وبني المسجد وصارت قبور أصحاب الكهف مركزا للتعظيم والاحترام.
وهكذا يظهر لنا أن الهدف من البناء على قبور أصحاب الكهف إنما كان نوعا من التعظيم لأولياء الله الصالحين.
أيها القارئ الكريم: بعدما مر عليك من الآيات الكريمة الثلاثة لا يمكن القول بحرمة البناء على قبور أولياء الله ولا بكراهته بأي وجه بل يمكن اعتباره نوعا من تعظيم شعائر الله ومظهرا من مظاهر المودة إلى القربى.
وفي نهاية المطاف أقول لسماحة الدكتور:
إن بناء المساجد بجوار قبور الصالحين لا مانع فيه أبدا، لأنه يندرج تحت الأصول الإسلامية العامة المجوزة ذلك لأن الهدف من بناء المسجد هناك إنما هو عبادة الله تعالى بجوار مثوى أحد أحبائه وأوليائه الصالحين الذي منح البركة والشرف لتلك الأرض التي دفن فيها وبعبارة أخرى: إن الهدف من تشييد المساجد هناك التشجيع على أداء الفرائض الشرعية والعبادات، قبل زيارة ذلك القبر أو بعدها، فلا معنى للقول بحرمة بناء المسجد - بجوار قبور الصالحين لعبادة الله وأداء فرائضه الشرعية، وإن التأمل في قصة أصحاب الكهف يكشف لنا عن أن بناء المسجد بجوار القبر كان سنة متبعة عند الأمم والشرائع السابقة. والقرآن الكريم يشير إلى تلك السنة من دون أي رد أو نقد. وإن تقرير القرآن حجة شرعية - كما هو ثابت في علم أصول الفقه وهذا يدل على أن سيرة الموحدين المؤمنين في العالم كله كانت جارية على هذا الأمر وكان يعتبر عندهم نوعا من الاحترام لصاحب القبر وتبركا به.
ثم أقول: لماذا ذكر القرآن في سورة الكهف اقتراحهم من دون أي نقد أو رد؟
أليس ذلك دليلا على الجواز حضرة الدكتور؟
____________
(1) سورة الكهف: الآية 21.
المسألة الخامسة عشرة
قال الدكتور البوطي في كتابه فقه السيرة النبوية الطبعة الأولى عام 1972 بأن حديث كتاب الله وسنتي رواه البخاري ومسلم (1).
فأقول: إن النقل من المصادر هو أمانة علمية في عنق العالم والباحث والمفكر عندما ننقل الأحاديث النبوية وننسبها إلى غير مصدرها فهذا شئ يأثم عليه العالم في الشريعة إن لم يراجع حساباته قبل فوات الأوان.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم يراجع الدكتور البوطي حساباته في هذا الحديث ويبين للناس حقيقة هذا الحديث الذي بقي ملتبسا على كافة الناس، وبقي أعلام السنة يرددون بهذا الحديث في خطبهم ليلا ونهارا، دون أن يتطرقوا إلى سند هذا الحديث ومعرفة إن كان صحيحا أو ضعيفا، ولم يحصل من الجميع ولو بالصدفة أن يسأل أي إنسان عن مدى صحة هذا الحديث لماذا لا نتساءل...؟ لماذا نتقبل الأمور على عواهنها دون الرجوع إلى مصادرها ومعرفة حقيقتها.
إلى متى نبقى مضللين نتقبل كل رواية ونأخذها ونسلم بها دون جدل أو مناقشة. لماذا يتجاهل الدكتور البوطي الحديث الصحيح الذي أجمعت عليه الأمة، ولماذا هذه المحاولات منه لطمس الحقيقة وإغفالها عن الناس ومحاولة تشويهها رغم أنه يعلم كل العلم أن هذا الحديث لا يصمد أمام
____________
(1) هذا الكلام حدثني به السيد العلامة علي البدري ونقله من الطبعة الأولى كما وناقش به حضرة الدكتور وقال إنه متوهم بالسند عندما التقى به في دمشق.
