وذكر ابن حجر عن غير واحد أنه " كان مرجئا خبيثا، وأنه كان يدعو إليه " (2).
والراوي عن " الأعمش " عند ابن ماجة وأحمد في طريقه الآخر هو وكيع بن الجراح، وفيه: أنه كان يشرب المسكر، وكان ملازما له " (3).
ثم إن الرواي عن أبي معاوية في أحد طرق البخاري هو: حفص بن غياث، وهو أيضا من المدلسين (4).
مضافا إلى أنه كان قاضي الكوفة من قبل هارون، وقد ذكروا عن أحمد أنه: " كان وكيع صديقا لحفص بن غياث، فلما ولي القضاء هجره " (5).
أما الحديث عن عروة بن الزبير:
فإن عروة بن الزبير ولد في خلافة عمر، فالحديث مرسل، ولا بد أنه يرويه عن عائشة. وكان عروة من المشهورين بالبغض لأمير المؤمنين عليه السلام - كما عرفت من خبره مع الزهري، والخبر عن ابنه - حتى إنه حضر يوم الجمل على صغر سنه (6).
وقد كان هو والزهري يضعان الحديث في تنقيص الإمام والزهراء الطاهرة عليهما السلام، فقد روى الهيثمي عنه حديثا - وصححه - في فضل زينب بنت رسول الله [ صلى الله عليه وآله ]، جاء فيه أنه كان يقول: " هي خير بناتي ". قال: " فبلغ ذلك علي بن الحسين، فانطلق إليه فقال:
ما حديث بلغني عنك تحدثه تنتقص حق فاطمة؟! فقال: لا أحدث به أبدا " (7).
والراوي عنه ولده " هشام " في رواية البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة... وهو أيضا من المدلسين، فقد قالوا: " كان ينسب إلى أبيه ما كان يسمعه من غيره.
وقد ذكروا أن مالكا كان لا يرضاه، قال ابن خراش: بلغني أن مالكا نقم عليه حديثه
____________
1 - تدريب الراوي 1: 278، وفي طبعة 1: 328.
2 - تهذيب التهذيب 9: 121.
3 - تذكرة الحفاظ 1: 308، ميزان الاعتدال 1: 336.
4 - تهذيب التهذيب 2: 358.
5 - تهذيب التهذيب 11: 111.
6 - تهذيب التهذيب 7: 166.
7 - مجمع الزوائد 9: 213.
وأما الحديث عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة:
فإن الراوي " عن عبيد الله " عند البخاري ومسلم والنسائي هو " موسى بن أبي عائشة "، وقد قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي (2) يقول: " تريبني رواية موسى بن أبي عائشة حديث عبيد الله بن عبد الله في مرض النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم " (3).
وعند أبي داود وأحمد، هو: الزهري، لكن عند الأول يرويه عن عبيد الله، عن عبد الله بن زمعة. والزهري من قد عرفته سابقا.
هذا مضافا إلى ما في عبيد الله بن عبد الله نفسه... فقد روى ابن سعد عن مالك بن أنس قال: " جاء علي بن حسين بن علي بن أبي طالب إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يسأله عن بعض الشئ!! وأصحابه عنده وهو يصلي، فجلس حتى فرغ من صلاته، ثم أقبل عليه عبيد الله. فقال أصحابه: امتع الله بك، جاءك هذا الرجل وهو ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وفي موضعه، يسألك عن بعض الشئ، فلو أقبلت عليه فقضيت حاجته، ثم أقبلت على ما أنت فيه! فقال عبيد الله لهم: هيهات، لا بد لمن طلب هذا الشأن من أن يتعنى " (4).
حديث عائشة عن مسروق بن الأجدع
وفيه:
1 - " أبو وائل " وهو " شقيق ابن سلمة " يرويه عن " مسروق "، وقد قال عاصم بن
____________
1 - تهذيب التهذيب 11: 44.
2 - وهو محمد بن إدريس الرازي، أحد كبار الأئمة الحفاظ المعتمدين في الجرح والتعديل، توفي سنة 207 هـ تقريبا.
توجد ترجمته في: تذكرة الحفاظ 2: 567، تاريخ بغداد 3: 73، وغيرها من المصادر الرجالية.
3 - تهذيب التهذيب 10: 314.
4 - طبقات ابن سعد 5: 215.
2 - " نعيم بن أبي هند " يرويه عن " أبي وائل " عند النسائي وأحمد بن حنبل.
و " نعيم " قد عرفته سابقا. [ أنظر: بحث حديث سالم بن عبيد ].
ثم إن في أحد طريقي أحمد عن " نعيم " المذكور: " شبابة بن سوار "، وقد ذكروا في ترجمته أنه كان يرى الإرجاء ويدعو إليه، فتركه أحمد وكان يحمل عليه. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه (2)، وقد أورده السيوطي في القائمة المذكورة.. [ أنظر: بحث حديث الأسود عن عائشة ] وحكى ابنه في ترجمته ما يدل على بغضه لأهل بيت النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم (3).
هذا، ويبقى الكلام في عائشة نفسها...
