(لا تذهب الأيام والليالي حتى تجتمع الأمة على معاوية) (3).
(أول جيش يغزو مدينة قيصر - يعني القسطنطينية - مغفور لهم) (4) وفي رواية أخرى: (أول جيش يغزو الروم مغفور لهم) (5) وهو إشارة إلى الغزوة المزعومة التي أرسلها فيها معاوية ابنه يزيد على رأسها لغزو القسطنطينية.
ولأن أغلب المحققين أكدوا على أنه لم يصح من الأحاديث التي رويت في فضائل معاوية شئ سوى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليه ولعنه (6)، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيه: (لا أشبع الله بطنه) (7)، فقد قام الوضاعون ضمن جهودهم لتبييض صحيفة معاوية وتبرئته مما دعا به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليه بنسب الحديث التالي المروي عن أبي هريرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إنما أنا بشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له زكاة ورحمة (8) - وفي رواية أخرى: فاجعل ذلك له قربة، وفي رواية ثالثة: كفارة، يوم القيامة) (9).
أبو هريرة: الراوي الأول!
والحقيقة أن أبا هريرة يعد مثالاً صارخاً يستحق كل الاهتمام والوقوف على سيرته لكثرة ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الراوي الأول بلا منازع عند الجمهور
____________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، نقلاً عن كتاب البداية والنهاية ج 8 ص 123.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه، ص 123، نقلاً عن البداية والنهاية ص 219.
(6) راجع قسم 3 فصل 1 من هذا الكتاب.
(7) أنظر المصادر في موقع سابق.
(8) صحيح مسلم، كتاب البر والصدقة والأب، باب من لعنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ج 5 ص 458.
(9) المصدر نفسه.
فهو في البداية يعترف أنه كان يكتم بعض ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم) (1)!! فما هي يا ترى تلك الأحاديث التي يخشى أبو هريرة روايتها، وممن؟
ومن الطريف في هذه المسألة أن أبا هريرة نفسه كان يقول في عقاب الكاتمين لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة - يعني أكثر رواية الحديث - ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً - ثم تلى قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) [ البقرة / 159 ]) (2).
وما يجدر ذكره أن أبا هريرة روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (5374) حديثا ملئت صحاح أهل السنة الستة (أي أكثر بأربعة أضعاف ما رواه الخلفاء الأربعة الأوائل!)، كل ذلك بالرغم أن لم يعاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى عامين. وأخذ عنه البخاري في صحيحه 446 حديثاً.
وكان الخليفة عمر هو أول من فزع لكثرة ما روى أبو هريرة، فضربه بالدرة وقال له: (لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس) (3). ولما سمعه الإمام علي عليه السلام يقول مرة: حدثني خليلي رسول الله! قال له: متى كان النبي خليلك (4)؟
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب حفظ العلم، ج 1 ص 89.
(2) المصدر نفسه، ص 88.
(3) البداية والنهاية، ج 8 ص 106.
(4) المصدر نفسه، ص 109.
وبالنظر إلى الغاية التي كان أبو هريرة يلازم من أجلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان من الطبيعي أن يميل إلى مناصرة الأمويين ضد معسكر الإمام علي عليه السلام لما وجده عندهم مما يناسب ميوله وشغفه من الطعام حتى أن كل من الجزار بسر بن أرطأة ومروان بن الحكم قد أناباه على ولاية المدينة، فتغيرت أحواله من حال إلى حال. ولقد روي عن أيوب بن محمد أنه قال: (كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتاب؟ لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجرة عائشة مغشياً علي، فيجئ الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون، ما بي إلا الجوع) (3).
وكان مما قاله أبو هريرة في تقديره لفضائل معاوية عليه: (سمعت رسول الله يقول: إن الله أئتمن على وحيه ثلاثة: أنا وجبريل ومعاوية) (4).
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب جعفر بن أبي طالب، ج 5 ص 47.
(2) أخرجه الترمذي ج 13 ص 189. والحاكم بإسناد صحيح.
(3) صحيح البخاري، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر على اتفاق أهل العلم، ج 9 ص 317.
(4) أخرجه ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي.
(اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه (وهو فارسي الأصل) وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها، فلم ير المسلمون بأساً من أن يقصوها بجانب آيات القرآن، فكانت منبعاً من منابع التضخم) (1).
وكان كعب الأحبار أشهر هؤلاء وأخطرهم، وقد أسلم في عهد الخليفة عمر الذي قربه منه وكان معه في فتح بيت المقدس، وعندما افتضح أمره نهاه عن الحديث قائلاً له: (لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة) (2). إلا أنه تحول إلى الشام في عهد عثمان، فاستضافه معاوية هناك وجعله من مستشاريه المقربين لكثرة علمه كما ظن به. ومن هذا الموقع توسع هذا اليهودي المتظاهر بالإسلام من نشر آلاف الأخبار والقصص التوراتية التي حرف معظمها أصلاً أو اختلقت فأصبحت من الخرافات والأساطير.
وسترى أمثلة من ذلك في استعراضنا لبعض روايات أبي هريرة التي ملأت كتب صحاح الحديث والتفسير والتي وثق أصحابها بأمانة هذا الراوي:
وتقواه:
1 - ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(أرسل ملك الموت إلى موسى صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاءه صكه - وفي رواية مسلم في صحيحه: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها - فرجع الملك إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فرد الله عليه عينه وقال إرجع فقل
____________
(1) أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 2 ص 139.
(2) الذهبي، سيرة أعلام النبلاء، ج 2 ص 32.
وقد عبر الشيخ المرحوم محمد الغزالي عن استيائه لتزمت شارح هذا الحديث في أحد المصادر التي رجع إليها وجعله در الحديث إلحادا (2). وإليك كلام الشارح المدافع بإصرار عن صحة الرواية ونوع التبرير والمنقط الذي قدمه:
قال المارزي: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وأنكروا تصوره، وقالوا: كيف يجوز على موسى عليه السلام قد أذن الله تعالى له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحاناً للملطوم، والله سبحانه يفعل في خلقه ما شاء، ويمتحنهم بما أراد.
والثاني: أن هذا على المجاز، والمراد أن موسى ناظره وحاجه فغلبه بالحجة، ويقال: فقأ فلان عين فلان إذا غلبه بالحجة، ويقال: عودت الشئ إذا أدخلت فيه نقصاً، قال: وفي هذا ضعف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فرد الله عينه، فإن قيل: أراد رد حجته كان بعيداً.
والثالث: أن موسى عليه السلام لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها، فأدت المدافعة إلى فقء عينه، لا أنه قصدها بالفقء، وتؤيده رواية: صكه، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين واختاره المازري والقاضي عياض. قالوا: وليس في الحديث تصريح أنه تعمد فق ء عينه، فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانياً بأنه ملك الموت، فالجواب أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم، بخلاف المرة الأولى. والله أعلم (3).
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، ج 2 ص 236، صحيح مسلم، كتاب الفضائل باب من فضائل موسى ج 5 ص 222.
(2) محمد الغزالي، السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، ص 28.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم، ج 5 ص 223، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى.
ولهذا الحديث أمثال كثيرة، ومما رواها أيضاً الراوية الأول أبو هريرة، وهذه بعضها:
2) عن أبي هريرة قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قال سليمان بن داوود عليه السلام لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن يأتين بفرسان يقاتلون في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل أن شاء الله. فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، فجاءت بشق رجل - وفي رواية أخرى:
بنصف إنسان - وأيم والله الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لحملت كل واحدة منهن بغلام يجاهد فسبيل الله) (1).
ويقول النووي في شرحه لهذا الحديث: (كان لسليمان ستون امرأة وفي روايات أخرى سبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، ومئة. هذا كله ليس بمتعارض لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير، وهو مما خص به الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم من القوة على إطاقة هذا في ليلة واحدة، وكان نبيناً صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على إحدى عشرة امرأة له في الساعة الواحدة كما ثبت في الصحيح، وهذا كله زيادة في القوة، والله أعلم) (2).
3) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقال لجهنم هل امتلأت، وتقول هل من مزيد، فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط، أي كفى) (3).
____________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان باب الاستثناء في اليمين وغيرها، ج 4 ص 199 - 201 (2) المصدر نفسه.