فتعال معي أيها القارئ لترى الحقيقة كيف يتجلى لك، وكيف يتبين لك مذهب الحق مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
لنعالج الحديث الذي تحدث به الدكتور وزعم بأنه صحيح. الحديث الذي أورده الدكتور وقال بأنه صحيح ورواه البخاري ومسلم. لنرى هل البخاري ومسلم تطرقا إلى ذكر هذا الحديث.
فبعد البحث تتجلى لنا بأن البخاري لم يتطرق إلى ذكر هذا الحديث مطلقا. لكننا نجد مسلم في صحيحه ذكر عكس ما جاء به الدكتور.
وأما الحديث الصحيح الذي تجاهله حضرة الدكتور والذي أوردته جميع أسانيد أهل السنة فهاكم الأدلة:
1 - صحيح مسلم.
2 - سنن الترمذي.
3 - صحيح أبي خزيمة.
4 - صحيح أبي عوانة.
5 - مستدرك الصحيحين.
____________
(1) سنن الترمذي: ج 5 ص 621.
7 - أحمد بن حنبل في مسنده.
8 - الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك.
9 - وأخرجه الحافظ ابن كثير في تاريخه: 5 / 209 ونقله في تفسيره: 6 / 199.
10 - وأخرجه الحافظ السيوطي: في الجامع الصغير وتبعه شارحه العلامة المناوي.
11 - وأخرجه الحافظ أبو بكر الهيثمي في مجمع الزوائد.
12 - وإن شئت المزيد أيها القارئ فراجع تذكرة الحفاظ للذهبي 3 / 902 وطبقات السبكي 3 / 276، ومحمد بن جرير الطبري كما في كنز العمال ومحمد بن إسحق صاحب السيرة وتبعه الأزهري وابن منظور ورواه الطبراني في المعجم الكبير 1 / 129 ورواه أيضا أبو يعلى الموصلي في مسنده 1 / 387 [ المسند: نسخة مصورة مخطوطة بدار الكتب في الظاهرية بدمشق ] ونقله المحب الطبري في " ذخائر العقبى " ص 16.
هذه المصادر التي نقلت حديث كتاب الله وعترتي أهل بيتي. أما بالنسبة للحديث الذي أورده الدكتور كتاب الله وسنتي. وله مصدر واحد فقط وبدون سند فإذا أردت التأكد أخي القارئ فراجع موطأ الإمام مالك، الجزء الثاني، ص / 899 / ط دار إحياء التراث العربي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
وراجع الموطأ بشرح الحافظ السيوطي / ج / ص / 208 / والطبعة الحجرية: ج 2 ص 204 / وراجع ص / 899 / بتحقيق الدكتور محمد فؤاد عبد الباقي فسوف تجد أن صيغة الحديث كما أورده الإمام مالك في موطئه بدون سند بل أن راوي هذه الرواية مجهول الحال ولا يعرف حاله، ولهذا جاء في مرفوعة الإمام مالك حيث يروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه ".
وهذا دليل قاطع على عدم صدور رواية وسنتي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن مجرد
وتترك الحديث الذي أجمعت عليه أمة من الفريقين من السنة والشيعة والتي ذكرت أغلب صحاحكم إن لم تكن كلها.
فهنا سؤال يطرح نفسه.
فأقول:
أ - لماذا الإمام أبو حنيفة الذي عاصر مالك لم ينقل لنا هذا الحديث في مصادره ولم يقبل نقله.
ب - ألم يكن الإمام الشافعي تلميذا للإمام مالك لماذا لم ينقل لنا هذا الحديث ولم يقبله.
ج - أليس الإمام أحمد بن حنبل تلميذا للإمام الشافعي فقد نقل لنا في مسنده أربعون ألف حديثا ومنها الصحيح والضعيف. لماذا لم يقبل هذا الحديث ولم ينقله لنا رغم أنه نقل في مسنده الغث والسمين كما أكدته آنفا فأريد جوابا من سماحتكم.
