الصفحة 136
الحق عن الباطل، ولعل حضرة الدكتور يتأمل مليا في هذه المواقف وينبذ التعصب المقيت ويتدبر ما قاله شاعر النيل حافظ إبراهيم عند امتناع علي (عليه السلام) عن بيعة الخليفة فأرسل له عمر وقد جاءه مهددا وحاول أن يحرق بيت فاطمة (عليها السلام) وعمل ما عمل. فماذا قال حافظ إبراهيم لهذه الواقعة المؤلمة:

وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها * أمام فارس عدنان وحاميها

وقوله: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا) إلى قوله: (فبايعهن واستغفر لهن الله...) (1).

فأقول لحضرة الدكتور البوطي:

هكذا البيعة على ما قرره القرآن، فمتى كان الممتنع يجري عليه ما جرى بعد وفاة النبي مباشرة؟ أعني الذي جرى على علي وفاطمة وسعد بن عبادة زعيم الأنصار ونحوهم من الاعتداء والتنكيل. وهذا علي نفسه ولا بعض ذلك من الذين امتنعوا عن بيعته كابن عمر وابن أبي وقاص ونحوهما.

لماذا...؟

فهاك حضرة الدكتور وأيها القارئ النبيه مما جاء في مصادر السنة مما لا مزيد عليه في كتب الشيعة وإن ما جاء ما بين ذلك من إجمال وتفصيل لا يعدو عن كونه تعديا ذكره الجميع ولم ينفرد به هذا عن ذاك لا أريد أن أذكر كل شئ فذلك يطول ذكره بل أقتصر وأختصر على مما يخص ما حسبه بعضهم أنه مما ذكره الشيعة فقط وبالغوا في ذكر هجوم على دار فاطمة الزهراء (عليها السلام) لأخذ البيعة كان في تلك الدار - المحترمة عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجميع المسلمين في عصره - فأكبر موقف مستقل ما كشفته مصادر أهل السنة:

____________

(1) سورة الممتحنة: الآية 12.


الصفحة 137
منها: أولا: جاء في تاريخ أبي الفداء (1) قوله بعد ذكر عدد ممن تخلف عن بيعة أبي بكر (رض) ما نصه: (وكذلك تخلف عن أبي بكر أبو سفيان من بني أمية ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة وقال: إن أبوا فقاتلهم.

فأقبل عمر بشئ من نار على أن يضرم به، الدار فلقيته فاطمة وقالت:

إلى أين يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا قال: نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة.

ثانيا: جاء قي كتاب العقد الفريد قوله:

الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر: علي والعباس والزبير. قعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة وقال له: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبس من نار على الباب ليضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا، قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة وخرج علي حتى أتى إلى أبي بكر " (2).

ثالثا: وما جاء في كتاب الإمامة والسياسة. فيما يخص موضوع الاعتداءات في كتابه المذكور بسنده أيضا كما تقدم إن أبا بكر تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي، فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا فدعى وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة، قال: وإن (3).

رابعا: ومما جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني: بسنده عن النظام: " أن عمر ضرب بطن فاطمة حتى ألقت الجنين من بطنها، وكان يصيح أحرقوا دارها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين " (4).

____________

تاريخ أبي الفداء: ج 3 ص 165.

(2) العقد الفريد: ص 64.

(3) الإمامة والسياسة: ابن قتيبة: ص 12.

(4) الملل والنحل للشهرستاني: ص 38.


الصفحة 138

المسألة الثالثة عشرة

قال الدكتور البوطي في محاضرته بلندن في مؤتمر الغدير:

" آية ذلك إن عليا (عليه السلام). اتخذ موقفا صريحا أمام أيام الفتنة من معاوية وكتب إليه الرسائل وأعلن أنه منحرف عن الخط وخارجا عن النهج، اتجه المسلمون إلى ما اتجه إليه علي (عليه السلام) ولعلكم جميعا تعلمون أن جمهور الفقهاء يقررون أن عليا (عليه السلام) هو صاحب الولاية والخلافة وأن صف معاوية يشكل البغي قرأنا هذا في كتب الشريعة هذا رأي الإمام الشافعي، وهذا رأي الإمام أبو حنيفة وهذا رأي الجمهور " (1).

قال الدكتور البوطي في محاضرته في جامعة دمشق (2):

فنحن نروي من آل بيت رسول الله ونروي عن صحابة رسول الله وليس أمامنا مقياس إلا العدالة وكل الصحابة عدول إلا بعد عصر الصحابة والتابعين فيخضعون لميزان الجرح والتعديل.

