الصفحة 114
وأشرفوا على قتله فعلي (عليه السلام) أعذر.

السابع: محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث هرب إلى الغار فإن قلت لي.

إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هرب من غير خوف فقد كفرت وإن قلت لي: أخافوه وطلبوا دمه، وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي (عليه السلام) أعذر.

فأقول لحضرة الدكتور عليك بالرجوع إلى التاريخ لمعرفة كل الحقيقة وأؤكد لك إن من الأنبياء من قتل: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) (1).

ويكفيكم مثالا على ذلك عيسى ابن مريم (عليه السلام) فأمر الإله إذا لم يقبله الناس لا يفرضه الله والدليل على ذلك أمره بعدم الزنى: (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (2).

وأزيدكم على ذلك دليلا أقوى، فالبيعة في الإسلام لا يفرضها الله ولا الرسول ولا أي مسلم، بدليل قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) (3). لا أن ترسل لهن ليبايعنك.

وإنما يأتين طوعا. ودليل آخر: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) (4) ولذلك لم يطلب الرسول بيعة منهم، وإنما هم الذين بايعوه، وعندما يصافح أحدهم النبي فإنه يكتب على نفسه عهدا. أما أن يقول لهم بايعوني بالقوة فذلك أمر لا يرضاه الله ولا رسوله.

فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر عليا بذلك بعد أن علم ما تدبره قريش من إبعاد ابن عمه وخليفته عن الخلافة، بحجة أنه صغير السن وأن دماء قريش معلقة به، وبحجة أنه محسود، ومكروه وهذا ما أخرجه الطبري - أحد علماء السنة وليس من أقوال الشيعة - في (الرياض النضرة) قال: دعا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا وقال له: " يا علي إني أعلم ضغائن في صدور قوم سوف يخرجونها لك من

____________

(1) سورة البقرة: الآية 87.

(2) سورة هود: الآية 29.

(3) سورة الممتحنة: الآية 12.

سورة الفتح: الآية 10.


الصفحة 115
بعدي، أنت كالبيت تؤتى ولا تأتي، إن جاءوك وبايعوك فاقبل منهم وإلا فاصبر حتى تلقاني مظلوما " لماذا..؟ لأن الله أخبر نبيه بالقرآن بأن الأمة ستنقلب من بعده على عقبيها وسوف لن يثبت إلا القليل. وإذا ما قامت ثورة ودعوة إلى السيف - والعياذ بالله - فسوف يرتد الجميع - وعندئذ فعلى الإسلام السلام.

ماذا قال عباس محمود العقاد في كتابه (1): " آمن علي بحقه في الخلافة، ولكن أراده معا يطلبه الناس ولا يسبقهم إلى طلبه " وقول العقاد هذا غير بعيد عن زهد الإمام (عليه السلام) القائل:

" إن خلافتكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ".. وقد وصف بعض العارفين إعراض الإمام عن الدنيا بقوله: " الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظمأ ". وقيل لمسلمة بن نميل: كيف ترك الناس عليا وله في كل خير ضرس قاطع؟

فقال: لأن ضوء عيونهم يقصر عن نوره.

ماذا قال المقداد بن عمرو الكندي.

ومن ذلك كلام المقداد بن عمرو في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاثيا على ركبتيه، يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له منهلا! وهو يقول: واعجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم! وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله، أعلم الناس، وأفقههم في دين الله، وأعظمهم عناء في الإسلام، وأبصرهم في الطريق، وأهداهم للصراط المستقيم..!! والله لقد زووها عن الهادي المهتدي، الطاهر النقي، وما أرادوا صلاحا للأمة ولا صوابا في المذهب! ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين (2). وأما قول أبي ذر الغفاري: " أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها أما لو قدمتم ما قدم الله وأخرتم ما أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم ولما كان ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلا وجدتم

____________

(1) العقاد: فاطمة الزهراء: ص 56 ط دار الهلال.

(2) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 163.


الصفحة 116
علم ذلك عندهم في كتاب الله وسنة نبيه. فأما إذا فعلتم ما فعلتم، فذوقوا وبال أمركم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " (1).

وهذا ما قاله علي (عليه السلام) في خطبته الشقشقية وأكد حقيقة الأمر بنفسه:

" أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة... إلى أن يقول... فارتأيت أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء... فوجدت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت... إلى آخر الخطبة "،... الصبر أولى من الخلافة والدليل على ذلك عندما جاء أبو سفيان وقال له: لو شئت لملأتها عليك خيلا ورجالا، فأجابه علي (عليه السلام) إني أعرف ما في نفسك - فعلي بن أبي طالب يريد نصرة الإسلام، لا هزيمته وأبو سفيان كان يريدها حربا شعواء بين المسلمين لينتهي من الكل.

وأن الإمام بصبره وتأنيه ضرب رقما قياسيا بالحكمة.

فهنا يأتي سؤال يطرح نفسه لحل تساؤلات حضرة الدكتور البوطي:

أتعرف حضرة الدكتور عندما وصل الإمام إلى الخلافة بعد هذا الصبر ماذا فعل؟

أول شئ فعله أنه صعد إلى المنبر فقال: أشهد من حضر بيعتي يوم الغدير إلا قام وشهد، فقام ستة عشر بدريا كلهم يشهدون أنهم سمعوا مبايعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغدير.