فإن قلت لي حضرة الدكتور مالك ثقة والثقة لا يسأل. فأقول لك:
الصحابة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا إذا شكوا في أي مسألة سألوا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يجيبهم عن كل شئ.
ألا يحق لنا أن نسأل مالك من أين أتيت بهذا الحديث...؟
ثم أقول لك: وإن قلت لي بأن مالك من التابعين والتابعون كالصحابة عدول لا يخضعون لميزان الجرح والتعديل كما أكدته مسبقا.
فأقول لك: راجع مصادركم وكتب الجرح والتعديل وراجع القرآن الكريم نفسه بأنه أشار إلينا بعدم قبول هذه النظرية التي اختلقت في مطلع العهد الأموي لكي تغطي على عيوب معاوية بن أبي سفيان وغيره من الصحابة والتابعين الذين كانوا من عصبته. وإن قلت لي بأن هذا الحديث " وصله ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه
فأقول لك حضرة الدكتور من فضلك راجع كتب الرجال عندكم وستعرف من هو كثير بن عبد الله الذي ورد ذكره في شرح الموطأ للسيوطي (2).
ويمكنك التأكد مما ذكرنا بمراجعة ترجمة (كثير بن عبد الله) في تهذيب التهذيب (3).
قال أبو طالب عن أحمد: منكر الحديث ليس بشئ.
وقال أبو خيثمة: قال لي أحمد: لا تحدث عنه شيئا.
وقال الدوري عن ابن معين: لجده صحبة، وهو ضعيف الحديث وقال مره ليس بشئ وقال الدارمي عن ابن معين أيضا ليس بشئ.
وقال الآجري: سئل أبو داود عنه فقال: أحد الكذابين سمعت محمد ابن الوزير يقول: سمعت الشافعي - وذكر كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف فقال:
ذاك أحد الكذابين، أو أحد أركان الكذب.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: واهي الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين.
وقال الحافظ النسائي في موضع آخر: ليس بثقة.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه.
وقال الحافظ أبو نعيم: ضعفه علي بن المديني.
وقال ابن سعد في طبقاته: كان قليل الحديث، يستضعف.
____________
(1) تنوير الحوالك: 2 / 208.
(2) الموطأ بشرح السيوطي: 2 / 208.
(3) تهذيب التهذيب: ج 8 ص 377 (راجع ترجمة كثير بن عبد الله إن أردت المزيد ومعرفة ذلك).
وقال ابن حزم في كتابه " مراتب الديانة ".
أحصيت ما في موطأ مالك، فوجدت فيه من المسند خمسمائة ونيفا، وفيه ثلاثمائة ونيف مرسلا، وفيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيه أحاديث ضعيفة وهاها جمهور العلماء " (1).
فأقول: إن السنة التي خلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما خلف الكتاب العزيز لأن السنة لم تكن مدونة في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهذا وقع فيها الاختلاف والوضع وكثر الكذابون عليه فلو كانت السنة قد خلفها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنها مقترنة بكتاب الله، وأنها لن تفارقه لما وقع فيها الاختلاف والوضع من الوضاعين ولهذا أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبين للناس بأن بيته هو الحافظون لسنته، لذلك قرنهم بالقرآن، وحيث إن القرآن لا يقع فيه التحريف والوضع، فكذلك السنة التي يكون مصدرها أهل البيت لا يقع فيها الوضع، ولهذا قرنهم بالكتاب وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن هنا يكون حديث سنتي التي تحدث به الدكتور ضعيفا إن لم يكن موضوعا وهذا بخلاف حديث أهل بيتي حيث ذكرت للمرء مسانيده من صحاح أهل السنة ورواتهم الثقات.
مناقشة واستدلال في حديث كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)
فهذا الحديث كما ترونه سماحة الدكتور يفيد أن التمسك بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعصمان الأمة من الضلال فهما يغنيان الأمة ولا يحتاجان إلى غيرهما كلية؟
فأقول: أولا إن هذا الحديث لو صح لم يروه إلا واحد فهو من آحاد
____________
(1) تنوير الحوالك: 1 / 9.