(3) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله - وهل من مزيد - ج 6 ص 353.
5) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً) (2).
6) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا خير من يونس بن متي فإنه كذب) (3).
7) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، يقول: من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) (4).
8) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة فنظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه أدر - بمعنى عظيم الخصيتين - فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمع موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس) (5).
9) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء، أقبل...) (6).
____________
(1) المصدر نفسه، كتاب بدء الخلق، ج 4 ص 324.
(2) المصدر السابق، كتاب الاستئذان، ج 8 ص 160.
(3) المصدر السابق، كتاب التفسير، ج 6 ص 311.
(4) المصدر السابق، كتاب التهجد، ج 2 ص 136.
(5) المصدر السابق، كتاب الغسل، باب من اغتسل عرياناً وحدة في خلوة، ج 1 ص 169.
(6) المصدر السابق، كتاب الأذان، باب فضل التأذين، ج 1 ص 336.
11) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بينما أنا نائم، رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر عمر. فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر ابن الخطاب. فذكرت غيرته فوليت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله) (2).
12) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو أطلع في بيت أحد ولم تأذن له، حذفته بحصأة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح) (3).
13) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعاً أو ليحفهما جميعاً) (4).
ماذا لو صحت هذه الأحاديث؟
نذكر فيما يلي طائفة أخرى من الأحاديث المروية في صحيحي البخاري ومسلم عن غير طريق أبي هريرة، والمستحقة للنظر والتساؤل:
1) عن عائشة قال: (جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت:
يا رسول الله، أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم - وهو حليفه أو خادمه - فقال النبي: أرضعيه. قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير - وقد شهد بدراً على حسب رواية أخرى (5). وفي ثالثة كان قولها: أنه ذو لحية (6) -
____________
(1) المصدر السابق، كتاب المزارعة، باب استعمال البقر للحراثة، ج 3 ص 297.
(2) المصدر السابق، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في وصف الجنة، ج 4 ص 306.
(3) المصدر السابق، كتاب الديات، باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، ج 9 ص 18.
(4) المصدر السابق، كتاب اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة، ج 7 ص 496.
(5) صحيح مسلم، كتاب الرضاع، حكم رضاعة الكبير، ج 3 ص 633.
(6) المصدر نفسه، ص 635.
ويقول النووي في شرحه وتبريره لهذا الحديث الغريب الذي أخرجه مسلم في صحيحه تحت باب رضاع الرجل الكبير: (قال القاضي في قوله صلى الله عليه وآله وسلم أرضعيه: لعلها حلبته (!) ثم شربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما. وهذا الذي قاله القاضي حسن. ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر، والله أعلم) (3)!!.
2) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بشأن اليوم الآخر والوقوف للحساب: (... فيتساقطون (الكفار) حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا منادياً ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا.
قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا! فلا يكلمه إلا الأنبياء. فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها! فيقولون: الساق. فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن) (4).
3) عن جرير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (... إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته) (5).
____________
(1) المصدر نفسه، ص 633.
(2) المصدر نفسه، ص 634.
(3) المصدر نفسه، بشرح النووي، ص 634.
(4) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب وجوه يومئذ ناضرة، ج 9 ص 396.
(5) المصدر نفسه، كتاب التفسير، باب قوله - فسبح بحمد ربك -، ج 6 ص 355.
وأما من يتوهم إمكانية رؤية الله من قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة ينبغي إلى ربها ناظرة) [ القيامة / 22 ]، فهو تفسير خاطئ، لأن كلمة ناظرة ينبغي تأويلها على الانتظار وليس هي بمعنى النظر، وهذا مثل قوله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها) [ يوسف / 82 ]، بمعنى اسأل أهل القرية. وهكذا ينبغي تأويل كل آية يدل ظاهرها على أن الله جسماً أو يداً أو وجهاً أو ساقاً أو غير ذلك.
4) عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز... فإنها تطلع بين قرني شيطان) (2). وأما عن غروب الشمس فيروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ فقال أبو ذر: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد فلا يؤذن لها، فيقال: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) [ يسين / 38 ]) (3).
5) وأما فيمن لا يقومون لصلاة الصبح، فقد روي عن عبد الله قال:
(ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بال الشيطان في أذنه) (4).