لماذا علي يثير هذه المشكلة بعد خمسة وعشرين عاما؟

بالتأكيد أراد أن يبين للأمة. أن الأمر خطير ولذلك سكت عنه وسكت هؤلاء الصحابة معه ولم يذكروا ذلك.

فالصبر على مقاتلة ومحاربة المسلمين هو واجب شرعي. لأن عليا أول من يفكر لمصلحة الإسلام ولذلك قالها عدة مرات: " والله إن خلافتكم

____________

(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 171، وذكر أول الخطبة ابن قتيبة في الإمامة والسياسة في (المعارف) ص 146.


الصفحة 117
هذه عندي كعفطة عنز أو كورقة تقضمها جرادة إلا أن أقيم حدا من حدود الله ".

وليس مشكلة علي هي الخلافة يا مسلمون.


الصفحة 118

المسألة العاشرة
قول الدكتور البوطي: علي أشجع الناس فلم ترك قتال المتقدمين عليه

يقول الدكتور البوطي:

عندما يرى أن الخلافة من حقه بنص القرآن أو بنص الحديث.

ولا يقاتل أبا بكر وعمر وعثمان بشراسة أشد!! لماذا..؟

فأما أن سيدنا علي معصوم أو أنه غير معصوم فمعنى ذلك أن عمله حجة بأن الخلافة لأبي بكر (ما دام معصوما) ولعمر وعثمان وإذا كان لا، فإنه غير معصوم وبايع غلطا وكان عليه ألا يبايع عمر وألا يبايع عثمان، وألا يبايع لأنه هو الخليفة وبذلك فهو غير معصوم (1).

ومنها: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) سن بذلك دستورا جميلا، ومنهاجا عانيا، لن يأتي بعده ليسير عليه كل من عرض له مثل ما عرض له (صلى الله عليه وآله وسلم). ولهذا وأضاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ويقول القرآن في سورة الأنفال آية 61: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) لذا ترون عليا (عليه السلام) ترك قتلهم وقتالهم مقتديا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومتبعا له في شرعه ومنهاجه، فلم يقاتل دافعيه عن حقه لمقاصد سامية أعظمها كما قدمنا حفظ الدين بأصوله، وفروعه وقوانينه، وأشاره الأمر

____________

(1) المحاضرة في جامعة دمشق 2 / 10 / 1995 نقل هذا الكلام حسبما سمعته من الكاسيت دون أي إجراء تعديل على اللغة.


الصفحة 119
الذي كان يدعوه كثيرا إلى أن يقدم نفسه قربانا في سبيل حفظه وبقائه واستمراره وانتشاره فضلا عن حقه وتراثه وبالجملة كانت رعايته (عليه السلام) لصيانة الدين وحفظ أكثر من رعايته لحقه، وكان ضياع حقه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله وما فعله (عليه السلام) هو الواجب عقلا وشرعا إذ أن مراعاة الأهم وهو الاحتفاظ بالأمة، وحياطته على الملة، وتقديمه على المهم، وهو احتفاظه بحقه " عند التعارض " من الواجب الضروري في الدين الإسلامي فجنوحه للسلم والموادعة كان هو الأظهر في الصواب.

ومنها: محافظته (صلى الله عليه وآله وسلم) على حياة أصحابه ولو رجل منهم من غير ضرورة تدعو إلى قتالهم لعلمه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه سيدخل مكة المكرمة مع أصحابه في العام القادم من غير سلاح وقتال.

ومنها: علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أكثر هؤلاء سوف يسلمون بعد فتح مكة.

ومنها: علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أهل مكة سوف يخلونها له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأصحابه ثلاثة أيام فيطوفون، ويسعون محلقين ومقصرين وأهلها على الجبال وهذا له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأصحابه بأعلى مراتب العزة والعظمة ولأعدائه بأدنى ما يكون من الذل والهوان.

ومنها: علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) بدخول الكثيرين من وفود العرب في الإسلام حينما يبلغهم هذه العزة له ولأصحابه، والذلة والصغار لقريش الذين هم أعداءه الألداء.

ومنها: إنه لو قاتلهم في عام الحديبية لم يتيسر له فتحها بتلك السهولة بل لتنكر منه القوم، ولجعل دعاتهم العيون في الطريق خوفا من صولته (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم بغتة وهم لا يشعرون وهذا واضح في سورة الفتح كل الوضوح لذي كل لب.

ثالثا: إن ترك علي (عليه السلام) قتال القوم لا يوجب الرضا بتقدمهم عليه ولا يقتضي سقوط حقه في الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلا لزم أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتركه قتال المشركين عام الحديبية، ومحو اسمه من النبوة، معزولا عن النبوة، وراضيا بما ارتكبه المشركون، وكان يومئذ معه أربعمائة وألف رجل

الصفحة 120
على ما أخرجه البخاري في صحيحه (1)، وقد أطاعهم على محو اسمه من الرسالة، وهو قادر على قتالهم، فإذا صح لديكم هذا وقلتم بسقوط حق النبوة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صح لكم ذاك وهذا معلوم البطلان وذاك مثله باطل نعم إنما قبل (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك ورضي به (صلى الله عليه وآله وسلم) لحكم غايات دقيقة، وغايات جليلة غابت عن ذهن الكثيرين ولم يهتدوا لها.

