والمثال على ذلك بين يديك هو دراسة حول هذا الموضوع، فالجهل بعقائد الآخرين يؤدي إلى هذا الإجحاف والإرجاف وما أظن الذي رآه الدكتور في كتب الشيعة من تلك السنن إلا دون ما هو في صحيح البخاري وحده من تلك السنن منها فلم يجعل أهل السنة كتب الشيعة بهذا دون الصحاح الستة وغيرها؟ ولم لا يعتذرون من كتب الشيعة بما اعتذروا به عن كتبهم؟ فإن الإشكال واحد والجواب هو الجواب.
وإليك ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) بالإسناد إلى أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم (2) قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت وما شأنهم، قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري؟ فلا أرى يخلص إلا مثل همل النعم " (3).
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب مني ومن أمتي؟ فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم " (4).
____________
(1) صحيح البخاري: كتاب الرقاق ج 4 ص 94.
(2) هلم في لغة الحجاز يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث تقول: هلم يا زيد وهلم يا زيدان وهلم يا زيدون وهلم يا هند وهلم يا هندات فهي اسم فاعل وفاعله ضمير مستتر تقديره في هذا الحديث أنتم والمعنى بها إنما هم الزمرة.
(3) قال السندي في تعليقه على صحيح البخاري - همل النعم تفتح الهاء والميم، الإبل بلا راع أي لا تخليص منهم من النار إلا قليل.
(4) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب الحوض.
وأخرج البخاري في نفس الباب المذكور أيضا عن ابن المسيب أنه كان يحدث عن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن النبي قال:
" يرد علي الحوض رجال من أصحابي فيحلأون عنه، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري " (بالبخاري، باب الحوض).
" إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم ".
قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها:
فأقول: " إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟
فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي (1).
" يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلأون على الحوض (2)، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري ".
____________
(1) قال القسطلاني في شرح هذه الكلمة من إرشاد الساري ما هذا لفظه، لمن غير بعدي أي دينه لأنه لا يقول في العصاة بقيد الكفر سحقا سحقا بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم كما لا يخفى.
حلأه عن الماء: طرده ومنعه عن وروده.
قال البخاري: تابعه عاصم عن أبي وائل وقال حصين: عن أبي وائل عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3):
لقيت البراء بن عازب، فقلت له: طوبى لك صحبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده.
عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال - من حديث: " وأن أناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " (5).
هذا بعض ما وجدناه في صحيح البخاري.
أما ما هو من هذا القبيل في بقية الصحاح وسائر السنن فكثير كثير جدا ومن تتبعه وجده لا يقل عما هو في حديث الشيعة، وحسبك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الطفيل في آخر الجزء الخامس من مسنده فليراجعه كل طاعن على الشيعة بهذا وأمثاله، وليت الدكتور البوطي تدبر القرآن العظيم ليعلم أن كتب الشيعة التي انتقد أفكارها إنما تستقي من سائغ فراته ولا تستضئ إلا بمصباح مشكاته، (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (6)) نعوذ بالله من الجهل والغرور.
____________
(1) الفرط: بفتحتين: متقدم القوم إلى الماعز يهيئ الولاء والرشاة ويدبر الحياض ويستقي لهم.
(2) اختلج الشئ: انتزعه.
(3) كل هذه الأحاديث أخرجها البخاري في باب غزوة الحديبية ص 30 من الجزء الثالث من صحيحه عن العلاء بن المسيب عن أبيه.
(4) صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق - ص 54 - ج 2.
(5) راجع صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب الحوض.
(6) سورة الحجرات: الآية: 15.
فصل (1)
رأي الشيعة في الصحابة أوسط الآراء
ماذا قال العلامة شرف الدين (قدس) صاحب كتاب المراجعات في كتابه الرد على مسائل موسى جار الله؟
قال: " إن من وقف على رأينا في الصحابة علم أنه أوسط الآراء إذ لم نفرط فيه تفريط الغلاة الذين كفروهم جميعا، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثقوهم أجمعين، فإن الكاملية ومن كان في الغلو على شاكلتهم، قالوا: بكفر الصحابة كافة، وقال أهل السنة: بعدالة كل فرد منهم ممن سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورآه من المسلمين مطلقا واحتجوا بحديث كل من دب أو درج منهم أجمعين " (1).