فقد وجدناها تريد كل شأن وفضيلة لنفسها وأبيها ومن تحب من قرابتها وذويها..
فكانت إذا رأت النبي صلى الله عليه وآله يلاقي المحبة من إحدى زوجاته ويمكث عندها ثارت عليها...
كما فعلت مع زينب بنت جحش، إذ تواطأت مع حفصة أن أيتهما دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله فلتقل: " إني لأجد منك ريح مغافير، حتى يمتنع أن يمكث عند زينب ويشرب عندها عسلا " (4).
وإذا رأته يذكر خديجة عليها السلام بخير ويثني عليها، قالت: " ما أكثر ما تذكر حمراء الشدق؟! قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا منها " (5).
وإذا رأته مقدما على الزواج من امرأة حالت دون ذلك بالكذب والخيانة، فقد حدثت أنه صلى الله عليه وآله أرسلها لتطلع على امرأة من كلب قد خطبها، فقال لعائشة: " كيف رأيت؟
____________
1 - تهذيب التهذيب 4: 317.
2 - تهذيب التهذيب 4: 264، تاريخ بغداد 9: 295.
3 - تهذيب التهذيب 4: 265.
4 - هذه من القضايا المشهورة، فراجع كتب الحديث والتفسير، في تفسير سورة التحريم.
5 - مسند أحمد 6: 117.
فقال: لقد رأيت خالا بخدها اقشعر كل شعرة منك على حدة..
فقالت: ما دونك من سر " (1).
ولقد ارتكبت ذلك حتى بتوهم زواجه صلى الله عليه وآله، فقد ذكرت: أن عثمان جاء النبي [ صلى الله عليه وآله ] في نحو الظهيرة، قالت: " فظننته أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه " (2).
أما بالنسبة إلى من تكرهه.. فكانت حربا شعواء من ذلك مواقفها من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام... فقد " جاء رجل فوقع في علي وعمار رضي الله تعالى عنهما عند عائشة، فقالت: أما علي فلست قائلة لك فيه شيئا. وأما عمار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول: لا يخير بين اثنين إلا اختار أرشدهما " (3). وكانت تقول: " قبض رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بين سحري ونحري " (4).
وعندما يخرج [ صلى الله عليه وآله ] إلى الصلاة - وهو يتهادى بين رجلين - تقول عائشة: " خرج يتهادى بين رجلين أحدهما العباس " فلا تذكر الآخر، فيقول ابن عباس: " هو علي، ولكن عائشة لا تقدر أن تذكره بخير " (5).
فإذا عرفناها تبغض عليا إلى حد لا تقدر أن تذكره بخير، ولا تطيب نفسها به... وتحاول إبعاده عن رسول الله صلى الله عليه وآله... وتدعي لأبيها ولنفسها ما لا أصل له... بل لقد حدثت أم سلمة بالأمر الواقع فقالت: " والذي أحلف به، إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، قالت: عدنا رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] غداة بعد غداة فكان يقول: جاء علي؟!! - مرارا - قالت: أظنه كان بعثه في حاجة. قالت: فجاء بعد، فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا عند الباب، فكنت أدناهم إلى الباب،
____________
1 - طبقات ابن سعد 8: 115، كنز العمال 6: 294.
2 - مسند أحمد 6: 114.
3 - مسند أحمد 6: 113.
4 - مسند أحمد 6: 121.
5 - عمدة القاري 5: 191.
وإذا عرفنا هذا كله - وهو قليل من كثير - أيقنا أن خبرها في أن صلاة أبيها كانت بأمر النبي صلى الله عليه وآله، وأنه صلى الله عليه وآله خرج فصلى خلفه - كما في بعض الأخبار عنها - هو من هذا القبيل.
ومما يؤكد ذلك اختلاف النقل عنها في القضية، وهي واحدة.
هل صلى أبو بكر بالناس؟!
إن صلاة أبي بكر المعنية هذه هي المسائل التي تحيط بها الشكوك من جميع النواحي. وما روي في هذا الأمر يشير، بما لا يخفى على صاحب بصيرة، إلى أن أبا بكر لم يصل تلك الصلاة، وذلك لأنه لم يكن موجودا بالمدينة، ولم يأت إلا بعد أن بلغه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله.
يقول ابن الأثير: " ولما توفي [ صلى الله عليه وآله ] كان أبو بكر بمنزله بالسنح وعمر حاضر، فلما توفي [ صلى الله عليه وآله ] قام عمر فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم توفي! وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران.
ليرجعن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، زعموا أنه مات. وأقبل أبو بكر، وعمر يكلم الناس، فدخل على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، وهو مسجى في ناحية البيت، فكشف عن وجهه... " (2).
كما روى الطبري: " توفي رسول الله [ صلى الله عليه وآله ]، وأبو بكر بالسنح وعمر حاضر " (3).
وروى أيضا: " وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر [ خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله ] وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شئ حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، فأقبل حتى كشف وجهه " (4).