فأقول:

إن المتأمل لهذين النصين الصريحين والمتدبر لهما يجدهما مشحونين بالتناقض والتضاد فنجد في النص الأول بأن حضرة الدكتور قد بين آراء فقهاء السنة وإجماعهم على أن الفتنة التي يتزعمها معاوية بن أبي سفيان تشكل البغي والفئة التي يتزعمها أمير المؤمنين (عليه السلام) هي الفئة القائمة على الحق والتي تدعو إليه.

____________

(1) مجلة الموسم: العدد السابع / المجلد الثاني / ص 693.

(2) محاضرة بتاريخ 2 / 10 / 1995 محاضرة في فقه السيرة النبوية - (كاسيت + نسخة عن المحاضرة).


الصفحة 139
وأنه صرح بتفسيق معاوية والصحابة الذين معه الذين يشكلون البغي، مستشهدا برأي الإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة ورأي جمهور السنة.

لكني أود القول للدكتور كيف أنك ذكرت (أعني معاوية) في حربه لعلي (عليه السلام) بأنه باغ ولم تذكر بقية الصحابة الذين شاركوا معه الجريمة؟

ألم يقل علي (عليه السلام) أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

فمن هم القاسطون أليس معاوية وجماعته هم البغاة فلماذا عدلت عن الناكثين والمارقين...؟

ثم لماذا بعد أن حكمت على معاوية بالبغي بقولك في مؤتمر الغدير ب‍ (لندن) واستشهدت بآراء أئمة السنة وأقطابهم، ترجع في محاضرتك التي ألقيت في جامعة دمشق، تقول:

وليس أمامنا مقياس إلا العدالة، فقولك هذا إخراج لمعاوية من الجرح والتعديل مثلما تفضلتم وهذا الكلام من حضرتكم مخالف لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي رواه البخاري: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " أخرجه البخاري في كتاب الصلاة بهذا اللفظ ورواه في موضع آخر في الجهاد والسير بلفظ: " يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " ورواه ابن حبان أيضا باللفظ الذي رواه البخاري في كتاب الصلاة، فالحديث بروايتيه من أصح الصحيح، فعمار الذي كان في جيش علي داع إلى الجنة بقتاله مع علي، فعلي داع إلى الجنة بطريق الأولى. ورواية الطبراني فيها زيادة وهي: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية الناكثة عن الحق " وعمار ما نال هذا الفضل إلا بكونه مع علي فهو وجيشه دعاة إلى الجنة ومقاتلوهم دعاة إلى النار وأما قول علي (عليه السلام) أمرت بقتال الناكثين في حرب الجمل، والقاسطين جماعة معاوية والمارقين هم الخوارج رواه النسائي في الخصائص والبزار والطبراني... ويكفيك أدلة قول الحافظ في الفتح (1) ما نصه: " وقد ثبت أن من قاتل عليا كانوا بغاة ". ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في المستدرك

____________

(1) فتح الباري (13 / 57).

ملاحظة: وأما حديت عمار: تقتله الفئة الباغية أعرضت عن مصدر لشهرته بين الناس وذكره البخاري وغيره وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة بهذا اللفظ: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ".


الصفحة 140
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للزبير: " إنك لتقاتلنه وأنت ظالم له " فإذا كان الرسول اعتبر الزبير ظالما له لأنه كان مع مقاتليه.

وأما قوله تعالى المؤيد لقولنا: (فقاتلوا التي تبغي " (1) ألا يكفي معاوية خزيا الحديث القائل الذي رواه مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهم أحب إلي من حمر النعم.

وأما قول كثير من الناس من أن معاوية اجتهد فأخطأ فليس بآثم فهذا مصادم ومعارض لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوارد في شأن عمار أي قوله:

" ويدعونه إلى النار " كيف يقال فيمن سماهم الرسول دعاة إلى النار إنهم مجتهدون لا إثم عليهم، ثم إن معاوية ومن تابعه في هذا القتال لم يكن مجتهدا الاجتهاد الشرعي الذي يحصل من المجتهد في مسألة لم ينعقد فيها الإجماع، لأن عليا (عليه السلام) أدرى بحال معاوية وقد قال (عليه السلام): " إن بني أمية يزعمون أني قتلت عثمان وكذبوا إنما يريدون الملك " وقال أيضا (عليه السلام): " ولو علمت أنه يردهم عن ذلك أن أحلف عند المقام أني ما فعلت ذلك لم يرجعوا وإنما يريدون الملك ".