وأما نحن الشيعة فإن الصحبة بمجردها وإن كانت عندنا فضيلة جليلة لكنها - بما هي ومن حيث هي - غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول، وهم عظماؤهم وعلماؤهم، وأولياء هؤلاء، وفيهم البغاة وفيهم أهل الجرائم من المنافقين، وفيهم مجهول الحال، فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة.
أما البغاة على الوصي وأخي النبي وسائر أهل الجرائم والعظائم، كابن هند وابن النابغة وابن الزرقاء وابن عقبة وابن أرطأة وأمثالهم، فلا كرامة لهم ولا وزن لحديثهم، ومجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبين أمره.
هذا رأينا في جملة الحديث من الصحابة وغيرهم والكتاب والسنة بينا
____________
(1) شرف الدين: في الرد على مسائل موسى جار الله ص 14.
فاحتجوا بالغث منهم والسمين، واقتدوا بكل مسلم سمع النبي أو رآه (صلى الله عليه وآله وسلم) اقتداءا أعمى، وأنكروا على من يخالفهم في هذا الغلو، وخرجوا في الإنكار على كل حد من الحدود. وما أشد إنكارهم علينا حين يروننا نرد حديث كثير من الصحابة، مصرحين بجرمهم أو بكونهم مجهولي الحال، عملا بالواجب الشرعي لتمحيص الحقائق الدينية.
والأسمى من رأينا هذا هو سورة التوبة وسورة المنافقون، فهما يفصحان كل الفصاحة ويوضحان كل الوضوح ويبينان كل الإبانة عما ذهب إليه، وتقودنا من حيث شفقته على ما سماهم الصحابة مندفعا ومتحمسا من موروثاته.
فنحن لا ننتقص من الصحابة بقدر ما هو موجود من حقائق في الصحاح والقرآن، ومن الغريب جدا أن تتهم الشيعة بانتقاص الصحابة أو الطعن بهم، ونحن نعلم بأن بذرة التشيع قد نشأت في مجتمع الصحابة ومن هذا المجتمع أبطال التشيع، كأبي ذر وسلمان وعمار والمقداد وخزيمة وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم من الصحابة الأجلاء، فهم الذين عرفوا بالولاء لعلي (عليه السلام) وناصروه في حربه من بغى عليه، وهم خيار الصحابة.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا " كما أن الصحبة تشمل من مردوا على النفاق، والذين ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لرسول الله الأمور، وأظهروا الغدر، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. وفيهم من كان يؤذي رسول الله وقد وصفهم بقوله:
(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أذن) (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (1) و (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) وفيهم المخادعون والذين يظهرون الإيمان
____________
(1) سورة التوبة: الآية 61.
وليت شعري ما هذه العصمة، أكانت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم بعده؟ فإن كانت في حياته فما أكثر الشواهد على نفي ذلك.
أخرج البيهقي بسنده عن أبي عبد الله الأشعري عن أبي الدرداء قال:
قلت يا رسول الله بلغني أنك تقول:
ليرتدن أقوام بعد إيمانهم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أجل وليست منهم (2).
ومن الغريب أن البعض علل ذلك بأن المراد من هؤلاء المرتدين هم الذين قتلوا عثمان، وأن أبا الدرداء مات قبل قتل عثمان، وبهذا التوجيه يتوجه الطعن عن أكثر الصحابة فإنهم اشتركوا بقتل عثمان والمتخلفون عن ذلك عدد لا يتجاوز أصابع الكف. وبمقتضى هذا التأويل يدخل في قائمة الحساب عدد كثير هو أضعاف ما في قائمة الشيعة من المؤاخذات، ومن الشواهد على نفي العدالة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والحق أن الصحبة بما هي فضيلة جليلة، لكنها غير عاصمة، فإن فيهم العدول والأولياء والصديقين وفيهم منافقون وهم علماء الأمة، وحملة الحديث.
كما أخبر قوله تعالى:
(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (3).
وفيهم من كان يؤذيه.
____________
(1) سورة الأحزاب: الآية 57.
(2) سورة البقرة: الآيتان 8 - 9.
(3) سورة البقرة: الآية 9.
والقرآن الكريم يعلن بصراحة عن وجود طائفة تستمع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن طبع الله على قلوبهم، لأنهم اتبعوا الهوى، فقال تعالى:
(ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم) (4).
