الصفحة 167
من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا، حيث يطلع قرن الشيطان "! (1).

وعندما نظيف حديث البخاري إلى حديث مسلم، ثم نظيف إليها قصة وادي الحوأب وتحذير النبي صلى الله عليه وآله لها أن لا تكون التي تنجها كلاب الحواب، عندما قال لها ولأم سلمة؟!: أيتكن صاحبة الجمل الأدب، تنبحها كلاب الحوأب، فتكون ناكبة عن الصراط؟! ثم ضرب على ظهر عائشة فقال: إياك أن تكونيها يا حميراء (2)!

أجل.. عندما نجمع تلك الحقائق على صعيد واحد، نعلم أن أم المؤمنين قد تصدرت فتنة وأججت نارها، رغم أنها قد منعت وحذرت من ذلك.

وعندما نعلم أنه لم يكن لها إلا عدو واحد، وأثبت التاريخ أنها حاربته وقادت الناس في قتاله يوم الجمل، وعرف فيما بعد بحرب الجمل، الذي عبرت به وادي الحواب.. نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله ما قصد بقوله مشيرا إلى مسكنها: " ها هنا الفتنة، هاهنا الفتنة! " إلا فتنة محاربتها وعداءها لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين!

أجل، فعائشة لم تحارب أحدا غير الإمام علي حتى نقول إن النبي صلى الله عليه وآله: " قصد بهذه الفتنة محاربتها لذلك الآخر.

وحرب عائشة للإمام علي من أشهر حوادث التاريخ، حتى غدى بين عائشة وحربها للإمام علي دلالة التزامية لا تنفك. ثم نعرج على القول النبي صلى الله عليه آله: " ويح عمار! تقتله الفئة الباغية " فنعلم أن عمارا قتل بسيوف عائشة ومعاوية!

فهل يشك أحد في تنكبها الصراط كما حذرها النبي صلى الله عليه وآله؟! ولا مجال لادعاء الاجتهاد، لأنه قد سبق وصف النبي صلى الله عليه وآله لذلك بأنه فتنة ورأس الكفر وقرن من قرون الشيطان ولا يثاب أحد على هذا، بل...

وسبب كل ذلك هو بغض عائشة أم المؤمنين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد علمت أن نفسها لا تطيب له بخير وإن لم يكن خير فشر.

بعد أن وضح ذلك يجب أن نتوقف قليلا عند حكايتها لصلاة أبيها بالناس ولا نسارع

____________

1 - صحيح مسلم 2: 503.

2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 77.

الصفحة 168
بقبولها، إذ أنها محفوفة بما يمنع ذلك.

لقد علمت عائشة أن عليا عليه السلام هو الخليفة من النبي صلى الله عليه وآله. تقول أم سلمة مذكرة عائشة لعلها أن تثوب عن حرب أمير المؤمنين:... واذكري أيضا يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله في سفر له، وكان على يتعاهد نعل رسول الله فيخصفها، وثيابه فيغسلها، فنقب نعله فأخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه عمر، وقمنا أي الحجاب، ودخلا يحدثانه فيما أرادا إلى أن قالا:

يا رسول الله، إنا لا ندري أمد ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعا.

فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون.

فسكتا ثم خرجا، فلما خرجا جئنا إلى رسول الله، فقلت له أنت، وكنت أجرا عليه منا: يا رسول الله، من كنت مستخلفا عليهم؟

فقال: خاصف النعل.

فنزلنا فرأيناه عليا..

فقلت: يا رسول الله، ما أري إلا عليا!

فقال [ صلى الله عليه وآله ] هو ذاك.

قالت عائشة: نعم، أذكر ذلك.

فقالت أم سلمة: فأي خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة؟! " (1).

إذا فقد كانت عائشة تعرف خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله من بعده، ولكنها تبغضه، ولا يسعها أن ترى أباها بعيدا عن هذا المقام!

ومسألة عائشة في أمر الخلافة لم تكن هي مجرد اختيار الأصلح، بل كانت تسعى لأن يبقى هذا الأمر بين قومها، ولذلك لم تكن عائشة راضية عندما تولى عثمان الخلافة.

فقد روي أنها لما بلغها قتله قالت: " أبعده الله! قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله! يا معشر قريش، لا يسوءنكم قتل عثمان كما ساء أحيمر ثمود قومه. أحق الناس بهذا الأمر لذو الأصبع " -

____________

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 77.

الصفحة 169
تعني طلحة -...

فلما جاءت الأخبار ببيعة علي عليه السلام، قالت: " تعسوا! لا يردون الأمر في تيم أبدا " (1).

فانظر كيف هي حريصة على أن يبقى الأمر في قبيلتها تيم. ولو كانت عائشة حريصة على أن يتولى هذا الأمر طلحة فهل كانت قصة صلاة أبيها أبدا، بل حرصت على جعل الخلافة في قومها أشد الحرص، وكانت قصة صلاة أبيها بالناس من ذلك الحرص، لا سيما وأنها عليا منافسه الأول.

وقد روى الطبري: " إن عائشة لما انتهت إلى سرف راجعة في طريقها في مكة لقيها عبد ابن أم كلام، وهو عبد ابن أبي سلمة، ينسب إلى أمه..

فقالت له: مهيم؟

قال: قتلوا عثمان، فمكثوا ثمانيا.

قالت: ثم صنعوا ماذا؟

قال: أخذها أهل المدينة بالإجماع، فجازت بهم الأمور إلى خير حجاز: اجتمعوا على علي بن أبي طالب.

فقالت: والله، ليت أن هذه [ أي السماء ] انطبق على هذه [ أي الأرض ]، إن تم الأمر لصاحبك، ردوني، ردوني!

فارتدت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما! والله لأطلبن بدمه " (2)!