وأذكر في المناسبة أولئك الذين آذوا الإمام الحافظ النسائي قال: " لما دخلت دمشق وجدت أهلها منحرفين عن علي بن أبي طالب ولما علموا أني عملت خصائص علي طلبوا مني أن أعمل خصائص معاوية فقلت: ماذا أخرج له..؟ أأخرج له: " اللهم لا تشبع بطنه " فصاروا يضربونه في خصيتيه فحمل من دمشق إلى الرملة فتوفي بها وبعد كل هذا يرجع حضرة الدكتور في النص الثاني يقول وليس أمامنا مقياس إلا العدالة لمحافظته على كيان معاوية وشخصيته ضاربا بالأدلة عرض الحائط. والله إن كل من يحاول أن يخفي فضيلة صغيرة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنه لا يبرئ الذمة يوم التلاق، فوالله لينطبق عليه حديث مسلم في صحيحه (2) أن عليا رضي الله عنه

____________

(1) سورة الحجرات: الآية 9.

(2) صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان وبغضهم من علامات النفاق.


الصفحة 141
قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق، فليعلم ذلك كل من أراد القول بتسوية وعدالة الصحابة كلهم (بما فيهم المنافق، والمبطن إيمانه، والصالح).

وصدق بقوله الجلي: المحدث الفقيه السني الشيخ عبد الله الهرري خادم علم الحديث:

يقول عبد الله هو الهرري * الأشعري الشافعي العبدري
الحمد لله الذي قد شرعا * مذهب أهل الحق أن يتبعا
إن الذين قاتلوا عليا * من الصحاب أثموا جليا
لما أتى في مسلم وغيره * في شأن من عصى ولي أمره
قال بهذا الأشعري أبو الحسن * رحمه الله العلي ذو المنن
هذا هو الموافق الصحيحا * من الحديث فالزم النصوصا
كنحو ما ورد في الزبير * ومثل ما ورد في عمار

ففي صحيح البخاري في باب ذم الرأي وتكلف القياس. عن عبد الله ابن عمرو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن الله تعالى لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا، ولكنه ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى أناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون " (1).

فأقول للدكتور:

هل الدين بما قال الله ورسوله أم بقياس من عقولنا القاصرة فقولك وليس أمامنا مقياس إلا العدالة فهذا محق لشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فاسمع ما يحدثنا التاريخ عما جرى لأبي حنيفة مع الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: دخل أبو حنيفة على الصادق (عليه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة أنت مفتي أهل العراق قال: نعم. قال: بما تفتيهم قال: بكتاب الله.

قال: أفأنت عالم بكتاب الله عز وجل، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه قال: نعم قال: فأخبرني عن قوله تعالى: (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ".

____________

(1) صحيح البخاري: ج 44 ص 173 - باب ذم الرأي وتكلف القياس، وسط الصفحة.


الصفحة 142
أي موضع هو؟

قال أبو حنيفة هو بين مكة والمدينة، فالتفت الصادق (عليه السلام) إلى جلسائه فقال: نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرقة: اللهم نعم.

قال: ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا، ثم قال (عليه السلام):

أخبرني عن قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) أي موضوع هو؟

قال أبو حنيفة: ذلك بيت الله الحرام، فالتفت الصادق (عليه السلام) إلى جلسائه فقال لهم: نشدتكم بالله هل تعلمون إن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاء فلم يأمنا القتل قالوا: اللهم نعم فقال (عليه السلام): ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا.

فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب الله عزو جل، أنا صاحب قياسي قال الصادق (عليه السلام) فانظر في قياسك إن كنت مقيسا، أيها أعظم عند الله القتل أم الزنى قال: بل القتل.

قال الصادق (عليه السلام): فكيف رضي الله في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة ثم قال له (عليه السلام) الصلاة أفضل أم الصيام قال: الصلاة أفضل.

قال (عليه السلام) فيجب على قياسك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصلاة.

ثم قال له الإمام الصادق (عليه السلام): البول أقذر أم المني؟.

قال: البول أقذر.

قال (عليه السلام): يجب على قياسك أنه يجب الغسل من البول دون المني وقد أوجب الله الغسل عن المني دون البول.

قال أبو حنيفة. إنما أنا صاحب حدود.

فقال (عليه السلام): فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح وأقطع قطع

الصفحة 143
يد أم رجل كيف يقام عليه الحد.

قال أبو حنيفة: أنا صاحب رأي.

قال (عليه السلام) فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة ثم سافرا وجعلا المرأتين في بيت واحد فولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك، وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث.

قال أبو حنيفة: إنما أنا رجل عالم بمباحث الأنبياء.

قال (عليه السلام): فأخبرني عن قوله تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى دعوة فرعون: (لعله يتذكر أو يخشى) فلعل منك شك قال: نعم قال (عليه السلام) ذلك من الله شك إذ قال لعله فقال أبو حنيفة: لا أعلم.

  • فقال له الصادق (عليه السلام): يا أبا حنيفة لا تقس فإن أول من قاس إبليس فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فقاس ما بين النار والطين ولو قاس نورية آدم بنورية الفنار لعرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر.

