الصفحة 199

ويروى: جاء حبر من الأحبار إلى الرسول (ص) فقال يا محمد. إنا نجد أن الله يحمل السموات على إصبع. والأرضين على إصبع. والشجر على إصبع.

والماء والثرى على إصبع. وسائر المخلوقات على إصبع.. فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر (1)..

ويروى عنه (ص): " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه " (2)..

ويروى عنه (ص): " لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه. فتقول قط. قط وعزتك " (3)..

وفي رواية أخرى: ".. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله " (4)..

ويروى عنه (ص): " أن الله خلق آدم على صورته " (5)..

ويروى عنه (ص): " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن " (6)..

ويروى عنه (ص): " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه. فإن الله قبل وجهه " (7)..

ويروى عنه (ص): " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته " (8)..

ويروى عنه (ص): " يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة " (9)..

____________

(1) مسلم كتاب صفات المنافقين. والبخاري كتاب التفسير.

(2) مسلم كتاب صفات المنافقين والبخاري كتاب الرقاق.

(3) مسلم كتاب الجنة والبخاري كتاب الإيمان والنذور.

(4) مسلم كتاب الجنة. والبخاري كتاب التفسير.

(5) مسلم باب النهي عن ضرب الوجه. كتاب البر والصلة.

(6) البخاري كتاب التفسير.

(7) مسلم والبخاري كتاب الصلاة.

(8) المرجعين السابقين..

(9) مسلم كتاب الإمارة. والبخاري كتاب الجهاد.


الصفحة 200
ويروى عنه (ص) أنه قال لجارية: " أين الله؟ " قالت: في السماء. قال:

" أعتقها فإنها مؤمنة " (1)..

ويروى عنه (ص): " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا " (2)..

ويروى عنه (ص): " العرش فوق الماء والله فوق العرش " (3)..

ويروى عنه (ص): " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان " (4)..

ويروى عنه (ص): " إن قلوب بني آدم إصبعين من أصابع الرحمن " (5)..

ويروى عنه (ص): " إن ربكم ليس بأعور " (6)..

ويروى عنه (ص): " يدي الله ملأى سماء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يفض في يمينه " (7)..

ويروى عنه (ص): " يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه.

فيتبعون ما كانوا يعبدون. وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تعالى في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله تعالى منك. هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه. فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا " (8)..

ويروى عنه (ص): " خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن - أي ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف - فقال سبحانه: مه.

قالت: هذا المقام العائذ بك من القطيعة " (9)..

____________

(1) مسلم كتاب الجنائز.

(2) البخاري كتاب التوحيد وكتاب التهجد وكتاب الدعوات. ومسلم كتاب صلاة المسافرين.

(3) رواه أبو داود والترمذي. أنظر كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ص 212.

(4) مسلم كتاب الزكاة.

(5) مسلم كتاب القدر.

(6) مسلم والبخاري كتاب الفتن..

(7) البخاري كتاب التفسير ومسلم كتاب الزكاة..

(8) مسلم كتاب الإيمان..

(9) البخاري كتاب التفسير ومسلم.


الصفحة 201
ويروى عنه (ص): " حجابه - أي الله سبحانه - النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " (1)..

ويروى عنه (ص): " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " (2)..

والظاهر من هذه الروايات إنما تؤكد فكرة التجسيم وتشبيه الله سبحانه بمخلوقاته بصورة فجة ومستفزة..

فالرواية الأولى تثبت لله الجهة والمكان..

والثانية تثبت لله صفة الفرح..

والثالثة تثبت لله صفة الغيرة..

والرابعة تؤكد نفس الصفة..

والخامسة تثبت لله صفة التكلم المباشرة مع المخلوق..

والسادسة تثبت أن لله أصابع وأن الرسول (ص) يقر الحبر اليهودي على صحة هذه الصفة كما هي في التوراة..

والسابعة تثبت لله صفة القبض باليد اليمنى واليسرى..

والثامنة تثبت أن لله قدما..

والتاسعة تثبت أن لله رجلا..

والعاشرة تثبت أن صورة آدم هي صورة الله..

والحادية عشر تثبت أن لله ساق..

والثانية عشر تثبت أن الله يقف قبل وجه المصلي..

والثالثة عشر تثبت رؤية الله بالعين المجردة..