فانظر إلى هذا التغيير المفاجئ الذي اعترى أم المؤمنين!! فقد كانت تقول عن عثمان: (قتله ذنبه)، (أقاده الله بعمله).. وذلك لأنها كانت تظن أن الفرصة قد تهيأت لأن تعود الخلافة إلى تيم، ولما لم يحدث ما ظنت، وعادت الخلافة إلى علي عليه السلام صار عثمان عندها مظلوما ولزمتها المطالبة بدمه!

فهل بعد هذا يمكن الاعتماد على قولها إن النبي صلى الله عليه وآله عين أباها إماما للناس في

____________

1 - نفس المصدر نقلا عن أبي مخنف.

2 - تاريخ الطبري 3: 476.

الصفحة 170
الصلاة؟!

على أن صلاة أبي بكر بالناس لا دلالة فيها على الخلافة، كما أوضح ابن تيمية، هذا إن كان أبو بكر قد صلى بالناس.

ولكن، هل صلى أبو بكر بالناس حقا؟!!

يقول ابن سيد الناس: " لما كان الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجره، أمر رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم.

فلما كان من الغد، دعا أسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش...

فلما كان يوم الأربعاء، بدا برسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وجعه، فحم وصدع.

فلما أصبح يوم الخميس، عقد لأسامة لواء بيده [ الشريفة ]، ثم قال: اغز بسم الله وفي سبيل الله.

فخرج بلوائه معقودا، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة، منهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص سعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم بن حريس..

فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام [ وكان عمر زيد سبع عشرة سنة ] على المهاجرين الأولين؟!

فغضب رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟! ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيم الله، إن كان خليقا للإمارة وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير - أي مظنة لكل خير - فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم.


الصفحة 171
ثم نزل فدخل بيته، وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ويخرجون إلى المعسكر بالجرف.

وثقل على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم، فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، فلما كان يوم الأحد، اشتد برسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وجعه، فدخل أسامة في معسكره والنبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم مغمور، وهو اليوم الذي لدوه (1) فيه، فطأطأ أسامة فقبله والنبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة، قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لي.

ورجع أسامة إلى معسكره، فأمر الناس بالرحيل، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أم أيمن قد جاءه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وهو يموت، فتوفي عمر وأبو عبيدة، انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وهو يموت، فتوفي حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي ليلة من شهر ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف " (2).

لقد علمنا أن المسلمين ودعوا النبي صلى الله عليه وآله وخرجوا إلى معسكرهم بالجرف، وخرج أبو بكر مع كبار الصحابة برفقة المسلمين تحت لواء أسامة، إذ كانوا جنودا في الجيش، وكان ذلك في يوم السبت.

وفي يوم الأحد اشتد مرض النبي صلى الله عليه وآله، فصار يحث الناس على الخروج، فجاء أسامة وحده من معسكره لوداع النبي صلى الله عليه وآله، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله، وعاد أسامة إلى معسكره وفي يوم الاثنين أمر أسامة الجيش بالرحيل، وقبل الذهاب جاءه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله، ولكن لم يدخل المدينة في أول الأمر إلا أسامة وعمر وأبو عبيدة، وعندما تأكدوا من وفاة النبي صلى الله عليه وآله دخل سائر الجيش المدينة.

وعلى هذا يكون أبو بكر قد بقي في المعسكر في الجرف منذ يوم السبت، حتى وفاة

____________

1 - لدوه: جعلوا الدواء في جانب فمه.

2 - كتاب عيون الأثر لابن سيد الناس 2: 281 - 282 - سرية أسامة بن زيد بن حارثة.

الصفحة 172
النبي صلى الله عليه وآله في ضحى يوم الاثنين.

فكيف يكون أبو بكر قد صلى صلاة الصبح في يوم الاثنين وهو معسكر في خارج المدينة بالجرف؟! وحتى في وجوده بالمعسكر فإنه لا يمكن أن يصلي بالناس، لأن قائد الجيش هو إمام الناس في الصلاة، كما هو معروف.

وقد علمت أنه لما جاءهم خبر أم أيمن بوفاة النبي صلى الله عليه وآله لم يدخل إلا أسامة وعمر وأبو عبيدة، وبقي أبو بكر في المعسكر، ولم يدخل إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله. وهذا ما قاله الطبري وابن الأثير وسائر المؤرخين، إذ ذكروا أن أبا بكر لم يأت إلا بعد أن بلغه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله.

فإما أنه كان بالسنح عند أهله، وإما أنه قد بقي بالجرف حيث المعسكر..

فإن كان بالسنح فقد غاب ثلاث ليال حتى بلغه الخبر.

وإن كان بالمعسكر فقد غاب يومين، ولم يدخل إلا بعد بلوغه الخبر أيضا، فدخل مع الجيش، ووجد عمر يقول ما كان يقول في ذلك الوقت من تهديده لمن يزعم أن النبي صلى الله عليه وآله قد مات، وإما أن يكون قد ترك المعسكر وذهب إلى السنح وبقي هناك حتى خبر الوفاة و هو الأرجح عندي.

إذا، فالأمر واضح جدا لا يحتاج إلى عناء في التفكير لفهم جوانبه، فصلاة أبي بكر بأمر النبي صلى الله عليه وآله ما هي إلا من صناعة ووضع البشر، أملتها عليهم العصبية والقبلية والعداء لعلي عليه السلام وعترة خير الأنام.

لقد ذكر أبو بكر بن عبد العزيز الجواهري (1): " أن رسول الله (ص) في مرض موته أمر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير ".