    يا أبا حنيفة: إنك تفتي بكتاب ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس، ولم يبن دين الإسلام على القياس وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صوابا ومن دونه خطأ لأن الله تعالى قال: (أن احكم بينهم بما أراك الله) ولم يقل لغيره وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك.

    ولولا أن يقال دخل على ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يسأله عن شئ ما سألتك عن شئ فقس إن كنت قياسا.

    قال أبو حنيفة: لا تكلمت في الرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس فقال له الصادق (عليه السلام) كلا إن حب الرياسة غير تاركك كما لم يترك غيرك من كان قبلك.

    فأقول لحضرة الدكتور البوطي: من أين لك المقياس لعدالة الصحابة وسبق أنك فسقت معاوية كما في (النص الأول) هل لديك دليل قرآني أم

    الصفحة 144
    نص نبوي على ذلك وإن لقوله تعالى: (أن احكم بينهم بما أراك الله) فهل تستطيع أن تعطينا حكما بما أراك الله على ذلك بأن الصحابة كلهم عدول، أم هذا مقياس مثلما تفضلت. فلماذا تقول برأيك وليس أمامنا مقياس إلا أن نقول: الصحابة كلهم عدول لأنه لو جاز على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الاجتهاد لجاز أن يكون ما يقوله باجتهاده وليس نازلا من عند الله تعالى وذلك ينافي قوله تعالى:

    (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) ومناف لما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (1) فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أدري، ولم تجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأيه، ولا بقياس لقوله تعالى: (أن أحكم بينهم بما أراك الله) ولأنه مناف لقوله تعالى وما بعدها: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (2) وقال تعالى فيما.

    (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) وليس من الممكن إطلاقا أن نقيس الأمور بغير علم.

    إن كان عندك حكما فأتي به، وإن كان هذا مقياس، فأحذرك من القياس بشريعة الله. ثم لماذا بعد عصر الصحابة والتابعين يخضعون لميزان الجرح والتعديل..؟ وتنقلب العدالة إلى فسق من بعد ذلك.

    هل هذا الانقلاب لشخص واحد، أم بابن عن أبيه والذين يزعمون ذلك هل يستطيع تحديد الانقلاب في أي يوم أو شهر أو سنة أم تريد أن تقول يوم ضرب مروان الحمار بيد العباسيين وهل ناقلوا هذا التفريق هل هم ثقاة في نفلهم أم لا. وهل هذا رأي حدسي، أم حسي.

    وأيهما تتبناه أنت وتستطيع الجواب عنه بشرط أن لا يكون تناقض صريح كما هي العادة.

    فأقول لك بالمناسبة أحد علماء السنة عندكم الشيخ المحدث عبد الله الهرري قال: في كتاب له صدر حديثا: " ولا يظن ظان أن قول بعض

    ____________

    (1) صحيح البخاري: ج 4 ص 173 - باب ما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل مما لم ينزل عليه الوحي).

    سورة الحاقة: الآية 44.


    الصفحة 145
    المحدثين في كتب الاصطلاح، الصحابة كلهم عدول (1)، معناه أن كلا منهم سالم بن الكبيرة وهذا بعيد من الصواب لأن منهم من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ثم قاتل مع معاوية فكان قاتل عمار بن ياسر، ثم كان يتبجح بذلك ويقول لما يأتي إلى أبواب بني أمية: " قاتل عمار باالباب "، فهل يحكم لهذا بأنه عدل بمعنى أنه سالم من الكبائر، إنما معنى قول أولئك المحدثين أنهم لا يتهمون بالكذب على الرسول فيما يروونه من الأحاديث عنه، أليس هذا من أفسق الفسق فقد خالف قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي سمعه منه فقتل عمارا، وهذا الغادر أبو الغادية الجهني (2). ثم كيف تقول بعدالة الجميع: فإليك ما أخرجه البخاري من صحيحه بالإسناد إلى أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم قال: هلم. قلت: أين؟

    قال: إلى النار والله، قلت وما شأنهم قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال:

    هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) (3).

  • وأخرج البخاري عن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيت البراء ابن عازب فقلت له: طوبى لك صحبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعته تحت الشجرة.

    فقال: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده (4).

  • وأخرج البخاري عن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أنا فرطكم على الحوض ويرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول: يا رب أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (5) هذا ما استدلينا به من أهم

    ____________

    (1) المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية ص 208 ط 2 دار المشاريع.

    (2) الشيخ عبد الله الهرري: المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية ص 208 ط 2 دار المشاريع.

    (3) صحيح البخاري: ج 4 ص 94 - آخر كتاب الرقاق - باب الحوض من صحيحه بالإسناد إلى أبي هريرة.

    (4) صحيح البخاري: ج 3 ص 30 - باب غزوة الحديبية.