والرابعة عشر تثبت أن الله يضحك..

والخامسة عشر تحدد مكان الله في السماء..

____________

(1) ابن ماجة باب فيما أنكرت الجهمية..

(2) أبو داود كتاب اللباس.


الصفحة 202
والسادسة عشر تثبت أن الله يهبط إلى الدنيا كل ليلة..

والسابعة عشر تثبت أن عرش الرحمن فوق الماء وأن الله فوق العرش.

والثامنة عشر تثبت أن الله سوف يتكلم مع الناس دون وسائط..

والتاسعة عشر تثبت وجود الأصابع لله..

والعشرون تنفي عن الله صفة العور فهي تؤكد بالتالي أن له عين..

والإحدى والعشرين تثبت لله اليدين..

والثانية والعشرين تثبت أن أمة محمد تعرف صورة الله مسبقا وأن الله سبحانه يأتيهم متنكرا فيكشفون تنكره فيعود إليهم بهيئته التي يعرفونها فلا ينكرونه..

والثالثة والعشرين تثبت أن لله ضلع وخاصرة وأن مخلوقاته تتمكن منه..

والرابعة والعشرين تثبت أن الله يبصر كبصر بشر. وأن هذا البصر محدود كما هو حال بصر البشر..

والخامسة والعشرين تثبت تمسك الله بأزياء البشر. وربط صفاته بأنواع الملابس السائدة..

ومن هنا يتضح لنا مدى خطورة مثل هذه الروايات على الإسلام وصورته التي تقترب بها هذه الروايات من صور الأديان السابقة التي دخلت مجال التشبيه والتجسيم وتأليه البشر..

إن مثل هذه الروايات تعطينا دلالة قاطعة على أن الأمة المسلمة قد انحرفت عن نهج الرسول ودخلت في متاهة الأحبار والرهبان وعبادة الرجال والتي حذرها منها الرسول بقوله (ص): " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم ". قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟

قال: " فمن " (1)..

وإن مباركة الفقهاء لهذه الروايات لهو برهان ساطع ودليل قاطع على كونهم أخذوا مكان الأحبار والرهبان في إضلال هذه الأمة ونسبة التجسيم إلى الرسول..

____________

(1) البخاري كتاب الاعتصام. ومسلم كتاب العلم..


الصفحة 203
وسوف يتضح لنا من خلال استعراض نصوص الفقهاء حجم المتزلق الخطير الذي انزلقوا فيه مع هذه الروايات. ذلك المنزلق الذي تتضح مدى خطورته عند استعراض النصوص القرآنية المتعلقة بصفات الله سبحانه والتي أخضعوها لهذه الروايات الباطلة..

ومثل هذه الروايات لا مجال للمرونة في مواجهتها. فهي ليست روايات تتعلق بالأحكام أو الأخلاق أو حتى شخص الرسول. إنما هي تتعلق بالله سبحانه مباشرة. فمن ثم فإن نبذها يعد واجبا شرعيا وعقليا على كل مسلم يوحد الله وينزهه عن مشابهة البشر. ونبذها يتطلب نبذ أولئك الفقهاء الذين سلكوا سبيل الأحبار والرهبان وأضفوا على هذه الروايات التفسيرات والتأكيدات التي سلكت بها مسلك النصوص المعتمدة لتتلقاها الأمة بالقبول..

- نصوص الفقهاء:

تبنى الفقهاء في مواجهة الروايات السابقة منطق التسليم بمضمونها ما دام قد صح سندها وتناول هذا المضمون على أساس المجاز وهو ما سوف يتضح لنا من خلال عرض أقوالهم..

يقول أحمد بن حنبل: وعرش الرحمن فوق الماء والله على العرش والكرسي موضع قدميه. وهو على العرش فوق السماء السابعة. وللعرش حملة يحملونه والله يتحرك ويتكلم وينظر ويبصر ويضحك ويفرح ويحب ويكره..

وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء. وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد. وخلق آدم بيده على صورته.

والسموات والأرض يوم القيامة في كفه. ويضع قدمه في النار تنزوي. ويخرج قوما من النار بيده. وينظر أهل الجنة إلى وجهه يرونه فيكرمهم. والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق. ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر. ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول. ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي. ومن لم يكفر

الصفحة 204
هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم. وكلم الله موسى تكليما من فيه - فمه - وناوله التوراة من يده إلى يده ولم يزل الله عز وجل متكلما فتبارك الله أحسن الخالقين (1)..

