ثم إن تقييد طاعة أولي الأمر بكون ما أمروا به ليس فيه معصية لله، يفرض قدرة الناس على تشخيص الخطأ من الصواب، بإقامة الدليل على ذلك من الكتاب والسنة..
وهذا لا يتوفر لكل إنسان، وأعلمية أولي الأمر وعصمتهم تنفي أمرهم بالمعصية.
فلو كانت طاعة أولي الأمر لا تجب إلا فيما وضح بالكتاب والسنة أنه حق وصواب للزم من ذلك أن يكون كل فرد ملما وعارفا بمفهوم ومعاني وتأويل وتفسير القرآن والسنة، وهذا ليس صحيحا. وعلى أقل التقادير سيؤدي ذلك إلى الاختلاف والنزاع في تحديد كون هذا الأمر خطأ أو صوابا. والاختلاف ممنوع قطعا، وسيؤدي إلى تعطيل التنفيذ، وقد يؤدي إلى فتح الثغرات لمعصية الإمام في كل ما يأمر به.
ولو فرض أن في استطاعة الجميع معرفة بعض الأدلة من ظاهر بعض الآيات لإثبات صحة وحقانية أو بطلان أمر الإمام.. فكيف تتم لهم معرفة الأدلة على صحة أو بطلان ما أمر به الإمام في المسائل التي لا تتضح إلا بالاستنباط والاجتهاد؟!
ونحن نعلم أن القدرة على الاستنباط والاجتهاد لتحصيل الأحكام ليست لكل أحد، بل ليست للغالبية. ومن هنا يكون هذا الأمر مختصا بهؤلاء العلماء الذين هم أولو الأمر، وورثة الأنبياء، ولا أحد يعلوهم في العلم والمعرفة.
فلو كان هذا الأمر مختصا بهم، والغالبية العظمى ليس لها إدراك ذلك.. فكيف يقنعون منهم بأن ذلك صواب وليس معصية؟! وكيف يقيمون لهم الدليل ويحتجون عليهم به على صحة أوامرهم، وعامة الناس لا يدركون شيئا من ذلك؟!
فإما أن يحملوهم على الأمر والنهي بالقوة والعنف، ولا يبقى حينئذ معنى لاشتراط وجوب الطاعة بكونه في غير معصية لله. أو يتركوهم عن تنفيذ الطاعة وأداء الواجب في ذلك.. وبهذا يذهب الأمر بطاعتهم أدراج الرياح.
فنحن إذا، محتاجون إلى التسليم لبعض أوامر أولي الأمر فيما لا ندركه، لفقداننا قدرة الاستنباط والاجتهاد. لكن التسليم في البعض وعدمه في البعض الآخر لا يتفق
إذا، فالتسليم لأولي الأمر الظاهر دليله من الكتاب أو السنة أولى. ومن هنا فالتسليم لهم فيما صعب على أفهام الناس والتسليم لهم فيما سهل على الناس إدراكه من الظاهر ينفي اشتراط إقامة الدليل على صحة أو بطلان ما أمر به أولو الأمر.. هذا من ناحية المقايسة بين أولي الأمر وعامة الناس من حيث العلم والأعلمية.
وأما إذا ثبتت للناس ولايتهم وإمامتهم بالنص الإلهي وثبتت بذلك عصمتهم، فإن التسليم لهم يكون أحجى وأبلغ وأكمل في هداية الناس وصيانة الأمر، وهذا ما أراده الوحي من الأمر بطاعتهم وإيجابها.
فقول الطبري بأن أولي الأمر هو الولاة والأمراء صحيح لا غبار عليه، ونضيف إليه قول الرازي بعصمتهم، فنخلص عندئذ إلى قول الشيعة بأنهم الأئمة المعصومون من أهل البيت عليهم السلام..
وأما قول الطبري باختيار وتولية المسلمين لهم، وقول الرازي بأنهم أهل الحل والعقد.. فقد وضح بطلان هذين القولين، وعدم استقامتهما شرعا وعقلا.
وأما القول بأن أولي الأمر هم أبو بكر وعمر.. فهذا قول لا يصح من وجوه:
أولا: إنهما يفتقدان العصمة ولا ينسبها أحد إليهما. وأولو الأمر قد ثبتت عصمتهم، ووجبت طاعتهم على الناس.
ثانيا: لو كانا هما المعنيين بأولي الأمر في الآية لوجبت طاعتهما، ولما خالفهما كبار الصحابة، ولما امتنع أكثرهم عن بيعة أبي بكر، ولما احتج بعضهم على استخلاف عمر، ولما خالف سعد أبا بكر وامتنع عن بيعة الصديق ومات وهو مخالف لهما ولم يقتد بهما في
ولو كانا هما أولي الأمر لما جاز لعلي بن أبي طالب الامتناع عن بيعة أبي بكر، بل لما قال لهما ولأفرادهما: " بل أنتم أولى بالبيعة لي "، وقد مر عليك ذلك كله.