ولقد أبدى النبي صلى الله عليه وآله اهتماما بليغا بأمر هذه السرية، ولم تمنعه شدة مرضه من إنفاذ هذا البعث. وإن تعبئة وجوه وأعيان المهاجرين والأنصار مثل أبي بكر وعمر وطلحة والزبير تعكس مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وآله بأمر هذا الجيش. وكل ما في إنما هو اهتمام منه صلى الله عليه وآله

____________

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 20 وما يليها - نقلا عن كتاب السقيفة.

الصفحة 173
بانفاد بعث أسامة لكونه من أمر الله، إذا أراد الله تعالى أن يكون هذا البعث على الوجه الذي أعده النبي صلى الله عليه وآله مشتملا على أبي بكر وعمر بقيادة الشاب اليافع أسامة بن زيد. وكان أمر الله في إنفاذ هذا البعث أمرا لا يقبل التأني والتأخير، سواء أكان بسبب مرضه أو بسبب أي أمر آخر. وهذا كله يتضح من إصرار النبي صلى الله عليه وآله حتى آخر لحظات حياته على إنفاذ البعث، بل وصل الأمر إلى لعن النبي صلى الله عليه وآله المتخلفين عن هذا الجيش.

وأراد أسامة أن يعتذر للنبي صلى الله عليه وآله عن الخروج، والنبي صلى الله عليه وآله في هذه الحال من المرض، ولكن لم يكن للنبي صلى الله عليه وآله مجال لتأخير أمر الله تعالى ولقبول اعتذار أسامة.

فقد روي أن أسامة دخل النبي صلى الله عليه وآله وقال له: " بأبي أنت وأمي، أتاذن لي أن أمكث أياما حتى يشفيك الله تعالى؟ "..

ولكن، لم يكن الأمر كما يتصوره أسامة، فأمر الله في هذه السرية لا يؤخره المرض.

فقال النبي صلى الله عليه وآله: " اخرج وسر على بركة الله ".

وقال أسامة ظانا أن شدة مرض النبي صلى الله عليه وآله تعينه على إقناع النبي صلى الله عليه وآله بتأخير السرية ولو أياما: " يا رسول الله، إن أنا خرجت وأنت على هذه الحال خرجت وفي قلبي قرحة ".

فقال النبي صلى الله عليه وآله: " سر على النصر والعافية ".

إذا، فلا مجال لتأخير أمر الوحي.. لكن أسامة ما يزال يعلق الآمال، ساعيا إلى إقناع النبي صلى الله عليه وآله بالتأخر حتى يشفيه الله، فقال مشفقا: " يا رسول الله، إني أكره أن أسائل عنك الركبان ".

أما النبي صلى الله عليه وآله فكان يعلم أن هذه السرية فوق التأخير، فكيف الالغاء؟! عندها تغيرت لهجة النبي صلى الله عليه وآله، فقال مظهرا لزوم الأمر النبوي: " انفذ لما أمرتك به ". ثم أغمي على النبي صلى الله عليه وآله، بأبي هو وأمي.

وعندما علم أسامة أن أمر السرية هذه لا مراجعة فيه، قام يعد نفسه للخروج، فخضع للأمر الإلهي وبدا في إعداد الجيش. وفي هذه الأثناء أفاق رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن لا شئ أمامه غير أمر هذه السرية وبعث أسامة، فقال آمرا: " أنفذوا بعث

الصفحة 174
أسامة ". وهذه المرة أصدر أمره للجنود وأفراد الجيش، إذ لا مناص من التنفيذ.

ثم أردف النبي صلى الله عليه وآله بعبارة يخاطب بها من سولت لهم أنفسهم الطعن في تأمير أسامة، أو يخاطب بها أولئك الذين توسوس لهم أنفسهم إلغاء البعث هذا أو التخلف عنه، فقال النبي صلى الله عليه وآله مخاطبا إياهم: " لعن الله من تخلف عنه ". وهذا الحكم لا يختلف من حيث الزمان، سواء كان زمانه في حياة النبي صلى الله عليه وآله أو كان بعد وفاته، بالنسبة إلى من شملهم الأمر، إذ قد صدر الأمر وأردف بلعن المتخلفين على نحو من الاطلاق والقطع، دون استثناء لأحد منهم بما فيهم أبو بكر وعمر.

والمدقق في أمر هذه السرية يلحظ أشياء تلفت انتباهه، وتحرك فيه باعث التحقيق.

إننا نلحظ في أمر هذا البعث:

1 - الاهتمام البليغ الذي أبداه النبي صلى الله عليه وآله بهذا البعث، حتى أنه صلى الله عليه وآله لعن المتخلفين عنه في إصرار لم يعهد من النبي صلى الله عليه وآله سابقا.

2 - الوقت الذي أمر فيه بإنفاذ البعث، فالنبي صلى الله عليه وآله كان قد نعيت إليه نفسه وأخبر بدنو أجله، فما هي أهمية هذا البعث حتى يتشدد النبي صلى الله عليه وآله في إنفاذه في هذا الوقت بالذات، وهو نفس اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وآله؟!

3 - تعبئة وجوه وأعيان الصحابة من المهاجرين والأنصار في هذه السرية، دون استثناء لأحد بما فيهم الصديق والفاروق، تحت إمرة الشاب اليافع ابن العشرين عاما أسامة بن زيد.

4 - عدم فتح باب الشورى لأصحابه في هذه السرية، وقد كان يستشيرهم في بعض الغزوات.

ونحن قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله التحق بالرفيق الأعلى قبل أن يخرج الجيش من معسكره بالجرف. فلنفرض ذهاب الجيش قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله، ووفاة النبي صلى الله عليه وآله بعد ذهابهم.. فكيف يكون حال عاصمة الإسلام ونسائها وأطفالها، والأعداء من المنافقين واليهود الحاقدين على دين الإسلام يتربصون بالإسلام الدوائر، وقد أخلى النبي صلى الله عليه وآله

الصفحة 175
المدينة من الصحابة كافة، وارتحل هو إلى الرفيق الأعلى؟!