ويقول صدر الدين الحنفي: الواجب أن ينظر في باب الصفات فما أثبته الله ورسوله أثبتناه. وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الاثبات والنفي. فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني. وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني (2)..

ويقول محمد بن الحسن الشيباني - صاحب أبي حنيفة -: اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله (ص) في صفة الرب عز وجل من غير تفسير - تأويل - ولا وصف ولا تشبيه.

فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي وفارق الجماعة - السلف - فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا (3)..

ويقول الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله. وآمنت برسول الله. وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله (4)..

وقال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس. وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول (5)..

ويقول موفق بن قدامة المقدس: وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف كلهم متفقون على الاقرار والامرار والاثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله. وقد أمرنا باقتفاء أثرهم والاهتداء بمنارهم وحذرنا المحدثات. وأخبرنا أنها من الضلالات (6)..

____________

(1) رسالة السنة بذيل الرد على الجهمية والزنادقة. ط السعودية.

(2) شرح الطحاوية في العقيدة السلفية ط القاهرة ص 158..

(3) نقد المنطق لابن تيمية ط القاهرة..

(4) مقدمة لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدس ط القاهرة..

(5) المرجع السابق..

(6) المرجع السابق..


الصفحة 205
ويقول ابن تيمية: ومن الإيمان بالله. الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصف به رسوله محمد (ص) من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك. فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر به في كتابه (1)..

وقد أجمع فقهاء السنة على وجوب رؤية الله يوم القيامة باعتبارها واجبة في النقل جائزة في العقل (2)..

وأجمعوا على إثبات صفة العلو أي أن الله في السماء. ومن تأول (فوق) بأنه خير من عباده وأفضل منهم فذلك مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة. وقد سئل أبو حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض. فقال: قد كفر. فقيل له فمن يقول إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟. قال: هو كافر. لأنه أنكر أنه في السماء. فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر (3)..

ويقول ابن رجب: إن قوما نفوا كثيرا مما ورد في الكتاب والسنة من ذلك - الصفات - وزعموا أنهم فعلوه تنزيها لله عما تقتضي العقول تنزيهه عنه وزعموا أن لازم ذلك مستحيل على الله عز وجل. وقم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين. وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها (4)..

ويقول الأشعري في رسالة أهل الثغر ناقلا إجماع أهل السنة على أن صفات الله حقيقة لا مجازا: واستدلوا على ذلك بأنه - سبحانه - لو لم يكن له عز وجل هذه الصفات لم يكن موصوفا بشئ منها في الحقيقة ومن لم يكن له فعل لم يكن

____________

(1) العقيدة الواسطية ط القاهرة.

(2) أنظر نصوص الفقهاء في الرؤية في كتب العقائد السابق ذكرها..

(3) العقيدة الطحاوية ص 225..

(4) جامع العلوم والحكم ص 365..


الصفحة 206
فاعلا في الحقيقة. ومن لم يكن له إحسان لم يكن محسنا. ومن لم يكن له كلام لم يكن متكلما في الحقيقة. ومن لم يكن له إرادة لم يكن في الحقيقة مريدا. وإن وصف بشئ من ذلك مع عدم الصفات التي توجب هذه الأوصاف له لا يكون مستحقا لذلك في الحقيقة وإنما يكون وصفه مجازا أو كذبا.. وذلك أن هذه أوصاف مشتقة من أخص أسماء هذه الصفات ودالة عليها. فمتى لم توجد هذه الصفات لمن وصف بها كان وصفه بذلك تلقيبا أو كذبا فإذا كان الله عز وجل موصوفا بجميع هذه الأوصاف في صفة الحقيقة وجب إثبات الصفات التي أوجبت هذه الأوصاف له في الحقيقة إلا كان وصفه بذلك مجازا..

وأجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى وأن له تعالى يدان مبسوطتان وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوازا وأن يديه تعالى غير نعمته. وقد دل على ذلك تشريفه لآدم (ع) حيث خلقه بيده..

وأجمعوا على أنه يجئ يوم القيامة والملك صفا صفا.. وأنه عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا كما روي عن النبي (ص) وقد نزل الوحي على النبي..