ثانيا: لو سلمنا التعارض بينهما فإن الترجيح في جانب حديث " وعترتي أهل بيتي " كما هو شأن المتعارضين في علم الحديث وتقديم المتواتر منه على غيره.
وكما أنتم مجمعون بتقديم البخاري ومسلم على أهم الصحاح بعد القرآن فنجد أن مسلم يذكر حديث وعترتي أهل بيتي فاعتقد أن صحيح مسلم لم يترك لنا مجالا للمناقشة والاستدلال أكثر من ذلك.
وكما تناول المناقشة أحد أعلام الشيعة مع أحد علماء السنة في خصوص هذا الحديث في كتابه المناظرات العقائدية، للعلامة القزويني (1) رحمه الله.
فقال: " إن السنة هي الأخرى كالقرآن تحتاج إلى من يقوم بحفظها كاملا غير منقوص وذلك لا يمكن إلا إذا كان معصوما، فالسنة إذن لا تغني الأمة من الوقوع في الضلال ما لم يكن لها حافظ وقيم. فعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم القوامون عليها، والحافظون لها من الزيادة والنقيصة، والمبينون للأمة ناسخها ومنسوخها ومحكمها من متشابهها لا سواهم لأنهم معصومون بحكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما تقدم من حديثه، وغيرهم لم يكن معصوما بالإجماع.
ومما أفاده ابن حجر الهيثمي في (صواعقه) فإنه قال: " وفي رواية كتاب الله وسنتي " وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب، لأن السنة مبنية له فأغنى ذكره والحاصل أن الحث وقع على التمسك بالكتاب والسنة بالعلماء من أهل البيت (عليهم السلام) ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة. انتهى قوله (2).
____________
(1) المناظرات العقائدية بين الشيعة وأهل السنة (القزويني).
(2) الصواعق المحرقة في أواسط ص 148 في الفصل الأول من الآيات الواردة في الباب الحادي عشر.
لو كان التمسك بالكتاب والسنة وحدهما يغني الأمة من الوقوع في الضلال، لما أوجب الله تعالى على المكلفين أن يسألوا المعصومين عما جهلوه من الكتاب والسنة، فقال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (1) فإن وجوب السؤال يستلزم وجوب الجواب، ووجوب الجواب يستلزم وجوب القبول، وهو يستلزم وجوب العمل على طبعه، ووجوب العلم به مطلقا موجب لعصمة المسؤول، وذلك لأنه لو لم يكن معصوما لجاز عليه أن يجيب بالخطأ، فيجب القبول والعمل بالخطأ، ولا شئ من الخطأ يجوز قبوله، والعمل به، ومن حيث إنه وجب قبوله والعمل به بحكم إطلاق عموم الآية، علمنا أنه معصوم، أرأيت سماحة الدكتور كيف أن التمسك بالكتاب والسنة وحدهما لا يغني الأمة عن الوقوع في الضلال إن لم يكن ثمة إمام معصوم يقوم ببيانهما ويرشدها إلى ما فيها من أحكام وكلام؟!
ثم أقول: لا يختلف اثنان من علماء الإسلام في أن السنة النبوية ليست إلا قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو فعله، أو تقريره وهي ما تضمنته أحاديثه (صلى الله عليه وآله وسلم) المروية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ثبت لدى الجمهور من أهل السنة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى نهيا مطلقا، ومنع منعا باتا من أن يكتب عنه غير القرآن فهذا الإمام مسلم يحدثنا في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي، قال همام: أحسبه قال: متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " انظر صحيح مسلم فإذا كانت السنة لم تكتب في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهى عن كتابة غير القرآن بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمرهم بمحو ما يكتب عنه فليس من الممكن المعقول أن يترك في أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة شيئا لا وجود له، ويأمرهم بالتمسك به ويخاطبهم بكلمة " فيكم " وهو لا وجود له وهذا بخلاف القرآن والعترة النبوية (2)، فإنهما موجودان " ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض " كما جاء التنصيص عليه في حديث الثقلين المار ذكره فحديث " سنتي " مكذوب به عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومشمول
____________
(1) سورة النحل: الآية 43.