كما أعلن تعالى لعن طائفة أخرى منهم، وهم الذين في قلوبهم مرض والذين يفسدون في الأرض ويقطعون أرحامهم (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (5).
أين ذهب أولئك بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
وقد جدعوه الغصص في حياته، ودحرجوا الدباب، فهل انقلبت حالهم بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) من النفاق إلى الإيمان؟ ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الشك إلى اليقين، فأصبحوا في عداد ذوي العدالة من الصحابة الذين طبعت نفوسهم على التقى والورع، وعفة النفس والعلم، والحلم، والتضحية في سبيل الله وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله:
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (6) فنحن لا نرتاب في ديننا، ولا نخالف قول الحق في تمييز منازل
____________
(1) سورة التوبة: الآية 101.
(2) سورة التوبة: الآية 61.
(3) سورة المجادلة: الآية 16.
(4) سورة النساء: الآيتان 142 - 143.
(5) سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): الآية 16.
(6) سورة الحجرات: الآية 15.
هذا هو قول الحق - والحق أحق أن يتبع.
____________
(1) سورة المجادلة: الآية 32.
المسألة الرابعة
قوله: " بأن هنالك مظاهرة بارزة على أحقية أبي بكر (رض)
بالخلافة " (1).
قال: المظاهر البارزة التي أثبتت خلافة الصديق أبي بكر وأحقيته بها، وأن هناك نصوص صريحة وأحاديث نبوية تثبت خلافة أبي بكر (رض):
الحديث الأول: وفي الصحيح أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال على منبره:
" لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لاتخذت أبا بكر لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت، إلا خوخة أبي بكر ".
الحديث الثاني: مروا أبا بكر فليصلي بالمسلمين، وربط بين مسألة صلاة الخليفة أبي بكر ومسألة خلافته وأحقيته بالخلافة لإمامته بالصلاة.
الحديث الثالث: عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت:
دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اليوم الذي بدئ فيه، فقال:
" ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا " ثم قال: " يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ".
قائلا لم يكتب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفا من أن تكون الخلافة وراثة فتنقلب ملكا عضوضا وتابع قوله: إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلن هذا الكلام ولم ينفذه..!!
____________
(1) المحاضرة بتاريخ 2 / 10 / 1995.
إختلف أهل السنة في خلافة الخليفة أبي بكر أنها: هل كانت بالنص؟.. أم أنها كانت بالاختيار؟..
والكل يعلم بأن الدكتور البوطي هو أشعري المذهب، والأشاعرة مجمعون بأستاذهم الكبير أبو الحسن الأشعري، وتلميذه ابن فورك، بأن خلافة الصديق تمت بالاختيار، وليس هناك نصوص صريحة أو أحاديث نبوية تثبت خلافة الصديق. فإني أرى هذا خروجا لحضرة الدكتور عن خطه الأشعري ومعتقده وهذا هو عين التناقض بحد ذاته إذا أصر على الالتزام بنهج الأشعري والتزم بذلك.
وثانيا: دفاع الدكتور المستميت بهذه النصوص أمام الطلبة بأنها نصوص صريحة على خلافة الصديق واستشهاده بهذه الأحاديث.
سنناقش هذه الأحاديث مناقشة منطقية وعلمية، لنرى هل تصمد هذه الأحاديث أمام الحجج والأدلة الدامغة؟ فتعال معي أيها القارئ الكريم لمناقشة هذه الأحاديث الثلاثة.
الحديث الأول:
" لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ".
الأول: إن المعني في هذا الحديث هو الخليفة أبي بكر، وإن مخاطبة الرسول لأبي بكر بكلمة الخلة التي تعني المحبة أو الصداقة أو المودة، لا تصح من عربي فصيح أن يقول لحبيبه بهذا اللفظ لأن هذا اللفظ يعارض ما جاء في القرآن " واتخذ إبراهيم خليلا " أي خليل الله. فكلمة الخلة لإبراهيم
أما سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يقول ويخاطب الخليفة أبا بكر بهذا الخطاب فإنه خطاب مؤقت لماذا..؟ لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيرحل ويموت مثل بقية البشر ونفهم من هذا بأن الخلة تنقطع بين الطرفين بموت أحدهما ولا تستمر بعد الموت.