فمنها: كراهته (صلى الله عليه وآله وسلم) للقتل والقتال، وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا، وليس في محوه لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها لثبوتها بآياتها البينات ومعجزاتها النيرات. ويريد الوقيعة فيه، فهل تجدون حينئذ فسادا أعظم من أن يخرج عن الإسلام من دخل فيه بفعل المنافقين وتلبيسهم الأمر على البله المغفلين؟!!

ومنها: إن ترك قتالهم يومئذ كان سببا لأن يكثر فيهم التشيع وفي التابعين إلى يومنا هذا (2) ترونه يقول: (ولقد كثر التشيع في التابعين وتابعيهم مع الدين، والورع، والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة) (3).

ومنها: ذهاب السنن الدالة على إمامته (عليه السلام) إن هو قاتلهم وقتلهم فيبقى الحق ملتبسا لا يعرف أين هو، ولذلك ترونه قد رضي (عليه السلام) بالهدنة عندما رفع أهل الشام المصاحف في صفين فانخدع بذلك جم غفير من أهل العراق فكان (عليه السلام) بإمكانه أن يقلب الصف على الصف لكنه (عليه السلام) آثر ذلك لأنه أهون الضررين لعلمه (عليه السلام) برجوع الكثير منهم إلى الحق بعد خروجهم عليه فمثل هذه النتائج القيامة والغايات الحسنة أوجب الترك وأوجب مهادنتهم.

فأقول لحضرة الدكتور:

أولا: إن ترك علي (عليه السلام) منازعة أبي بكر (رض) بالحرب والقتال لا يكون مخلا بعصمته ولا بأشجعيته ولا يدل على صحة خلافته (رض) بإحدى الدلالات المنطقية لماذا..؟

____________

(1) صحيح البخاري: ج 3 ص 29 - غزوة الحديبية - كتاب المغازي.

(2) راجع ميزان الذهبي عند ترجمته لأبان بن تغلب من ج 1.


الصفحة 121
لأنه ترك أولئك الأنبياء السابقين (عليه السلام) منازعة أقوامهم لكان ذلك أيضا مخلا بعصمتهم، ودالا على صحة ما قام به أقوامهم وبطلانه واضح لا يشك فيه من له عقل أو شئ من الدين.

وأما ثانيا: كان في توقف علي (عليه السلام) عن حربهم وقتالهم منافع عظيمة وفوائد جليلة، قصرت مداركهم عن الوصول إليها، وأعيت أفهامهم عن الوقوف عليها.

فمنها: أنه لو قاتلهم لتولد الشك من النائين عن المدينة وغيرها من البلدان الإسلامية بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لعلمهم بأن القتل والقتال لا يقع إلا على طلب الملك والزعامة الدنيوية، لا على النبوة وصنوها الخلافة فيوجب ذلك وقوع الشك في صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا سيما وهم جديدو العهد بالإسلام خاصة إذا لاحظتم وجود من يتربص الدوائر بالإسلام من المنافقين ولأن إسلامهم كان حديثا ولم ينضج كل النضوج في ذهنيتهم وسذاجة شعورهم فخشي (عليه السلام) الردة وسبق لنبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أخبره بكل ما حدث معه وما جرى له هذا من جهة ومن جهة ثانية فقد سلم بحقه ما سلم الخط الإسلامي الصحيح.

ومن جهة ثالثة فهو أسمى وأعلى وأنبل وأكبر وأرفع من أن ينازع في إمرة أمور المسلمين كما قال هو (عليه السلام) لابن عباس حبر الأمة وهو يخصف نعله فقال له حبر الأمة أفي مثل هذا الوقت يا أمير المؤمنين فأجابه (عليه السلام) والله يا بن عباس إن إمرتكم علي أهون من عفطة عنز إلا أن أرفع كلمة حق وأدفع كلمة باطل كما تقول الآية الكريمة في سورة التوبة (لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى) الآية لذا فهو راعى مصلحة الإسلام والمسلمين بما لا مثيل له ولا نظير ولم تعرف هذه السيرة لأحد من الصحابة لا من قبله ولا من بعده ولا غرو في ذلك ولا عجيب فهو من تلك الدوحة الهاشمية وشجرة النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل وهو يحذو حذو رسول الله ويسير بسيرته وينهج نهجه ويقتفي أثره ويترسم خطاه قولا وعملا وسيرة سبحان الله ما أعلم هذا الرجل سبحان الله ما أشجعه وما أبلغه وما أفصحه وما أعدله إنه صنو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخوه وابن عمه وصهره ووارث علمه وخليفته من بعده.


الصفحة 122

المسألة الحادية عشرة

وتابع القول الدكتور البوطي في محاضرته قائلا:

إن وقوع علي بن أبي طالب بين نارين بين إرضاء فاطمة لا يريد أن يجرح شعورها من جهة وأيضا هو مقتنع بكلام سيدنا أبي بكر.

وعندما استلم سيدنا علي الخلافة لماذا..؟ هل أخذ أرض فدك وأعطاها لآل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام؟

وبعد وفاة السيدة فاطمة بايع أبا بكر مباشرة (1).