ثم إننا نسأل: هل كان النبي صلى الله عليه وآله يرى في أبي بكر الخليفة من بعده؟!

ولكن لا يستقيم هذا الأمر لو كانت الإجابة بالإيجاب، وذلك لأمرين نلحظهما في بعث أسامة بن زيد:

أولا: لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر بالخروج في هذا الجيش، والنبي صلى الله عليه وآله كان يعلم بموته إذ أخبر بذلك.

فلو كان النبي صلى الله عليه وآله رأى في أبي بكر خليفته لأمره بالبقاء إلى جنبه حتى لا تخلو المدينة ممن يفزع إليه المسلمون، ويحفظ بيضة الإسلام في أصعب يوم في حياة المسلمين، وحتى لا يكون نساء المسلمين وأطفالهم في غياب آبائهم بلا راع لهم ولا حافظ لأعراضهم.. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، فما دام النبي صلى الله عليه وآله مخلفا أبا بكر، فأبو بكر أحوج إلى نصح النبي صلى الله عليه وآله وإرشاده إرشادا خاصا يستعين به على إدارة أمور المسلمين. وعلى كل فبقاء أبي بكر - لو كان هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله - يستقيم وحكمة النبي الكريم، لا خروجه في هذا الجيش وهو خليفة المسلمين، فقد يناقض حكمة النبي صلى الله عليه وآله وحنكته السياسية في إدارة شؤون الدولة.

ثانيا: فإن كان لا بد من خروج أبي بكر - وهو المنتخب من جانب النبي صلى الله عليه وآله خليفة له من بعده على المسلمين - فعلى أقل تقدير كان على النبي صلى الله عليه وآله أن يوليه هو الجيش ويجعله على رأس الجنود، لا أن يرسله معهم جنديا مأمورا تحت إمارة أسامة بن زيد ذي العشرين عاما، إذ أن هذا لا يتفق ومقام الخلافة. فالخليفة هو خليفة النبي صلى الله عليه وآله في جميع مقاماته ومنها قيادة الجيش، فكيف صار خليفة المسلمين جنديا يرأسه فرد من رعيته، بل شاب صغير العمر؟! إن هذا ليبدو ليس من الحكمة في شئ، بل سيكون لذلك أسوأ النتائج، وقد رأيت كيف طعن البعض في تأمير أسامة. بل إنهم أرادوا عزل أسامة بعد ذلك ، لأنه أمر على كبار المهاجرين، فكيف لو أمر على الخليفة؟!

إذا، لكي لا يكون النبي صلى الله عليه وآله بعيدا عن الحكمة والفطانة النبوية، علينا أن نسلم بأن

الصفحة 176
النبي صلى الله عليه وآله لم يكن يرى في أبي بكر خليفة له من بعده. بل أراد النبي صلى الله عليه وآله بأمره أبا بكر وعمر بالذهاب في هذا الجيش تحت إمرة أسامة أن يتحقق غيابهما عن المدينة، فيكون قد أراد النبي صلى الله عليه وآله بذلك إبعاد أبي بكر وعمر عن أعتاب الخلافة ببيعة علي في غيابهما.

ولهذا كان الطعن في تأمير أسامة، وكان التثاقل عن إمضاء الأمر النبوي حتى توفي النبي صلى الله عليه وآله، فأحكمت السقيفة وهدد علي عليه السلام بالقتل، كما رأيت.

إذا، فالنبي صلى الله عليه وآله بأمره أبا بكر بالذهاب في هذا الجيش قد أراد إبعاده عن المدينة، لأنه لو كان هو الخليفة من بعده لأبقاه إلى جانبه واحتفظ به في المدينة. بيد أنه أراد بتأمير الشاب أسامة على هذا الجيش وبأن يكون أبو بكر الشيخ تحت إمرته، أن يقطع الحجة على من يقول - معارضا خلافة الإمام علي - بأنه صغير السن أو استصغره قومه، كما قال عمر لابن عباس!

قال عمر لابن عباس مرة: " يا ابن عباس، ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه!

قال ابن عباس: والله، ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ " براءة " من صاحبك " (1).

إن النبي صلى الله عليه وآله كان يعلم بما يجول في نفوس القوم، ولهذا أراد بتأمير أسامة عليهم قطع الحجة وإبطال ادعائهم بصغر سن الإمام علي عليه السلام بالنسبة إلى الخلافة، ذلك أن تأمير أسامة عليهم - وهو في ذلك العمر - هو تمهيد من النبي الكريم صلى الله عليه وآله لخلافة علي بن أبي طالب عليه السلام، ورغم ذلك فقد استصغره قومه، كما رأيت من قول عمر لابن عباس!

على أن النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر علي بن أبي طالب عليه السلام بالذهاب في هذا الجيش، كما هو بين لا ارتياب فيه.. فلأي شئ احتفظ النبي صلى الله عليه وآله بالإمام علي عليه السلام إلى جانبه؟ ألم يكن الخليفة أولى بهذا المقام؟

وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وآله إلا ليغسله بعد موته.

نعم، إذ ليس في ذلك شك، وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وآله بذلك.

روى ابن سعد عن علي عليه السلام قال: " أوصى النبي [ صلى الله عليه وآله ] أن لا يغسله أحد غيري " (2).

____________

1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 97.

2 - طبقات ابن سعد 2: 61 - القسم الثاني.

الصفحة 177
وروي أنه قال: " أوصاني رسول الله (ص) فقال: إذا أنا مت فغسلني بسبع قرب " (1).

وروى الحاكم في مستدركه، والذهبي في تلخيصه، عن علي [ عليه السلام ]، قال:

" غسلت رسول الله [ صلى الله عليه وآله ]، فجعلت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا " (2).

