الصفحة 190
حوادثه وأشخاصه، فإن البحث حولها سيوضع في دائرة البحوث الدينية ذات الأهمية القصوى لعصرنا هذا.

وللتحقق من ذلك، نقدم فيما يلي ما رأيناه من تلك الترسبات والآثار لأزمة الخلافة والإمامة، وهي تسعة بيناها في ثلاثة فصول:

الأول: الآثار الأولية وهي

1 - انحراف الأمة وتعطيل المسيرة التغييرية والإصلاحية التي بدأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - انتشار ظاهرة الوضع والدس في الحديث.

3 - تقديس الصحابة على حساب مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

الثاني: أخطر الآثار وهو

4 - تفتت الأمة وانقسام إسلامها إلى فرق ومذاهب.

الثالث: الآثار اللاحقة وهي

5 - التمويه على حقائق الأحداث التاريخية وتحريفها.

6 - تطرف بعض العاملين في الميدان الإسلامي. وتخبطهم وجمودهم.

7 - الخنوع والاستسلام لحكام الجور.

9 - شيوع الجهل والتخلف.


الصفحة 191

الفصل الأول
الآثار الأولية

1 - انحراف الأمة وتعطيل المسيرة التغييرية والإصلاحية التي بدأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم

المنعطف الخطير!

في اللحظات التي كان يفترض أن يتم فيها انتقال الرسالة الإسلامية من مرحلة النبوة إلى مرحلة الخلافة بطريقة تتناسب وعظمة هذه المناسبة، وبكل ما ينبغي أن يعني وداع الأمة لنبيها وقد اشتد به المرض في أيامه الأخيرة، فقد وجدنا بعضاً من كبار الصحابة يصفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بالهجران) وذلك عندما أمرهم بالتهيؤ حتى يكتب لهم لا يضلوا بعده أبداً. وقد كان من رد فعل النبي لذلك الوصف أن طردهم من مجلسه وهو غاضب عليهم (1).

وبعد هذه الحادثة بيومين يخرج النبي صلى الله عليه آله وسلم معصب الرأس وقد بدى الغضب في وجهه، ولكن هذه المرة بسبب تأخر الصحابة عن المسير في بعثة أسامة وطعنهم بإمارته بحجة لصغر سنه (2). وقد كان واضحاً أن السبب الحقيقي لتأخرهم وطعنهم هو حرصهم على مصير الخلافة في حال رحيل النبي المتوقع أثناء فترة غيابهم عن المدينة المنورة!

وبعد ذلك بيومين أيضاً، كان يوم الفراق الحزين وحيث كان الجسد الطاهر لا يزال ينتظر أن يوضع لراحته الأخيرة ظهر منهم ذلك التجاوز

____________

(1) سيرى تفاصيل هذه الحادثة في الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(2) صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب زيد، ج 5 ص 57.

الصفحة 192
المأساوي للنصوص الصريحة باستخلاف علي، وتنازعها بدلاً من ذلك غالبية المهاجرين والأنصار على أسس قبلية، وبكل ما أوتوا من أساليب المكر والتهديد معلنين بذلك البداية الرسمية لأزمة مريرة حول خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمامة الأمة بعده. فهذه ثلاث مخالفات مؤلمة حدثت في الخمسة أيام الأخيرة للنبي والتي ما كانت لتحدث لولا حرص بعض الصحابة واجتهادهم حول مسألة الزعامة والإمارة، ومما ينذر بما ستؤول إليه أحوال الأمة بعد ذلك.

لماذا الحاجة إلى التغيير والإصلاح؟

إن الفترة القصيرة - نسبياً - التي قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الصحابة لم تكن كافية لإعدادهم الإعداد الكامل الذي يؤهلهم لحمل الرسالة بأصالتها ونقاوتها إلى الأجيال اللاحقة، وخصوصاً إذا كان الأمر متعلقاً بإعداد أمة ترسخت فيها القيم الجاهلية، فضلاً عن أن غالبية الناس قد أعلنوا إسلامهم في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن الإسلام ليتمكن في قلوبهم، بل إن أكثرهم تلفظ بالشهادتين استسلاماً لأمر أصبح واقعاً، إن لم يكن خوفاً وطمعاً وربما نفاقاً.

وفي الحقيقة إن تلك المخالفات التي ودع بها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تعد تتويجاً للعديد من المواقف الأخرى التي خالفوه بها قبل ذلك، إن دلت على شئ فإنما تدل على عدم تغلغل الوعي الإيماني والرسالي، والفهم الفعال في النفوس الذي كان من شأنه أن يستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة بصورة نهائية.

وغالبية من يعترضون بحدة على هذا المنطق إنما يرجع اعتراضهم إلى ما حملوه من أفكار مبالغ فيها حول قدسية الصحابة فوق العادية. فهم بنظرهم ممن اصطفاهم الله ورسوله من بين خلقه اصطفاءاً، فصيغوا أعظم صياغة، وأعدوا أرفع إعداد ليكونوا وزراء نبيه وحملة الرسالة من بعده، أو كما

الصفحة 193
وصفهم أحد الكتاب المعاصرين بقوله: (.. فإذا سمعت منهم [ الصحابة ] فكأنك تسمعه من فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم) (1).

