالصحابة اختلفوا مع بعضهم إلى حد السب، وإراقة الدماء، وإعلان الحروب، فيكونوا في واقع الحال قد اتخذوا تبعاً لذلك طرقاً متعددة وفي غاية التناقض، فأي من هذه الطرق أو السنن نتبع؟ فمعاوية صحابي وعلي صحابي، فأي منهما أولى بالاتباع؟

    وعلى سبيل المثال، فإنه عندما وقع المسلمون في حيرة أمام قضية مبايعة يزيد بن معاوية، كان التمسك بأهل البيت عليه السلام يعني رفض هذه البيعة وتأييد الحسين عليه السلام وأتباعه في خروجه وثورته. وأما التمسك (بسنتي بمعنى نهج أصحابي) سيعني مبايعة يزيد، لأن عبد الله بن عمر، وهو أحد الصحابة القلائل الباقين في ذلك الحين قام بمبايعة يزيد على الفور تجنباً للفتنة وتفرق الأمة!.

    وما يلفت الانتباه في هذا المثال أن عبد الله بن عمر كان أيضاً من الصحابة القلائل الذين لم يبايعوا الإمام علياً عليه السلام في الوقت الذي سعى إليه الناس لمبايعته، وكان أيضاً من الذين وقفوا (محايدين!) يوم صفين تجنباً للفتنة أيضاً. فعبد الله بن عمر، وكل من لم يبايع الإمام سواء وقف محايداً أو محارباً، وكذلك كل من لم يؤيد الحسين في خروجه وثورته ضد الطاغية يزيد، لا يمكن أن يكون متمسكاً بأهل البيت عليه السلام، فأين هم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما إن تمسكتم بهما لا تضلوا بعدي أبداً)؟!.

    الشورى بين النظرية والتطبيق

    ومما يتمسك به أهل السنة أيضاً في ردهم على إمامة أهل البيت عليه السلام، هو قولهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الخلافة بعده شورى مستدلين بقوله تعالى:

    (وأمرهم شورى بينهم). ولكن تفسير هذه الآية بهذه الطريقة ينقصه الدقة

    الصفحة 154
    والكثير من التفاصيل، فلو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يكون الأمر بعده كذلك لعلمهم إياه، أو على أقل تقدير كان ليبين لهم المبادئ الإسلامية لعملية الشورى هذه.

    والآية الكريمة ليس فيها ما يدل على أن المسلمين يجب عليهم التشاور في جميع شؤونهم، وإنما لا بد وأن يكون ذلك محصوراً بالشؤون التي لم يرد فيها نص من الكتاب والسنة كما هو متفق عليه عند الجميع. فكما أنه لا يجوز التشاور في عدد ركعات الصلاة، فإنه لا يجوز التشاور أيضاً في تعيين خلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما دام قد وجدت هناك نصوص قطعية تعين هويتهم. وأما في عصرنا هذا الذي يشهد استمرار غيبة الإمام الثاني عشر، فإن الشورى ينبغي الأخذ بها في تعيين من ينوب عن الإمام، فالنص محصور باثني عشر إماماً.

    وبتقدير أن الشورى هي المبدأ الأساس في تعيين خلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأين كان موقع هذه الشورى من صراع السقيفة وتنصيب أبي بكر؟ وأين كانت هذه الشورى عندما ورث أبو بكر الخلافة لعمر بنص أجبر المسلمين على التسليم والرضا به، ودون أن يكون لأي أحد الفرصة لمناقشته؟ وأين كانت هذه الشورى في تنصيب عثمان والذي لم تؤل الخلافة إليه إلا بتعهده بالسير على سنة الشيخين أبي بكر وعمر بعد أن رفض علي التعهد بالعمل بها؟

    وهل كان تنصيب معاوية بشورى، والذي تسبب في إراقة دماء عشرات الآلاف من المسلمين في صفين وغيرها من الغارات التي شنها على الولايات الإسلامية أثناء خلافة علي؟

    وماذا بالنسبة لموقع الشورى من بيعة يزيد؟ أو ليس هو الذي نصبه معاوية قبل موته جاعلاً التوريث وإراقة دماء المعارضين مبدءاً دستورياً سار عليه أئمة المسلمين منذ خلافته ولغاية القضاء على خلافة الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن الميلادي الحالي؟

    فكيف يعتبر أهل السنة شرعية كل أولئك الخلفاء بالرغم من أن في طريقة تنصيبهم مخالفة صريحة لمبدأ الشورى؟


    الصفحة 155
    والناظر بإنصاف إلى واقع دولة الخلافة الإسلامية على طول تاريخها، فإنه يجد أن الشورى لم تتوفر إلا في خلافة علي حيث سعى إليه غالبية الناس بعد مقتل عثمان، وألحوا عليه بقبولها.