أولو الأمر هم أهل البيت عليهم السلام
أن أولوية أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله في تولي أمور المسلمين، والانفراد بلقب " أولي الأمر " بعد النبي صلى الله عليه وآله دون غيرهم من الناس.. لهي أولوية تأخذ شكلها الطبيعي من عبارات الوحي بشقيه، فالنبي صلى الله عليه وآله لم يكن يرى من هو أولى منهم بهذا المقام، بل لم يكن يراه لغير هم أبدا، إذ أننا نلمس ذلك في المقام، الذي حفظه النبي الكريم لهم. وليس ذلك من حيث الاحساس الأبوي الخاضع لقوانين النفس البشرية، وإنما هو أمر تلقاه النبي صلى الله عليه وآله متنزلا من مقامات الوحي الإلهي، موضحا السنخية والشبه الذاتي بين أهل البيت النبوي و بين محمد صلى الله عليه وآله ذلك لأن الأبوة مهبط لوحي العاطفة التي كثيرا ما تتخطى الحق وتنطق عن الهوى ولهذا فقام أهل البيت لما كان مرتكزا على الأمر القرآني بوجوب طاعتهم من حيث إنهم أولو الأمر، ترى الشق القرآني يمثل أساسا منيعا لمقام العترة، وحينما ترى وصف السنة لعترة النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام بأنهم الهداة الذين لا يضل من تمسك بهم تعلم طبيعة هذا المقام الصادرة من جانب الوحي الإلهي وعندئذ نعلم السنخية بين العترة ومحمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وبيان هذا المقام ليس له مسير غير قنوات الوحي الذي ينتظم كل نفس النبي صلى الله عليه وآله وكل حياته بحركاتها وسكناتها، ولهذا كان الاستحقاق للخلق العظيم الذي يبرئ النبي عليه وآله الصلاة والسلام من نزعات الأبوة البشرية في بيان مقام العترة. وعلى هذا الأساس فهو مقام لهم من صميم أنوار النبوة، بل مقام من مقاماتها، صاغه الوحي في عبارات لا تخفى على من له مسكة من الادراك وقدر من ملكة التدبر.
إن هذا الأجر أدناه تسليم زمام الأمر في قيادة المسلمين وإدارة شؤونهم بعد النبي الأكرم لأهل بيته الذين ساوت مودتهم - من حيث إنها الأجر - نعمة الدين الإسلامي من حيث إنه عليه بهذه المودة.
وهذا التساوي السنخية والشبه القوي بين النبي صلى الله عليه وآله وهذا الدين الذي هو خلق النبي المعصوم وطريقة حياته صلى الله عليه وآله من ناحية.. والشبه القوي بين العترة الطاهرة والنبي صلى الله عليه وآله من ناحية أخرى.
ووجه الشبه بين العترة والنبي الأكرم هو تلك المودة، من حيث إنها واجبة في حق العترة، ومن حيث إنها الأجر الذي استحقه النبي صلى الله عليه وآله مقابل ما جاء به للناس من هداية ورحمة.. فمودة العترة كأجر ترضي النبي صلى الله عليه وآله بلا ريب، فهي في حقيقة الأمر مودة للنبي نفسه، فتدبر.
ولكن، هل تصح هذه المودة مع المخالفة للنبي في نهجه؟ وهل يمكن تصورها مع مشاقة النبي صلى الله عليه وآله؟! أبدا. فلا يستطيع أحد ادعاء مودة النبي صلى الله عليه وآله وهو مخالف له. فهذه المودة لا تستقيم إلا باتباع النبي صلى الله عليه وآله، ولما كانت مودة النبي صلى الله عليه وآله هي في عترته.. فما هو أنسب أسلوب للمودة يمكن أن يحفظ به النبي صلى الله عليه وآله في عترته؟ أليس هو الاتباع للعترة والاقتداء بهم.؟
أجل، إن مودة النبي صلى الله عليه وآله في أهل بيته عليهم السلام لا تغني إلا اتباع النبي الكريم باتباع أهل البيت من عترته، لأن هذا هو الذي يرضي النبي صلى الله عليه وآله ويسره لا غير.
ولو كان ودهم يعني المحبة دون الاتباع فهذا لا يختص بأهل البيت النبي وحدهم، وإنما هو أمر مطلوب بين عامة المؤمنين الذين هم في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد...
____________
1 - الشورى: 23.
إن الهدف الأساسي والدائم للقرآن هو تهيئة وسائل وسبل الهداية والنجاة للناس بحكم أنه رحمة جاءت للناس عبر النبي صلى الله عليه وآله الذي ما أرسل إلا رحمة بهذا القرآن. ولا يمكن أن يحدد الله الأجر للناس مقابل هذا الدين وتلك الرحمة، ويكون هذا الأجر متضمنا للشقاء! فهذا الأجر الذي هو مودة العترة أحد قنوات هذه الرحمة الإلهية. كما لا يمكن أن تتحقق هذه الرحمة مع المخالفة.. إذا، لكي تنتقل الرحمة أيضا عبر هذا الأجر - أي مودة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله - لا بد أن تعني تلك المودة الاتباع والاقتداء. وبهذا يتحقق الهدف الأساسي للدين، وهو هداية الناس وإرشادهم لما هو خير لهم وأبقى، لأن المخالفة عمدا أو تساهلا تبعد المخالف عن قنوات الرحمة تلك.
ولهذا، لا يستقيم ودهم وحبهم مع مخالفتهم في أمر أو نهج، لأن في هذا إيذاءهم وإيلامهم بلا شك. ولا يلتئم وودادهم ووداد من صدر منه إيذاؤهم وإيلامهم ووداد من كانت منه شكواهم.
ولهذا كانت مودة أهل البيت أعظم أجر يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله من أمته.. لماذا؟
لأن النبي الأكرم - الذي هو عزيز عليه ما عنت المؤمنون، حريص عليهم في هدايتهم، رؤوف بالمؤمنين رحيم - لا يسره شئ مثل أن يرى أمته في نجاة وسلامة وفي أمن من عذاب يوم عظيم. ولذا كان اتباع الناس لأهل بيته في دينهم أجرا يتحقق به رضاه وسروره لما سيجده الناس من نجاة وسلامة.
فالنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام هم حملة هذا الدين، وهم العارفون به، والرافعون عنه ضلالات المضلين وأخطاء الجاهلين، وأحقاد الحاقدين، ونفاق المنافقين. وليس هذا
____________
1 - آل عمران: 31.
ثم إن هذه المسؤولية نالها أهل البيت في مقابل الالتزام الذي تأسس يوم عرض النبي صلى الله عليه وآله هذا الدين على عشيرته الأقربين، طالبا منهم العون والمؤازرة في مسؤولية القيام بتبليغه، على أن تكون لمن يلتزم المؤازرة والمناصرة الخلافة والولاية على الناس من بعد النبي صلى الله عليه وآله. فالتزم الإمام علي عليه السلام بذلك مؤسسا بالتزامه هذا مسؤولية عترة النبي الكريم الذين نشأوا وتربوا عليها أحسن تربية وأفضل تنشئة في كنف النبي صلى الله عليه وآله، يرفع إليهم كل يوم علما، إعدادا لهم واختصاصا بهذا المقام، باعتباره ثوابا وأجرا لما التزم به علي عليه السلام، مؤسسا بذلك المقام والمسؤولية الطبيعية لذريته من أبناء الرسول صلى الله عليه وآله.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن جمع إليه أربعين نفرا من قريش من بني عبد المطلب: "...
يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟
فقام علي عليه السلام: " أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه.
فأخذ رسول الله وقال: إن هذا أخي ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا... " (2).
إذا، فهذه الأولوية في تولي أمر المسلمين بعد النبي الأكرم أمر ثابت للعترة، ولا يجوز لأحد أن ينافسهم فيه وينازعهم. والقبول بهذا الالتزام لنيل هذا المقام هو إشارة واضحة إلى الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله.. فنالت ذلك العترة بالإيمان المبكر الذي شع في قلب سيدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهكذا ظل الأمر فيهم إيمانا خالصا لم تخالطه شوائب الشرك أو نزعات الشك التي أصابت البعض قبل إسلامهم وبعده.
____________
1 - الشعراء: 214.
2 - تاريخ الطبري 2: 217، الكامل في التاريخ 2: 22، السيرة الحلبية 1: 381.
فهؤلاء نصارى نجران يحاجون النبي الكريم من بعد ما جاءه من العلم في أمر عيسى عليه السلام، فيأمره الله تعالى بمباهلتهم، ولكن بعد أن يدعو أهل بيته إذ أنهم شركاء في الأمر، فقال له تعالى:
(فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (1).
إن هذا الأسلوب في الدفاع عن الدين والذب عنه ليس في مقدور أي فرد من الناس، ذلك لأنه ليس فيه سلاح سوى سلاح الإيمان واليقين الصادق بما نزل به الوحي، بل ليس إيمانا مسبوقا بالشرك أو يمكن أن يخالجه شك من بعد. وإن الدفاع عن هذا الدين بالسيف هو دفاع لا شك فيه، ولكن قد يكون المدافع لا يملك إلا سيفه وشجاعته وحميته، أو قد لا يملك إلا الرغبة في الغنائم ومكتسبات الحرب..
أما الوقوف أمام النصارى، ودعوتهم إلى التوجه إلى الله تعالى بالمباهلة - لتحديد الكاذب من الصادق في أمر الدين - فهو أمر يستوجب يقينا بهذا الدين وربه، لا يشوبه شئ. ولما كان الله تعالى لا يمكن أن يختار لهذا الأمر شخصا شاب إيمانه شك وريب أو نقص وضعف.. كان إيمان العترة في أوج كماله وتمامه، فانتدبهم الله تعالى للذب عن الدين بهذا السلاح الإيماني التصديقي. فدعا الحسن والحسين، لقوله " أبناءنا "، ودعا فاطمة لقوله " نساءنا "، ودعا عليا وجاء بنفسه لقوله " أنفسنا "، إذ قصد من قوله " أنفسنا " محمدا وعليا في آن واحد، وهو يوضح أنهما من نفس واحدة.
وبهذا يؤكد الوحي تقدم أهل البيت في القيام بمسؤولية هذا الدين ولازم ذلك عدم أهلية غيرهم لهذه المسؤولية في هذه المقام المتقدم بالذات، أي مقام أولي الأمر. فالعامل في السفينة ليست له مهمة الربان فيها، وليس هو أهل لقيادتها، وإن حذق في وظيفته.
وإنما هو أهل لما هو فيه من وظيفة ومسؤولية تدار من مقام الربانية.
____________
1 - آل عمران: 61.
ويقول ابن حجر: " وفي قوله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: فلا تقدموها فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.. دليل على أن من تأهل منهم للمراتب العلية والوظائف الدينية كان مقدما على غيره " (1).
على أن قوله صلى الله عليه وآله: " ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم " إشارة إلى أعلميتهم الأزلية، وبالتالي تقدمهم الأزلي على غيرهم.. فلا ينتظر أن يتحقق لهم هذا التقدم لا حقا ثم به يتقدمون على غيرهم فيما بعد.
وبعد هذا كله.. كيف يمكن أن يتقدم أبو بكر وعمر على باب مدينة علم الرسول؟! أو كيف يتأتى لمعاوية أن يفوق الإمام الحسن في علمه؟! أو يبذ ابنه يزيد السكير الإمام الحسين علما ومعرفة؟!
فكيف تقدم هؤلاء على العلماء من عترة النبي سيد الأنبياء، والنبي يناديهم في أخراهم: " واجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العين من الرأس، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين " (2)؟!