    (5) صحيح البخاري: باب غزوة الحديبية.


    الصفحة 146
    الصحاح عندكم تنفي عدالة الصحابة فتعال سماحة الدكتور لنترك القياس ولنحتكم إلى كتاب الله بيني وبينك ولنترك التعصب المقيت والنظريات التي تقول بعدالة الصحابة الذين اختلقوها بني أمية لغسل ذلك الشنار الملوث بالشرك والجرائم والذي كان ماثلا لدى الجميع أن يحاولوا استبدال تلك الصورة الكريهة العالقة في الأذهان عنهم نتيجة لمواقعهم المعادية للإسلام حتى بعد أن دخلوا فيه مكرهين، كان من الطبيعي أن يحاولوا استبدال تلك الصورة بصورة تتناسب مع مراكزهم التي تسنموها باسم الإسلام فوضعوا فكرة العدالة لجميع من عاصر الرسول من المسلمين حتى ولو لم يره (1)، ويسمع منه شيئا وتوسع بعضهم فيها وأثبتها لكل من ولد في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وظلت فكرة العدالة لجميع الصحابة التي تتسع للأمويين وعلى رأسهم أبو سفيان والحكم طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسير وتتفاعل حتى أصبحت وكأنها من الضرورات عند السنة وحكامهم في عصر الصراع العقائدي، لأنها تخدم مصالحهم ومبادئهم التي اعتمدوها في سيرة الخلافة، ومواقفهم المعادية لأهل البيت (عليهم السلام) ولم يكن الصحابة أنفسهم يتصورون بأن الغلو بهم سينتهي إلى هذه النتيجة وتكون لهم تلك الحالة التي استخدمها معاوية لخدمة الجاهلية التي تجسدت في البيت الأموي ذلك البيت الذي ظل يحارب الإسلام منذ أن بزغ فجره وحتى اللحظات الأخيرة من حكمهم.

    وقال الإمام عبد القاهر التميمي في كتاب الإمامة (2): أجمع علماء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي فهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين أن عليا كرم الله وجهه مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل. وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له لكن لا يكفرون ببغيهم.

  • وروى البيهقي في سننه (3) وابن أبي شيبة في مصنفه (4) بالإسناد

    ____________

    (1) البرهان على عدم تحريف القرآن: السيد مرتضى الرضي نقل كلام العلامة هاشم معروف الحسني - ص 72.

    (2) نقل ذلك القرطبي في التذكرة في أموال الموتى وأمور الآخرة: ص 644.

    (3) سنن البيهقي: 8 / 174.

    (4) مصنف ابن أبي شيبة: 15 / 290.


    الصفحة 147
    المتصل إلى عمار بن ياسر قال: " لا تقولوا كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا وظلموا " وزاد ابن أبي شيبة في إحدى رواياته: " ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق فحق علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه ".

    ومما يؤيد ما قلناه ما ذكره الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه الفرق (1) بين الفرق ونصه: " وقالوا بإمامة علي في وقته وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين والنهروان ".

    فأقول لحضرة الدكتور: فبعد هذا كيف يصح أن يقال: إن معاوية اجتهد فأخطأ فنسبت له أجر الاجتهاد، كيف يكون مجتهدا مأجورا وفي حديث البخاري المتقدم: " ويدعونه إلى النار " أليس كلامهم مخالفا لقول عمار المتقدم " ولكن قولوا فسقوا وظلموا " كيف بالله عليك أيها الدكتور يجتمع الظلم في مرتبة واحدة مع الأجر والثواب ويكون الظالم مأجورا مثابا وأشد بعدا عن الحقيقة قول من قال لا ملامة عليكم، وما هذا عند النظر إلى الحقيقة إلا تعاميا عن الحقيقة في رابعة النهار أليس دونها سحاب.

    فحسبك الآيات القرآنية التي تفند هذه النظرية: " أي نظرية عدالة الصحابة ":

    (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (2).

    وفيهم من كان يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

    (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (3).

    فإلى الله نبرأ من هؤلاء، وممن: (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين) (4).

    ____________

    (1) الفرق بين الفرق: ص 350 / 351.

    (2) سورة التوبة: الآية 101.

    (3) سورة التوبة: الآية 61.

    سورة المجادلة: الآية 16.


    الصفحة 148
    والذين: (يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) (1).

    والكتاب العزيز يعلن بصراحة عن وجود طائفة تستمع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن طبع الله على قلوبهم لأنهم اتبعوا الهوى فقال تعالى:

    (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم " (2).