    الخلفاء بعد أبي بكر وعلي

    لم تكن مناقشة هذا الفصل لمجرد المفاضلة بين خلافتي أبي بكر وعلي، وإنما للتثبت من المنهج المتكامل في نظرية الخلافة والإمامة حسب تشريعها الإلهي، وهذا يعني استمرار البحث للإثبات والتحقق من هوية الخلفاء الذين يفترض أن يلوا أمر المسلمين.

    ولم نجد في الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ما يشير إلى هوية هؤلاء أكثر قوة من تلك الروايات المخبرة بإثني عشر منهم.

    الاثنا عشر خليفة في الكتاب والسنة:

    ونذكر أولاً الأحاديث التي أخرجها أصحاب الصحاح، والتي تشير إلى وجود اثني عشر خليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

    ففي صحيح مسلم، نجد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً) (2).

    وفي صحيح البخاري بالرواية عن جابر، نجد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا الأمر لا يقتضي حتى يمضي فيهم عشر خليفة - قال: تكلم بكلام خفي علي، قال فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش) (3).

    ____________

    (1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، ج 4 ص 517.

    (2) المصدر السابق، ج 4 ص 282.

    (3) صحيح البخاري، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش، حديث 1821.

    الصفحة 156
    وفي مسند أحمد بالرواية عن عبد الله بن مسعود قال: (سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الخلفاء، فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل) (1).

    وقد أشار الله (سبحانه وتعالى) إلى نقباء بني إسرائيل في كتابه العزيز:

    (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً) [ المائدة / 12 ]، والنقيب لغة هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم، وجمعها نقباء. وحسب هذه الآية، فهم أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، والذين كانوا كالولاة على قومهم، يتولون أمورهم، ويذكرونهم بما ينبغي عليهم الوفاء به كما ذكر المفسرون (2).

    ومن ذلك، فإن نقباء أمة محمد الاثنى عشر ينبغي حسب مقتضى الحديث الأخير، وما يفهم من هذه الآية أن يكونوا أيضاً حملة (الميثاق) أو عهد الله الذي جعل فيهم كما يستدل عليه أيضاً من مخاطبة الله (سبحانه وتعالى) للنبي إبراهيم عليه السلام: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [ البقرة / 142 ].

    ومن المعلوم - بإجماع المسلمين - أن الله (سبحانه وتعالى) جعل عهده النهائي في ذرية إبراهيم من نسل ابنه إسماعيل عليه السلام، وليس في نسل إسحاق عليه السلام كما يدعي أهل الكتاب، وقد توجه إبراهيم عليه السلام إلى الله جل وعلا داعياً: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) [ إبراهيم / 37 ] والمقصود ب‍ (من ذريتي) هم إسماعيل ومن انحدر من صلبه، وقد دعا إبراهيم عليه السلام أن يجعل الله لهم وفيهم الرحمة، وميل قلوب الناس إليهم تعني زيارة الناس للبيت الحرام وحجهم إليه، وهذا الميل أو الزيارة كناية عن هداية الناس بهم.

    ____________

    (1) مسند أحمد، ج 1 ص 389.

    (2) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 5 / 244، وانظر أيضاً: تفسير شبر ص 109.

    الصفحة 157
    وتؤكد توراة أهل الكتاب أيضاً استجابة هذا الدعاء لقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام (لقد سمعت دعاءك بشأن إسماعيل، إنني سأبارك فيه وأنميه واجعله مثمراً، وسيكون أباً لاثني عشر أميراً [ إماماً كما في النسخة العبرية ] وسأجعل منه أمة عظيمة) (1).

    ومن الواضح من هذا النص التوراتي الموافق لما جاء في الكتاب والسنة أن الأمة العظيمة هم الأتباع الحقيقيون لرسالة الإسلام كما يظهر جلياً من قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [ آل عمران / 68 ]. ولكن من هم هؤلاء الأئمة أو الأمراء الاثنا عشر الذين حسب النص السابق ستكون الأمة بهم عظيمة؟

    فمن الأحاديث التي تصرح بهوية الخلفاء الاثني عشر ما أخرجه الجويني بسنده عن عبد الله بن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم المهدي) (2).