فواعجبي من القوم! فبعد هذا كله تقدموهم وجعلوهم في سوقة الرعية، لا يؤتم بهم في دين، ولا يقتدى بهم في عبادة!! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن أهل البيت أولو الأمر بلا مراء ولا جدال. إنه أمر حكم به النقل والعقل، ويحكم به العقل لو فقد النقل. ولكن لو ترك النقل وفقد العقل حكم لغيرهم الجهل..
وعندها لات ساعة مندم!
على أن العصمة التي يتمتعون بها، بل يلزم أن تكون لهم، تلك العصمة تبين هذا الأمر جليا وتحصر ولاية الأمر فيهم. وكل من نازعهم الأمر عبر التاريخ إنما هو قد أخذ
____________
1 - الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 89 - الباب الحادي عشر - نقلا عن الطبراني.
2 - الشرف المؤبد للنبهاني ص 31: وانظر: إسعاف الراغبين.
وقبل أن نبين عصمة الطاهرين وأبناء سيد الأنبياء والمرسلين علينا أن نوضح، في اقتضاب، العصمة في ذاتها ما هي؟!
ما هي العصمة؟
إن العصمة - كما ذكرنا سابقا - هي الأساس الذي تدور عليه الحجية، والقاعدة التي بني عليها وجوب الطاعة على سبيل الجزم والقطع.
والتلازم بين العصمة ووجوب الطاعة القطعي يحتم اتصاف من وجبت طاعته على هذا النحو بهذه العصمة، التي يتحتم بها إبعاد أي احتمال لصدور الخطأ عن الذي وجبت طاعته قطعا.
فما هي هذه العصمة؟ وما هو السر في التلازم بينها وبين هذا الوجوب القطعي في الطاعة؟
لقد تهيب كثير من الناس وصف البشر بالعصمة، وأدى تهيبهم هذا إلى التردد حتى في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، فنفاها بعضهم عنه، ونسبها إليه بعضهم، وقيد بعضهم نسبتها إليه في حال تبليغه الوحي.. وسبب كل ذلك يعود إلى الجهل أو الفهم السيئ لمعنى العصمة!
فالعصمة ليست أمرا اكتسابيا حتى يصبح في متناول كل فرد، وإنما هي هبة من الله تعالى وهبها لبعض من عباده، لأداء مسؤولية إيصال الوحي إلى الناس، والإسهام في إرشادهم إلى سبيل المؤمنين، وسواء تهيب الناس نسبتها إليهم، أو لم يتهيبوا ذلك، فالله أعلم بمن يهب العصمة.
إن العصمة في حقيقة الأمر هي وليدة الإيمان، الإيمان الذي يبلغ شأوا لا يبقى للشك إليه من سبيل. والإيمان في هذا المقام العالي لا يعني إلا الاقتراب المعنوي من حضرة الله تعالى، والولوج إلى ساحة النور الإلهي. فالله نور، والانغماس في هذا النور تتلاشى فيه ظلمات النفوس وتزول الحجب، ولا يبقى ما يعتم الرؤيا. وفي مقام
فأين النفس وأهواؤها؟ وأين الشيطان وهمزاته؟! فهذا مقام ليس لهما إليه من نفوذ.
إن شدة العلم اليقيني إنما هي في عالم اليقين كما وكيفا، فلا يغدو شئ غير معلوم، ولا تبقى حقيقة غير مشهودة. وعلم في هذه الشدة ليس للجهل فيه من نصيب أبدا.
والأخطاء معاليل الجهل، وحيث لا جهل فلا خطأ، وحيث اليقين فكل شئ هناك صواب وحق صرف.
ولهذا لا يمكن تصور هذه العصمة في هذا المقام مسبوقة بارتكاب المعاصي والأخطاء، أو معقوبة بها، لأن الإيمان الباعث لهذه العصمة هو إيمان مبكر جادت به العناية الإلهية، يلحق المعصوم قبل أن يأتي إلى هذا الوجود، إذ صنع على عين الله منذ الأزل، وسبقت له من الله الحسنى من قبل، فلا مجال المسبوقية المعاصي ولا معقوبيتها، لأن اليقين ملازم لهذه العصمة، - بل ملازم للمعصوم - ملازمة ذاتية لا تسمح بنفوذ مسببات ارتكاب المعاصي والأخطاء.
وهكذا تشمل هذه العصمة حياة المعصوم كلها لا تتقيد فيها بحال دون حال، ولا سن دون سن.. فالمعصوم معصوم منذ الأزل حتى الأجل.
ولقد رأينا نبي الله عيسى عليه السلام قد جعل وأوتي الحكم صبيا، وخاطب الناس وهو في حضن أمه. وهكذا الأنبياء جميعا، وهكذا أولو الأمر، إذ أنهم شركاؤهم في وجوب الطاعة الجازم، شركاؤهم في العلم الذي يرثون به الأنبياء، فهم العلماء وهم ورثة الأنبياء.
فالرسول صلى الله عليه وآله لما كان يؤدي الرسالة، ويقوم بهداية الناس على أساس هداية الوحي، عبر العصمة التي تؤمن أداء الوحي على النحو الذي أنزل به.. علم أن العلم اليقيني الشامل الذي يتمتع به العلماء من خلفاء الرسول وأولي الأمر يسد مسد الوحي في هداية الإمام، وهو بدوره يهيئ العصمة المطلوبة لمواصلة أداء الدور الرسالي على النحو الذي
فمن هم أهل البيت؟ وهل هم معصومون؟
أهل بيت النبي معصومون
إن عصمة أهل بيت النبوة عليهم السلام لهي من المسائل التي يحكم بها كل عقل سليم، لأنه ما دام قد ثبت أن أولي الأمر يلزم أن يكونوا معصومين، وثبت عقلا أنه ليس هناك من البشر من يرقى إلى هذا المقام غير أهل البيت.. فقد ثبتت بالضرورة عصمتهم.