وأنه تعالى فوق سموات على عرشه دون أرضه.. وأن له عز وجل كرسي دون العرش وجاءت الأحاديث عن النبي (ص) أن الله تعالى يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه..

وأجمعوا على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة باين وجوههم. وقد بين ذلك النبي ورفع كل إشكال فيه (1)..

وقال الجويني: صفات الله النفس والوجه والعين والقدم واليدين والعلم والنظر والسمع والبصر والإرادة والمشيئة والرضى والغضب والمحبة والضحك والعجب والاستحياء والغيرة والكراهة والسخط والقبض والبسط والقرب والدنو والفوقية والعلو والكلام والسلام والقول والنداء والتجلي واللقاء والنزول والصعود والاستواء. وأنه تعالى في السماء. وأنه على عرشه بائن من خلقه (2)..

____________

(1) أصول عقيدة أهل السنة برسالة أهل الثغر. ط القاهرة.

(2) الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول. نقلا عن نقد المنطق..


الصفحة 207
وقال مالك: إن الله في السماء وعلمه في كل مكان (1)..

وقال ابن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سمواته على العرش بائنا من خلقه لا نقول كما قالت الجهمية إنه ها هنا. وأشار إلى الأرض (2)..

وقال إسحاق: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه أو وصفه بها الرسول عن جهتها لا بكلام ولا بإرادة. إنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته (3)..

ويروى عن مالك والأوزاعي وسفيان والليث وأحمد بن حنبل أنهم قالوا في روايات الصفات: أمروها كما جاءت (4)..

ومما سبق يتبين لنا أن الفقهاء تبنوا روايات الصفات على حقيقتها ورفضوا فكرة التأويل وحملها على وجه المجاز وأنكروا ذلك على من قال به بل رموه بالزيغ والضلال والكفر في بعض الحالات كما هو واضح من كلام ابن حنبل وأبي حنيفة..

ويبدو أن التشدد في مسألة الروايات الخاصة بالصفات والتعصب لها يأتي من جانب الحنابلة الذين يؤمنون بالمأثور ويرفضون الأخذ بالرأي وهو الاتجاه الذي ساد في أواخر العصر العباسي ثم حل محله اتجاه الأشاعرة الذي تبنته دولة السلاجقة ودولة الأيوبيين ثم دولة المماليك. فمن ثم فعندما يطلق لفظ أهل السنة فإنما يشمل الحنابلة أولا ثم الأشاعرة ثانيا..

ولقد أسرف الحنابلة في التمسك بالروايات وتبني فكرة التجسيم ولم يرحموا خصومهم من التيارات الأخرى مثل الشيعة والمعتزلة والجهمية وحتى الأشاعرة الذين يعتبروا من طينتهم. فكل أولئك اتهموا بالزيغ والضلال واعتبروا من أهل البدع الذين يجب مجانبتهم واستئصالهم (5).

____________

(1) المرجع السابق..

(2) المرجع السابق..

(3) المرجع السابق..

(4) المرجع السابق..

(5) أنظر كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه لابن الجوزي ط القاهرة الذي انشق على الحنابلة وأعلن رفضه لعقيدتهم في صفات الله وقولهم بالتجسيم وتعلقهم بالروايات محل شك من ناحية السند..


الصفحة 208
يقول ابن حنبل: وأما أصحاب الرأي - الذين يأخذون بالمجاز ويؤمنون بالعقل - فإنهم يسمون أصحاب السنة نابتة وحشوية. وكذب أصحاب الرأي أعداء الله.. بل هم النابتة والحشوية. تركوا آثار الرسول (ص) وحديثه وقالوا بالرأي.

وقاسوا الدين بالاستحسان وحكموا بخلاف الكتاب والسنة وهم أصحاب بدعة جهلة ضلال وطلاب دنيا بالكذب والبهتان (1)..

ونفس هذا النهج الانفعالي المتعصب للرواية المعادي للرأي الآخر انتهجه الحنابلة من بعده. وفي مقدمتهم ابن تيمية الفقيه المشاغب الذي قال بالتجسيم واصطدم بفقهاء عصره وصدرت فتوى بكفره وكفر من اتبعه وصدر مرسوم بحبسه عدة مرات حتى مات في حبسه الأخير (2)..