    كما أعلن تعالى عن طائفة منهم وهم الذين في قلوبهم مرض والذين يفسدون في الأرض ويقطعون أرحامهم: (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (3) أجل أين ذهب أولئك بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وقد جرعوه الغصص في حياته، ودحرجوا الدباب، فهل انقلبت حالهم بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) من النفاق إلى الإيمان؟ ومن الفساد إلى الصلاح ومن الشك إلى اليقين، فأصبحوا في عداد ذوي العدالة من الصحابة. الذين طبقت نفوسهم على التقى والورع، وعفة النفس والعلم، والحلم، والتضحية في سبيل الله وهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (4) فنحن لا نرتاب في ديننا، ولا نخالف قول الحق في تمييز منازل الصحابة. ودرجاتهم فنتبع الصادقين منهم ونوالي من اتصف بتلك الصفات التي ذكرها الله ورسوله، كما أنا لا نأتمن أهل الخيانة لله ورسوله، فقول سماحة الدكتور وليس أمامنا مقياس إلا العدالة فهذه جناية على الدين وخيانة لأمانة الإسلام ولا نركن لمن ظلم منهم ولا نواد من حاد الله ورسوله. وحسبك أيها الدكتور ما ورد في الحديث (ما يفيد تلك النظرية) فإليك نماذج من مخالفات الصحابة:

    فمنها: ردهم لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ردا مكشوفا في مرضه الذي توفي فيه حينما

    ____________

    (1) سورة النساء: الآيتان 142 - 143.

    (2) سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): الآية 16.

    (3) سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): الآيتان 23 - 24.

    (4) سورة الحجرات: الآية 15.


    الصفحة 149
    قال لهم والحجرة غاصة بهم: " ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا " فقالوا: هجر رسول الله على ما سجله البخاري عليهم في صحيحه (1).

    ومنها: مخالفهم لهم (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم تبوك حينما أمرهم بنحر إبلهم وأكل لحومها إذا أحلقوا في تلك الغزوة وجاشوا على ما حكاه البخاري عنهم في صحيحه (2).

    ومنها: أنه لما آثر رسول الله أناسا في القسمة في حنين - تأليفا لقلوبهم - قالوا: إن هذه القسمة ما أراد بها وجه الله - على ما أخرجه البخاري في صحيحه (3) مع أنهم يعلمون أن رسول الله (ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى " كما قال الله تعالى وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ينطق عن الهوى في سائر أوقاته وبمختلف أحواله سواء في حضره أو في سفره وفي صحته أو مرضه كما يقتضيه عموم الآية.

    ومنها: أنهم كرهوا الجهاد وجادلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تركه ورغبوا في الدنيا وزهدوا في ثواب الآخرة وبخلوا بأنفسهم عن نصره حتى أنزل الله تعالى فيهم قرآنا، فقال تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق من بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) [ سورة الأنفال 5 - 6 ].

    ومنها: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرهم بالخروج إلى بدر فتثاقلوا عنه واحتجوا عليه ودافعوه عن الخروج معه فأنزل الله تعالى فيهم: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) (4).

    ومنها: أنهم أنكروا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره أبا هريرة أن يبشر بالجنة كل من لقيه

    ____________

    (1) 3: 111 / حديث 2888 / باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم.

    (2) صحيح البخاري: 3: 1088 / حديث 2820 / باب حمل الزاد في الغزو.

    (3) صحيح البخاري: 4: 1906 / حديث 4081 / بين غزوة الطائف.

    (4) سورة النساء: الآية 77.


    الصفحة 150
    من أهل التوحيد حتى ضربوه - وهو رسول النبي - في تلك الواقعة ضربة خر بها إلى الأرض، ردعا له عما أمره به رسول الله، على ما أخرجه مسلم في صحيحه (1).

    ومنها: أنهم تجرؤوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكروا عليه صلاته على ابن أبي المنافق حتى جذبوه من ردائه وهو واقف للصلاة عليه، على ما أخرجه البخاري في صحيحه (2).

    ومنها: أنهم ا أنكروا على رسول الله صلح الحديبية وتكلموا بكلمات مزعجة على ما حكاه البخاري في صحيحه (3).

    ومنها: أنهم أسرعوا إلى رمي عفاف أم المؤمنين عائشة لما تأخرت وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق (4) حتى نزل قوله تعالى: (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) [ النور: 11 ].

    ومنها: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ومعها من يضرب بالدف ويستعمل ما حرجه الإسلام فتركوا رسول الله قائما على المنبر وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب، رغبة فيه وزهدا في استماع مواعظه وما يتلوه عليهم من آيات القرآن الكريم، حتى أنزل الله تعالى فيهم: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) [ الجمعة: 11 ] على ما أخرجه السيوطي في تفسيره الدر المنثور (5) والخازن في تفسيره (6) والبغوي في تفسيره (7) والبيضاوي في تفسيره (8) وغيرهم من

    ____________

    (1) صحيح مسلم: 1: 34 / باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة.