وعلى كل حال، فإن ذكرنا لمخالفات الصحابة لا يعني إنكار تضحيات الكثير من أجلائهم في مجال الجهاد، وفي سبيل العقيدة، ولكن هذه الأنوار كما يوضح الشهيد السيد / محمد باقر الصدر لم تكن نتيجة وضع معمق تعيشه الأمة في أبعادها الفكرية والنفسية، بل كانت نتيجة طاقة حرارية هائلة اكتسبتها هذه الأمة بإشعاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان طبيعياً أن تصبح طاقة الأمة بعده في تناقص مستمر، حال الشخص الذي يتزود من الطاقة الحرارية للشمس والنار، ثم يبتعد عنهما، فإن هذه الحرارة تتناقص عنده باستمرار، بخلاف الوعي الذي يستأصل جذور ما قبله، ومن طبيعته الثبات والاستقرار بل التعمق على مر الزمن (2).

وعلى كل، فمهما كان نوع هذا المحرك، الوعي أو الحماس والعاطفة، فقد استحق من أحسن عملاً من الصحابة الثناء من الله جل وعلا بقوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) [ التوبة / 100 ]، وبقوله تعالى: (لقد رضى الله المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) [ الفتح / 18 ].

وينبغي الإشارة هنا على كل حال أن هاتين الآيتين وأمثالهما لا تضمنان الجنة لكل من هاجر وناصر أو بايع تحت الشجرة ما لم يكن ذلك مقروناً بعدم الأحداث والتبديل، ومشروطاً بحسن الخاتمة، والدليل على ذلك قوله تعالى:

(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً) [ الفتح / 10 ]

____________

(1) عبد الفتاح أبو غدة، لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، ص 20.

(2) محمد باقر الصدر، أهل البيت: تعدد أدوار ووحدة، ص 88.

الصفحة 194
وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في شهداء أحد: (هؤلاء أشهد عليهم. فقال بكر:

ألسنا بإخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلى ولكن لا أدري ما تحدثوا بعدي) (1).

ومثل ذلك قوله: صلى الله عليه وآله وسلم (أنا فرطكم على الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم. قال الراوي: لسمعته يزيد فيه، قال: إنهم مني (وفي رواية: إنهم أصحابي) (2) فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا (وفي رواية:

أحدثوا) (3) بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي) (4).

وفي الحديث الشريف أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وأن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة) (5).

وهكذا فإن تلك الطاقة الحرارية وذلك الوعي قد يتفاعلان ويتفقان في كثير من الأحيان في ظواهر مشتركة لدرجة يصعب التفريق بين ما تفعله الأمة انطلاقاً من وعي أو مجرد طاقة حرارية مؤقتة. إلا أنه وفي لحظات الانفعال الشديد وعند المنعطفات الحاسمة والمواقف الحرجة من تلك الحقبة الزمنية، كان يتبين بوضوح الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية، وكما يمكن أن يتضح من الأمثلة التالية:

1 - تثاقلهم في الخروج إلى (بدر) وتفضيلهم بدلاً من ذلك أسر قافلة أبي سفيان وأخذ ما تحمله العير من بضائع، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى بحقهم

____________

(1) صحيح البخاري.

(2) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم، ج 9 ص 144.

(3) المصدر السابق.

(4) صحيح البخاري.

(5) صحيح مسلم، كتاب القدر، ج 5 ص 504.

الصفحة 195
قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [ الأنفال / 67 - 68 ].

ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد عوض تثاقل بعضهم وقلة عدد المقاتلين المخلصين بإنزال الملائكة ليقاتلوا نصرة للحق واستجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما تضرع إلى الباري: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم في الأرض، اللهم انجزني ما وعدتني).

2 - مخالفة غالبية الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في موقعة أحد، حيث أمرهم بعدم مغادرة مواقعهم (الإستراتيجية) التي عينهم فيها مهما تغير الحال، إلا أنهم تسرعوا بترك تلك المواقع طمعاً وحرصاً على جمع الغنائم. مما أدى إلى هزيمة المسلمين.

ويروي البخاري في صحيحه: (جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير، وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أخراهم، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلاً) (1). وفي رواية أخرى: (... فإنما كان يوم أحد وانكشف المسلمون. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه) (2).

3 - فزعهم يوم الخندق وخوفهم من مبارزة عمرو: حيث ذعر المسلمون في ذلك اليوم أيما ذعر حينما حوطوا بعشرة آلاف من المشركين، أو كما يصفهم جل وعلا بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً * إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت

____________

(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله (والرسول يدعوكم في أخراكم)، ج 6 ص 67.

(2) المصدر نفسه، كتاب الجهاد، باب قوله - من المؤمنين رجال صدقوا -، ج 4 ص 47.

الصفحة 196
القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً) [ الأحزاب / 9 - 11 ].

وكان من أخطر المواقف التي امتحن بها جموع الصحابة في ذلك اليوم عندما خرج لهم أقوى صناديد قريش عمرو بن ود العامري وتحداهم للمبارزة، وراح يصول ويجول ويتوعد المسلمين ويتفاخر عليهم ببطولته.