وهكذا يتضح أن أبا بكر يكن بالمدينة عندما توفي النبي صلى الله عليه وآله، ولم يأت إلا بعد أن
____________
1 - مسند أحمد 6: 300، المستدرك على الصحيحين 3: 138، ابن عساكر 3: 16، الخصائص 30، وغيره.
2 - الكامل في التاريخ 2: 323 - حوادث سنة إحدى عشرة، تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدى عشرة، ج 2.
3 - تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدى عشرة، ج 2.
4 - نفس المصدر السابق.
وقد ذكر أن أبا بكر صلى الناس صلاة الصبح من يوم الاثنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وآله عند ارتفاع الضحى. ولم يكن أبو بكر بالمدينة حيث كان في بيته بالسنح التي تبعد ستة عشر فرسخا عن المدينة.
ولكن السؤال الأهم هو: متى ذهب أبو بكر إلى السنح؟
يقول الطبري: " لما قبض النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم كان أبو بكر غائبا، فجاء بعد ثلاث " (1).
إذا، فغياب أبي بكر عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله من المسلمات التي لا تقبل الانكار، على أن أبا بكر غاب " ثلاثا ". وهذه الثلاث لا يمكن أن يكون تمييزها " أشهر " أو " أيام "، لأن التمييز هنا يجب أن يكون مؤنثا، إذ العدد " ثلاث " وليس " ثلاثة ".. ولذا فإما أن يكون التمييز ثلاث سنوات أو ثلاث ليال. وبالطبع لم يكن أبو بكر قد غاب ثلاث سنوات، إذا فقد غاب ثلاث ليال، على أن حساب الوقت بالساعات لم يكن معروفا في ذلك الوقت.
وعلى هذا فقد غاب أبو بكر ثلاث ليال ولم يأت إلا بعد بلوغه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله، أي لم ير أبو بكر النبي صلى الله عليه وآله منذ ثلاث ليال إلا بعد وفاته عليه وآله أفضل الصلاة والسلام..
فكيف يكون صلى بالناس صلاة الصبح؟!
ولو كان أبو بكر قد صلى بالناس حقيقة، فتكون صلاته هذه قبل ثلاث ليال من وفاة النبي صلى الله عليه وآله. والسؤال الطبيعي هو: من الذي كان يصلي بالناس في مدة غياب أبي بكر؟
فإن كان النبي صلى الله عليه وآله هو الذي صلى بالناس، فيكون النبي صلى الله عليه وآله بصلاته هذه قد عزل أبا بكر، لو كان قد خلفه على الناس بالصلاة.
ولو كان يصلي في هذه المدة أحد آخر غير النبي صلى الله عليه وآله فإنه يكون هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله، لو كانت الخلافة بالصلاة.. هذا إن كان أبو بكر بالسنح منذ ثلاث ليال.
وأما إن لم يكن بالسنح فهو أيضا لم يكن بالمدينة ولم يصل بالناس، ذلك لأنه كان لأبي بكر غيبة أخرى عن المدينة. إذ أنه كان قد أمر مع عمر وكبار الصحابة بالانضواء
____________
1 - تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدى عشرة، ج 2.
يقول ابن الأثير في تاريخه " الكامل ": " في محرم من هذه السنة ضرب صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بعثا إلى الشام، وأميرهم أسامة بن زيد مولاه، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين... وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، منهم أبو بكر وعمر... وخرج أسامة فضرب بالجرف معسكرا، وتمهل الناس. وثقل رسول الله، ولم يشغله شدة مرضه عن إنفاذ أمر الله " (1).
____________
1 - تاريخ ابن الأثير 1: 323 - حوادث سنة إحدى عشرة، طبقات ابن سعد، السيرة الحلبية والدحلانية - سرية أسامة بن زيد.
الباب الثاني
إجماع الصحابة على أبي بكر رضي الله عنه
اعتبار أهل السنة لهذا الدليل هو وليد اعتبار الدليل الأول، فهم يقولون إنه لما علم الصحابة باستخلاف النبي صلى الله عليه وآله لأبي بكر في الصلاة - وهي الإمامة الصغرى - فقد فهموا من ذلك إمامة أبي بكر الكبرى، فاجتمعوا عليه واختاروه خليفة لهم، يفزعون إليه بعد النبي صلى الله عليه وآله، ولهذا تمت البيعة منهم لأبي بكر دون اختلاف أو اختصام.
ولما كان الاجماع حجة فقد صحت خلافته، وصارت بذلك حجة على جميع المسلمين في بقاع الأرض.
يقول المناوي " قال أصحابنا في الأصول: يجوز أن يجمع عن قياس، كإمامة أبي بكر هنا، فإن الصحب أجمعوا على خلافته - وهي الإمامة العظمى - ومستندهم القياس على الإمامة الصغرى، وهي الصلاة بالناس بتعيين المصطفى " (1).
وهكذا صاغ القوم دليل الاجماع إثباتا لخلافة أبي بكر الصديق، كما صاغوا قبله دليل الاستخلاف في الصلاة.
لقد لجا القوم إلى القول بالإجماع، فإلى أي لجأ لجأوا وعلى أي دليل اعتمدوا؟
استبدلوا والله القياس بالنص، والظن باليقين. وصاغوا من ذلك أركانا شيدوا عليها خلافة
____________
1 - فيض القدير، شرح الجامع الصغير 5: 521.