(2) صحيح مسلم: ج 8 ص 229 طبعة سنة 1380 ه في باب التثبت في الحديث وكتابة العلم.
بما أخرجه الإمام مسلم في (صحيحه).
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " وقد تركت فيكم لن تضلوا إن اعتصمتم به:
كتاب الله وأنتم تسألون عنه فما أنتم قائلون قالوا: نشهد أنك بلغت، وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس، اللهم أشهد اللهم أشهد ثلاث مرات " (1).
فهذا الحديث كما ترونه صريح في أن الذي تركه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم هو كتاب الله وليس فيه ذكر سنته (صلى الله عليه وآله وسلم) فلو كان حديث سنتي صحيحا لأخرجه الإمام مسلم في صحيحه كما أخرج الحديث المشتمل على كلمة " عترتي " ومن حيث إنه أخرج هذا، وترك ذاك، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام بيان ما يجب التمسك به بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) لئلا يضلوا بعده. علمنا أن حديث " سنتي " كذب وانتحال لا أصل له. وأقول للدكتور البوطي: لما كان الحديثان حديث " عترتي " وحديث " كتاب الله " مرويان في أصح الكتب بعد كتاب الله عند أهل السنة بإجماعهم كان العمل بهما جميعا واجبا لا محيص عنه، لا سيما إذا علمتم أن ثبوت الشئ لا ينفي غيره، وأن التوسعة في دائرة موضوع الحكم شئ يعرفه العلماء، ولم يفت ذلك على الإمام مسلم لذا ترونه أخرجه في صحيحه، ولم يخرج حديث " سنتي " لبطلانه كما قدمنا، وحينئذ يكون الجمع بينهما أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك فيهم كتاب الله وعترته معا.
ولو كان التمسك بهما وحدهما يغني المسلمين عن التمسك بعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي حكم (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأولين منهم والآخرين بوجوب التمسك بهم، وبالكتاب، لئلا يقعوا في الضلال المبين، لما وقع أكثر المسلمين في الضلال الواضح. وأضح دليل على ذلك ما وقع فيه الأئمة الأربعة من الاختلاف في حكم الكتاب والسنة في الواقعة الواحدة مع أن حكم الكتاب والسنة في الواقعة الواحدة لا يتغير ولا يتبدل، فأحد المختلفين لا شك في ضلال وخطأ لقوله تعالى: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) (2) وقد نهى
____________
(1) صحيح مسلم: ج 4 ص 41 من الطبعة المتقدمة في حجة الوداع.
(2) سورة يونس: الآية 32.
فأي شئ يا ترى يبقى مما تحتاج إليه الأمة لم يأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لم ينه عنه، حتى يقع مثل هذا الاختلاف بين الأئمة الأربعة وما الذي يا ترى ضاع منهم، أو التبس الأمر فيه عليهم، من دين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكامل حتى جدوا في طلبه فوقع هذا الاختلاف بينهم؟
وإذا كان كاملا والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه إلا بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بيانا واضحا، رافعا للالتباس، فأي شئ يا ترى فات عليهم بيانه، هو غير الدين، حتى فتشوا عنه واختلفوا من أجله هذا الاختلاف الكبير؟ فهذه أسئلة يجب الجواب عنها.
وفي نهاية المطاف: أقول لحضرة الدكتور بعد اللقاء الذي تم بينك وبين سماحة العلامة السيد علي البدري وتصريحك له بأن وقعت في وهم بالنسبة لسند الحديث عندما قلت رواه البخاري ومسلم فصرحت بقولك لسماحة العلامة البدري، بأنك قد رفعت السند وأبقيت الحديث فأجابك السيد البدري إذا أنت تركت الحديث ورفعت السند تصبح المصيبة أعظم كيف تذكر الحديث ولم تذكر سنده فلاحظ أخي تلك المواربة وذلك الهروب لماذا لم يرد أن يضع سند الحديث لأنه يعلم بأن هذا الحديث موضوع وليس له سند.