الثاني: إن الحديث معارض بحديث نبوي صريح قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي عليه السلام " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " ووجه المعارضة هنا إتخاذ علي خليفة له. أو معارض بحديث آخر رواه أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا به فإن كلمة " لو " تفتح عمل الشيطان فلا يمكن صدور هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لاحظ الخطاب هنا موجها لعلي (عليه السلام) بأنه أنت مني بمنزلة هارون من أخيه موسى (عليه السلام) فكلمة بمنزلة هنا تدل على الاستمرارية بعد الموت.
لأنه نعلم بأن هارون (عليه السلام) كان خليفة لموسى (عليه السلام) ووصيه من بعده.
فلذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) أنت مني بمنزلة هارون من موسى - فإذا هو وصيه وخليفته من بعده.
الثالث: إن هذا الحديث لا يدل على وجوب الإمامة العامة، إذ لا يجوز الاقتداء برجل مجرد أنه كان صديقا أو محبا أو خليلا وانتهت خلته بموت الخليل.
الرابع: لا يوجد ترابط في الحديث، فالقارئ يلاحظ أن الحديث مقسوم إلى قسمين القسم الأول في موضوع وهو موضوع الخلة، والقسم الثاني يتحدث عن الخوخات - فالقارئ النبيه يفهم بأن هذا الحديث موضوع.
الخامس: وإن هذا الحديث هو من أخبار الآحاد وهي موهونة الطرق والإسناد وغير متفق على روايتها بين أهل الإسلام لا سيما وإن الحديث مخالف للكتاب والسنة ودليل العقل، ولا يمت إلى مسألة الإمامة بصلة.
فأقول: إن هذا الحديث وضعته البكرية مقابل حديث الإخاء لعلي (عليه السلام) وخاصة عندما سد كل أبواب الصحابة إلا باب علي (عليه السلام).
فالكل يعلم بحديث سد الأبواب المشهور والمتواتر.
أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسد أبواب الصحابة من المسجد تنزيها له عن الجنب والجنابة، ولكنه أبقى باب علي، وأباح له عن الله تعالى أن يجنب في المسجد كما كان هذا مباحا لهارون (2)، فدلنا ذلك على عموم المشابهة كما كان هذا مباحا لهارون (عليه السلام) قال ابن عباس حبر الأمة:
" وسد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب المسجد غير باب علي فكان يدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره.. " (3) الحديث.
كان لنفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سدوا هذه الأبواب إلا باب علي فتكلم الناس في ذلك فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي (عليه السلام) فقال فيه قائلكم وإني والله ما سددت شيئا ولا
____________
(1) راجع صحيح البخاري في حديث الخوخة.
(2) في حديث سد الأبواب إلا باب علي - راجع في ذلك:
1 - مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 255 ح 303.
2 - ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 1 ص 266.
3 - ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 88 ط إسلامبول وص 100 ط الحيدرية - وص 86 ط العرفان.
(3) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 25 بسند صحيح ط دار المعارف بمصر.
الخصائص: للنسائي: ف 64 الطبعة الحيدرية، ص 15 - ط بيروت.
ذخائر العقبى: ص 87.
الإصابة: لابن حجر العسقلاني. ج 2 ص 509.
مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 120.
تاريخ ابن عساكر الشافعي: ج 1 ص 185.
فرائد السمطين. ج 1 ص 329.
المناقب: للخوارزمي: ص 74.
الغدير: للأميني: ج 3 ص 205.
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس (2) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام يومئذ فقال: " ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي ولا أنا تركته، ولكن الله أخرجكم وتركه إنما أنا عبد مأمور ما أمرت به فعلت إن أتبع إلا ما يوحى إلي.
يا علي " لا يحل لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك (3) وعن سعد بن أبي وقاص والبراء بن عازب، وابن عباس، وابن عمر، وحذيفة بن أسيد الغفاري قالوا كلهم: " خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد فقال:
إن الله تعالى أوحى إلى نبيه موسى أن ابن لي مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا أنت وهارون وإن الله أوحى إلي أن ابن مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا أنا وأخي علي (4).
السابع: لاحظ أخي الكريم تواتر حديث سد الأبواب - لكن كلمة خوخة التي جاءت لأبي بكر - أريد أن أراها في حديث آخر غير هذا الحديث الموضوع. فوضع هذا القسم من الحديث مقابل حديث سد أبواب
____________
(1) المستدرك: للحاكم النيسابوري ج 3 ص 125 وصححه تلخيص المستدرك للذهبي مطبوع بذيل المستدرك.