    (2) صحيح البخاري: 5 / 2184 / حديث 5460 / باب لبس القميص.

    (3) صحيح البخاري: 2 / 974 / حديث 2581، 2582 / باب الشروط في الجهاد.

    (4) صحيح البخاري: 4 / 1517 / حديث 3910 / باب حدث الإفك.

    (5) 6 / 221.

    (6) 4 / 268.

    (7) 4 / 88.

    (8) 2 / 493.


    الصفحة 151
    مفسري أهل السنة، فإن الخطاب - يا دكتور - في هذه الآيات كلها موجه إليهم أولا بالذات لا إلى غيرهم.

    ومنها: أنهم قد تشاتموا مرة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتضاربوا بالنعال بحضرته على ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) وتقاتل الأوس والخزرج على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال - كما ذكره الحلبي الشافعي في سيرته الحلبية (2) مع علمهم بقول رسول الله: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " على ما حكاه البخاري في صحيحه (3) وعلمهم بما أوجبه الله تعالى عليهم من التأدب بحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن لا يرفعوا صوتهم فوق صوته فقال تعالى: (يا أيها الذين لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (4) إلى غير ما هنالك من المخالفات لله ولرسوله التي وقعوا فيها مما يضيق صدر هذا الكتاب عن تعدادها.

    ثم كيف بعد هذا تقول وليس أمامنا مقياس إلا أن نقول الصحابة كلهم عدول فتساوى الصالح مع الظالم والفاسق اللهم فاشهد.

    هذا هو الحق. والحق أحق أن يتبع، وكفى بها جوابا: (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).

    ____________

    (1) صحيح البخاري: 2 / 958 / حديث 2545 / باب ما جاء في الاصطلاح بين الناس.

    (2) ج 2: 107.

    (3) صحيح البخاري: 1 / 27 / حديث 48 / باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

    (4) سورة الحجرات: الآية 2.


    الصفحة 152

    المسألة الرابعة عشرة

    فقال: روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، هذا الكلام طبعا في سياق حديثه عن الخلافات بين السنة والشيعة فتطرق إلى هذه المسألة معلقا على هذا الجانب لأنه يعلم كل العلم بأن الشيعة تهتم بإقامة الشعائر الإسلامية والصلاة في هذه الأماكن، قائلا: الربط بين القبر والصلاة هذا غير جائز (1).

    فأقول لحضرة الدكتور البوطي: إن زعمك حرمة تحويط مزار القبور بجعلها في غرفة الصيرورة المزار بذلك مشرفا ومسجدا وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إشراف القبور وجعلها مساجد لكن هذا الدليل على عدم صيرورة القبر بذلك مشرفا ومسجدا.

    هناك أمور:

    أولا: وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدفنه في غرفته وكذلك وصية الخلفاء والصحابة وهذه دلائل واضحة نستدل من خلالها على جواز فعل القبر في الغرفة (2).

    فلذا نجد المسلمين قد اختلفوا في دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال أبو بكر:

    سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ما مات نبي إلا دفن حيث يقبض " فرفع فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي توفي عليه ثم حفر له تحته، وكذلك أوصى الخليفة عمر بن الخطاب بدفنه في غرفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فدفنه الصحابة فيها ودفن علي بن أبي

    ____________

    (1) محاضرة بتاريخ 2 / 10 / 1995 جامعة دمشق.

    (2) طبقات ابن سعد: المجلد الثاني باب ذكر موضع قبره.


    الصفحة 153
    طالب فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غرفتها أو في دار عقيل، جنب البقيع لكن قبرها مجهول، ودفن هارون الرشيد في داره وروي أن المأمون بنى حول مزاره هذا البناء الذي دفن فيه أيضا علي بن موسى الرضا راجع تاريخ ابن الأثير وتاريخ المدينة المنورة لابن شبة وغيرهما.

    ثم سؤال يطرح نفسه لماذا الخلفاء والصحابة حوطوا مزار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

    فإذا هذا دليل على جواز تحويط المزار.

    وروى ابن زبالة عن عائشة أنها قالت: ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي حتى دفن عمر، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا.

    وقال ابن سعد في طبقاته:

    لم يكن على عهد رسول الله على بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان مزاره بعد موته - حائط وكان أول من بنى عليه جدارا الخليفة عمر بن الخطاب (13، 23).

    وقال أيضا ابن سعد في طبقاته:

    كان ابن الزبير قد زاد في ارتفاع الحائط الذي بني على قبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). قال عبيد الله بن زياد: كان جداره قصيرا ثم بناه عبد الله بن الزبير (64، 73).

  • وأخرج البخاري في صحيحه في باب ما جاء في قبر النبي أنه بعد سقوط الحائط بناه الوليد بن عبد الملك الأموي (1).