    وفي رواية أخرى، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر أولهم أخي وآخرهم ولدي. قيل: يا رسول الله، ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب. قيل: فمن ولدك؟

    قال: المهدي الذي يملأها [ الأرض ] قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنور ربها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب) (3).

    ____________

    (1) التوراة (نقلاً عن نسخة بالإنجليزية)، سفر التكوين (17: 20).

    (2) مرتضى العسكري، معالم المدرستين، ج 1 ص 547، نقلاً عن فرائد السمطين للجويني.

    (3) المصدر السابق، ج 1 ص 548.

    الصفحة 158
    وفي رواية ثالثة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (... أنا وعلي والحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين) (1).

    وعلى ما يبدو أن أصحاب الصحاح والمسانيد المشهورة عند أهل السنة لم تعجبهم هذه الروايات الثلاث الأخيرة فلم يخرجوها في كتبهم، وقد قال الذهبي في ترجمة شيوخه بتذكرة الخواص أن الإمام المحدث صدر الدين إبراهيم الجويني وهو شافعي الذي أخرج هذه الأحاديث بكتابه (فرائد السمطين)، كان من المحدثين الثقة، وشديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الأجزاء (2).

    الاثنا عشر عند أهل السنة:

    عند النظر في تفسير علماء أهل السنة للأحاديث الصحيحة الدالة على وجود اثني عشر خليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تجدهم متحيرين كثيراً فيها، حيث إنهم لم يقدموا لغاية اليوم تفسيراً واضحاً من الممكن أن يجمعوا عليه، حتى أصبح الرقم (12) هذا وكأنه من الرموز والطلاسم الغامضة، أو شبيها 2 ب‍ (ألم وكهيعص) الواردة في القرآن ولكن لا أحد يعرف لها تفسيراً.

    وللقارئ أن يتسأل: لماذا أصبحت مسألة الاثني عشر خليفة هذه عند بعض المسلمين من الأمور الغيبية أو المجهولة على هذا النحو؟

    ونقدم فيما يلي نخبة من هذه التفسيرات لترى مدى غموض هذه المسألة عندهم، فهذا السيوطي يقول: (وقد وجد من الاثني عشر، الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهدي العباسي لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في

    ____________

    (1) المصدر السابق، ج 1 ص 584.

    (2) المصدر السابق، ج 1 ص 547.

    الصفحة 159
    الأمويين، والطاهر العباسي أيضاً لما أوتيه من العدل، ويبقى الاثنان المنتظران أحدهما المهدي لأنه من أهل البيت) (1).

    وأما ابن حجر العسقلاني فيقول: (إن جميع من ولي الخلافة من أبي بكر إلى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفساً، منهم اثنان لم تصح ولايتهما، ولم تطل مدتهما وهما معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء كما أخبر النبي) (2).

    وقال القاضي عياض: (لعل المراد بالإثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونوا في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، ويزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وعمر بن عبد العزيز من سليمان ويزيد، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك) (3).

    ثم يقدم القاضي عياض رأياً آخر: (ويحتمل أن يكون المراد مستحق الخلافة العادلين، وقد مضى منهم من علم، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة... إلى قوله: والله أعلم بمراد نبيه) (4).!

    وأما ابن العربي في شرح سنن الترمذي، فإنه بعد أن أخذ تلك الأحاديث على مآخذ وتفسيرات مختلفة، قال: (... ولم أعلم للحديث معنى) (5).

    فما الذي تعنيه هذه التفسيرات، وخصوصاً المنتهية بعبارة (والله أعلم!)؟

    فهل يغلق ملف هذه القضية، ويحرم الناس من معرفة خلفاء نبيهم؟

    ____________

    (1) السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 12.

    (2) ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 3 ص 182.

    (3) المصدر السابق.

    (4) شرح النووي على صحيح مسلم، ج 4 ص 382 - 83.

    (5) شرح ابن العربي على سنن الترمذي، ج 9 ص 68 - 69.