خصائص أمير المؤمنين: للحافظ النسائي الشافعي: ص 73 ط الحيدرية، وص 13 ط التقدم بمصر.
كفاية الطالب: للكنجي الشافعي: ص 203 ط الحيدرية، وص 88 ط الغري.
ينابيع المودة: للقندوزي الحنفي: ص 87 ط اسلامبول وص 99 ط الحيدرية.
ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 1 ص 255.
مناقب علي بن أبي طالب: لابن المغازلي الشافعي. ج 257 ط طهران.
الرياض النضرة: ج 2 ص 253.
الحاوي للفتاوى: للحافظ السيوطي: ج 2 ص 57.
(2) مجمع الزوائد: ج 9 ص 115.
منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ابن حنبل: ج 5 ص 29.
إحقاق الحق: ج 5 ص 546.
(3) صحيح الترمذي ج 5 ص 303 ح 3811، تاريخ دمشق لابن عساكر - ج 1 ص 268 ومصادر كثيرة الخ.
(4) مناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي الشافعي ص 252 ط طهران - ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 87 ط إسلامبول وص 99 ط الحيدرية.
لأنه كلكم تعلمون أن الخوخة أو الطاقة في المسجد - لا يستطيع أن يدخل منها إلا السارق فمعنى ذلك نفهم أن الخليفة أبا بكر كان يدخل من هذه الطاقة يصلي ويخرج.. وكلكم تعلمون أن الذي يدخل من الطاقة يدخل رأسه أولا ومن ثم يلحق برجليه، بالله عليكم هل يرضى أحد منكم في هذا العصر أن يدخل من خوخة يصلي ويخرج، والله لا يرضى أي واحد منكم، فكيف تنسبون هذا للخليفة أبي بكر (رض) معاذ الله من هذه الأحاديث الموضوعة التي لا تمت إلى الدين بصلة.
الثامن: إن ما جاء به فضيلة الدكتور بهذا الحديث معارض بالحديث الصحيح والمتواتر وهو حديث سد الأبواب إلا باب علي الذي أخرجته جميع الصحاح من طرق أهل السنة وإن إمكان اجتماع الأمة كما هو مفاد الحديث الذي هو شرط حجية الإجماع - وهذا الحديث لا يمكن لأحد من العقلاء تصديقه ولا يوجد عليه إجماع وهو من رواية الآحاد ومعارض بالحديث الآخر فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا فإن " لو " تفتح عمل الشيطان. ولو حرف امتناع لوجود من حيث الحالة الإعرابية.
الحديث الثاني:
قال الدكتور البوطي في محاضرته:
مروا أبا بكر فليصل بالمسلمين، وربط بين مسألة صلاة الخليفة أبي بكر بمسألة خلافته وأحقيته بالخلافة لإمامته بالصلاة.
أقول: أولا: لو سلمت لك جدلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أبا بكر (رض) أن يصلي بالناس في مرضه الذي توفي فيه (صلى الله عليه وآله وسلم). ولكن ماذا نقول لو قال لك قائل ممن لا يقول بقولك: ألم يقل جمهور الصحابة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) عن ابن
____________
(1) صحيح البخاري في أواخر ص 118 في باب (هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم) من جزئه الثاني.
أو ليس قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الحديث: " دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه " أنهم دعوه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما يريدون من الشر، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يريد لهم الخير بكتابة ذلك الكتاب الذي وصفه بأنه كتاب هدى " لن تضلوا بعده أبدا " ولو كتبه لهم بعدما قالوا:
لقالوا بعد ذلك كتبه وهو يهجر، فلن يقبلوه كتبه (صلى الله عليه وآله وسلم) أم لم يكتبه؟
وهنا سؤال يطرح نفسه.
ألم يكن قول الراوي ونسيت الثالثة دليلا صريحا على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يجدد العهد بالخلافة لعلي (عليه السلام) بعده بالكتابة تأكيدا لنصوصه القولية كما تقدم، ولكن السياسة يومئذ قهرت الراوي على أن يقول: " ونسيت الثالثة " إذ لا يضر القوم سوى كتابة الخلافة لعلي (عليه السلام) بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) دون سواها؟
ثم السؤال الثاني:
ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب للصحابة في مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله " على ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (1):
عن ابن عباس قال: " لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عيه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قوموا! " قال عبد الله،
____________
(1) صحيح البخاري: ج 4 باب (قول المريض قوموا عني: كتاب المرضى).