فأقول: أعوذ بالله السميع العليم من كل قول أثيم.

إن عليا بن أبي طالب (عليه السلام) لم يكن بين نارين كما تحدث الدكتور لماذا؟

لأننا هنا يجب أن نتفهم المسألة بفهم دقيق ونقسم هذه المسألة إلى شقين الشق الأول: علي بن أبي طالب غصبت منه الخلافة وسكت ولسكوته أسباب يجب أن نفهمها ونأخذها بعين الاعتبار.

وأما الشق الثاني: غصبهم لأرض فدك من فاطمة (عليها السلام) وحرمانها من إرث أبيها خوفهم الرئيسي من أن يسيطر عليها علي (عليه السلام) ويصبح له

____________

(1) تابع للمحاضرة في الجامعة بتاريخ: 2 / 10 / 1995.


الصفحة 123
نفوذ قوي وتقوى شوكته ضدهم فحاولوا بأساليبهم تجريد الإمام من القوى المادية والمعنوية. فلجأوا إلى هذين الأسلوبين المدبرين والمخطط لهما تخطيطا دقيقا.

أولا: غصبهم لعلي الخلافة.

وثانيا: تجريده من الإمكانيات الاقتصادية التي لها الدور الكبير في تقوية نفوذه وهذا ما كان يخيفهم من أن عليا تقوى شوكته ويطالبهم بحقه.

وأما بالنسبة لسكوت علي (عليه السلام) لم يكن مقتنعا بكلام الخليفة أبي بكر وأما ترك علي (عليه السلام) جهاد المتقدمين عليه بالسيف والسنان فحسبك في جوابه قوله (عليه السلام) فيما تضافر عنه ونقله ابن أبي الحديد المعتزلي في (شرح النهج) وغيره من مؤرخيكم حيث يقول (عليه السلام) " لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله تعالى على أولياء الأمر أن لا يقروا على كظة ظالم، أو سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ".

وأنت ترى قوله (عليه السلام) هذا صريح في أنه (عليه السلام) لم يكن ساكتا لوجود الناصر، وأنت تعلم حضرة الدكتور تمام العلم ما طرحته في بعض مسائلك حول هذه المسألة.

فأقول لك لماذا جاهد علي الناكثين والقاسطين والمارقين لوجود الأنصار ولأن في جهاده المتقدمين عليه ذهاب الدين بأصوله وفروعه وأدلته وأحكامه كما لا يخفى عليك وعلى من له أدنى فطنة بخلاف الطوائف الثلاث ولقد قال (عليه السلام) في جواب من قال:

لم لم ينازع علي (عليه السلام) الخلفاء الثلاثة كما نازع طلحة والزبير ومعاوية وأذكر أنكم في أحد محاضراتكم طرحتم نفس المسألة.

فإليك جوابها من أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: " إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة " وكفى بها جوابا عن سكوته لمن أنصف وتدبر.

وأما قوله (عليه السلام) ما روي له شعر بهذا المعنى:

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب


الصفحة 124

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب

وأما إرضائه (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام) وعدم جرح شعورها كما زعمتم هو راض بكل ما تصرفت به فاطمة تجاه الخليفة أبي بكر.. لماذا. لأنك تعلم حضرة الدكتور كما جاء في صحيح البخاري: " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ". وكما جاء في الصحيح أيضا: " رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي " ومن أغضب فاطمة فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله والبخاري يؤكد ويقول: " ماتت وهي واجدة على أبي بكر " (1).

وأن كلمة الوجد تعني الحزن وماتت وهي حزينة عليهم. وروى معمر عن الزهري عن عائشة أم المؤمنين... فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى توفيت...

سؤال يطرح نفسه من هي فاطمة..؟

أليست سيدة نساء العالمين، أليست سيدة نساء أهل الجنة. فإذا سيدة نساء أهل الجنة تموت وهي غاضبة على الخليفة أبي بكر وإنما غضبها من غضب رسول الله وغضب رسول الله هو غضب الله... فكيف تموت وهي غاضبة على الخليفة أبي بكر.

وهنا سؤال آخر لتوضيح المسألة: ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. فإن قلت لي نعم قال هذا:

فأقول لك من هو إمام زمان فاطمة (عليها السلام). فإن قلت لي: الخليفة أبي بكر هو إمام زمانها وهو الإمام الواجب الطاعة. فأقول لك: كيف تموت فاطمة (عليها السلام) وهي غاضبة على إمام زمانها. فإذا هي وفي هذه الحالة نكون قد كذبنا حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القائل: " فاطمة سيدة نساء أهل الجنة " " وفاطمة سيدة نساء العالمين ".

فإذ إمام زمان فاطمة (عليها السلام) هو الإمام علي (عليه السلام) الواجب الطاعة.

____________

(1) صحيح البخاري ج 5 ص 177.

صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير باب 16 ج 3 ص 1380.


الصفحة 125
وهو الخليفة الذي عينه رسول الأمة، فإذا من هنا نفهم أن عليا كان مؤيد لفاطمة تأييد قطعي، وأما مسألة لا يريد أن يجرح شعورها فهذا رأيك أنت لوحدك وسؤال آخر يطرح نفسه:

ألم يتبادر إلى ذهنك هذا السؤال حضرة الدكتور.