    الصفحة 160
    ولا أرى في فهمي لهذه الأحاديث سوى هؤلاء الخلفاء الاثني عشر هم الأئمة من أهل البيت عليه السلام وهم: علي، والحسن بن علي، والحسين بن علي، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، وأخيراً محمد بن الحسن وهو المهدي المنتظر الذي يعتقد الشيعة بغيبته منذ عام 260 ه‍. ويقول الإمام الخامس، محمد بن علي، والملقب بالباقر:

    (نحن بقية تلك العترة، وكانت دعوة إبراهيم لنا) (1). ونقدم في الفصل التالي لمحات من سيرة هؤلاء الأئمة الأطهار.

    ____________

    (1) عبد الله شبر، تفسير القرآن الكريم، ص 260.

    الصفحة 161

    الفصل الثاني
    لمحات من سيرة الخلفاء الاثني عشر

    1 - الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

    ولد في الثالث عشر من رجب في الكعبة المكرمة بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثين عاماً، وقيل سبعة وعشرين عاماً، ونشأ وترعرع في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمضى فترة صباه في بيته. وهو أول من أسلم، وقد اختلف في عمره حين إسلامه بين عشرة إلى ثلاثة عشر عاماً. وهو على كل حال لم يسجد لصنم قط، ولم يتجه بأي عبادة لغير الله عز وجل.

    وكان أهم ما تميز به الإمام علي عن غيره هو مصاحبته الفريدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقربه منه، ومؤاخاته له، وتلقيه التربية على يديه. وقد عبر الإمام عن ذلك بقوله: (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه) فأخذ من أخلاقه وعلمه حتى أصبح بحق باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكمته، وما أهله ليكون وزيره ووصيه وخليفته على المسلمين بعده بل وأصبح عديلاً للقرآن يعرف المؤمنون حقاً بحبه والمنافقون بكرهه (1).

    وهو بذلك الوحيد الذي استحق عند الشيعة لقب (أمير المؤمنين) من بين جميع الخلفاء الذين تسنموا إمرة المسلمين على مر التاريخ، بل وحتى من بين جميع الأئمة الاثني عشر عليه السلام.

    وأما عن زهده، فلم تعرف الدنيا حاكماً خضعت له البلاد، ودانت له الدول وهو يلبس ثوباً بثلاثة دراهم. وأما في مجال لقتال والحرب، فقد تميز بشجاعة وبطولة خارقة، حيث كان أول فدائي في الإسلام عندما نام في فراش

    ____________

    (1) تجد تفاصيل ذلك مع المصادر في الفصل الثاني.

    الصفحة 162
    النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت هجرته إلى المدينة وفي موقعة بدر، قتل بسيفه (ذي الفقار) ما لا يقل عن ثلاثين مقاتلاً من صناديد قريش، وقد ذكر المؤرخون نداء الملك جبريل يوم بدر: (لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي) (1). وأما في موقعتي أحد وحنين، فقد وقف تلك المواقف التاريخية مدافعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فرار المسلمين الجماعي حينذاك. وفي الخندق، تصدى لمبارزة فارس المشركين الأول عمرو بن ود العامري، بعد أن لم يتجرأ أي من الصحابة على التصدي له بالرغم من تكرار حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بذلك، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضربة علي عليه السلام التي قضت على ذلك العملاق بأنها تعدل عبادة الثقلين. وفي خيبر، فإنه وبعد أن تعاقب على حمل الراية عدد من المهاجرين وسرعان ما كان كل واحد منهم يعود بالفرار والهزيمة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)، فكان الفتح على يديه علي. وكما يذكر المؤرخون أن باب الحصن الذي حمله الإمام بعد فتحه وجعله درعاً يحميه من ضربات يهود خيبر، قد عجز عن حمله أربعين صحابياً مجتمعين.

    فلا غرابة في استحقاقه نيل شرف الزواج من بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رافضاً تزويجها للعديد ممن تقدم لخطبتها من وجوه القوم، وكان قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (إن الله) (سبحانه وتعالى) أمر بتزويج فاطمة منك)، وقد صدق القائل: (لو لم يخلق علي، ما كان لفاطمة كفؤ) (2)، وقال أحمد بن حنبل: (ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب) (3).

    ____________

    (1) مناقب أمير المؤمنين لابن المغازلي ص 197.

    (2) كنوز الحقائق ص 129.

    (3) مستدرك الحاكم ج 3 ص 107.