ومن بالغ الحزن والأسى أن اتجاه الحنابلة الذي يتميز بالإنغلاق والتشدد وتبني التجسيم هو الذي ساد اليوم بسبب الحركة الوهابية ونفط آل سعود الذي سهل عملية اختراق المؤسسات والتيارات الإسلامية واستقطاب رموزها (3)..

ولقد طعن الكثير من الفقهاء القدامى والمعاصرين في روايات الصفات على أساس كونها روايات آحاد لا يجوز الاعتماد عليها في أمور العقيدة..

يقول صدر الدين الحنفي: خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له - يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة وهو أحد قسمي المتواتر ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع كخبر عمر بن الخطاب: إنما الأعمال بالنيات.

وخبر أبي هريرة: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها..

وكان رسول الله (ص) يرسل رسله آحادا. ويرسل كتبه مع الآحاد. ولم يكن المرسل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد (4)..

____________

(1) رسالة السنة..

(2) أنظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ح‍ 1. وهو يحوي تفاصيل الفتن التي أشعلها ابن تيمية والمحاكمات التي عقدت له..

(3) أنظر لنا كتاب فقهاء النفط. وكتاب مدافع الفقهاء..

(4) شرح العقيدة الطحاوية ص 289.


الصفحة 209
وهذا الرد فيه استغفال وسذاجة..

أما الاستغفال فهو أن صاحب هذا الكلام قد ادعى أن خبر الواحد تلقته الأمة بالقبول. وهذا غير صحيح. والصواب أن يقول تلقاه الفقهاء بالقبول لأن هناك خلاف حول الأخذ به بين طوائف الأمة واتجاهاتها.

إلا أن مثل هذا الكلام يشير إلى نزعة التعصب والاستبداد الذي يتحلى به أهل السنة والذين بتحالفهم مع الحكام ودعمهم لهم تصوروا أنهم الأمة والأمة هم. وهذا ما يقودهم إلى تداول مثل هذه الشعارات وهو ما برر قول صاحبنا أن خبر الواحد يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة..

وأما السذاجة فهو استدلاله برسل النبي إلى القبائل والبلاد وهو استدلال فيه استخفاف كبير بالعقل. إذ أن هذا المبعوث الواحد يتحدث بلسان الرسول الحي.

أما الراوي الواحد فهو يتحدث بلسان الرسول الميت..

هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن المبعوث الواحد معه كتاب أو برهان يثبت صدقه وكونه. مبعوث النبي. أما ناقل الخبر فما هو برهانه؟

ومن هنا يمكن القول إن هناك ثلاثة توجهات أمام مسألة الصفات وهو ما يتضح من خلال أقوال الفقهاء:

الأول: أن هذه النصوص - قرآن وسنة - يفوض معناها إلى الله ويكف عن الخوض فيها وهو اتجاه بعض السلف.

الثاني: أن هذه النصوص تخضع للتأويل وتحمل على المجاز وهو اتجاه الخلف..

الثالث: أن هذه النصوص تؤخذ على الحقيقة. وهو اتجاه أهل السنة وهو الاتجاه السائد لدى التيارات الإسلامية والوهابية..

- نصوص القرآن:

ومثلما حمل الفقهاء روايات الصفات على الحقيقة حملوا أيضا نصوص القرآن المتعلقة بصفات الله على الحقيقة..

وسوف نعرض هنا لهذه النصوص وأقوال الفقهاء فيها..


الصفحة 210
يقول سبحانه: (.. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) [ المائدة: 64 ] ويقول: (.. لما خلقت بيدي) [ ص: 75 ].

ويقول: (تبارك الذي بيده الملك) [ الملك: 1 ].

ويقول: (أولم يرو أنا خلقنا لهم مما علمت أيدينا أنعما) [ يس: 71 ]..

قال الفقهاء: الاجماع على إثبات اليدين لله سبحانه بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل وهما يدان حقيقيتان لله تعالى يليقان به (1)..

وقال أبو حنيفة: له يد ووجه ونفس كما ذكر تعالى في القرآن فهو له صفة بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة (2)..

ويقول سبحانه: (وجاء ربك) [ الفجر: 22 ].

ويقول: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله..) [ البقرة: 210 ]..