أين قبر فاطمة سيدة نساء أهل الجنة..؟

لا أحد يدلنا عليه لماذا..؟ فإليك الجواب من شاعر أهل البيت الأزري:

فلأي الأمور تدفن ليلا * بضعة المصطفى ويعفى ثراها
فمضت وهي أعظم الناس وجرا * في فم الدهر غضة من جواها
وثوت لا يرى بها لنا من قبرا * أي قدس يضمه مثواها

فما هو السر على عدم معرفة قبر فاطمة (عليها السلام) التي ماتت بعد أبيها بستة أشهر حسب أكثر الروايات، ليس لها قبر معروف... وهي التي أوصت زوجها بإخفاء قبرها لماذا..؟

لتستشف فينا روح الثورة وتحذرنا على مر العصور وليبقى السؤال مطروحا على شفاه الناس.. لماذا؟

وأما سؤالك المطروح حضرة الدكتور: هل أخذ أرض فدك وأعطاها لآل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فأقول: بالنسبة لموقف الإمام (عليه السلام) من فدك عندما تولى الخلافة. لم ير علي يوم استراحة واحد منذ تولى الخلافة، وهو القائل: لو ثنيت لي الوسادة لقلت في (بسم الله الرحمن الرحيم) حمل سبعين بعير فمنذ أن تولى علي (عليه السلام) الخلافة نكث طلحة والزبير مبايعته وأخرجا زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذهبا إلى البصرة وقاما بالفتنة، وقتلا سبعين رجلا من رجال المسلمين مما اضطر عليا (عليه السلام) للخروج من المدينة لردع هذه الفتنة ولم يعد إلى المدينة بل استشهد في الكوفة، بعد أن خاض حربا بعد حرب من حرب صفين ضد معاوية، وحرب النهروان ضد الخوارج إلى أن استشهد في محرابه في الكوفة.

ثم كيف يتمكن الإمام (عليه السلام) من إرجاع فدك بعد أن توزعت على

الصفحة 126
الأمويين وأصبحت ملكا لهم (1)؟ ويقول المؤرخون إن عمر بن عبد العزيز اشتراها من خالص ماله ووزعها على ذرية فاطمة، وقد لامه بنو أمية وقتلوه بالسم بسبب ذلك (2) وإذا أردت التوسع بالبحث، فهناك عدة أسباب لم يسترجع فدك في إمامته.

أولا: إنه انشغل كما أخبره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحرب الناكثين والقاسطين والمارقين.

ثانيا: إن عليا (عليه السلام) لم يرد أن يفتح جبهات أخرى، وفتق جراح إضافية.

ثالثا: إن صاحبة الشأن فاطمة (عليها السلام) رحلت بغصتها آسفة وغاضبة فلم يكن هناك موضوع وسبب.

____________

(1) راجع: المعارف لابن قتيبة ص 195 - تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 169.

سنن البيهقي: ج 6 ص 301 العقد الفريد ج 4 ص 283.

وفاء الوفاء: ج 3 ص 1000.

(2) راجع: فدك في التاريخ: ص 21 - 22 سنن أبي داود: ج 2 ص 49 وقيل إن الذي قطعها لمروان هو معاوية.

فتوح البلدان للبلاذري ص 46.

مجلة الرسالة المصرية عدد 518 سنة 11 ص 457.


الصفحة 127

المسألة الثانية عشرة

قال الدكتور البوطي في محاضرته بلندن في مؤتمر الغدير:

وأحاسب كل مسلم بقطع النظر عن انتمائه فلا أجد مسلما صادقا مع الله إلا وكان مقتديا بآل بيت رسول الله (عليه السلام).

والله الذي لا إله إلا هو لو أن عليا - كرم الله وجهه - اتخذ يوم السقيفة موقفا مستقلا، اتخذ يوم استخلاف أبي بكر لعمر موقفا مستقلا أو يوم الشورى التي بويع على أعقابها لعثمان موقفا مستقلا إذن لتركنا كل نهج واتبعنا نهج علي. ويكرر القسم في آخر كلامه قائلا:

ووالله أقولها ثانية لو أن الإمام عليا كرم الله وجهه ورضي الله عنه وعليه السلام اتخذ موقفا مستقلا في عهد من هذه العهود لتركنا كل خط دون خطه (1).

فأقول: الناس كافة يعلمون أن الإمام وسائر أوليائه من بني هاشم وغيرهم، لم يشهدوا البيعة، ولا دخلوا السقيفة يومئذ وكانوا في معزل عنها وعن كل ما كان فيها، منصرفين كلهم إلى خطبهم الفادح بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيامهم بالواجب من تجهيزه لا يعنون بغير ذلك وما واروه في ضريحه الأقدس حتى أكمل أهل السقيفة أمرهم، فأبرموا البيعة وأحكموا العقد وأجمعوا - أخذا بالحزم - على منع كل قول أو فعل يوهن بيعتهم، أو

____________

(1) مجلة الموسم: العدد السابع - ص 695 والمحاضرة بعنوان كيف أفهم الغدير أو (الإسلام والعلم الحديث).