إن القول بالإجماع في خلافة أبي بكر الصديق لا يرضى به المحققون والواقفون على حوادث السقيفة، ولا يعيرون هذا القول اهتماما.
إن القول بالإجماع هنا قول لا يثير إلا التعجب والحيرة ممن يقول بذلك، لا سيما عندما نعلم أن القائلين بالإجماع هذا هم من أصحاب الأسماء العلمية كالمناوي وابن تيمية المعروف بشيخ الإسلام وغيرهما، فمنهم يتعجب الإنسان بحق، ويقف أمدا يتفكر في كلامهم وقولهم في الاجماع، ويسعى بكل جهد ليجد مبررا لإصرار هؤلاء على القول بالإجماع في خلافة الصديق، ويبذل ما لديه من أعذار لكي تحتفظ تلك الأسماء بمقامها في المحافل العلمية، ولكن دون أن يجد لذلك سبيلا فيعلم أنه هو التسرع منهم في إبداء الرأي دون النظر في مصادر الخبر، ودون التحقيق فيما يقولون. وربما فاحت من هذا الرأي الرائحة الأموية التي أزكمت الأنوف ردحا من الزمان، فاستحال عليها أن تتنسم العطر النبوي في علي عليه السلام وأهل بيته الكرام.
يقول المناوي: ".. فإن الصحابة أجمعوا على خلافته " (1)، أي خلافة الصديق.
ويقول ابن تيمية: " كل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن مخاصمة في أمامة الثلاثة " (2).
ولكن، كيف هذا؟! فالخصام والنزاع الذي نشب في يوم السقيفة لم يكن له سبب سوى الخلافة والإمامة، وهو خلاف خصام من الظهور بمكان لا يخفى على طلاب علم التاريخ، فكيف بشيوخه؟!
ونحن عندما نرى كتب الأخبار والسير تعج بالإشارات إلى الاختلاف والخصام في مسألة الخلافة، نشعر بالخجل من قوله هؤلاء العلماء!
إن الأنصار عندما سبقوا المهاجرين إلى السقيفة، لم يكن عزمهم أداء الواجب
____________
1 - فيض القدير، شرح الجامع الصغير 5: 521.
2 - منهاج السنة 3: 217 - 218.
روي: " أن عمر الخطاب لما سمع بخبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة أتى منزل النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وأبو بكر فيه، فأرسل إليه أن اخرج إلي.
فأرسل إليه: إني مشتغل، فقال عمر: قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه فأعمله الخبر...
قال عمر: فأتيناهم وكنت قد زورت كلاما أقوله لهم " (1).
فلو كانت خلافة الصديق قامت على الاجماع فهذا يفيد أن حقه في الخلافة أمر قد سملت به الجموع من قبل وسكنت له فيما مضى النفوس، ولهذا لم يكن عمر مضطرا لأن يزور كلاما ليقوله للأنصار في أمر الخلافة، وإلا فلماذا قول الزور إذا؟!
إن ما اضطر عمر لتزوير الكلام هو ما علمه من مخالفة الأنصار لهم في أمر الخلافة، وهو واضح.
فقد روي: أن الحباب بن المنذر - وهو من كبار الأنصار - كان لهم عندما اجتمعوا في السقيفة: " يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ولا يصدروا إلا عن رأيكم، وأنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس، وإنما ينظر الناس ما تصنعون. ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير " (2).
ولما جاء أبو بكر وعمر إلى السقيفة، احتجا على الأنصار بأدلة تجعل الاجماع على أبي بكر ليس أولى من الاجماع على علي عليه السلام، بل تجعل الاجماع على زوج البتول عليه السلام على قمة الأولوية. لماذا؟
لأن أبا بكر وعمر احتجا على الأنصار بقرابتهم من رسول الله، إذ أنهما عشيرته
____________
1 - الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 328 - حوادث سنة إحدى عشرة.
2 - الكامل في التاريخ 2: 329 - حوادث سنة إحدى عشرة.
ومن له الحق في الاحتجاج بالقرابة من النبي النبي صلى الله عليه وآله؟ ومن هم عترته؟
ولما سمع الأنصار مقالة أبي بكر، قال الحباب: " يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين. أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة [ أي فتية ].
فقال عمر: إذا، ليقتلك الله!
فقال [ الجباب ]: بل إياك يقتل " (1).
فاقرأ أيها القارئ وتدبر ما ذكرنا، فأين شاهد الاجماع على خلافة أبي بكر؟ وإن لم يكن في هذا الكلام شئ ينفي الاجماع على خلافة الصديق سوى قول الحباب:
" فإن أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور " لكان هذا القول وحده مفحما لمن يدعي إجماع المسلمين على الخليفة الأول.
ثم إن من أشهر المخالفين لخلافة أبي بكر هو الإمام علي عليه السلام وزوجته البتول بنت الرسول النبي صلى الله عليه وآله. وهذا مما لا يخفي إلا على مكابر ينكر الواقع وحقائق الأشياء، بل لقد خالف أبا بكر في خلافته كل بني هاشم وغيرهم من الصحابة.