____________
(1) المصدر نفسه، باب سورة النجم، ص 359.
(2) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ج 4 ص 319.
(3) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، ج 4 ص 382.
(4) المصدر نفسه، كتاب التهجد، ج 2 ص 135.
فالشيخ محمد بن إسماعيل البخاري يقول: (لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً وما تركت من الصحيح أكثر) (1). ويقول أيضاً: (خرجت الصحيح من 600 ألف حديث) (2). ويذكر أن عدد الأحاديث المصنفة في كتاب البخاري هذا تراوح 600، 2 حديث، وقد صنفها في مطلع القرن الهجري الثالث.
ويقول الشيخ يحيى بن شرف النووي الشارح على صحيح مسلم: (اتفق العلماء (رحمهم الله) على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان:
البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما) (3).
وأما الشيخ مسلم بن الحجاج النيسابوري والذي كان معاصراً للشيخ البخاري فقد قال: (صنفت هذا المسند الصحيح من 300 ألف حديث مسموعة) (4). وقد ذكر علماء الحديث أحياناً ما يشبه الأساطير حول تشدد هذين الشيخين في قبول الرواية وتوثيقها، إلى الحد الذي أهلهما ليكونا موضع إعجاب جمهور أهل السنة والجماعة على مر القرون.
وأما كتب الحديث عند الشيعة فالرئيسية منها أربعة هي: الكافي، من لا يحضره الفقيه، الإستبصار، التهذيب. ولكن علماء الشيعة لا يعدون جميع الأحاديث المخرجة في أي من هذه الكتب الصحيحة، بل يقولون إن فيها الغث
____________
(1) ابن حجر في مقدمة شرحه على صحيح البخاري ج 1، ص 5، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2) المصدر نفسه.
(3) النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم، ج 1 ص 10، ط دار الشعب، القاهرة.
(4) المصدر نفسه، ص 11.
تقديس الصحابة على حساب عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الغلو المفرط في تقديس الصحابة وأسبابه ونتائجه:
لقد كان الزعم القائل بتقوى جميع الصحابة وعلو منزلتهم من بين الأفكار التي عمل الأمويون على بثها وترسيخها لا سيما في بداية عهدهم، ليس فقط من أجل تفنيد أي نقد للصحابة عموماً، أو الخلفاء والولاة منهم على وجه الخصوص كالتغطية على بوائق معاوية وعمرو بن العاص على سبيل المثال، وإنما لإبعاد الأنظار عن تلك الميزة والمنزلة الخاصة التي أعطاها الله ورسوله لأهل البيت صلى الله عليه وآله وسلم بوصفهم المستحقين الحقيقيين لعرش الخلافة الإسلامية.
ويقول ابن عرفة المعروف بنفطويه في هذا الصدد: (إن أكثر الأحاديث في فضائل الصحابة قد افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون أنوف بني هاشم، وقد صيغت بأسلوب يجعل من كل صحابي قدوة صالحة لأهل الأرض، وتصب على كل من سب أحداً منهم أو أتهمه بسوء كما جاء فيما رووه عن أنس بن مالك: (من سب أحداً من أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن عابهم أو أنتقصهم فلا تواكلوه لا تشاربوه ولا تصلوا عليه) وقد جاءت بهذا الأسلوب ولم تفرق بين صحابي وصحابي) (1).
____________
(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، أنظر ص 13، 15، 16.
ومن ذلك ما زعم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال في معاوية كما يشهد ويثبت له البخاري في صحيحه أنه - فقيه! -، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في وصف صحابي آخر:
سيف الله المسلول، وقيل في ثالث أنه أمين هذه الأمة، وفي رابع أنه جرها، وفي خامس أنه صديقها، وفي سادس أنه فاروقها، وفي سابع أنه ذو النورين، حتى أصبح جميع الصحابة أنواراً كما في الحديث المزعوم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).
والصحابي عند جمهور المسلمين كما يصفه علماء أهل السنة هو: (كل مسلم رأى رسول الله ولو لحظة) (1). ويؤكد الشيخ النووي هذا التعريف في شرحه على صحيح مسلم بقوله: (وهذا هو الصحيح في حده، وهو مذهب ابن حنبل والبخاري في صحيحه والمحدثين كافة) (2). بل ذهب بعضهم إعطاء صفة الصحبة للذين لم يروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أسلموا في حياته (3).