الصفحة 128
يخدش عقدهم، أو يدخل التشويش والاضطراب على عامتهم.

فأقول: أين كان الإمام عن السقيفة وعن بيعة الصديق ومبايعيه ليحتج عليهم؟ وأنى يتسنى الاحتجاج له أو لغيره بعد عقد البيعة وقد أخذ أولو الأمر والنهي بالحزم وأعلن أولو الحول والطول تلك الشدة.

وهل يتسنى في عصرنا الحاضر لأحد أن يقابل أهل السلطة والدولة، بما يرفع سلطتهم ويلغي دولتهم؟ وهل يتركونه وشأنه لو أراد ذلك؟ هيهات هيهات، فقس الماضي على الحاضر، فالناس ناس والزمان زمان.

وإن عليا (عليه السلام) لم ير الاحتجاج عليهم يومئذ أثرا إلا الفتنة التي كان يؤثر ضياع حقه على حصولها في تلك الظروف إذ كان يخشى منها على بيضة الإسلام وكلمة التوحيد كما أوضحناه سابقا حيث قلنا: إنه مني في تلك الأيام بما لم يمن به أحد إذ مثل على جناحيه خطبان فادحان، الخلافة بنصوصها ووصاياها إلى جانب تستصرخه وتستفزه بشكوى تدمي الفؤاد وحنين يفتت الأكباد والفتن الطاغية إلى جانب آخر تنذره بانتقاص شبه الجزيرة وانقلاب العرب واجتياح الإسلام وتهدده بالمنافقين من أهل المدينة وقد مردوا على النفاق وبمن حولهم من الأعراب وهم منافقون بنص الكتاب بل هم أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وقد قويت شوكتهم بفقده (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصبح المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب عادية ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة ابن خويلد الأفاك وسجاح بنت الحرث الدجالة، وأصحابهم الرعاع الهمج قائمون في سحق الإسلام وسحق المسلمين - على ساق والرومان والأكاسرة والقياصرة وغيرهم كانوا للمسلمين بالمرصاد، لكن الإمام أراد الاحتفاظ بحقه في الخلافة وأقول لحضرة الدكتور أول موقف اتخذه الإمام (عليه السلام) عن بيعة السقيفة هو تخلفه عن تلك البيعة.

ونحن نعلم والكل عالم بذلك بأن تخلف علي (عليه السلام) عن بيعة السقيفة فهذا دليل واضح على عدم الرضى منهم مستدلين بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): علي مع الحق والحق مع علي.

وإن تخلف علي (عليه السلام) عن بيعة السقيفة واتخاذه الموقف المستقل

الصفحة 129
فقد ذكره البخاري في صحيحه (1) عن عروة عن أم المؤمنين عائشة.

" إن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلت إلى الخليفة أبي بكر (رض) تسأله ميراثها من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أفاء الله تعالى عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر (رض): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث ما تركناه صدقة فأبى الخليفة أبو بكر أن يدفع لفاطمة (عليها السلام) منها شيئا فوجدت فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر، فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد أبيها ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها ليلا. ولم يؤذن لها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلي (عليه السلام) من الناس وجه حياة فاطمة (عليها السلام) ولما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس علي مصالحة أبي بكر ولم يكن يبايع تلك الأشهر " ويقول الفيروز آبادي في (القاموس) كغيره من أئمة اللغة إن كلمة (وجدت) معناها: غضبت.

وأخرج البخاري في (صحيحه) أنه قال: " فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبي " (2).

وأخرج ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

" يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك وأخرجه الحاكم في (مستدركه) (3).

فأقول: فلو كانت بيعة السقيفة مرضية عنده ومقبولة لديه (عليه السلام) وكانت حقه لاستحال أن يتخلف عنها من لا يفارق الحق إطلاقا وهو معه دائما وأبدا كما هو صريح الحديث فتأخر الإمام عن بيعتهم ولو أسرع إليهم ما تمت له حجة ولا سطع لشيعته برهان لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه من خلافة المسلمين هذا أولا.

ثانيا: وهناك موقف آخر رفض الإمام (عليه السلام) الحكم بسيرة الشيخين

____________

(1) صحيح البخاري: ج 3 ص 37 باب غزوة خيبر - كتاب المغازي.

(2) صحيح البخاري: ج 2 ص 212 باب منقبة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

الإصابة لابن حجر العسقلاني: ج 8 ص 157، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 154 وصححه على شرط البخاري ومسلم.


الصفحة 130
وأتيت بذكره حضرة الدكتور هذا الموقف في كتابك فقه السيرة النبوية فلو كانت سيرة الشيخين صحيحة ومطابقة لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رفضها الذي لا يفارق الحق، وعندما اشترط عليه عبد الرحمن بن عوف أن يحكم بسنة الله ورسوله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.

فقال له الإمام (عليه السلام) أحكم بسنة الله ورسوله واجتهادي.. وأما بسيرة الشيخين فلا... فقبل الخليفة عثمان بتلك الشروط فآلت إليه الخلافة فهذا موقف متميز يقفه الإمام منهم ومن سيرتهم المخالفة لقول الله ورسوله ولو كانت صحيحة لما اتخذ الإمام ذلك الموقف الذي كان يقفه منهم، فسكت فالظروف يومئذ لا تسع مقاومة بسيف ولا مقارعة بحجة.