على أن النقل قد أشار إلى عصمتهم بوضوح وصراحة، فهم العلماء الذين يرثون بعلمهم هذا إرث الأنبياء من العمة بوضوح وصراحة، عليهم من سبيل.
وأما الأدلة التي تشير إلى هذه العصمة وتوضح اختصاصهم بمقام ولاية الأمر من بعد النبي صلى الله عليه وآله، فإليك منها ما يلي:
دلالة آية التطهير على العترة من خلال العصمة
يقول الله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1).
إن الأمر الذي لا شك فيه أن هذه آية من آيات القرآن الكريم، ونحن نعلم أن القرآن منزه عن اللغط واللغو في الكلام، فإن ذلك نوع من العبث والباطل الذي لا يخالط القرآن بأي حال من الأحوال.
ولهذا فأي عبارة في القرآن الكريم وأي كلمة تضمنتها آياته لم توضع عبثا دون أن تحتوي على معنى له أثر أساسي في تشكيل معنى الآية التي فيها تلك الكلمة. ولهذا لا يمكن مثلا أن نتجاوز كلمة (إنما) المذكورة في الآية التي نحن بصددها، ولا يمكن
____________
1 - الأحزاب: 33.
(يطهركم)، بأن يقول (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم)، فكان يمكن أن تكون الآية بعد إسقاط العبارات كالآتي:
(يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم) ، فما الإشكال في هذا؟!
إذا المعنى كما يبدو في الظاهر محفوظ، وهو تطهير أهل البيت وإذهاب الرجس عنهم!
ولكن هذا نظر من لم يعرف للقرآن قدره واكتفى منه بالسطح والقشور.. فالمعنى أوسع من أن نلتمسه في ظاهر الألفاظ دون الغوص في أعماق معانيها، والتدبر في دقائقها ولطائفها.
من الخطأ أن نكتفي من عبارة (يريد الله) بمفهوم الإرادة، دون تحديد أي إرادة هي، ومدى تعلقها بالمراد. كما أنه من الخطأ أن نكتفي من عبارة (ليذهب) بمعنى الإبعاد، دون أن نتدبر في كيفيته، ودون أن نربطه بنوع الإرادة التي تم بها هذا الاذهاب.
وعموما فمن الخطأ الفاضح أن لا نستخلص من معنى الآية، بعد التدبر فيها، خصوصية تميز أهل البيت عن سائر الناس. وعندئذ تنكشف حقائق ما كنا لنراها لو قنعنا بشكل الحروف وصور الألفاظ من هذه الآية.
إن الرجس هو كل قذر، حسا ومعنى. والمعني منه هنا ما يتعلق بالنفس الإنسانية من قذارة الذنوب والمعاصي: سواء أكبرت فصارت شركا، أو صغرت فشملت ما دون ذلك. وإذهابها هو إبعادها وإزالتها وتطهير النفس منها تطهيرا لا يعقبه تقذر أو تلوث بها.
ولكن، كيف يتم إذهاب الذنوب والمعاصي وقاذورات النفس من الأخطاء والقبائح؟ وبأي أسلوب يتم ذلك؟
إن تطهير النفس البشرية لهو من الأهداف الأساسية لهذا الدين، بل هدف لكل الأديان السماوية. وهو يتم في الغالب عن طريق أداء التكاليف التي أوجبها الله على
إن هذه الإرادة التي تستتبع تطهير النفس البشرية لا تتحقق إلا بأداء التكليف والشرع، فهي إرادة يمكن أن تتعلق بالفعل البشري الاختياري، ويمكن أن لا تتعلق به، لأن سبيلها هو القيام بأداء التكليف في الواقع، ومرادها عبر هذه الواسطة هو التطهير، ولهذا يمكن أن يتحقق ما أراده الله، ويمكن أن لا يتحقق، لأن الإنسان مختار في أداء التكاليف دون جبر من الله تعالى، فإذا أدى ما عليه من تكليف على النحو المطلوب طهر وذهبت ذنوبه فيتحقق ما أراده الله، وإذا لم يؤد ما عليه من تكاليف بقي في أدرانه النفسية ولا يطهر فلا يتحقق المراد، فالمسألة موصولة بموقف الإنسان من أداء التكاليف.
ولا غضاضة في أن لا يقع ما يريده الله تعالى عن طريق الإرادة التشريعية، لأن مدار الإرادة هذه هو فعل المكلف الاختياري.
ثم إن هذه الإرادة التشريعية لا تختص بأحد دون أحد أو قوم دون قوم، ذلك لأن كل الناس مطالبون بأداء التكاليف، فيكون الله تعالى قد أراد لهم جميعا التطهير من الذنوب والرجس.
إذا، فهي إرادة شاملة لكل فرد من المسلمين، ولا يتحتم تحققها، لأن من الناس من يقوم بأداء التكاليف، ومنهم من لا يعبأ بذلك.