فهذا هو البخاري يشهد بذلك، إذ يقول عن الزهراء الطاهرة عليها السلام: " فما زالت غضبى عليها - أي على أبي بكر وعمر - حتى توفيت. ولم يبايع علي ولا أحد من بني هاشم ستة أشهر حتى توفيت فاطمة [ عليها السلام ] " (2).
ولا أدري والله! أي إجماع ينعقد ولم يكن فيه هؤلاء،؟! بل ويأبى الاجماع انعقادا وليس فيه علي، ولم تؤيده فاطمة بنت النبي عليها السلام. وكيف لإجماع - لو فرض أنه منعقد
____________
1 - الكامل التاريخ 2: 330.
2 - صحيح البخاري 5: 256، 288، صحيح مسلم 3: 52، 138.
ولعمري، فإن عمر بن الخطاب المؤيد: الأول لأبي بكر والمهندس الحاذق لخلافة فلتة كفلتة الجاهلية، وقى الله المسلمين شرها "، قوله: " كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له... " إلى أن قال: " وإنه قد كان من خبرنا حين توفي نبية (ص) أن الأنصار خالفونا " (1).
ونحن بعد إثبات مخالفة الآخرين، إذا الحجة بهم كاملة، ودعوى الاجماع بدونهم باطلة. ولكن لا بأس بإيراد ذكرهم، فلعل الغافلين عن هذا الأمر أن يعوه.
بعد أن وصل خبر خلافة أبي بكر إلى بني هاشم اعتصموا في بيت علي عليه السلام، رفضا لخلافة ابن أبي قحافة، فاعتصم معهم: " المقداد بن عمرو، وخالد بن سعيد، وأبو ذر الغفاري، والبراء بن عازب، وابن التيهان، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، وحذيفة بن اليمان " (2)، إضافة إلى: " الزبير بن العوام، وطلحة "، (3)
فلقد كانا من المخالفين لبيعة الصديق ومن المتخلفين عنها.
ولهذا، توعد عمر المتخلفين في بيت الزهراء عليها السلام، وقال: " والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على فيها!
فقيل له: إن فيها فاطمة!
فقال وإن!!!
وأرسل قنفذا مولى أبي بكر إلى على [ عليه السلام ] ليدعوه.
فقال: يدعوك خليفة رسول الله.
____________
1 - تاريخ الطبري 2: 446، وسيرة ابن هشام 1 658، السقيفة للجواهري ص 44.
2 - تاريخ اليعقوبي 2: 124 تاريخ ابن خلدون 3: 214، تاريخ أبي الفداء 2: 63.
3 - الكامل في التاريخ 2: 325، تاريخ الطبري 3: 198.
فلما عاد قنفذ إلى أبي بكر وأخبره بقول علي (ع) قال عمر لأبي بكر: لا تهمل هذا المتخلف عنك في البيعة.
فأرسل قنفذا إلى علي (ع) مرة أخرى، فقال لعلي [ عليه السلام ]: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع.
فقال علي [ عليه السلام ]: سبحان الله، لقد ادعى ما ليس له!
فقام عمر ومعه جماعة وأتوا بيت فاطمة ودقوا الباب، فلما سمعت [ فاطمة ] أصواتهم نادت بأعلى صوتها: " يا أبت! يا رسول الله! ماذا لقينا بعدك من ابن أبي الخطاب!! ".
ثم أخرجوا عليا (ع) ومضوا به إلى أبي بكر..
فقال له: بايع!
فقال علي [ عليه السلام ]: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي.
فقيل له: لست متروكا حتى تبايع.
فقال: إن أنا لم أفعل فم؟
قالوا: إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك.
فقال: إذن والله تقتلون عبد الله وأخا رسول الله.
فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أهو رسول الله فلا!
وأبو بكر ساكت.. فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟!
فقال: لا أكرهه على شئ، ما كانت فاطمة إلى جنبه؟!
فلحق علي [ عليه السلام ] بقبر رسول الله يصيح وينادي:: " (ابن أم! إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) "!! (1)
فهل بعد هذا يستطع أحد أن يعتمد قول المناوي وابن تيمية وغيرهما أو يذهب مذهبهم في ادعاء الاجماع في خلافة أبي بكر الصديق؟! أو ليس قولهم هذا مثيرا للعجب حقا؟! وبأي شئ نفسره غير اتباع السياسة والتعصب والتقليد الذي يخفي عن الأبصار
____________
1 - الفتوح لابن أعثم 1: 13 الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 12 - 13، أعلام النساء 4: 114 - 115.
إن مخالفة الإمام علي عليه السلام وبني هاشم وعدد كبير من الصحابة كان أمرا معلوما للجميع ومشهورا بين الناس في ذلك الوقت، إذ أن القوم قد أخذوا الإمام عنفا للبيعة.
وفي ذلك كتب إليه معاوية خطابا يذمه بذلك، فرد عليه الإمام قائلا:
" وقلت إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع. ولعمر الله، لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه ولا مرتابا بيقينه " (1).