  • وإليك ثلة من موارد احتجاج الإمام وأقواله.. لأن الكلمة هي موقف أشد من القتال بالسيف والسنان.

    كان الإمام يتحرى السكينة في بث النصوص عليه ولا يقارع بها خصومه احتياطا على الإسلام، واحتفاظا بريح المسلمين واعتذر عن سكوته وعدم مطالبته في تلك الحالة بحقه فقال: " لا يعاب المرء بتأخير حقه إنما يعاب من أخذ ما ليس له " (1).

    وكان له في نشر النصوص عليه طرق تجلت الحكمة فيها بأجلى المظاهر ألا تراه ما فعل يوم الرحبة إذ جمع الناس فيها أيام خلافته لذكرى يوم الغدير وما جاء في مناشدته هذا المقطع التاريخي الذي حاول من خلاله أن يعيد لذاكرة الأمة (قضية الغدير) وأبرز مواقفه يوم الشورى حيث أكد للناس أجمع أن مشاركته في الشورى لا تلغي حقه الأصيل في الخلافة المنصوص عليها في يوم الغدير (2).

    وما جاء في تلك المناشدة هذا المقطع من حديث علي (عليه السلام):

    " فأنشدكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كنت مولاه فعلي

    ____________

    (1) التشيع - نشؤوه - مراحله - مقوماته - للعلامة السيد عبد الله الغريفي (وراجع شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي).

    قادتنا: ج 4 / 13.


    الصفحة 131
    مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ليبلغ الشاهد الغائب غيري؟

    قالوا: " اللهم لا ".

    ثم قال لهم الإمام (عليه السلام): " أنشد الله كل امرئ ومسلم سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم ما قال، إلا قام فشهد بما سمع، ولا يقم إلا بمن رآه فقام ثلاثون من الصحابة فيهم اثنا عشر بدريا فشهدوا بما سمعوه من نص الغدير (1) وهذا غاية ما يتسنى في تلك الظروف الحرجة بسبب قتل عثمان وقيام الفتنة في البصرة والشام.

    وحسبك ما أخرجه أصحاب السنن من حديثه (عليه السلام) في الوليمة التي أولمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دار عمه شيخ الأباطح بمكة يوم أنذر عشيرته الأقربين وهو حديث طويل جليل (2) وكان الناس ولم يزالوا يعدونه من أعلام النبوة وآيات الإسلام لاشتماله على المعجز النبوي بإطعام الجم الغفير في الزاد اليسير وقد جاء في آخره: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ برقبته فقال: " إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا " (3).

    وكم احتج الإمام أيام الشورى وهذا ما يتسنى له في تلك الأوقات، (حكمة بالغة فما تغن النذر) ويوم الشورى (4) أعذر من أنذر ولم يبق من خصائصه ومناقبه شيئا إلا احتج به وكم احتج أيام خلافته متظلما وبث شكواه

    ____________

    (1) راجع نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 18 ص 168 ط مصر تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ومناشدة الإمام أمير المؤمنين للصحابة الحديث الغدير في يوم الرحبة.

    راجع: الإمامة والسياسة: ابن قتيبة ج 1 ص 11 و 143 ط مصطفى محمد.

    وج 1 ص 11 و 155 ط الحلبي بمصر - وج 1 ص 18 و 133 ط سجل العرب بالقاهرة.

    (2) المناقب: للخوارزمي الحنفي ص 224 ط الحيدرية.

    كفاية الطالب: للكنجي الشافعي ص 386 ط الحيدرية.

    (3) كنز العمال: ج 15 ص 100 ج 286 ط 2.

    (4) احتجاج الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في يوم الشورى يوجد وراجع فيه:

    علي بن أبي طالب: ابن المغازلي الشافعي ص 212 - 118.

    المناقب للخوارزمي الحنفي ص 222 - 225.

    كفاية الطالب: للكنجي الشافعي ص 386 ط الحيدرية.


    الصفحة 132
    على المنبر متألما، حتى قال: " أما والله لقد تقمصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا " إلى آخر الخطبة (1).

    وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): " اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه " (2).

    وقد قال له قائل: " إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص، فقال:

    بل أنتم والله لأحرص وإنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه (3). وقال (عليه السلام): " أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا؟ كذبا علينا وبغيا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم " (4).

    ____________

    ميزان الاعتدال للذهبي: ج 1 ص 442.

    فرائد السمطين: للحمويني الشافعي: ج 1 ص 320 - 322.

    (1) راجع: العقد الفريد لابن عبد ربه: المتوفي قبل الشريف الرضي ب‍ 31 سنة على الضبط وينقل لنا صاحب الغدير 28 مصدر الخطبة الشقشقية والإرشاد للشيخ المفيد.

    (2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 495 وج 3 ص 26 ط مصر.

    (3) شرح نهج البلاغة: خطبة / 167 ص 300 ط مصر.

    الإمامة والسياسة: ابن قتيبة: ج 1 ص 134 سجل العرب بالقاهرة.

    (4) شرح نهج البلاغة خطبة 143 - ج 2 ص 249 ط مصر.