فلم يجرأ للخروج إليه سوى علي عليه السلام قائلاً: أنا له يا رسول الله. ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أجلسه معطياً الفرصة لغيره. وعندما رأى عمرو خوف الصحابة أخذ يوبخ المسلمين ويسخر منهم قائلاً: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم يدخلها، أفلا تبرزون لي رجلاً؟ وعندما لم يجبه أحد، كرر علي عليه السلام محاولته للخروج إليه حتى سمح النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بذلك: المرة الثالثة وتمكن منه وقتله. وقد استحق علي عليه السلام لذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود أفضل من عمل أمتي يوم القيامة). كما جاء ذلك في: (المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج 3 ص 32).

4 - وكان فرارهم يوم (حنين) أخزى وأمر، وقد نزل القرآن يؤنبهم:

(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) [ التوبة / 25 - 26 ].

5 - ترك حاضري المسجد من الصحابة - ما عدا اثني عشر منهم - للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب يوم الجمعة بعد سماعهم بوصول قافلة من الشام. ويروي البخاري الحادثة عن جابر بن عبد الله كما يلي: (أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وفي رواية: بينما نحن نصلي مع النبي إذ أقبلت عير تحمل طعاماً (1) فثار الناس، وفي رواية: فالتفتوا إليها حتى ما

____________

(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، ج 6 ص 28.

الصفحة 197
بقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثني عشر رجلاً (1) - فأنزل الله [ يؤنبهم ]: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) [ الجمعة / 11 ] (2).

6 - ظهور العصبية والحمية الجاهلية من بعض الصحابة بحضور النبي صلى الله على وآله وسلم، حيث يروي البخاري عن جابر بن عبد الله قال: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال الأنصار: يا للأنصار.

وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية) (3). وروت عائشة حادثة مشابهة بين الأوس والخزرج والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر: (... فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك.

فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً لكن احتملته الحمية، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت) (4).

7 - استشراء ظاهرة النفاق: والمنافقون هم الذين كانوا يتظاهرون بالإيمان ويخفون الكفر، وقد نزلت سورة التوبة بكاملها لفضحهم.

والمنافقون الذين عدهم المؤرخون كانوا أقل بكثير من عددهم الواقعي نظراً لتخفيهم حسب ما يتطلبه نفاقهم بطبيعة الحال وكما في قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم * وآخرون اعترفوا

____________

(1) المصدر نفسه.

(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 6 ص 391.

(3) المصدر نفسه، باب قوله - سواء عليهم استغفرت لهم، ج 6 ص 397.

(4) المصدر نفسه، كتاب الشهادات، ج 3 ص 508.

الصفحة 198
بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) [ التوبة / 101 - 102 ].

8 - فضح القرآن لنفاق الصحابي ثعلبة حيث كان يلح في سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو الله له برزقه بالمال الكثير، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليل تشكره خير من كثير لا تطيقه. فقال ثعلبة: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فيرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

اللهم ارزق ثعلبة مالاً. فرزقه الله ونماه له وعندما طلب منه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زكاة أمواله بخل ثعلبة وامتنع. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هلك ثعلبة. ونزل بحقه قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه) [ التوبة / 75 - 77 ].

9 - فضح القرآن لفسق الصحابي الوليد بن عقبة، والذي ولاه عثمان بن عفان أيام خلافته ولاية الكوفة: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتهم نادمين) [ الحجرات / 6 ].

وهو من الذين أسلموا بعد فتح مكة، وكلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم جباية صدقات بني المصطلق، ولكنه عندما وصل أطلال هذه القبيلة خاف لسبب من الأسباب، فرجع إلى المدينة دون أن يواجه القوم، وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن بني المصطلق رفضوا دفع الزكاة وكادوا يقتلونني. فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرسل لهم جيشاً لقتالهم، وكادت أن تقع واقعة كبرى لولا أن بني المصطلق علموا بمكيدة ابن عقبة في الوقت المناسب فجاءوا إلى المدينة وبرءوا ساحتهم أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فنزلت الآية تفضح أمر الوليد.

10 - وكان من الصحابة أيضاً رجلاً يدعى حرقوص بن زهير الملقب بذي الثدية، والذي كان يتظاهر بكثرة التعبد والخشوع، فيعجب الصحابة بتنسكه القشري، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما رآه قال أن في وجهه سعفة من الشيطان

الصفحة 199
(وهذا الرجل أصبح فيما بعد رأس فرقة الخوارج المارقين الذين حاربوا الإمام علي أيام خلافته) وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما أعطاه الله جل وعلا من بصيرة يعلم ما سيفعله هذا الرجل فأراد استئصال فساده من حينه، وأمر بقتله. فتطوع أبو بكر للمهمة، إلا أنه عندما وجده يصلي رجع. ثم تطوع عمر لقتله، فلما وصله وجده ساجداً فرجع كسابقه حيث لم يهز عليهما قتل رجل يصلي: فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً ليقتله، ولكنه عندما وصل مكان مصلاه لم يدركه (1). ومما يجدر ذكره أن هذا الرجل قد قتل فعلاً في موقعة النهروان في عهد خلافة علي، ولكن بعد أن كان من فتنته وفساده ما كان.

11 - ومن الصحابة أيضاً من كان يعترض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كاعتراض عمر بن الخطاب بشأن صلح الحديبية كما يروي الحادثة مسلم في صحيحه:

(قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألسنا على حق وهم على الباطل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: بلى. قال عمر: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع، ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً - وفي رواية البخاري كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري (2) - فانطلق عمر فلم يصبر متغيظاً، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال عمر: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال أبو بكر: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً) (3).