  • وروى السمهودي: أنه كان حول ما يوازي حجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سطح المسجد مظير مقدار نصف قامة مبنيا بالأجر تمييزا للحجرة الشريفة عن بقية سطح المسجد كما ذكره ابن النجار وغيره (2).

    ____________

    (1) وراجع أيضا في هذا القول: أنساب الأشراف للبلاذري، ج 2 ص 576.

    (2) وفاء الوفاء: ج 2 ص 608.


    الصفحة 154
    ثانيا: جعل القبر في الغرفة لا يصيره مشرفا ولا مسجدا إذ كان قبر النبي في غرفته غير مشرف ولا لاطئ (1).

    وروى الحاكم في مستدركه وأبو داود في سننه من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر أنه قال:

    " دخلت على عائشة فقلت لها يا أمة اكشفي لي عن قبر النبي وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء) (2).

  • وأخرج البخاري في صحيحه في كتاب جنائزه عن عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في مرضه الذي مات فيه:

    " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (3).

    قالت: ولولا ذلك القول من النبي لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا " تعني لم يكن مبرزا حتى يصير مسجدا مع أنه في الغرفة " فماذا نفهم من ذلك.

    أنه لا تكون صلاة عائشة في جنب القبر بمعنى أنها اتخذته مسجدا لعدم قصد عائشة بل المراد عدم اتخاذه صنما يعبد بعنوان أنه إله وبعبارة أخرى أن المراد من الحديث " النهي عن عبادة القبر " لا مجرد الصلاة إلى جنبه كما كانت تصلي عائشة وكما أن الزائرين يصلون اليوم في مسجد النبي جنب قبره (صلى الله عليه وآله وسلم).

    ثالثا: بناء قبة حمزة بن عبد المطلب بمعونة الخلفاء العباسيين: قال السمهودي في وفاء الوفاء:

    " إن على مزاره قبة عالية حسنة متقنة وباب مصفح كله بالحديد بنته أم

    ____________

    (1) وفاء الوفاء: للسمهودي: ج 2 ص 551 (راجع طبقات ابن سعد أيضا).

    (2) صحيح البخاري: باب ما جاء في قبر النبي أنه بعد سقوط الحائط بناه الوليد بن عبد الملك الأموي.

    (3) عدم إشراف قبر النبي كان لأجل نهي النبي عن إشراف القبور (مسند أحمد بن حنبل في مسند علي بن أبي طالب صفحة (96، 129، 138، وقال علي (عليه السلام) لأبي الهيجاء الأسدي:

    أبعثك على ما بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته.

    (4) صحيح البخاري: في كتاب الجنائز.


    الصفحة 155
    الخليفة العباسي الناصر لدين الله (سنة 575 - 622 ه‍) أبي العباس أحمد بن المستضئ.

    فواضح من النص السابق أن القبة المشار إليها في الحديث لم تكن قبة مسجد بل قبة مزار حرم حمزة، وأن الحرم كان قريبا من المسجد على مسافة قصيرة. وبعبارة أخرى فإن الحديث يشير إلى وجود مبنيين متقاربين منفصلين عن بعضهما البعض أحدهما حريم قبر حمزة، والآخر المسجد وقد تم إعمار هذه القبة تحت إشراف الخلفاء وإن من قام بتهديمها اليوم. هم الوهابيون، ولو أن الوهابيين استطاعوا لخربوا مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

    ثم أقول: كيف ادعيتم هذه الأقوال وليس فيها من الصحة شيئا.

    رابعا: البناء على القبور في الأمم السابقة: يستفاد من بعض الآيات الكريمة في القرآن أن تعظيم قبور المؤمنين كان أمرا شائعا بين الأمم التي سبقت ظهور الإسلام، فبالنسبة إلى أصحاب الكهف - بعدما انتشر خبرهم بين الناس وهرعوا إلى الكهف لمشاهدتهم - وقع الخلاف والنزاع حول مدفنهم وانقسموا قسمين فقال أحدهما:

    (ابنوا عليهم بنيانا).

    وقال الآخر:

    (لنتخذن عليهم مسجدا).

    هنا نلاحظ أن القرآن الكريم يذكر لنا هذين الرأيين من دون أن ينتقدهما، وعلى هذا يمكن القول بأنه لو كان الرأيان باطلين لانتقدهما، أو قص قصتهما بأسلوب رافض مستنكر.

    ويقول المفسرون: إن النزاع - حول مدفن أصحاب الكهف - إنما وقع بين المؤمنين والكافرين، أما الكافرون فقالوا:

    (ابنوا عليهم بنيانا).

    والمؤمنون قالوا: (لنتخذن عليهم مسجدا) وكانت الغلبة مع المؤمنين حيث قال سبحانه: (قال الذين غلبوا على