وبالنسبة لدرجة المفاضلة بين الصحابة يقول أبو منصور البغدادي:
(أفضلهم الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، ثم تمام العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر ثم أحد ثم بيعة الرضوان، وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون وهم من صلى إلى القبلتين) (4).
وبالطبع فإن بعض هذه الدرجات تشمل حتى من اشتهروا بالبغي والفجور
____________
(1) النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم، ج 1 ص 28.
(2) المصدر نفسه.
(3) التدريب للسيوطي ص 213 نقلاً عن شرح التلقيح للقرافي.
(4) النووي في شرحه على صحيح مسلم، ج 5 ص 242.
على أن المشكلة ليست في مجرد إعطاء الأوصاف والألقاب ودرجات التفضيل، فلو أن الناس اختلفوا مثلاً حول درجة فضل مجموعة أشخاص وتقواهم كسقراط أو بطليموس لما كان الأمر يهم في شئ، لأن ذلك يعد مفضول البحث وترفه. ولكن سبب اهتمامنا بما يخص حقيقة الصحابة وما جرى بينهم هو اعتبار عامة المسلمين لهم نموذجاً يقتدى به على مر الأجيال أو كما وصفهم الشهيد سيد قطب في كتابه معالم في الطريق بأنهم (جيل قرآني فريد)، بحيث أصبح من مقتضيات هذه القدسية اعتبار كل ما عمله الصحابة سنة، والوثوق بكل ما قالوه أو نقلوه أو فسروه أو اجتهدوه جزءا من شريعة الإسلام ينبغي الاقتداء به في كل زمان ومكان. وهذا يظهر من تعليق القاضي عياض على سبيل المثال: (وأما الحروب التي جرت بينهم فكانت لكل طائفة شبهة، اعتقدت تصويب أنفسهم بسببها، وكلهم عدول (رضي الله عنهم)، ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شئ من ذلك أحداً منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون، اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها. ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم. وأعلم أن سبب تلك أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم... فكلهم معذورون (رضي الله عنهم)، ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم وروايتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين) (2).
____________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر نفسه، ج 5 ص 242 - 243.
وقد وصل التطرف والغلو بقدسية الصحابة إلى درجة تفضيل معاوية (وهو الخليفة غير راشد (!) الذي تلطخت يداه بدماء آلاف الأبرياء، وعلى يديه عادت الحياة الجاهلية بأقبح صورها إلى واقع المسلمين) على الخليفة عمر بن عبد العزيز والمعتبر من الراشدين، لا لشئ إلا لكون معاوية صحابي وعمر تابعي، بالرغم من كل ما اشتهر به عمر من تقوى وعدل، بحيث تكون مقارنته بمعاوية في واقع الحال كمقارنة ملاك بشيطان! ويظهر هذا التطرف جليا بقول ابن كثير: (إن يوماً واحداً من أيام معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته!) (2)، وللشيخ ابن تيمية في هذا الصدد قول أكثر تطرفاً.
ومن الأحاديث التي وضعت على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتأكيد هذه المكانة المفتعلة، وترسيخ المعتقدات التي نسجت حولها ما يلي:
1 - (إذا أراد الله برجل من أمتي خيراً ألقى حب أصحابي في قلبه) (3).
2 - الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) (4).
____________
(1) د. رويعي الرحيلي، فقه عمر بن الخطاب، ج 1 ص 59.
(2) الحافظ ابن كثير، الباعث الحثيث، ص 181.
(3) ابن حجر الملكي، الصواعق المحرقة، ص 5 نقلاً عن الترمذي.
(4) المصدر نفسه.
4 - (مثل أصحابي مثل الملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح) (2).
5 - (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم... ثم الذين يلونهم) (3).
6 - (لا تمس النار مسلماً رآني أو رأى من رآني) (4).