ولكن كيف تستقيم عمومية الإرادة التشريعية هذه وشمولها لكل فرد وعدم اختصاصها بأحد من المسلمين مع الحصر الوارد في الآية الكريمة، والواضح في لفظة (إنما) التي تفيد الحصر كما هو معلوم؟
وكيف تستقيم تلك العمومية مع اختصاص الإرادة بالتطهير بفئة معينة من الناس؟
وكيف يستقيم أن تكون الإرادة تشريعية شاملة لكل فرد، عبر أداء التكاليف ومن خلال القيام بالشرع، وقد اختص الخطاب بأهل البيت دون غيرهم من الناس، كما هو واضح في الآية؟! إن أهل البيت ليس وحدهم المطالبين بأداء التكاليف والالتزام
وهنا يجب أن نعلم أن الحصر الوارد في الآية واختصاص التطهير بأهل البيت ينفي أن تكون الإرادة هنا إرادة تشريعية تقتضي العموم، ولذا فهي إرادة من إرادات الله التكوينية التي تتعلق بما يصدر من الله تعالى من أفعال، ولا يتصور انفكاكها عن الفعل الصادر منه تعالى. فلا يريد الله تعالى بهذه الإرادة التكوينية شيئا إلا حدث.. فإرادته هي فعله، وفعله هو إرادته. وإرادة الشئ تكوينيا تعني إيجاده وخلقه وتحققه بلا انفصال.
ويصور الله تعالى هذا المعنى في قوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (1).
فهذا هو الايجاد والخلق. وهذه الإرادة - كما وضح - تختلف عن تلك التشريعية، فالمكلف إذا صلى وصام مثلا يتم ما أراد له الله تعالى من تطهير، ولكن إذا لم يؤد ذلك لا يتحقق تطهيره.
إذا، فالإرادة التكوينية هي إرادة خاصة لا تنفك عن المراد بتاتا. ولعدم عمومية هذه الإرادة، فهي تستقيم مع الحصر والتخصيص الوارد في الآية. ولعدم انفكاكها عن المراد فقد وقع إذا بها التطهير لأهل البيت عن الرجس والذنوب والمعاصي والقبائح. ومن وقع له ذلك التطهير بها يلزم أن يكون معصوما، وإلا فلا معنى للتخصيص ولعدم انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد.
ولهذا.. فأهل البيت معصومون، وهذا هو المطلوب.
ثم إن هذا التطهير ما هو إلا ذلك العلم اليقيني اللدني الذي ليس بينه وبين نفوس العترة أي تناف أو ثنائية تجعلهم كوعاء له، بل هو علم مازج النفس منهم تمازجا ذاتيا واتحدبها اتحادا معنويا، كما يتضح من عدم افتراقهم عن القرآن في حديث الثقلين.
فالعترة هم - كما عرفهم النبي صلى الله عليه وآله - ويكون القرآن حياتهم لا غير، وما في ذلك إلا العصمة.
ولما كان الله تعالى قد أنزل كل شئ بقدر معلوم يتطابق مع طاقة وسعة الشئ فإنه
____________
1 - يس: 82.
وهم بهذا العلم - كما أوضحنا في بحث العصمة - عرفوا حقائق الأشياء وقبيح الذنوب معرفة ذاتية لا وصفية، فنفرت منها نفوسهم، إذ لا تشابه: فهي نفوس عظم فيها الله وامتلأت به نورا..
فهل يبقى مجال للتفكير في اجتناب ظلمات المعاصي فضلا عن ارتكابها؟!!
دلالة حديث الثقلين على عصمة العترة
إن حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة المستفيضة، وهو من الآثار التي وقفت بشدة أمام أشد الناس تعصبا ضد أهل البيت.
إن ابن تيمية المعروف بإنكاره لكل فضيلة من فضائل أهل البيت، والثائر على كل منقبة من مناقبهم قد امتدت ثورته بلا حياء ضد فضيلة أهل البيت في حديث الثقلين!
فلقد سعى الرجل بكل ما أوتي من بغض لعترة النبي صلى الله عليه وآله إلى نفي الأمر باتباع العترة في هذا الحديث، لعله يخفف من وزن الثقل الثاني فيه بإنكاره إياه.
يقول ابن تيمية: " الحديث الذي في مسلم.. ليس فيه إلا الوصية باتباع الكتاب وهو [ صلى الله عليه وآله ] لم يأمر باتباع العترة [ عليهم السلام ]، ولكن قال: أذكركم الله في أهل بيتي "!
____________
1 - البقرة: 282.
وقبل أن ينكشف أمر الشيخ، علينا أن نقرأ حديث الثقلين في صحيح مسلم:
قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: " ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ".
إن هذا الحديث من الأحاديث القاصمة لكل من ناصب البيت النبوي العداء أو أظهر استهانة بأمرهم. كما إنه صرخة في مسامع من وضعوا أصابعهم في آذانهم أو استغشوا ثيابهم. كما أنه ذكرى طيبة لمن آمن بالله وأخذ بالثقلين وألقى السمع وهو بصير.
إن هذا الحديث مصيف ترتاح على كلماته لهفات من يكن لأهل العباءة والكساء الخيبري والمرط المرجل بالشعر الأسود محبة وودادا لا ينضبان، ألزمهم بالاتباع واتخاذ القدوة فيهم.
أما ابن تيمية فقد صد ولج، وتعاطى فعقر، وفصل الثقلين وأبى إلا الشقاق.
إن أول الحديث يفضح ابن تيمية ويهيل التراب على رأسه، لقد ذكر ابن تيمية أن النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر باتباع العترة، وبالتالي فهو ينكر أنهم الثقل الثاني! لا بأس، فليقل ما يشاء، ولكن عليه أن يثبت ما يقول.
إن الرسول صلى الله عليه وآله قد قال في بدء الحديث: " وأنا تارك فيكم الثقلين "، فلو كان القرآن هو الثقل الأول، واستنكر ابن تيمية أن تكون العترة هي الثقل الثاني.. فعليه أن يدلنا على ثقل ثان حتى لا يكذب النبي صلى الله عليه وآله حيث قال صلى الله عليه وآله: " وأنا تارك فيكم الثقلين ". فإما أن يكونا ثقلين حقا، أو يكون النبي صلى الله عليه وآله قد قال ما ليس بحق، وهو الكذب!