لكن أخذتم الشهرة بهذا الحديث منذ أيام مالك وحتى عصرنا الحاضر - فشعر الدكتور بأن محاولة التخلص من هذا الحديث ليس بالشئ السهل، بعد أن أكل الزمان عليه وشرب، فراجع أخي القارئ ولا تبقى مأسورا بالعادات والتقاليد التي ورثناها فابحث عن الحقيقة بنفسك. وكفى بها جوابا.
(لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
____________
(1) سورة آل عمران: الآية 105.
المسألة السادسة عشرة
التقية لا تمنع من التجاوب والتفاهم والوحدة الإسلامية
" قال الدكتور البوطي في محاضرته الجامعية عندما سأله أحد الطلبة في نفس المحاضرة لماذا لا تعقدون اجتماعا ومناظرات معتمدة على أدلة الشيعة وأدلة السنة تفيد في توحيد الصف الإسلامي.
فأجابه حضرة الدكتور:
عندما يكون الخلاف نابعا من شبه عقلية مسألة بسيطة جدا وما تم من المحاورات والمناقشات أو جزء منه يكفي لإزالة هذا الموضوع وهذه المشاكل لكن عندما تكون أفكار المذاهب نتيجة عصبية بالذات، تمسك بالذاتية وتمسك بالوجود الذاتي بأنه نحن هكذا منذ أربعة عشر قرنا وجودنا ما لازم نذوب في عقائد غيرنا ما عاد في مجال إطلاقا. هذا لا يجدي إطلاقا.
لا سيما وتوجد عندهم التقية ربما إذا ألجئ أحدهم قال شئ نعم ما عاد تقدر تناقشه وإلا يظهر شئ ثاني " (1). إلخ.
أقول: إن هذا الكلام لحضرة الدكتور ليذكرني بما قاله محب الدين الخطيب في كتابه الخطوط العريضة التي حاول من خلاله نسف الوحدة الإسلامية والتقارب بين المذاهب في ص 7 عندما قال: " وأول موانع
____________
(1) المحاضرة بتاريخ 31 / 2 / 1995 جامعة دمشق. وكلام الدكتور هذا منقول حرفيا من كاسيت تسجيل فتركته ولم أعمل به أي تغيير بالنسبة للغة (نسخة لكاسيت محتفظ بها عند المؤلف بتسجيل صوتي).
وهل ينتقمون الشيعة بإخفاء عقائدهم؟
أيزعم حضرة الدكتور البوطي والخطيب أن علماء الأزهر وأقطاب التقريب لم يطلعوا على ما اطلع عليه من كتب الشيعة ولم يدركوا حقيقة مذهب الإمامية وآرائهم في التقية وغيرها؟
أليس شيخ الأزهر أبصر من حضرة الدكتور ونظرائه بالمذاهب الإسلامية؟ هذا المصلح الذي أدرك بعلمه الواسع وغيرته على الإسلام والمسلمين ضرورة الاتحاد والاتفاق وإمكان التقريب بين الطائفتين، فقام لله وأدى ما عليه من نصيحة الأمة ورفع الجفوة فأيد الزعماء المصلحين وأسلافه من مشايخ الأزهر كالأستاذ الأكبر عبد المجيد سليم بإصدار فتواه التاريخية بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية.
وجواز الانتقال من سائر المذاهب إلى هذا المذهب ألا يصير أضحوكة للناس من يقول إن الشيعة حيث يقولون بالتقية لا يقبل منهم إقرار اعتراف في عقائدهم وأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون؟
أليست التقية جائزة عندكم حضرة الدكتور؟
والأمر العجيب أنك تستنكر عقائد أنت تقول بها وغيرك من أقطاب
فتعال معي حضرة الدكتور واقرأ ما قاله أقطابكم من العلماء في مسألة التقية.
قال: التقية باللسان، من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان (2).
____________
(1) سورة آل عمران: الآية 28.
(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي.