____________

(1) ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1 ص 484.

(2) صحيح البخاري، كتاب الشروط.

(3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، ج 4.

الصفحة 200
12 - ومن ذلك تبرؤ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من فعل خالد بن الوليد عندما أرسله في إحدى البعثات وتسرع بقتل العديد من الأبرياء، من أن بعض مرافقيه قد نبهوه للشبهة التي قتلهم بسببها. وقد حدى قتله لهم لغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتبرؤه من فعله عندما قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) مرتين (1).

13 - ومن الصحابة كان الطلقاء كأبي سفيان الذي لم يدخل الإسلام إلا استسلاماً لأمر أصبح واقعاً ليس له خيار فيه وقد عبر بنفسه عن مدى تغلغل الإيمان في قلبه بقوله: (أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره) (2). ولكن أين هو من قوله تعالى: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) [ هود / 28 ]!!

وأما ابنه معاوية فقد بعث إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس يدعوه ليكتب له فوجده يأكل - إلى ثلاث مرات - فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أشبع الله بطنه) (3). وفي رواية أخرى في صحيح مسلم: قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له) (4). وفي مسند أحمد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاوية وعمرو بن العاص:

(اللهم أركسهما في الفتنة ركساً ودعهما إلى النار دعا) (5).

فهذه الأمثلة وغيرها هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحذر أصحابه قائلاً:

(لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) (6) وهي كافية لإثبات عدم تغلغل الوعي الإيماني في نفوس الصحابة للدرجة التي تؤهلهم للصمود أمام الامتحانات والفتن التالية، والتي لا بد وأن تكون أكثر شدة وحرج بعد

____________

(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، ج 5 ص 440.

(2) المصدر نفسه، كتاب الجهاد، ج 4 ص 122.

(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصدقة، باب من لعنة النبي، ج 5 ص 462.

(4) المصدر نفسه، كتاب الطلاق، باب المطلقة البائن، ج 3 ص 693.

(5) مسند أحمد، ج 4 ص 421، ط دار إحياء التراث.

(6) صحيح البخاري كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، ج 2 ص 462.

الصفحة 201
مفارقتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مصدر تلك الطاقة الحرارية التي ظهرت آثارها في كثير من تضحياتهم أثناء حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها.

وعلى كل، فهذه مسألة قد تبدو طبيعية، ولا ينبغي تحميل أولئك أكثر مما يتحملوا، فالمسيرة التغييرية والإصلاحية التي بدأت بذلك الجيل القريب عهداً بالجاهلية - كما بينا سابقا - لا يمكن أن تتم في تلك الفترة القصيرة التي قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم، بل أنه يمكن القول أن الكثير من تصرفات ذلك الجيل والتي عرضنا أمثلة منها لم تكن مؤشراً على وجود انحراف بقدر ما كانت مؤشراً إلى عدم زوال ترسبات الجاهلية بكاملها وعدم اكتمال تربيتهم الإيمانية والرسالية.

وقد نشأ اعتراض الكثيرين على هذا المنطق من افتراضهم أن الاعتراف بنقائص الصحابة ومخالفاتهم يعد اعترافاً بفشل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونقصاً في رسالة الإسلام. والدليل الحاسم على الخطأ الفادح الذي وقع فيه أصحاب هذا الافتراض هو أن الله سبحانه وتعالى قد حدد نجاح مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإتمام تبليغ الرسالة ليس إلا، وهذا يظهر بوضوح من قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ) [ الشورى / 48 ]، وقوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) [ الأحزاب / 45 ]، وقوله تعالى:

(فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) [ المائدة / 92 ]، وقوله تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) [ الرعد / 7 ].

وهذا يفسر ضرورة توفر خلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مواصفات خاصة تؤهلهم بحق لأن يكونوا (هداة) لتستمر على أيديهم عملية التغيير والإصلاح: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي) [ يونس / 35 ]. ولكن أنى يكون ذلك وقد أبعد هؤلاء الهداة عن مواقعهم التي عينهم الله سبحانه وتعالى لها، واستبدلوا بمن هم ليسوا أهلاً لتحمل أعباء مسؤولية كهذه حتى وصل الأمر لأن يتسنم قيادة الأمة من وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطلقاء من المنافقين والقتلة الفجرة!


الصفحة 202

شواهد على تدرج الانحراف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ومن الشواهد التي تشير إلى تضاؤل ذلك التوهج العاطفي الحار عند الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل وانطفائه تماما في مواقع عديدة حتى تحول في بعضها إلى سواد وأداة تحاول إطفاء ما تبقى من نور الرسالة:

1 - مجريات السقيفة وكل ما فيها من تبادل الشتائم والتهديد وظهور النعرات القبلية مجدداً بين المهاجرين والأنصار من جهة، وبين قبائل كل منهما من جهة أخرى، علاوة على ظهور حب الجاه والزعامة في بعض الصحابة ذوي المكانة والمرتبة. ولو كان تصرف أهل السقيفة إسلامياً وليس قبلياً جاهلياً لما تخلف علي ومعه ستة عشر من أجلاء الصحابة عن البيعة لقائد الأمة الجديد (1).