وعلى هذا الأساس، فابن تيمية ينتظر من إنكاره الثقل الثاني أن يصدقه الناس ويتبعوه على ذلك ويكذبوا النبي الصادق ويخالفوه!!
ولو كان لا بد لابن تيمية من ثقل ثان - وبالطبع لا بد له من ذلك - فمن ذا الذي يطمئن إليه ابن تيمية، في مقام الثقل الثاني، غير أبناء الرسول وأهل بيته؟
لقد ذهب ابن تيمية وما يعتقد، فعلى أتباعه أن يعلموا أن ابن تيمية لم يكن يرى باتباع العترة النبوية، على الرغم مما قاله فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله!
عن زيد بن أرقم، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: من أراد أن يحيا حياتي ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد وعدني ربي، فليتول علي بن أبي طالب، فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة " (1).
وعلي عليه السلام هو رأس العترة وسيدها، وهو رأس الثقل الثاني بلا ريب، وتأتي من بعده ذريته من أبنائه العلماء.
يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وآله: " يا أيها الناس، إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل " (2).
وأرجو أن لا تكون قد ذهبت بابن تيمية الأباطيل، فتذهب باتباعه أيضا.
إن حقانية اتباع العترة المحمدية لهو من بديهات العقول، فالرسول صلى الله عليه وآله لما علم أنه مجيب رسول به أخبر الناس بأنه ترك لهم الثقلين. ولا معنى لهذه الوصية، ولا معنى للثقلين لو لم يكن فيهما القدوة والاقتداء. ولا معنى لتقديم القول في دنو الأجل لو لم يكن النبي صلى الله عليه وآله يريد توضيح مقام المتبع والمقتدى به من بعده.
ولكن ابن تيمية لم يفهم ذلك، وبدلا من الفهم السليم واتباع ما ينبغي له اتباعه.. سار على إرضاء الفطرة الأموية التي رضعها من صدر الدولة الأموية!
ولو ظن ابن تيمية أن قول النبي صلى الله عليه وآله " أذكركم الله في أهل بيتي " ليس فيه إشارة إلى اتباعهم فهو مخطئ، إذ أن تذكير النبي صلى الله عليه وآله الناس بالله في أهل بيته ليس الغاية منه منع
____________
1 - المستدرك للحاكم 3: 128، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
2 - الصواعق المحرقة لابن حجر ص 105 (وقد مر عليك).
فأهل البيت كالنبي صلى الله عليه وآله في حرصهم على نجاة الناس وهدايتهم، وكالنبي صلى الله عليه وآله في رأفتهم بالمؤمنين ورحمتهم بهم.. ولهذا، فهم يألمون إذا خالفهم الناس، ويتأذون إذا لم يتبعوهم، وهذه أكبر أذية لهم من الناس.
فاسمع كيف يتألم العترة علي عليه السلام من مخالفة القوم له، وهو يتعجب من ذلك أشد العجب: " فيا عجبي! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها؟! لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي " (1).
ونحن نعلم أن مفارقة الناس ومخالفتهم لأهل البيت يؤلم العترة بلا ريب. ولما فهم من قوله: " أذكركم الله في أهل بيتي " وجوب تجنب إيذائهم ونهي النبي صلى الله عليه وآله الناس من إيلامهم تحتم إذا اتباعهم، لأن المخالفة تؤذيهم بلا شك، وإيذاؤهم ممنوع بالنصوص، فإنه لا يمكن أن تفرح الزهراء بمخالفة الناس لأمير المؤمنين علي عليه السلام، بل يشتد غضبها، وغضبها غضب النبي صلى الله عليه وآله، وغضبه غضب الله بلا ريب.. فلا حل لهذا إلا الاتباع الصادق لعترة النبي صلى الله عليه وآله.
ونسأل شيخ الوهابية وأتباعه: ماذا أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يكتب للناس عندما قال لهم: " هلم - أو قربوا - أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده "؟!
لو كان النبي صلى الله عليه وآله آمرا باتباع القرآن وحده فلم أخرج الناس من حجرته غاضبا لما قالوا: عندنا القرآن، حسبنا كتاب الله.. وقال لهم قوموا؟! فماذا أراد أن يكتب لهم في ذلك الوقت؟
بالتأكيد لم يكن النبي الكريم يريد كتابة وتدوين السنة، فهو إن لم يكتبها لهم في
____________
1 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 145 - الخطبة رقم 84.
ولو كان يريد أن يكتب لهم باتباع الكتاب وحده، فقد سبقه ابن الخطاب بذلك لما قال: " حسبنا كتاب الله "، ولكن لم يقبل منه، بل غضب لذلك وأخرجهم، كما عرفت.
إن ما أراد النبي صلى الله عليه وآله كتابته للناس في لحظة احتضاره إذا هو الثقل الثاني، ليعمل به إلى جانب الثقل الأول من أجل أن تتحقق لهم النجاة من الضلال. ولما لم يكن ما أراده هو تدوين السنة فهو الوصية: العترة، بلا شك، إلى جانب القرآن.
فالعترة هي الثقل الثاني، واتباعها هو اتباع القرآن. وهذا هو بعينه ما فهمه عمر، واعترف به لابن عباس، كما سيأتي.
على أن ما ذكرناه تؤيده روايات الحديث الأخرى، وتشرح ما جاء في رواية مسلم:
عن زيد بن أرقم، قال: " رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي. وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (1).