وبهذا نعلم أن القول بالإجماع على خلافة الصديق أمر لم يكن ليطوف بخيال القوم في ذلك الوقت، لأنهم شاهدوا بالإجماع أن الإمام عليا عليه السلام أخذ بالنعف، وكان يقاد لبيعة أبي بكر كما يقاد الجمل المخشوش، كما يقول ابن آكلة الأكباد وأصبح يذم الإمام عليه السلام بذلك. وبهذا يرسل مخالفة الإمام لأبي بكر إرسال المسلمات، مبطلا بذلك دعوى الاجماع في خلافة ابن أبي قحافة.
فالقول بإجماع الناس على خلافة أبي بكر الصديق قول التاريخ ولا يسنده الدليل، وإنما هو قول لا يعدو أن يكون استهبالا للعقول وتحريفا للكلام وليا لأطراف الحقائق، وإضلالا لبسطاء الناس. فما وقع في التاريخ، وما حدث في أركان السقيفة، وما حبلت به كتب الأخبار واليسر يصرح بخلاف ادعاء القوم الاجماع في خلافة أبي بكر.
وأنا أوجه كلامي هذا إلى أولئك الشباب الأحرار من عشاق الحقيقة والبحث والتحقيق بعيدا عن العصبية والتقليد، وأدعوهم أن ينظروا بعقولهم إلى هذا الأمر ويبحثوه، فهل كان هنالك من إجماع؟!
وأما أولئك ألذين شاخوا على ثدي التقليد، وتوشحوا بقلائد العصيبة فانكروا العقل والجانب الاختياري في الإنسان وأماتوا فيه الاحساس بالواقع والقدر المعقول من الحرية، وجعلوه يهرم على أوهام متوارثة.. فلا كلام لي معهم، فدعهم في تعصبهم وتقليدهم وجبرهم يعمهون، إذ أنه ليس في وسعي أن أسمع الصم.. (إنك تهدي من
____________
1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 183 - باب 28.
دلالة الحديث على صلاة أبي بكر
لقد علمت أن أهم روايات الحديث في روايات كل الصحاح ومسند أحمد قد سقطت عن الاعتبار من حيث السند، إذ وضح السند، أذ وضح ضعف أهم تلك الروايات المخرجة فيها.
وأما متن الحديث، من حيث الدلالة فقد ساورته إشكالات عديدة تمنع الاحتجاج به كدليل على مسألة من أهم المسائل الأصولية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بمصير الإنسان الأخروي، ألا وهي مسألة الإمامة والخلافة من بعد النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. إذ لا شك في أن طاعة أولي الأمر من الواجبات التي ألزم بها الإنسان. ولمعرفتهم لا بد من إقامة أدلة تنفي الظنون وتثبت اليقين في هذه المعرفة، لأنه لو قادتنا الأدلة الظنية إلى غيرهم، معتمدين على الظن في إمامتهم، فأداء واجب الطاعة لهم لا يجزى، لا سيما إذا توفرت الأدلة الأقوى على إمامة من يخالفهم.
إشكال على المتن: فإشكالات هذا الحديث، هي إشكالات نضح بها وعاء الاعتقاد بخلافة الصديق، لا فأبعدت قصة الحديث عن مسرح الواقع الحقيقة..
وأرجو أن لا يتسرع مؤيد والخلافة البكرية العمرية بنبذ ما رأينا في هذا الأمر وما أثبتنا في هذه السطور حوله من قول، قبل التدبر فيما قلنا وقبل تعقل ما ذهبنا إليه، إذ أن هذا أقل الإنصاف وأدنى العدل.
فعلاوة على دلالة الحديث الظنية - إذ أنه لا يعدو أن يكون قياسا قيست فيه الخلافة العامة على الخلافة الصغرى، وهي إمامة الصلاة، مما لا يوجب القطع باليقين بهذا - فإننا شاهدنا مخالفة أجلة الصحابة وإعراضهم عن بيعة أبي بكر الصديق. وقد مر ذكرهم بأسمائهم، فأعد البصر كرتين ينقلب إليك مستيقنا من مخالفتهم للصديق ورفضهم لبيعته.
فهذا إشكال واضح، إذ كيف لم يفهم هؤلاء الصحابة الأجلاء من تلك الإمامة الصغرى - لو سلمنا بحدوثها يومئذ - دلالتها على الإمامة الكبرى أو الخلافة؟!
فانظر أبي سعيد الخدري، قال: " سمعت البراء بن عازب يقول: فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم معتجرون بالأزر الصنانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده، فمسحوها على يدي أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبي.
فأنكرت عقلي، وخرجت اشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة! فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر " (1).
فدلالة صلاة أبي بكر التي حكمتها عائشة أم المؤمنين على الخلافة الكبرى أمر لم يطف بأذهان الصحابة، ولم يفهموه من صلاة أبي بكر. والبيعة التي تمت من البعض بعد الخلاف الحاد وسل السيوف لم يكن سببها قياس الخلافة الكبرى على إمامة الصلاة أو الخلافة والخصام - بالبيعة للصديق، غير أن بعض الصحابة خالفوه إلى آخر أيامهم.