2 - ظهور الغطرسة من جديد في خالد بن الوليد عندما أقدم على سلوك بعيد كل البعد عن تعاليم دين الإسلام وأخلاقه وإنسانيته، وذلك بقتله للمسلم مالك بن نويرة وأصحابه وما فعله بزوجته (2)، كل ذلك يظهر الطبيعة الجاهلية التي ما زالت مترسخة في نفوس بعضهم، حتى إن عمر بن الخطاب طالب بإقامة حدي القتل والزنا على خالد والذي زعم بعضهم أنه سيف الله المسلول (!!)، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال فيه: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد).

3 - تعيين الخليفة أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان عاملاً على الشام مقابل تأييد بني أمية لخلافته، حيث تم بموجب هذه الاتفاقية كما يذكر المؤرخون أن تكون الشام من حصة آل أبي سفيان على الدوام، الأمر الذي ألزم الخليفة عمر لاحقاً ليس فقط أن يعين معاوية خلفاً لأخيه يزيد بعد موته، بل والتهاون

____________

(1) راجع تفاصيل ذلك في القسم، الفصل الأول من هذا الكتاب.

(2) أيضاً.

الصفحة 203
معه أيضاً، خلافا لشدته وحزمه مع غيره من العمال والولاة. ومما يجدر ذكره أن أبا سفيان كان قد حاول تقديم (خدماته) أولاً لعلي عشية صراع السقيفة قائلا له أكثر من مرة: (إن شئت لأملأنها عليهم خيلاً ورجالاً ولأسدنها عليهم من أقطارها) (1)، ولكن الإمام علياً رفض هذا النوع من المساندة، لعلمه أن ما كان يسعى له أبو سفيان هو الدخول إلى دائرة الأضواء وما فيها من نفوذ وسلطة من أي نافذة ممكنة، فضلاً عن محاولته إذكاء نار الفتة والصراع بين المسلمين لأنه سيكون المستفيد الأول من ذلك. وعلى كل، فقد وجد أبو سفيان ومن معه من الطلقاء نافذتهم هذه بتعيين ابنه يزيد عاملاً على الشام، فأصبحت هذه البقعة قاعدتهم التي إنطلقوا منها لتحقيق شهوتهم في الحكم وأحلامهم الجاهلية في الزعامة والملك.

4 - وأما الخليفة عمر فقد امتد حزمه وخشونته لدرجة أعطى فيها لنفسه الصلاحية بالاجتهاد في أحكام الشريعة، مع أن بعضها كان على حساب نصوص الكتاب والسنة.

أوليس هو الذي كان يعترض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية، وبالصلاة على أحد المنافقين، وخالفه حينما طلب منه أن يستر إسلامه إلى أن ختم شريط حياته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوداعه له قائلاً بحقه (إن الرسول يهجر وحسبنا كتاب الله)؟!

وهكذا كان، فقد منع تدوين أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو حتى التحدث بها، فحرق ما كان قد كتب منها، وسجن عبد الله بن مسعود وضرب أبا هريرة لتحدثهما بها وقال: (... وأخلوا الرواية عن رسول الله... والله لا أشوب كتاب الله بشئ)!.

أو ليس هو القائل أيضاً: (متعتان على عهد رسول الله وأنا (!) أنهى عنهما) ففي المتعة الأولى (النساء) قال ابنه عبد الله لأحد الناس: (أرأيت أن

____________

(1) خالد محمد خالد، خلفاء الرسول، ص 418.

الصفحة 204
كان أبي ينهى عنها وصنعها رسول الله، تترك السنة وتتبع قول أبي؟). وفي المتعة الثانية (الحج) قال الإمام علي عليه السلام لعثمان: (ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله... ما كنت لأدع السنة لقول أحد).

أو ليس هو القائل أيضاً بشأن تشريعه لصلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه!) (1).

وما فارق الدنيا حتى أجبر الناس على العمل بكل البدع التي أحدثها أو قل (الاجتهادات) التي أدخلها والمميزة بشدة التعسير والتزمت خلافا لمرونة الشريعة وسماحتها، وجمع كل ذلك إلى ما اجتهده أبو بكر، وسميت مجتمعة سيرة أو سنة الشيخين، وقد أوجب على المسلمين العمل بها إلى جانب العمل بكتاب الله وسنة نبيه. بل أنه جعل القبول بهذا التثليث شرطاً لكل من يبايع له خليفة بعده.

5 - وهكذا جاء عثمان بن عفان، وهو الصحابي العديم الخبرة والدراية بشؤون السياسة والإدارة، فضلاً عن ضعفه بتحمل أعبائهما، وجهله بأحكام الشريعة، وقد بويع له على يد عبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشورى الذي كان قد عينه عمر قائلاً: (أبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الخليفتين من بعده).

وليته سار على سيرة الشيخين، فقد سارت خلافته (غفر الله له) على سيرة الجاهلية وسننها أكثر من أي سنن أخرى، وقد دخل أبناء قبيلته عليه بعد مبايعته مهللين: (يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة... ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة... فما هناك جنة ولا نار)!!.

ثم قام عثمان بعزل فضلاء الصحابة الذين عينهم عمر، وآذى بعضهم شر إيذاء، وعين بدلاً منهم أقاربه وبني عشيرته، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم محذراً:

____________

(1) راجع قسم 2 فصل من هذا الكتاب.

الصفحة 205
(من ولي من أمور المسلمين شيئاً، فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل منه حرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم) (1).