كما روى أحمد بن حنبل أنه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (2).
وبهذه الروايات الواضحة تتضح حقيقة أهل البيت، وتظهر عصمتهم في أجلى مظاهرها، وتصرح بها عبارات الحديث في بلاغة وفصاحة يعيها من تدبر وتفكر.
إن التدبر في العبارة أعلاه يزيل كل شكوك تثار حول مسألة عصمة أهل البيت، وبه يزول كل ما أثاره الناصبون من غبار حول أهل البيت وعصمتهم.
____________
1 - مستدرك الحاكم 3: 148 - كتاب معرفة الصحابة، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
2 - مسند أحمد بن حنبل 3: 17، المستدرك للحاكم 3: 148 (حديث صحيح..).
إن الافتراق الذي نفاه النبي صلى الله عليه وآله بين الثقلين وضح عدم إمكانية حدوثه، لأن أداة النفي " لن " تؤكد عدم إمكانية الحدوث، وعبارته صلى الله عليه وآله: " حتى يردا علي الحوض " تبين عدم الافتراق بين الثقلين إلى يوم القيامة، فهما متلازمان معا أبدا ما بقي الزمان والمكان.
ولكن.. ما هو نوع المعية بين الثقلين؟!
وما هي كيفية الملازمة بينهما؟ علما أن الملازمة إما أن تكون مادية، وهو تلاقي الأشياء بعضها ببعض، كتلاقي جسمين متباينين جنبا إلى جنب. ويكون تلاقي الثقلين على هذا المعنى هو اصطحاب العترة لصحائف الكتاب، سواء بحملها بالأيدي أو بوضعها بالقرب منهم. وبعبارة أوضح هو عدم بقاء أحدهم إلا وفي صحبته مصحف.
ولكن هذا المعنى لا يستقيم ولا يتفق مع اختصاصهم برفقة القرآن، وذلك لوجوه:
أولا: إن عدم مفارقة الكتاب بهذا المعنى المادي لا يختص بأحد من الناس، بل حتى غير المسلمين يمكن لهم مرافقة القرآن بهذا المعنى واصطحابه أينما حلوا. ولهذا فليس في ذلك خصوصية أو أفضلية لأهل البيت، إذ يشاركهم في ذلك جميع الناس.
ثانيا: إن النفي يؤكد عدم الافتراق بين الثقلين إلى يوم ورود الحوض. وعدم مفارقة القرآن على هذا المعنى أمر محال، فالنوم والموت والمرض كل ذلك من مسببات الافتراق بين العترة والكتاب.
إذا، فليس هو المقصود من عبارة: " لن يفترقا حتى يردا على الحوض ". وما ذكرناه في ذلك بديهي للغاية.
ولا يبقى إذا إلا المعنى المعنوي للمعية والتلازم بين الثقلين، إذ بذلك تبقى المعية أبدا ويظل التلاقي بينهما حتى بلوغ الحوض، ولا يؤدي النوم أو المرض أو الموت حالتئذ
وبهذا نفهم أن القرآن بمعانيه وأحكامه وأوامره ونواهيه وحكمه وأسراره وأغواره وكل علومه من لوازم أنفس العترة، إذ أنهم حملة القرآن ومخازن أسراره والمؤتمنون عليه.
وبهذا نستطيع بكل سهولة أن ندرك من هم أهل الذكر (1)، ومن هم الراسخون في العلم (2).. وهذا هو معنى عدم الافتراق بين الثقلين، وهذه هي المعية بين العترة والكتاب والقرآن بهذا المعنى يمثل صميم حياة وسيرة العترة من حيث الالتزام بالكتاب والعمل به.
وعدم الافتراق المقصود هو - في حده الأدنى - عدم مخالفتهم للقرآن في شئ ما دامت الحياة بل حتى ورود الحوض، بل هو تجسد كتاب الله تعالى فيهم بكل أبعاده وكل آفاقه. ومن هنا يتضح معنى وجوب التمسك بهم كوجوب التمسك بالقرآن.
إذا، فهذا الانسجام من حيث المعاني بين الكتاب والعترة هو انسجام لا ينفك واتحاد لا يتجزأ. والتفكيك بينهما محال إلا لفظا وتصورا، وإلا فالثقلان في واقع الأمر هما ثقل واحد، لأن العترة وحياتها القرآنية شئ واحد كوحدوية أي فرد في حياته التي يعيشها، فلا يقال هذا فلان وهذه حياته كل على حدة، فحياة فلان هي حياة، إذ هي طراز تفكيره وأخلاقه وسيرته وديدنه وتصرفاته التي يبنيها على ما جبل عليه أو تعلمه منذ صغره.
وعلى هذا، فلا بد أن يتحقق التشابه الكامل بين القرآن والعترة، ولا بد أن تتوفر صفاتهما بعضا لبعض ولا بد أن يشتركا في كل خصوصية وصفة.
ولما كان القرآن لا يأتيه الباطل بأي نحو كان وقد تكفل الله بحفظه وصيانته في كل آن كانت العترة كذلك: لا يداخلهم الباطل في حياتهم، إذ قد حفظوا من قبل الله تعالى.
ولا يتصور ذلك إلا بعصمتهم من الذنوب والآثام والأخطاء والقبائح.
ولو كان فيهم شئ من ذلك - وهم لا يفارقون القرآن - وجب أن يكون في القرآن شئ من تلك القبائح أيضا لعدم افتراقهم إلى يوم القيامة.. ولهذا قال علي سيد العترة عليه السلام:
____________
1 - قال تعالى: " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "، النحل: 43.
2 - " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم "، آل عمران: 7.