بدليل قوله (رض) لأصحابه والموافقين له على قوله (رض)، " وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله " دون أن ينظر إلى قوله تعالى في وصف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينطق عن الهوى في سائر أوقاته بمختلف حالاته سواء أكان في حال صحته أو حال مرضه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
وإن قلت لي سماحة الدكتور كما قال غيرك تصحيحا لقول الخليفة عمر (رض): إن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، لم يكن على وجه العزيمة والوجوب، وإلا لما حال بينه وبين كتابته حائل مطلقا.
فأقول للدكتور وأرد عليه بالنقض.
أولا: بأن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما قلت مروا أبا بكر فليصل بالناس، لم يكن على وجه العزيمة والوجوب، وحينئذ فلا يدل على الإمامة ووجوب الطاعة مطلقا.
ثانيا: إن الأمر ظاهر في الوجوب باتفاق المحققين من علماء أصول الفقه بين الفريقين فلا يجوز العدول عنه إلى غيره.
ثالثا: إن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لن تضلوا بعده " لا يناسب غير الوجوب، إذ الإضلال في ترك غير الواجب، وفعل الحرام إجماعا وقولا واحدا.
فلذلك أقول للدكتور: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أبا بكر بالصلاة في الناس في مرضه، وقد هجر فيه، على حد قول جمهور الصحابة، وكان مغلوبا للوجع على حد قول الخليفة عمر (رض) وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله تعالى " وأنتم تعلمون كما نعلم، ويعلم كل المسلمين أن كتاب الله تعالى
الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر
أبو بكر (رض) في مرض النبي (عليه السلام)
فأقول: إن الصحيح المتواتر بين الفريقين السني والشيعي معا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخر الخليفة أبا بكر (رض) من تلك الصلاة، وصرفه عن إمامة المسلمين لأنه خرج بعد سماعه بتقدم أبي بكر (رض) يتهادى بين علي (عليه السلام) والعباس مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض، الأمر الذي لا يتحرك معه العاقل إلا في حال الاضطرار، لتدارك ما يخاف بفواته حدوث أعظم فتنة فعزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر (رض) عما كان تولاه من تلك الصلاة، كما نطقت به أحاديث الفريقين، يدلكم على أن تقدمه (رض) للصلاة لم يكن بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شئ، وإنما كان الأمر صادرا من ابنته عائشة أم المؤمنين (رض)، ولم تكن تلك الصلاة إلا صلاة الصبح لا غيرها.
ويرشدك ويهديك إلى ذلك فضيلة الدكتور ما أخرجه الحافظ الكبير عندكم (الإمام مسلم في صحيحه) (1).
فقالت له: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنكن لأنتن صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس! قالت فأمروا أبا بكر يصلي بالناس.
فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نفسه خفه فقام يتهادى
____________
(1) صحيح مسلم: ج 1 باب (استخلاف الإمام إذا عرض له عذر) كتاب الصلاة.
ولو صحت هذه الرواية لاحتج أبو بكر بها على الأنصار في السقيفة.
وإن أردت التأكد من صحة ما أقول فراجع صحيح البخاري (1).
وأخرج البخاري (2) أيضا. فراجع فضيلة الدكتور إن شئت وسوف تجد هذا صريحا في أن أول صلاة صلاها أبو بكر (رض) هي التي عزله عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما كون تلك الصلاة هي صلاة الصبح لا غيرها؟ مما ذكره الطبري (3) عن عبد الله بن أبي مليكة قال: " لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاصبا رأسه إلى صلاة الصبح، وأبو بكر يصلي بالناس فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفرج الناس، فعرف أبو بكر أن الناس لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظهره، وقال صل بالناس وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جنبه فصلى قاعدا عن يمين أبي بكر، فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس وكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول أيها الناس! سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم.. " (الحديث " وهو صريح في أن تلك الصلاة لم تكن إلا صلاة الصبح لا سواها.
أما كونها في يوم وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمما أخرجه المتقي الهندي في (كنز العمال) (4) عن أبي يعلى في مسنده وابن عساكر الدمشقي عن أنس قال:
" لما مرض النبي مرضه الذي مات فيه أتاه بلال فآذنه الصلاة، فقال
____________
(1) صحيح البخاري: باب (الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم) ج 1 ص 95.