ويقول المودودي في انتهاكات عثمان: (لا شك أن هذا الجانب من سياسة عثمان (رض) كان خطأ، والخطأ خطأ على أي حال أياً كان فاعله. أما محاولة إثبات صحته باصطناع الكلام لغواً وعبثاً فهو أمر لا يقتضيه العقل ولا يرضاه الإنصاف، كما أن الدين لا يطالبنا بعدم الاعتراف بخطأ صحابي من الصحابة) (2).

6 - وعندما قام الإمام علي عليه السلام خليفة وأراد أن يحملهم على الكتاب والسنة الأصيلة، ثاروا عليه وحاربوه حسداً وبغياً.

وقد عد المودودي خروج معاوية وعائشة على الإمام علي مطالبين بدم عثمان من فعل الجاهلية بقوله: (وموقفهما من الناحية القانونية يمكن استصوابه بأي حال الأحوال، فذلك العصر لم يكن عصر النظام القبلي المعهود عن الجاهلية حتى يطالب بدم المقتول فيه من شاء وكيف شاء، ويستخدم في ذلك ما يروق من طرق وأساليب، وإنما كان هناك حكومة) (3). ثم يضيف مؤكداً أن كل ذلك شبيهاً بالفوضى التي كانت سائدة في الجاهلية قبل الإسلام.

فنتج عن خروج عائشة إهراق دم عشرة آلاف مسلم، واضطراب نظام الدولة وعمتها الفوضى، فلعمري أن هذا لا يمكن اعتباره إجراءاً شرعياً لا في نظر قانون الله وشرعه فقط، بل حتى في نظر أي قانون من القوانين الدنيوية) (4).

حتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي وصف كراهية عائشة للإمام بقصيدة نقتطف منها الأبيات التالية:

____________

(1) مسند أحمد، ج 1 ص 6.

(2) أبو الأعلى المودودي،، الخلافة والملك، ص 71.

(3) المصدر السابق، ص 77.

(4) المصدر نفسه، ص 78.

الصفحة 206

يا جبلاً تأبى الجبال ما حمل * ماذا رمت عليك ربة الجمل
أثأر عثمان الذي شجاها * أم غصة لم ينتزع شجاها
ذلك فتق لم يكن بالبال * كيد النساء موهن الجبال
وإن أم المؤمنين لامرأة * وإن تلك الطاهرة المبرأة
أخرجها من كنها وسنها * ما لم يزل طول المدى من ضغنها

ويجز الشيخ محمد الغزالي على ترسخ وجود مثل تلك الحمية الجاهلية في سلوك معاوية بقوله: (وجمهور الفقهاء والمؤرخين والدعاة يؤكد على أن علي بن أبي طالب كان إمام حق، وأن معاوية بن أبي سفيان كان يمثل نفسه وعصبيته في خروجه على علي) (1).

وقد اشتمل مسلسل الانحراف هذا الذي أصاب الأمة من كانوا في صف الإمام علي أيضاً، وقد عبر عما أصابه في قلبه تجاههم قبل مفارقته لهم:

(قبحكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان) (2).

7 - ثم جاء النظام الأموي وتوسع في العبث بدين الإسلام وترسيخ نمط الحياة الجاهلية، وكانت له اليد الطولى في تدعيم أركان التفرق والتمذهب لأغراض سياسية فمعاوية يعلم أنه أخذ الخلافة بغياً وقهراً من صاحبها الشرعي علي وابنه الحسن من بعده، وقام بتسمية حاشيته ومن وافقه من عامة المسلمين بأهل السنة والجماعة، في الوقت ذات أطلق على معارضيه من شيعة أهل البيت عليه السلام بالرافضة، ثم جعل سب الإمام علي عليه السلام على المنابر (سنة) واجبة. فكيف يتصور اعتبار معاوية خليفة شرعياً لرسول الله وبأمره كان يسب الإمام على ألف منبر بالجمع والأعياد على طول الدولة الإسلامية وعرضها؟

____________

(1) محمد الغزالي، مئة سؤال وجواب، ج 2، ص 353.

(2) راجع قسم 2 فصل 4 من هذا الكتاب.

الصفحة 207
ولقد بقي تطبيق هذه) السنة) مستمراً زمن الخلفاء الأمويين حتى منعها الخليفة عمر بن عبد العزيز.

8 - ولقد توج (أمير المؤمنين) يزيد مسلسل الأحداث والتبديل في سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإرجاع الأمة تماماً إلى ما كانت عليه قبل الإسلام بقتله الإمام الحسين ومن معه من أهل بيت النبي والذين جعل الله سبحانه وتعالى التمسك بهم واتباعهم شرطاً للهداية والنجاة. فأين يكون موقع يزيد ومن بايعه أو سكت على شنيع فعله من شريعة الإسلام؟

ويمكن تلخيص موقف يزيد والحال التي وصلت إليه خلافة المسلمين بأبيات شعرية أنشدها يزيد نفسه:

لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندق إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل!!

وبأبياته التي أنشدها عندما جئ بنساء آل البيت سبايا وبرؤوس شهداء كربلاء معلقة على رؤوس الرماح:

لما بدت تلك الحمول وأشرقت * تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح * فلقد قضيت من الرسول ديوني!!

فيا له من إسلام يقتضي فيه الخليفة ديونه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى ثأره لقتل أجداده في بدر بالانتقام من أحفاد النبي (بني أحمد) في كربلاء!