وروى عمر بن الخطاب، عن رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] أنه قال لعلي: " أنت غاسلي ودافني " (3).

أجل، لقد أوصى النبي صلى الله عليه وآله الإمام عليا عليه السلام بأن يغسله إذا مات ويدفنه، فهذا صحيح.

وقد عرفنا أن النبي صلى الله عليه وآله كان قد علم بموته، ورأينا كيف تشدد في أمر الجيش بالخروج، وفيه كبار الصحابة، أبو بكر وعمر وغيرهما، تحت لواء أسامة، ورأينا كيف كانت المدينة تخلو - بذهاب الجيش إلى مؤتة - من كل الصحابة ومن النبي صلى الله عليه وآله نفسه، إذ توفي في نفس اليوم المقرر لخروج الصحابة في الجيش.

لقد رأينا كل ذلك، وكان يمكن أن يمتد غياب الصحابة إلى ما يفوق الشهر، بغض النظر عن إمكانية استشهادهم. أجل، رأينا النبي صلى الله عليه وآله قد فعل كل ذلك..

فهل يا ترى كان النبي صلى الله عليه وآله يترك دولة الإسلام مدة شهر أو عشرين يوما بلا خليفة حتى يعود أبو بكر؟!

وهل يا ترى كان يذهب النبي صلى الله عليه وآله ويترك الدولة الإسلامية الفتية الطرية العود بلا راع، وعلي بن أبي طالب عليه السلام فيها، بل هو الذي أبقاه فيها عامدا إلى ذلك وقد قال له من قبل: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟!

إذا، فلها رون أن يخلف موسى في قومه، كما هي الإرادة الإلهية المقدسة. ولعمر الله، هذا ما كان يرمي إليه النبي صلى الله عليه وآله، إذ لا معنى لإرسال جيش عبئ فيه كل الصحابة مهاجريهم وأنصارهم بكريهم وعمريهم، ثم يحتفظ بعلي عليه السلام إلى جواره، ثم تخلو المدينة

____________

1 - كنز العمال 4: 54.

2 - مستدرك الحاكم 3: 59، وأخرجه الذهبي في تلخيصه، وقال: صحيح الإسناد إلى علي.

3 - كنز العمال 6: 155 - الحديث رقم 2583.

الصفحة 178
من راع يرعاها، والنبي صلى الله عليه وآله يعلم ذلك، ثم لا يخلف عليا عليها خليفة على المسلمين!

لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله إبعادهم، بإخلاء المدينة منهم، حتى يصفو له الجو ويخلف عليا عليه السلام. فعل ذلك لكي لا تتكرر رزية أخرى كرزية يوم الخميس، يوم اجتمعوا حوله في حجرته صلى الله عليه وآله، فأراد أن يكتب لهم كتابا ينجون به من الضلال، فقال عمر وأفراده: هجر رسول الله! وإن الرجل قد غلب عليه الوجع! حسبنا كتاب الله، عندنا القرآن! فمنعوا بذلك كتابة الكتاب.

لقد اتهموا النبي صلى الله عليه وآله بالهجر والهذيان في يوم الخميس، وطعنوا في تأمير أسامة يوم السبت.. فماذا تراهم يقولون لو ولى عليهم عليا عليه السلام يوم الأحد؟!

فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله توالي الطعن منهم في أوامره، وعدم العمل بها، بل رأى أنهم طعنوا في عصمته.. أمرهم بالخروج عن المدينة في هذا البعث، وولى عليهم أسامة لكي يولي عليا في غيابهم، وإلا فلا معنى لإرساله كل الصحابة في ذلك البعث وهو يعلم أنه سيموت، بأبي هو وأمي.


الصفحة 179

الباب الثالث
الشورى

إن حادثة السقيفة لهي من الحوادث التاريخية التي لا تخلو منها مصنفات التاريخ الإسلامي، إذ أنها من الحوادث التي لها أثر مشهود في ماضي وحاضر المسلمين. إنها من الحوادث التي لم يكن للتاريخ إلا أن يسجلها ويحفظها لأجيال المسلمين، إذ بها لبس الإسلام ثوبا واتخذ مسارا جديدا بعد حياة النبي صلى الله عليه وآله.

فهل كان ما دار فيها وما تمخض عنها مبنيا على أساس الشورى؟

وقبل أن نجيب عن هذا التساؤل - إذ أنه سيأتي ذلك في محله - علينا أن نشهد مختصرا من حكاية تلك الواقعة، كما يرويها الطبري:

" اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وتركوا جثمان الرسول [ صلى الله عليه وآله ] يغسله أهله، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد [ صلى الله عليه وآله ] سعد بن عبادة.

وأخرجوا سعدا إليهم وهو مريض، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر سابقة الأنصار في الدين، وفضيلتهم في الإسلام، وإعزازهم للنبي [ صلى الله عليه وآله ] وأصحابه، وجهادهم لأعدائه، حتى استقامت العرب، وتوفي الرسول [ صلى الله عليه وآله ] وهو عنهم راض، وقال: استبدوا بهذا الأمر دون الناس.

فأجابوه جميعا أن: قد وفقت الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا

الصفحة 180
الأمر.. إلى آخر كلامه.

فسمع عمر وأبو بكر بذلك، فأسرعا إلى سقيفة بني ساعدة مع أبي عبيدة بن الجراح، وانحاز معهم أسيد بن خضير، وعاصم بن عدي من بني العجلان " (1).

ما نفهمه من هذا - كما أشرنا سابقا - أن بني هاشم وبعض من انحاز إليهم من الصحابة لم يكن لهم وجود في السقيفة في ذلك اليوم، إذ أنهم كانوا مشتغلين بغسل وتجهيز جثمان النبي صلى الله عليه وآله.