وهل كان لم يبايع أبا بكر قط، ولم يكن يرى له إمامة صغرى فضلا عن أن يفهم منها الإمامة الكبرى، إذ لم يكن يجتمع مع الشيخين في عيد أو جمعة، وكان لا يفيض بإفاضتها (2).
يقول ابن الأثير: " ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فيق أياما، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا..
____________
1 - أنظر: كتاب السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 46.
2 - الكامل في التاريخ 2: 330 - حوادث سنة إحدى عشرة، كتاب السقيفة ص 59: الإمامة والسياسة ص 17، معجم البلدان 2 317.
فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع.
فقال بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى، ولا يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته " (1).
إن ما لم يفهمه المخالفون لأبي بكر من الصحابة - وهم شهود عيان في عصرهم، وأقرب عهدا ومكانا من تلك الحوادث، وأفضل من يدرك مفهوم الإمامة الصغرى -.
كيف يدركه دونهم من ابتعد زمانه عن زمان النبي صلى الله عليه وآله بأكثر من ألف عام؟!
يقول ابن تيمية: " الاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بد لكل ولي أمر. وليس كل من يصلح للاستخلاف في الحياة [ يعني حياة النبي صلى الله عليه وآله ] على بعض الأمة يصلح أن يستخلف بعد الموت [ أي بعد موت النبي صلى الله عليه وآله ] فإن النبي [ صلى الله عليه وآله ] استخلف غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، كما استعمل ابن أم مكتوم الأعمى في حياته، وهو لا يصلح للخلافة بعد موته [ صلى الله عليه وآله ]، وكذلك بشير بن المنذر وغيره " (2).
وعلى هذا فصلاحية أبي بكر للاستخلاف في الصلاة لا دلالة فيها على صلاحيته للخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله لإدارة شؤون الناس السياسية والاقتصادية... وغيرها، فلا تلازم بين الخلافتين.
ولهذا لم يفهم الإمام علي هذه الملازمة، بل صرح بأن أبا بكر قد تقمص ما لم له بقميص.
يقول عليه السلام: " لقد تقمصها [ يعني الخلافة ] ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقي إلي الطير " (3).
____________
1 - تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدى عشرة - ج 2، تاريخ ابن الأثير: نفس الحوادث - ج 2 أيضا.
- منهاج السنة لابن تيمية 4: 91.
3 - نهج البلاغة: الخطبة رقم 3 (المعروفة بالشقشقية).
فإما أن نتهم النووي ورفاقه بمجانبة الحق في ما ذهبوا إليه تأييدا لخلافة الصديق.
ولكن بأي شئ استدل أبو بكر على حقه في الخلافة؟ سنعلم ذلك مما قاله أبو بكر عند احتجاجه على الأنصار في السقيفة.
يقول أبو بكر: "... وخص الأولين من قومه بتصديقه، فهم أول من عبد الله في الأرض، وهم أولياؤه وعترته وأحق الناس بالأمر من بعده، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم ".
فأبو بكر لم يتطرق إلى مسافة الصلاة وإمامة الناس باعتبار دليلا على الخلافة، وإنما كان يرى استحقاق الخلافة بأحد أمرين أو بالأمرين معا.
أولا: تستحق الخلافة بالتصديق السابق للنبي صلى الله عليه وآله.
ثانيا: تستحق الخلافة بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله. وهي حق للعترة كما جاء في صريح قوله، إذا أنهم أحق الناس بالأمر من بعده ولا ينازعهم فيه إلا ظالم.
ولكن هذا استدلال احتج به أبو بكر على نفسه، فمن ناحية التصديق والسبق بالإيمان فعلي أسبق منه في تصديق النبي صلى الله عليه وآله، وكان يخاطب النبي صلى الله عليه وآله بقوله:
" يا نبي الله " وعمره اثنتا عشرة سنة - انظر حديث الدار يوم الإنذار - (1).
وإما من ناحية القرابة، فلو كانت القرابة هي مدار استحقاق الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله فكلما اشتدت القرابة من النبي صلى الله عليه وآله الاستحقاق لهذا الأمر..
إذا، فعلي أشد قرابة من النبي صلى الله عليه وآله، فهو ابن عمه، وصهره، فيكون الإمام عليه السلام قد جمع القرابتين: قرابة الرحم وقرابة المصاهرة. وعلى هذا فعلي عليه السلام أقرب من أبي بكر، فكيف
____________
1 - مسند أحمد 1: 111 - 331: المستدرك 3: 132، كنز العمال 6: 392 / 8 600، تاريخ الطبري: ج 2، الكامل في التاريخ:
ج 2: السيرة الحلبية 1: 381 - باب استخفائه صلى الله عليه وآله.
غير أن عمر ذهب أبعد من هذا، فصرح بأن الخلافة إرث لا يحق لأحد أن ينازعهم فيه - كما مر عليك -.