9 - ولم يختلف الوضع كثيراً فيمن جاء من الخلفاء بعد يزيد، فهذا عبد الملك بن مروان عند تسلم الخلافة وكان في يده مصحف فأطبقه قائلاً: (هذا فراق بيني وبينك! (1)، وأما ابنه الوليد فإنه قام بتمزيق المصحف الشريف بسهام وذلك عندما حاول استفتاح آياته، وقد خيبت ظنه وفضحت جبروته وعناده كما هو معروف من هذه الحادثة.

____________

(1) راجع قسم 2 فصل 8 من هذا الكتاب.

الصفحة 208
وهذه الحالة الجاهلية التي عاشها المسلمون في عهود معاوية ويزيد والمروانيين قد امتدت في الحقيقة لتشعل عهود بقية الخلفاء الأمويين ومن جاء بعدهم من الملوك والسلاطين الذين تسنموا منصب الخلافة الإسلامية على مر تاريخها.

ويحلو لبعضهم الدفاع عن هؤلاء الخلفاء بسبب تحقيقهم لفتوحات واسعة في الشرق والغرب ونشر الإسلام في هذه المناطق. ولكننا نسأل: ماذا كان هدف هؤلاء الملوك والسلاطين من تلك الفتوحات؟ فباستثناء القلة القليلة منها لا سيما في بدايتها، فإن الفتوحات كانت تعني عند أولئك الحكام مجرد وسيلة لتوسيع وقعة الملك وتكثير الخراج. وكانت غاياتهم هذه تتضح من حالة البذخ والإسراف في اللهو والملذات التي كانوا يعيشونها، وما ظهر من تأثير ذلك في نشر القيم الفاسدة والمنحرفة بين عامة المسلمين.

وحتى ذلك الخليفة - على سبيل المثال - الذي قيل أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، كان (بيوت الحريم) بقصوره العديدة ما لا يقل عن 2000 ألفي جارية جمعها من مختلف أقاليم إمبراطوريته الواسعة، فلو أريد من تلك الفتوحات وجه الله وما يعني ذلك من ضرورة نشر العدالة والقيم الإسلامية، لكان الأولى بالخلفاء أنفسهم أن يجسدوا تلك المعاني والقيم في سلوكهم، وكيف يكون ذلك، وقد كان كثير منهم لا يتوانى عن قتل أبيه أو أخيه من أجل الوصول إلى سدة الحكم. فالرشيد مثلاً لم يكتف بقتل أخيه الخليفة السابق، بل قام أيضاً بحبس الإمام موسى بن جعفر (الكاظم) المستحق الحقيقي لمنصب الخلافة!؟ بل أنه سجن أيضاً أبا حنيفة النعمان، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة لمجرد تعاطفه مع أهل البيت عليه السلام ورفضه استلام منصب القضاء في عهده.

ويعلق الشهيد سيد قطب بشأن تلك الفتوحات وما جرى على الإسلام على يد خلفاء المسلمين بقوله: (لقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت

الصفحة 209
روح الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس، ولو قدر لعلي أن ينتصر، لكان انتصاره فوزاً لروح الإسلام الحقيقية، الروح الخليقة العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في النضال، ولكن انهزام هذه الروح ولم يمض عليها نصف قرن كامل، وقد قضي عليها فلم تقم لها قائمة بعد - إلا سنوات على يد عمر بن عبد العزيز - ثم انطفأ ذلك السراج، وبقيت الشكليات الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية. قد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدي معاوية ومن جاء بعده، ولكن روح الإسلام قد تقلصت، وهزمت، بل انطفأت، فإن يهش إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضوض، فتلك غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها) (1).

ثم يبدد الشهيد قطب أوهام المتعلقين بأهداب التعصب المذهبي الأعمى في دفاعهم عن معاوية بقوله: (وبعد، فلست (شيعياً) لأقرر هذا الذي أقول، إنما أنظر إلى المسألة من جانبها الروحي الخلقي، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعياً لينتصر للخلق الفاضل المترفع عن الوصولية الهابطة المتدنية، ولينتصر لعلي بن أبي طالب على معاوية وعمرو، إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة...) (2).

2 - انتشار ظاهرة الوضع والدس في الحديث

العامل الأساسي في تولد هذه الظاهرة

الحديث الموضوع هو الكلام المختلق والمنسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذباً وزوراً وبهتاناً. وبالرغم أنه كانت هناك أسباب ودوافع عديدة لظهور وضع الحديث والكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنه لا يهمنا منها هنا سوى العامل السياسي وما يتضمن من اختلافات وصراعات حول زعامة الأمة الإسلامية، وإبراز دوره في التأثير على هذه الظاهرة.

____________

(1) سعيد أيوب، معالم الفتن ج 2 ص 458 - 459، نقلاً عن سيد قطب، كتب وشخصيات.