وبعد نزاع وخصام حاد، انتهى الأمر بتولي أبي بكر زمام الخلافة، وعرف بعد ذلك بالخليفة الأول، أو خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله.

عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: "... فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم معتجرون بالأزر الصنعانية، لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يدي أبي بكر، شاء ذلك أو أبى. فأنكرت عقلي، وخرجت اشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة!

فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر " (2).

وقال بعضهم لبعض: " ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ونحن أولى بمحمد.

فقال العباس: فعلوها ورب الكعبة! " (3).

ونتيجة لما تمخض عن واقعة السقيفة، يقف اليوم كثير من المسلمين موقف المؤيد لما انتهج في السقيفة آنذاك لاختيار إمام المسلمين، باعتبار أن الشورى هي التي كانت حاكمة بين المتخاصمين في سقيفة بني ساعدة. وتقبلوا ما نتج عنها قبولا لا يقبل الرد باعتباره أمرا مسنودا بآيات القرآن، من حيث إنه أمر بالشورى في مثل هذه الأمور، لقوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) (4)، ولقوله تعالى (وشاورهم في الأمر) (5).

____________

1 - تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدى عشرة - ج 2، العقد الفريد لابن عبد ربه 4: 258.

2 - كتاب السقيفة ص 46.

3 - تاريخ اليعقوبي 2: 124، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 21.

4 - الشورى: 38.

الصفحة 181
وسوف نبحث هذا الموضوع من خلال نقطتين:

1 - هل كانت الشورى هي الحاكمة بين المتنازعين في السقيفة؟

2 - هل ترك النبي صلى الله عليه وآله تعيين خليفته لرأي الناس وحكم الشورى؟

السقيفة والشورى المزعومة

إن ما دار في سقيفة بني ساعدة، وما تمخض عن ذلك لم يكن قد قام على أي نوع من الشورى وأسلوب التحاور، ذلك لأن الشورى - كما يفهمها الساذج من الناس والفطن منهم - تقوم على أساس الاعتراف بحق الأطراف في المسألة المطروحة للشورى، وإبداء النظر باعتبارها مسألة تخص جميع الأطراف. فهذا هو الحق المعترف به لكل فرد، إما من حيث إن كل فرد خليفة بالقيام باعبائه، أو من حيث إنه محفوظ لكل فرد في المشاركة باختيار من يقوم به من بين الآخرين، دون أن يستبد به قوم دون قوم، أو فرد دون فرد.

بيد أن السقيفة لم تكن على هذا القرار، ولم تسر على هذا المنهج. وهذا واضح جدا في عبارات المتخاصمين من أهل السقيفة، وفي طبيعة الجو الذي كان سائدا آنذاك.

وواضح أيضا من حيث أن الأمر حصر في قوم دون شموله لقوم آخرين لا يقلون عنهم شيئا إن لم يفوقوهم في كل شئ، وأعني عليا عليه السلام وأصحابه من بني هاشم، كما عرفت.

وعدم وجود هؤلاء في السقيفة - وهم بهذا المقام من بين أهل الحل والعقد - يؤكد النزعة الاستبدادية التي كانت طاغية على أعضاء السقيفة، ويدحض كل ادعاء يتوسل بالشورى ليصف بها ما دار في السقيفة لاختيار الخليفة.

إن أبا بكر لم يكن يرمي من كلامه في يوم السقيفة إلى استشاره الطرف الآخر بقدر ما كان يرمي إلى بيان أحقيته هو في الأمر، من غير أن يكون للأنصار حق فيه، بل يتضح من كلامه أن المطالبة بتولي هذا الأمر من قبل الأنصار يدخل الأنصار في زمرة الظالمين.

يقول أبو بكر: " إن رسول الله (ص) لما بعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخالفوه وشاقوه. وخص المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، فهم أول من عبد الله في

____________

5 - آل عمران: 159.

الصفحة 182
الأرض، وهم أولياؤه وعترته، وأحق الناس بالأمر بعده، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم ".. وهذا كلام واضح العبارات والجمل، إذ لا يحتوي على شاهد ترى فيه الدعوة إلى الشورى.

فالسابقون بالإسلام، وأولياء النبي صلى الله عليه وآله وعترته الكرام - في كلام أبي بكر - هم أهل هذا الأمر من بعد النبي الكريم، ولهم أن يخلفوه صلى الله عليه وآله دون غيرهم من الناس. بل يكون الناس ظالمين إذا اشرأبت أعناقهم وتطلعت نفوسهم إلى هذا الأمر ينازعون فيه أهله!

ولكن، ماذا قالت الأنصار إزاء هذا الكلام الذي جردهم تماما من حقهم، بل وصفهم بالظلم، ووصف مطالبتهم بهذا الأمر بأنه منازعة لأهله بلا حق؟!

قال الحباب بن المنذر يدعو قومه الأنصار إلى التمسك بحقهم كما يعتقد هو أيضا، يقول: " يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدرون إلا عن رأيكم. أنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، إن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنكم أمير " (1).

وقال أيضا في رده على كلامهم: " يا مشعر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب! أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة - أي فتية -.

فقال عمر: إذا، ليقتلك الله!

فرد عليه الحباب: بل إياك يقتل " (2).

إذا، فالمسألة في نظر الأنصار ليست خاضعة للشورى، بل هي مسألة دار ومكان ونصرة للدين، إذ بهذا استحق الأنصار هذا الأمر. وإلا فالمسألة فيما يظهر من حوارهم مسألة اقتسام " منا أمير ومنكم أمير ". غير أن سعد بن عبادة سيد الأنصار لم يكن ليرضى

____________

1 - الكامل في التاريخ 2: 329 - حوادث سنة إحدى عشرة.

2 - الكامل في التاريخ 2: 330 - حوادث سنة إحدى عشرة.