ومع أن الرواية الأخيرة تجعل جميع الصحابة والتابعين من المبشرين بالجنة، إلا أن الشيخين أبا بكر وعمر أحيطا بعناية خاصة أكثر من أي صحابي آخر في هذا الصدد، فأصبغت عليهما هالة قدسية فوق العادة، لدرجة الادعاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خصصهما بالذكر بالقول المنسوب: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) (5). فلو صح هذا الحديث، لكان يعني الشهادة لهما بالعصمة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن يأمر أمته بإتباع أحد بعده على هذا النحو المطلق ويحتمل ارتكابه لمعصية وإن صغرت.
ومن تلك الأحاديث التي وضعت فيهما ما روي عن عمرو بن العاص قال: (سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر، فعد رجالاً) (6).
وأما الأحاديث التي خصت أبا بكر، فيكفي الإشارة إلى ما زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو وضع إيمان أبي بكر في كفة، وإيمان الأمة في كفة،
____________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) الرحيلي، فقه عمر) ج 1 ص 60، نقلاً عن الموافقات ج 4 ص 269.
(6) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر، ج 5 ص 247.
وأما النووي فقد قال في شرحه لهذا الحديث: (إن حب الله تعالى لم يبق في قلب أبي بكر موضعاً لغيره) (4) بمعنى حتى لو كان هذا الغير هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم!
وأما عمر بن الخطاب، فقد رفع بواسطة الأحاديث التي وضعت في فضله إلى مرتبة فاق بها سابقه، مما يناقض حديثي الكفة والخليل السابقين، واللذين على فرض صحتهما ينبغي أن يجعلاً من أبي بكر الأعلى مرتبة. وهذه على كل حال جملة من الأحاديث التي خصت عمر بالفضل ونسبت إلى لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
1 - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان بعدي نبي لكان عمر) (5) وفي رواية أخرى: (لو لم أبعث فيكم لبعث عمر) (6). فالنبوة لا يمكن احتمال وضعها في شخص عمر وهناك أبو بكر الأقوى منه إيماناً والأكثر فضلاً!
____________
(1) هو من أكثر ما اشتهر عند أهل السنة بشأن فضائل أبي بكر، ولكننا لم نهتد إلى مصدره.
(2) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر، ج 5 ص 245.
(3) النووي في شرحه على صحيح مسلم، ج 5 ص 244.
(4) المصدر السابق.
(5) الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 57.
(6) المصدر السابق.
3 - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم) (3). وفي رواية أخرى: (.. فإن يكن في أمتي منهم فإنه عمر) (4). وقال ابن وهب في تفسير محدثون: ملهمون.
4 - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أبطأ عني جبريل إلا خشيت أنه ذهب إلى عمر) (5).
5 - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) (6).
وروي عن ابنه عبد الله قال: (ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا وقال، إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر) (7).
وعن ابن مسعود أنه قال: (لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع وعلم أحياء الأرض في كفة، لرجح علم عمر بعلمهم، ولقد كانوا يقولون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم) (8).
ونسب أيضاً إلى عبد الله بن عمر أنه قال: (قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر) (9). وإليك خبر هذه الموافقات الثلاث المزعومة كما نقلها الناقلون:
____________
(1) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر، ج 5 ص 258.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه، ص 259.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 56.
(7) المصدر نفسه، ص 33 نقلاً عن سنن الترمذي.
(8) المصدر نفسه، ص 34.
(9) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر، ج 5 ص 259.
الثانية: (أشار عمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر نساءه بالحجاب، فأنزل الله تبارك وتعالى: (.. وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب) [ الأحزاب / 53 ]) (2).
الثالثة: (استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في أسارى بدر، فكان من رأي عمر أن يقتلوا ولا يؤخذ منهم فداء، ولم يقل أحد بقوله. فنزل قول الله سبحانه وتعالى موافقاً لما قال: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) [ الأنفال / 67 ]) (3).
ومن هذه الموافقات المزعومة بالإضافة إلى الثلاث السابقة ما ذكره النووي في شرحه لقول عمر (وافقت ربي...): (هذا من أجل مناقب عمر وفضائله رضي الله عنه، وجاء في رواية في الصحيح: اجتمعت نساء النبي في الغيرة، فقال عمر: (عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) [ التحريم / 5 ].