(2) صحيح البخاري: باب (من أسمع الناس تكبير الإمام ص 90 / من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الآذان من جزئه الأول).
(3) تاريخ الطبري: ج 3 ص 196.
(4) كنز العمال: ج 4 ص 57 وفيه أيضا: ج 4 ص 58 عن أبي الشيخ في الآذان ذكر هذا.
عن عائشة أم المؤمنين (رض) قالت: ما مر علي ليلة مثل ليلة مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: يا عائشة هل طلع الفجر، فأقول لا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أذن بلال بالصبح، ثم جاء بلال فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله! فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذا؟ فقلت:
بلال. فقال: مري أبا بكر أن يصلي بالناس (الحديث).
فنستنتج مما أوردناه لكم أن الصلاة التي تقدم فيها أبو بكر (رض) هي التي نهاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها، وهي صلاة الصبح، وكانت صبح يوم الاثنين في اليوم الذي التحق فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى.
وأما كون ذلك كان بأمر من عائشة أم المؤمنين دون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسوف أثبته لك حضرة الدكتور بعدة أمور:
الأول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعين أحدا للصلاة فيهم كما يدل عليه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث (كنز العمال) المتقدم ذكره (فمن شاء أن يصلي، ومن شاء فليدع " فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد التخيير في أمر الجماعة، لا التخيير في أصل الصلاة لوضوح بطلانه فحينئذ يكون ما في ذيل الحديث من قوله " مروا أبا بكر فليصل بالناس " من الزيادات التي قضت بها السياسة في ذلك الحين، وإلا لم يكن لهذا التخيير في منطوق الحديث معنى يفهم وإن فات ذلك على واضعي تلك الزيادة، ولم يهتدوا إلى منافاتها لصدر الحديث.
الثاني: ما أخرجه ابن عبد البر في (استيعابه) في ترجمة الخليفة أبي بكر (رض) عن عبد الله بن زمعة قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مروا من يصلي بالناس ". وأما تذييل ابن زمعة للحديث بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر عمر بن الخطاب بالصلاة فلما كبر سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صوته قال: فأين أبو بكر يأبى ذلك الله
أما أولا فلاستلزامه قطع صلاة الخليفة عمر (رض) وأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبطال صلاته وجهله بلزوم تقديم أبي بكر (رض) بعد تقديمه عمر وأمره له بالصلاة ومخالفته لصريح قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) (1) فإذا كان الأمر كما ذكرنا فكيف يجوز لمسلم أن ينسب الجهل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأحكام شريعته ويعزي إليه مخالفة كتاب الله تعالى، فيأمر عمر بقطع صلاته وإبطالها وقد أمره هو بإقامتها.
ثانيا: حضرة الدكتور لو كان ذلك صحيحا لشاع وذاع، حتى ملأ المسامع والأصقاع ولما لم يكن الأمر فيه كما ذكرنا، علمنا أنه موضوع لا أصل له من حجية.
ثالثا: إن تقديم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر (رض) للصلاة إن كان واجبا على معنى لا يجوز لغيره التقدم عليه بها، لزم ابن زمعة أن يقول إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتقديمه عمر (رض) عليه وأمره له بالصلاة دونه، إما كان جاهلا (نعوذ بالله تعالى) بهذا الواجب أو كان عالما بوجوبه، ولكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك ما كان واجبا وفعل ما كان حراما، بتقديمه (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر (رض) وأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) له بارتكاب ما هو حرام، وإذا كان يأبى الله والمسلمون على حد زعم ابن زمعة فكيف يا ترى لا يأباه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سيد المسلمين فيأمر عمر (رض) بما يأباه الله والمسلمون؟
وليت ابن زمعة تفطن قليلا قبل أن يضع هذه الزيادة إلى أن فيها الطعن الصريح في قداسة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلو شأنه، وكان ابن زمعة لم يجد سبيلا إلى إثبات هذه الفضيلة لأبي بكر (رض) إلا من طريق النقص من كرامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتنقص من قدره، ونسبة الباطل إليه، نعوذ بالله من التعصب المقيت ونستجير به من الزلل في القول.
وإن لم يكن تقديم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر (رض) للصلاة واجبا بطل قول
____________
(1) سورة محمد: الآية 33.