الصفحة 183
حتى بهذه القسمة الضيزى في رأيه، فقال رافضا إياها: " هذا أول الوهن " (1). فهذا سعد إذا لا يرى لأبي بكر وعمر ومن حالفهم حقا في الخلافة، ولو كان على مستوى الأمير.

عندئذ تصدى عمر للدفاع عن حقه بعبارات لم تدع للأنصار حقا يطلب، فقال:

" هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد! من ذا يخاصمنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة؟! " (2). ها هو عمر يقطع قول كل خطيب بنفيه الشورى. أجل، لم يأت عمر إلى السقيفة لمشورة الأنصار، بل جاء ليدفع كل من يخاصمه منهم في سلطان محمد!

إذا، فليس للأنصار في هذا الأمر حق حتى يستشيرهم فيه أبو بكر أو عمر، وكيف يستشيرونهم فيما يرثانه من إرث تركه لهما رسول الله صلى الله عليه وآله؟! وهل في الإرث استشاره لإثبات حق الوارث فيه؟!!

لا وحاشا، فالخصم عندهما لا يخرج - وهو ينازع في ميراث محمد - عن حدود ثلاثة.. فهو إما سالك لطريق الباطل، أو مرتكب للذنب والإثم بأخذه إرث غيره ظلما، أو معرض نفسه في ذلك للموت والهلاك.

إذا، فلا شورى مع الأنصار يراها عمر، ولا يثوب الأنصار في نزاعهم في هذا الأمر إلا بالباطل ولا يكون إلا الإثم ولا يحصدون إلا الهلاك.

من هذا كله يتضح جليا أن مسألة اختيار الخليفة، والنزاع الذي دار في السقيفة بسببها لم تبن على أي شورى مقصودة بالأصل في هذا الأمر، وإنما هو نزاع حدث بين طرفين متخاصمين في أمر مختلف فيه يرى كل طرف منهما الحق إلى جانبه، ويسعى كل فريق للدفاع عن حقه المهدد بالغصب.

إن هذه حقيقة تاريخية حرفت أو لم تفهم على ما كانت عليه، إذ سعى المؤيدون لما تمخض عن نزاع السقيفة إلى تفسيرها بما يتطابق مع ما أيدوا من نتائج، فألبسوها ثوب الشورى وهي عنه عارية، حتى يقفوا أمام مخالفة المعارضين لنتيجة السقيفة، وربما

____________

1 - تاريخ الطبري: حوادث سنة إحدى عشرة - ج 2.

2 - تاريخ الطبري 2: 446 - حوادث سنة إحدى عشرة، سيرة ابن هشام 1: 658.

الصفحة 184
لإقناع أنفسهم أيضا بما ظنوا وحسبوا، لو يغنيهم الظن عن الحق شيئا.

غير أن أبا حفص يدحض مزاعم هؤلاء فيما ادعوه من الشورى، فقد قال أيام خلافته:

" كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، وإنما كانت كذلك، إلا أن الله قد وقى شرها. فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له " (1). فعمر إذا، يحذر من تكرار بيعة أبي بكر التي كانت فلتة من غير مشهورة، تحمل في طياتها الشر المستطير لو لا لطف الله بعباده.

وهذا لعمري هو الحق، إذ قد سلت السيوف وكادت أن تقع الفتنة، وكادوا أن يضربوا عنق الإمام علي عليه السلام، ذلك أن ما يكون عن فلتة تحفه الفتن والشرور، فهو لا يمكن أن يكون صادرا عن مشورة يتمخض عنها الرضا والقبول، أو على أقل تقدير يتمخض عنها الخضوع لرأي الأغلبية، فلا يكون بعد ذلك فلتة ولا تخشى الفتنة والشرور.

ومن هذا نخلص إلى أن النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر بالشورى في مسألة اختيار الخليفة من بعده، وإلا لما حدث ما حدث من نزاع تمخض عن بيعة فلتة.

وعدم أمر النبي صلى الله عليه وآله بالشورى في هذا الأمر لا يستنبط من عدم انتهاج أعضاء السقيفة لها فحسب، بل يفهم من أن تعيين الإمام وخليفة المسلمين من بعد النبي صلى الله عليه وآله هو أمر من صميم واجبات النبي الكريم، كما أشرنا إلى جانب من ذلك. ذلك أن النزاع بين الناس في مثل هذا الأمر مغروس في طبيعة وفطرة البشر، والقومية والقبلية هي التي تلد الناس.

فالنزاع إذا، هو أمر ملازم لأبناء القومية والقبلية. ثم إن الوحي وضع حلا لكل نزاع يجول في نفوس الناس، ولهذا أمرهم بقوله (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (2). فلو رد المسلمون موضوع نزاعهم في السقيفة إلى الله والرسول فلا شك أنهم سيجدون حلا لهذا النزاع.

____________

1 - صحيح البخاري 4: 119 - باب رجم الحبلى إذا أحصنت.

2 - النساء: 59.

الصفحة 185

ترك الأمر للناس والشورى

الذين يرون أن اختيار الخليفة الأول تم على أساس الشورى يعتقدون بأن هذا الأمر مما يمكن الفصل فيه برأي الناس، فالشورى ليست سوى الحوار بين الأطراف وإبداء الرأي، واختيار الصائب في رأيهم من بين الآراء. وهم يستندون في قولهم هذا إلى قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) و (وشاورهم في الأمر). ولكن بقليل من التدبر وإعمال الفكر يستبين الأمر ويصرح الحق، ويتضح لهم الخطأ فيما ذهبوا إليه.

إن الشورى سواء كانت من قبل النبي صلى الله عليه وآله مع أصحابه، أو كانت بين الصحابة فيما بينهم.. ولا تفترض إطلاقا إلا في المسائل والأمور التي لم يفصل فيها الوحي، ولم ينزل فيها نص يبينها أو سنة تفسرها.