ثم نزل القرآن بذلك. وجاء في الحديث الصحيح موافقة عمر لله في منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على المنافقين فنزل قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) [ التوبة / 84 ]. وعندما كان القرآن يتدرج بتحريم الخمر على مراحل، طلب عمر أن يبين حكمه بياناً شافياً قطعياً فنزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من
____________
(1) الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 24، نقلاً عن الموافقات ج 2 ص 251.
(2) الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 24، نقلاً عن فتح الباري، ج 8 ص 526.
(3) الرحيلي، فقه عمر، ج 1 ص 25، نقلاً عن صحيح مسلم.
وفي رواية الصلاة على المنافقين، فقد وردت موافقة أخرى لعمر، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لأحد المنافقين، فقال له عمر: سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم... فنزلت الآية بذلك. وكان مجموع ما ذكره السيوطي من حوادث الموافقات هذه أربع عشرة حادثة.
ويقول كاتب معاصر في تعليقه على هذه الموافقات المزعومة: (وهذا يدل على أن صوابه أكثر من صواب غيره بشهادة القرآن وذلك ببركة مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد تشربت روحه بالتشريع الإلهي حتى أنه قيل عنه أنه يتكلم بروح الشريعة) (2). ومن الواضح أن ضمير الهاء في كلمة غيره لا يشمل بقية الصحابة فقط، وإنما يشمل أيضاً النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه كما يتضح من حادثتي أسرى بدر والصلاة على أحد المنافقين!
وعلى كل حال، فإذا كانت هذه هي الصورة التي نقلت إلينا عن مكانة الصحابة وقدسيتهم، لا سيما الخليفة عمر. دعونا نرى قبل مناقشة هذه المكانة وتلك الموافقات الصورة التي نقلت إلينا من تلك المصادر والطرق - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودرجة قدسيته -:
المس بكمال عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطورته:
لقد كان من ضحايا أزمة الخلافة لا أقل من شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ذلك أنه ومن أجل تبرير مخالفة الصحابة والخلفاء منهم على وجه الخصوص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض المسائل، فإن وضاعي الحديث ومزوري التاريخ الذين
____________
(1) النووي، شرح صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة، باب فضائل عمر، ج 5 ص 460 - 461.
(2) الرحيلي، فقه عمر بن الخطاب، ج 1 ص 28.
1 - هجران النبي صلى الله عليه وآله وسلم!
عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحد أيامه الأخيرة، وقد اشتد به المرض، أراد أن يكتب وصيته الأخيرة بحضور ومشهد من أهل بيته وكبار الصحابة. وإليك ما حصل في ذلك اليوم كما يرويه لنا البخاري ومسلم في صحيحيهما بالإسناد إلى ابن عباس قال: (يوم الخميس وما يوم الخميس - ثم بكى حتى بل دمعه الحصى - اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه فقال: آتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي. فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع، وقالوا: ما شأنه، أهجر؟ استفهموه.
قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه) (1).
وفي رواية أخرى، قال ابن عباس: (لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هلم أكتب لكم لا تضلون بعده. فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختصموا، فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قوموا. فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما خال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) (2).
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته، ج 5 ص 511.
(2) صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية، ج 4 ص 171.
ويتضح من كل هذه الروايات أن أول من وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجران، والذي يعني في حالة المرض بالهذيان (3) هو عمر بن الخطاب ولكن علماء أهل السنة اعتبروا موقف عمر هذا دليلاً على عظمته وقوة بصيرته! فيقول مثلاً يحيى أبو زكريا النووي الشارح لأحاديث صحيح مسلم:
(.. وأما كلام عمر رضي الله عنه، فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله، لقوله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شئ) [ الأنعام / 38 ] وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم..) [ المائدة / 3 ]، فعلم عمر أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن من الضلال على الأمة، وأراد الترقية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه) (4).
ثم يؤكد النووي أن وصف عمر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهجران كان في محله بقوله: (إعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب قول النبي - قوموا عني -، ج 7 ص 389، وصحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية، ج 4 ص 176.
(2) المصدر نفسه، ص 175.
(3) السقيفة لأبي بكر الجوهري.
(4) أبو بكر الرازي، مختار الصحاح، ص 690، وأنظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 4 ص 174.