(3) سنن البيهقي - مستدرك الحاكم.
(4) (5) الدر المنثور: لجلال الدين السيوطي: ج 2 ص 176.
(6) سورة النحل: الآية 106.
" أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا فإن عادوا فقل لهم ذلك " (1).
أخبر الله سبحانه: " أن من كفر بالله من بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم فأما من أكره، فتكلم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه يؤاخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم " (5).
____________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد.
(2) السيرة الحلبية: ج 3 ص 61.
(3) صحيح البخاري: ج 7 ص 102 - باب المداراة مع الناس.
(4) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي: ج 2 ص 178.
(5) سنن البيهقي.
" ويجوز أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر والتلفظ بكلمة الكفر ولو عم الحرام قطرا بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرا فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه ".
وأخرج البخاري في صحيحه عن قتيبة بن سعيد عن سفيان عن ابن المكندر عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل، فقال: إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء خشيته " (3).
وهذا يكفينا دلالة بعد استعراض ما سبق على أهل السنة والجماعة يؤمنون بجواز التقية إلى أبعد حدودها من أنها جائزة إلى يوم القيامة كما مر
____________
(1) إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي.
(2) أحكام القرآن للرازي: ج 2 ص 10.
(3) صحيح البخاري: ج 7 ص 81 - باب لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحشا ولا متفحشا.
فلا مبرر لحضرة الدكتور البوطي وغيره في التشنيع والإنكار على الشيعة من أجل عقيدة يقولون بها هم أنفسهم ويروونها في صحاحهم ومسانيدهم بأنها جائزة بل واجبة، ولم يزد الشيعة على ما قاله أهل السنة شيئا، سوى أنهم اشتهروا بالعمل بها أكثر من غيرهم كما لاقوه في الأمويين والعباسيين من ظلم وجور واضطهاد، فكان يكفي في تلك العصور أن يقال:
هذا رجل يتشيع لأهل البيت ليلاقي حتفه ويقتل شر قتلة على يد أعداء أهل البيت النبوي.
فكان لا بد لهم من العمل بالتقية اقتداء بما أشار إليهم أئمة أهل البيت فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " التقية ديني ودين آبائي " وقال: " من لا تقية له لا دين له " وقد كانت التقية شعارا لأئمة أهل البيت أنفسهم دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم ومحبيهم وحقنا لدمائهم واستصلاحا لحال المسلمين.
وأما بالنسبة لأهل السنة والجماعة فقد كانوا بعيدين كل البعد عن ذلك البلاء لأنهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام ما الحكام فلم يتعرضوا لا لقتل ولا نهب ولا لظلم، فكان من الطبيعي جدا أن ينكروا التقية ويشنعون على العاملين بها وقد لعب الحكام من بني أمية وبني العباس دورا كبيرا في التشهير بالشيعة من أجل التقية وأتباعهم إلى هذا اليوم.
وهذا الخطيب البغدادي يذكر: أن نصر بن علي الجهضمي المحدث الكبير لما حدث بهذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحبني وأحب هذين (وأشار إلى الحسن والحسين (عليهما السلام)) وأباهما وأمهما كان معي في درجتي
وكلمه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه.