بل يذهب الأمر أبعد من هذا، إذ مع حدوث النزاع في أمر من الأمور لا بد من مراجعة الوحي واللجوء إليه، إذ أنه تبيان لكل شئ.

وعلينا أن نعلم أن ذلك الخلاف والاختلاف المتسع بين أفراد الأمة في مسألة الخلافة وإمامة المسلمين - منذ بدئه أيام السقيفة إلى يومنا هذا - يرجع إلى ترك اللجوء إلى الله والرسول لفض هذا النزاع.

إذا، فهو من عند غير الله، ولذا نشاهد فيه اختلافا كثيرا. وهكذا كل أمر ينفرد الإنسان فيه برأيه، وهكذا كانت السقيفة وخلافة أبي بكر.

وأما من حيث إن خلافة الصديق من صميم الرأي البشري.. فهذا ما يوضحه لنا أبو حفص:

قال عمر لابن عباس: " يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (ص)؟

قال ابن عباس: فكرهت أن أجيبه، فقلت له: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني!

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها، فأصابت ووفقت " (1)!

فانظر إلى عبارة أبي حفص: " كرهوا "، وانظر إلى قوله: " فاختارت قريش

____________

1 - الكامل في التاريخ 3: 64 - حوادث سنة ثلاث وعشرين، وشرح نهج البلاغة، سيرة عمر: ص 107.

الصفحة 186
لأنفسها "..

ومن هذا نفهم جليا أن خلافة الصديق وما تلتها من خلافات إنما هي من صميم الرأي البشري. ولو كانت قريش قد وفقت وأصابت في ذلك لما وجدنا فيه اختلافا كثيرا، إذا أنه من عند غير الله، من قريش التي كرهت خلاف ذلك! وهو اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم!!

فلا يجوز إذا أن يفصل في مسألة من المسائل الأساسية في الدين بالرأي البشري.

وحدوث النزاع في أي أمر يلزمنا بالرجوع إلى الله تعالى وإلى الرسول، لوضع حد للنزاع عن طريق الوحي الفيصل، يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (1).

فحدوث النزاع في أي أمر يلزمنا بالنقاط التالية:

1 - مع حدوث النزاع لا يصح إبداء الرأي الخاص دون الرجوع إلى الوحي الإلهي.

2 - وجود الحلول الناجعة في القرآن والسنة لأي أمر يحدث فيه نزاع، ومن ثم يكون اختيار خليفة النبي صلى الله عليه وآله من الأمور التي كان من المفترض الرجوع فيها إلى الله ورسوله الكريم، لمعرفة الحق فيها.

ولما كانت مسألة السقيفة من أكبر المسائل التي تشعب فيها النزاع حول اختيار وتعيين الخليفة كان الفصل فيها بالرأي البشري من الأخطاء الفاحشة، ولهذا فالشورى باطلة في هذا الأمر المتنازع فيه. والخلاصة أن الأمور الدين لم تترك للأهواء والآراء البشرية، مهما بلغت من الرفعة والعلو.

ولهذا كانت حوادث السقيفة قد تمخضت عن فلتة، كما يقول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت. كل ذلك لأن الرأي البشري هو الذي كان حاكما في السقيفة.

وأما آية (وشاورهم في الأمر) فلم يقصد منها أمر النبي صلى الله عليه وآله باستشارة أصحابه في أمور الدين، لأنها أمور يصدرها الوحي.

____________

1 - النساء: 59.

الصفحة 187
يقول المراغي: " كان رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يشاور أصحابه في الكثير من الأمور، ولم يكن يشاورهم في الأحكام، لأنها منزلة من عند الله " (1).

أجل، فاستشارته لهم ليست فيما أوضحه الوحي، ولا التي ينتظر أن ينزل فيها أمر من الله تعالى، بل لم يكن النبي صلى الله عليه وآله ينتظر الارشاد في حيرته إلى آراء الناس وتوجيهاتهم، إذ الآية قصد منها ملاينة الصحابة والرحمة بهم، وهي لطف من ضمن ألطافه تعالى بهم، لكي يحبب لهم الإيمان ويرغبهم في رسول الله ويعمق الدين في قلوبهم، والسياق الذي وردت فيه الآية إنما يشير إلى ذلك بوضوح.

يقول تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (2).

في هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى خلق نبيه الكريم في التعامل مع أصحابه والذين من حوله، ويخبر بأن الغلظة والفظاظة - لو كانت - فمن شأنها أن تقطع حبال الوصال بينه وبين الناس، وتصيبهم بسببها نفرة من الدين.

فالآية وضحت كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وآله معهم، وهي تتمثل في:

أولا: العفو عنهم ومسامحتهم فيما يصدر عنهم من أخطاء، والتجاوز عنهم في ذلك.

ثانيا: الاستغفار لهم، أي طلب المغفرة لهم بالدعاء فيما أصابوه من ذنوب حتى تمتلئ قلوبهم محبة له، ويخلو ما قد يكون من انقباض، فتنبسط له ارتياحا.

ثالثا: وشاورهم في الأمر، أي أعط لآرائهم أهمية، وحسسهم بارتباط الأمر بهم، حتى لا يشعروا منك باستبداد في الأمور، فقتل أهميتها في نفوسهم.

كل ذلك فيما لم ينطق به الوحي، بل إذا عزمت فتوكل على الله فيما عزمت عليه أنت بنفسك.

ومن هنا يتجلى أن الشورى من النبي صلى الله عليه وآله مع أصحابه لم تكن لافتقاره إلى الرأي

____________

1 - تفسير المراغي 25: 52 - سورة الشورى.

2 - آل عمران: 159.