    وينقل الخطبة أيضا صاحب كتاب تذكرة الخواص - للسبط ابن الجوزي بصيغة أخرى - الشقشقية.


    الصفحة 133

    احتجاج الزهراء (عليها السلام)

    فقالت الزهراء في خطبتها:

    " ويحهم أنى زحزحوها - أي الخلافة - عن رواسي الرسالة؟! وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين الطبن بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك الخسران المبين وما الذي نقموا على أبي الحسن؟ نقموا والله نكير سيفه، وشدة وطأته ونكال ومقته وتنمره في ذات الله، والله أو تكافئوا على زمام نبذه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لاعتقله وسار بهم سيرا سجحا لا يكلم فشاشه ولا يتتعتع راكبه، لأوردهم منهلا رويا فضفاضا، تطفح ضفتاه، ولا يترنم جانباه ولأصدرهم بطانة ونصح لهم سرا وإعلانا، غير محل منهم بطائل إلا بغمر الناهل، وردعة سورة الساغب، وبأي عروة تمسكوا لبئس المولى ولبئس العشير، بئس للظالمين بدلا، استبدلوا والله الذنابا بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، ويحهم.

    " أفمن يهدي إلى الحق، أحق أن يتبع، أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " إلى آخر الخطبة (1).

    ____________

    (1) توجد خطبة الزهراء (عليها السلام) في:

    بلاغات النساء: لأبي الفضل أحمد بن طيفور المتوفي سنة 280 ه‍ ص 12، 19 - ط الحيدرية.

    شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 78 - 79 - وص 93 - 94 ط مصر.

    أعلام النساء: لعمر رضا كحالة: ج 3 ص 1208.

    وخطبة الزهراء الثانية نفس المصدر.


    الصفحة 134
    وأود أن ألفت نظركم إلى المحاورة التي جرت بين ابن عباس والخليفة عمر بن الخطاب في حديث دار بينهما: " يا بن عباس أتدري ما منع قومكم بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ (قال ابن عباس): فكرهت أن أجيبه، فقلت له: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا (1) فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووقفت (قال): فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب، تكلمت قال: تكلم (قال ابن عباس): أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووقفت فلو أن قريشا اختارت لأنفسها من حين اختار الله لها، لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهة، فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) فقال عمر: هيهات يا بن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني، قلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت معا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلا فمثلي أحاط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسدا وبغيا وظلما (قال) فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين ظلما فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسدا فإن آدم حسد ونحن ولده المحسودون فقال عمر: هيهات هيهات، أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا لا يزول (قال) فقلت: مهلا يا أمير المؤمنين، لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا... الحديث (2).

    وحاوره ابن عباس مرة أخرى فقال له في حديث آخر: " كيف خلفت ابن عمك، قال: فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قال: فقلت: خلفته مع أترابه، قال: لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قال: قلت:

    ____________

    (1) أي تبجحا، والبجح بالشئ: هو الفرح به.

    (2) الكامل: ابن الأثير ج 3 ص 63.

    شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد: ج 3 ص 107 أمنت بيروت تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

    تاريخ الطبري: ج 4 ص 223.


    الصفحة 135
    خلفته يمتع بالغراب وهو يقرأ القرآن. قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟ قال: قلت: نعم قال:

    أيزعم أن رسول الله نص عليه؟ قال ابن عباس: قلت: وأزيدك سألت أبي عما يدعي - من نص رسول الله عليه بالخلافة فقال: صدق، فقال عمر: كان من رسول الله في أمره ذرو (1) من قول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا ولقد كان يربع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعته من ذلك الحديث (2).

    وكم لرجالات بني هاشم يومئذ من أمثال هذه الاحتجاجات والمواقف إن الحسن بن علي جاء إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له:

    انزل عن مجلس أبي (3) ووقع للحسين نحو ذلك مع عمر وهو على المنبر أيضا (4).

    وفي نهاية الحديث أقول هذه جملة من مصادر علماء السنة وجهابذة الحديث عندكم ليرى الدكتور أن وجود النص على خلافة علي (عليه السلام) لا يمكن إنكاره.

    والمنكر لذلك يجري عليه قوله سبحانه:

    (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا).

    فراجعوا أحسابكم، وتفكروا وتأملوا في تلك المواقف التي تكشف

    ____________

    (1) الذرو - بالكسر والضم - المكان المرتفع والعلو مطلقا، والمعنى أنه كان من رسول الله في أمر علي علو من القول في الثناء عليه وهذا اعتراف من عمر (2) توجد هذه المحاورة: في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج 3 ص 97 بيروت على ط بصر، وج 12 ص 20 ط مصر بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

    وج 3 ص 141 ط دار الفكر، وج 3 ص 764 ط مكتبة الحياة.

    (3) الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيثمي ص 175 ط المحمدية و 105 ط الميمنية بمصر.

    الإتحاف بحب الأشراف للشبراوي ص 7.

    شرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 17 ط مصر.

    (4) الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيثمي ص 160.

    سنن الدارقطني قضية الحسن مع أبي بكر.

    وأخرج ابن سعد في طبقاته في ترجمة الخليفة عمر قضية الحسين مع عمر بن الخطاب.