الصفحة 210
ويتفق جميع من تطرق إلى هذه المسألة أن الدوافع السياسية كانت أخطر أسباب ظهور ظاهرة الوضع، ولكنه من غير المقبول أن يرمى هذا الإثم - كما يزعم بعضهم - على فئة معينة من المسلمين دون غيرها، وتبرئة الجيل الأول منه براءة تامة وكأنهم كانوا من المعصومين الذين يستحيل عليهم الكذب والخطيئة. فهذا عبد الفتاح أبو غدة على سبيل المثال يعزي ظهور وضع الحديث إلى الظروف التي رافقت مقتل عثمان حيث (ذرت الفتن قرنها، وبدأت الأهواء تأخذ إلى النفوس الضعيفة طريقها، وظهر في تصرف بعض الناس الذين لم يخطوا بصحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشاهدته ألوان من التعصب، ودبت الخلافات والتفرقة في الصفوف، وقامت الفرق والمبتدعة بالتحزب والتأويل) (1).

فهل أن العصر الذي سبق مقتل عثمان وهو عصر الصحابة كان بريئاً من هذه الآفة؟

وهل أن من طال به العمر من الصحابة بعد مقتل عثمان لا يحتمل عليه الكذب والوضع؟

وما بيناه من شواهد سابقة فيه إجابة كافية على هذا التساؤل، فمخالفة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول والعمل، أثناء حياته وبعده، وسبهم لبعضهم بعضا، بل وتهديدهم لبعضهم بالقتل، وظهور النزعات القبلية بينهم، وسل السيوف في وجوه بعضهم بعضهم في الجمل وصفين، وما تبع ذلك كله من مآسي فيه ما يفند ذلك الزعم.

ومن أمثلة ضلوع المهاجرين والأنصار بوضع الحديث هو رواية كل منهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يشير إلى علو منزلتهم وخصهم ببعض الامتيازات، فكما أنهم وضعوا الأحاديث في فضل المهاجرين والقرشيين كالذي روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الناس تبع لقريش، وأن هذا الأمر فيهم ما بقي

____________

(1) عبد الفتاح أبو غدة، لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، ص 46 - 47.

الصفحة 211
منهم اثنان) (1).

وفي رواية أخرى: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) (2).

وعن أبي هريرة: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم) (3). فقام بعض الأنصار في مقابل هذه الروايات بوضع أحاديث في فضلهم ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. من ذلك: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله) (4).

ومن الأمثلة التي كانت لها علاقة بالصراع السياسي الذي جرى بين المهاجرين والأنصار في السقيفة ما جرى لسعد بن عبادة زعيم الأنصار، والذي أخرج إلى بلاد الشام (وقيل أنه خرج لكراهته عمر بن الخطاب عندما صار خليفة) حيث قتل هناك بتدبير مدبر. إلا أن قاتليه أشاعوا بأنه قتل على يد الجن (!) وأذاعوا على لسان جني أنه قال: (نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده). وبالفعل فقد انتشرت خرافة قتل الجن لسعد، ودونها رجال الحديث والتاريخ فيما دونوه من حوادث ذلك العصر (5).

وقد كان للحكام الأمويين الدور الأكبر في تشجيع وضع الحديث وتزويره، حيث كتب معاوية بعد صلحه مع الحسن بن علي إلى جميع ولاته وعماله: (أن برئت الذمة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب (يعني علي) وأهل بيته...) (6)، فكان من نتيجة ذلك ملاحقة الموالين لأهل البيت وتعذيبهم وتقتيلهم، وفي نفس الوقت أوصى معاوية ولاته وعماله بإكرام من يروون في فضل عثمان وصحبه، والإغداق عليهم. وبالطريقة كان

____________

(1) صحيح مسلم، كتاب الإمارة ج 4 ص 481.

(2) المصدر نفسه.

(3) المصدر نفسه.

(4) صحيح البخاري، كتاب الفضائل، باب حب الأنصار من الإيمان ج 5 ص 84.

(5) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الأخبار والآثار، ص 124.

(6) المصدر نفسه، ص 115.

الصفحة 212
الأمويون يشجعون على وضع الأحاديث في فضائل عموم الصحابة لا سيما أبا بكر وعمر - كما سنرى في موضع لا حق - وذلك لرفع منزلتهم فوق منزلة أهل البيت عليه السلام ويقول ابن عرفة المعروف بنفطويه في هذا الصدد: (إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون إنهم يرغمون فيه أنوف بني هاشم) (1).

وقد روي أن عبد الله بن الزبير الذي بويع له خليفة في فترة من الفترات مكث أربعين جمعة أيام خلافته يخطب الناس ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسئل عن سبب ذلك فأجاب: (إن له أهل سوء إذا ذكرته شمخوا بآنافهم) (2).

ويقول أحمد أمين في (ضحى الإسلام) مؤكداً هذه الحقيقة: (أن الأمويين قد وضعوا ووضعت لهم أحاديث تخدم سياساتهم من نواحي متعددة، منها أحاديث في زيادة مناقب عثمان إذ كان هو الخليفة الأموي من بين الخلفاء الراشدين وهم به أكثر اتصالا من غيره، مثل حديث: أن عثمان تصدق بثلاثمئة بعير بأحلاسها وأقتابها في جيش العسرة، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذا اليوم) (3).

ومن الأحاديث التي وضعت في معاوية ولا يزال يذكرها بعض المتعصبين المعاصرين لبني أمية على أنها صحيحة كعبد المتعال الجبري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه: (اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به) (4).

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 3 ص 13.

(2) هاشم معرون الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار، ص 117.

(3) أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 2 ص 123.

(4) عبد المتعال الجبري، حوار مع الشيعة حول الخلفاء الراشدين وبني أمية، ص 222 نقلاً عن كتاب المناقب للترمذي.