فهل تجد في مثل هذا العصر بدا من التقية حضرة الدكتور؟
فتأمل في مغزى هذه القصة وأمثالها، وقد عمل بالتقية في هذه العصور كثير من المحدثين والعلماء من أهل السنة أمثال أبي حنيفة والنسائي، ولم تكن للمحدثين وأرباب الصحاح والمسانيد كأحمد وغيره حرية في تخريج ما يخالف سياسة الحكومة، وأهواء الأمراء ولم يكن للمصنفين في تأليف الكتب ونقل الروايات بد من التقية لكونهم تحت اضطهاد شديد ومراقبة عيون الحكومة التي بثت جواسيسها في البلاد للفحص عمن يرى أو يروي لأهل البيت منقبة أو فضيلة ولقد أجاد إمام الحنفية في الأشعار المنسوبة إليه:
1 - حب اليهود لآل موسى ظاهر | وولاهم لبني أخيه بادي |
2 - وإمامهم من نسل هارون الأولى | بهم اقتدوا ولكل قوم هادي |
3 - وكذا النصارى يكرمون محبة | لمسيحهم نجرا من الأعواد |
4 - فمتى يوال آل أحمد مسلم | قتلوه أو سموه بالإلحاد |
5 - وهذا هو الداء العياء لمثله | ضلت حلوم حواضر وبوادي |
6 - لم يحفظوا حق النبي محمد | في آله والله بالمرصاد (2) |
وأقول:
إن التقية ليست كما يدعي أهل السنة بأنها ضرب من النفاق فالعكس هو الصحيح، لأن النفاق هو إظهار الإيمان وكتمان الكفر بينما التقية هو
____________
(1) تاريخ بغداد: 13 / 288 - رقم 7255.
وراجع أيضا ما أخرجه القاضي في الشفاء / 2 / 42 طبعة عام 1324 ه، وابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة نصر بن علي.
(2) راجع الفاتحة السابعة ص 115 من شرح الديوان للعلامة حسين بن معين الدين المبيدي من أعلام أهل السنة والجماعة في القرنين التاسع والعاشر.
وأما الموقف الثاني أعني التقية التي قال في شأنها سبحانه وتعالى:
(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) فإن مؤمن آل فرعون كان يكتم في الباطن إيمانه ولا يعلم به إلا الله ويتظاهر لفرعون وللناس جميعا أنه على دين فرعون " وقد ذكر الله في محكم كتابه تعظيما لقدره ".
وتعال معي حضرة الدكتور لتعرف قول الشيعة في التقية حتى لا تغتر بما يقال فيهم كذبا وبهتانا.
____________
(1) سورة البقرة: الآية 13.
فهذه جملة من كلمات علماء الفريقين مفصحة بجواز التقية في الجملة معلنة بتقارب آرائهم فيها وأن الكل معتمدون في القول بها على الكتاب والسنة وبعد كل هذا أقول: إذا فما ذنب الشيعة في القول بها؟ وما وجه مؤاخذتهم عليها إلا التعصب والجهل.
هكذا كان حال المسلمين وعلمائهم في تلك القرون المظلمة وأما في هذا العصر فالعلماء والباحثون أحرار في إظهار آرائهم حول المباحث الإسلامية، وليس بين الشيعي والسني ذلك التنافر الذي أوجدته السياسة في تلك العصور، فلا خوف ولا قتل ولا سجن لبيان الرأي، ولا يقاس هذا الزمان بعصر الأمويين والعباسيين وعصر الحجاج والمتوكل ذلك زمان وهذا زمان ولكن حضرة الدكتور البوطي لما سأله أحد طلابه السؤال المذكور لم يجد جوابا إلا أن يضع التقية من أحد الحواجز والعائقة بيننا وبينهم وتناسى ما حصل بين الفريقين السني والشيعي في دار التقريب بالأزهر إلى حد أن صدرت عن شيخ الأزهر فتواه التاريخية بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية.
وكما صدرت عن علماء الشيعة مثل السيد شرف الدين والسيد محسن الأمين. والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وغيرهم مقالات وكتب قضت على الافتراءات قضاء حاسما (1).
____________
(1) راجع حضرة الدكتور إن أردت أهم الكتب الشيعية للاطلاع: " نقض الوشيقة " " أصل الشيعة وأصولها " " الدعوة الإسلامية " " الفصول المهمة في تأليف الأمة " " أجوبة مسائل موسى جار الله " وكتاب " المراجعات " المحاورة التي تمت بين شرف الدين الموسوي وبين الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر هذا الكتاب كما قال عنه أحد أعلام السنة (الشيخ محمود أبو رية) في كتابه أضواء على السنة المحمدية ص 346: " نفيس جدا يجب على كل مسلم أن يقرأه لأنه حمل من البحوث الدينية والفوائد العلمية ما لم يحمله كتاب آخر ".