إذا، فأمر لا يستحق بإمامة الناس في الصلاة، كما يقال، ولا هذ ه الصلاة من الأدلة على ذلك، لأن الميراث لا يؤخذ بإمامة الناس في الصلاة، ولا يثبت بها، وهي ليست من شروطه كما هو معروف.
على أن أبا بكر الصديق قد وضع حدا لترهات القول باستحقاقه الخلافة بسبب إمامته في الصلاة بأمر النبي صلى الله عليه وآله، فأبو بكر يقول: " إن بيعتي فلتة، وقى الله شرها " (1).
إذا، فما هو الأمر الذي يكون فلتة؟! أليس هو الأمر الذي يتم من غير روية ولا تدبر؟! أليس هو الأمر المبتدع المجازف فيه؟!
فإذا كانت خلافة الصديق فلتة وقي الله شرها، فلا يمكن أن تكون صلاته بالناس دليلا وإشارة إلى خلافته، لأن هذا الدليل وتلك الإشارة إلى خلافته تنفي أن تكون خلافته فلتة كما قال، لأن الدليل والإشارة على شئ يهيئ النفوس ويعدها للتعرف على ذلك الشئ واستقباله، فتنتبه العقول إليه لتهيئ المقدمات، فلا تكون فلتة فيخشى منها الفتنة والشر، فكيف يدعى أن صلاة الصديق بالناس تدل على استحقاقه الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله!!
وهذا دليل جسمه فيما بعد المناوي. النووي وغيرهما أو من سبقهما، إذا أنهم وجدوا أنفسهم قد ورثوا الاعتقاد بخلافة الصديق، وصاروا يطوون في هذا الاعتقاد طريقا ذا اتجاه واحد، فاستنبطوا هذا الدليل من حكاية لم يكن لها واقع تطابقه، لإظهار صحة ما حدث أمام المخالفين، إذا لهم يكن هذا الاعتقاد موجودا في نفوس الصحابة والخليفة الأول.
فهذا هو الخليفة الثاني يدعي أن النبي صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا، وبهذا ينفي القياس
____________
1 - أنساب الأشراف للبلاذري 1: 59، نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد 1: 132.
يقول ابن هشام: " فلولا مقالة قالها عمر عند وفاته لم يشك المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قد استخلف أبا بكر، ولكنه قال عند وفاته: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أتركهم فقد تركهم من هو خير مني [ يعني بذلك النبي صلى الله عليه وآله ].
ولهذا شك المسلمون في خلافة أبي بكر، واعترف عمر بعدم استخلاف النبي لأبي بكر الصديق.
ثم إن حديث صلاة أبي بكر هذا قد روته عائشة بنت محمد صلى الله عليه وآله قد خالفت أبا بكر وخلافته، وذهبت وهي عليه غاضبة ساخطة!
فلو كان ما تنفرد بروايته عائشة بنت أبي بكر وحدها يصبح حجة على الناس، فلماذا لا تكون معارضة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وآله لما روته حجة على الناس؟!
قالت البتول عاليها السلام في أمر الخلافة " ويحهم! أنى زحزحوها [ تعني الخلافة ] عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين؟! الطبن بأمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟!
نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعه، وتنمره في ذات الله. وتالله لو تكافأوا على زمام نبذه إليه رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لاعتقله وسار به سيرا سجحا لا يكلم خشاشه، ولا يتتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفتاه، ولا
____________
1 - سيرة ابن هشام 4: 302 - تمريض رسول الله في بيت عائشة.
استبدلوا والله الذنابي بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسن. ن صنعا (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)..
ويحهم! (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) " (1)؟!
أجل، لو كان ما تحكيه عائشة حجة فلم لا تكون الحجة في معارضة الزهراء لما تحكيه عائشة، والنبي صلى الله عليه وآله يقول: " فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها "؟!
وها هي قد غضب على هذه الخلافة التي أثبتوها بما حكت عائشة، فكيف لا يكون هذا الغضب النبوي دليلا على بطلان ما أحكمته أم المؤمنين، لا سيما وقد خالف الصديق معظم الصحابة في مسألة الخلافة - وقد عرفت ذلك -؟!
على أن النبي صلى الله عليه وآله لم يترك لأم المؤمنين عائشة حجة في قول تحتج بها على من يخالفها، ولا سيما على فاطمة عليها السلام.
لقد روى البخاري: " أن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قام خطيبا على منبره، فأشار نحو مسكن عائشة وقال: ها هنا الفتنة، ها هنا الفتنة، حيث يطلع قرن الشيطان "! (2).
فماذا نفهم من هذا الحديث الواضح الضريح الذي لا يقبل التأويل بغير ما حملته ألفاظه من معان ظاهرة يفهمها البدوي والحضري، وهذا وحده يكفي لإسقاط حديث أم المؤمنين عن صلاة أبي بكر بالناس.
غير أن مسلما أورد هذا الحديث بألفاظ شدة، يقول: " خرج رسول الله [ صلى الله عليه وآله ]
____________
1 - أنظر: كتاب السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 100، كتاب بلاغات النساء لابن طيفور ص 29.
2 - صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير - باب ما جاء في بيوت أزواج النبي عليها السلام.