يقول الفقهاء: الاجماع على ثبوت المجئ لله تعالى فيجب إثباته له من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل وهو مجئ حقيقي يليق بالله تعالى (3)..

وقد رفض الفقهاء تأويل المجئ بمجئ أمره واعتبر القائلين بذلك من أهل التعطيل (4)..

ويقول سبحانه: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) [ المائدة: 119 ].

أجمع الفقهاء على إثبات الرضي لله تعالى من غير تحريف.. الخ. ونبذ تأويل الرضا بالثواب ()..

ويقول سبحانه: (وذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله) [ محمد: 28 ].

ويقول: (.. كره الله انبعاثهم) [ التوبة: 46 ].

____________

(1) أنظر شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين. ط القاهرة..

(2) الفقه الأكبر لأبي حنيفة. نقلا عن شرح الطحاوية..

(3) شرح لمعة الاعتقاد..

(4) المرجع السابق..

(5) المرجع السابق..


الصفحة 211
قال الفقهاء: الاجماع على ثبوت السخط والكره من الله. وهو سخط وكره حقيقي. ورفض تأويل السخط بالانتقام والكره بالابعاد (1)..

ويقول سبحانه:) أأمنتم من في السماء) [ الملك: 16 ]..

قال الفقهاء: الاجماع على ثبوت علو الذات لله وكونه في السماء فيجب إثباته له من غير تحريف.. الخ (2)..

ورفضت الاتجاهات الأخرى القول بذلك واعتبرت أن المقصود من النص هو العلو والملك والسلطان..

ويقول سبحانه: (وكلم الله موسى تكليما) [ النساء: 164 ]..

ويقول: (.. منهم من كلم الله) [ البقرة: 253 ]..

أجمع الفقهاء على ثبوت الكلام لله وهو كلام حقيقي يليق بالله يتعلق بمشيئته بحروف وأصوات مسموعة (3)..

وقال المخالفون: كلام الله لا يكون إلا بواسطة عن طريق شئ من مخلوقاته وإضافة الكلام إلى الله إضافة خلق أو تشريف..

ويقول سبحانه: (وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة) [ القيامة: 22 ].

يقول الفقهاء: الاجماع على ثبوت الرؤية وهي رؤية حقيقية تليق بالله (4)..

وقال المخالفون: المقصود بالروية رؤية الثواب أو العلم واليقين.

والمقصود من قوله (ناظرة) أي منتظرة..

ويقول سبحانه: (الرحمن على العرش استوى) [ طه: 5 ]..

قال الفقهاء: اعتمد الفقهاء هذا النص على إثبات العلو لله سبحانه. أي علو ذاته وكونه في السماء. وأنه استوى حقيقة بلا كيف كما ورد عن مالك ابن أنس

____________

(1) المرجع السابق..

(2) المرجع السابق..

(3) المرجع السابق..

(4) المرجع السابق..


الصفحة 212
حين قال في هذه الآية: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة (1)..

وقال المخالفون: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء..

ويقول سبحانه: (كل شئ هالك إلا وجهه) (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام)..

قال الفقهاء: الاجماع على أن لله وجها على سبيل الحقيقة يليق به (2)..

وقال المخالفون: المراد بالوجه الذات..

ونخرج مما سبق بما يلي:

- إن الفقهاء يخضعون نصوص القرآن الخاصة بصفات الله سبحانه للروايات بدلا من أن يكلفوا أنفسهم البحث عن مدلولها الحقيقي..

- إن الفقهاء يصفون المخالفين لهم بالنفاة والمعطلة تارة وبالجهمية تارة وبالكفر تارة أخرى. والمعتدلون منهم يصفونهم بأهل الكلام الذي هو مذموم عندهم أيضا..

- إن الفقهاء يحاولون تصوير أهل المجاز والتأويل الذين خالفوهم وكأنهم يخالفون النصوص القرآنية ويرفضونها وذلك حتى ينفروا المسلمين منهم..

- إن تبني الفقهاء فكرة أخذ نصوص الصفات على الحقيقة مع تمسكهم بشعار لا كيف ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف هو عين التناقض. ولو كانوا صادقين مع هذا الشعار لما اصطدموا بأهل التأويل واتهموهم بالتحريف بينما هم المحرفون..

- إن تمسك الفقهاء بقوله تعالى (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) ليس إلا محاولة لإضفاء الشرعية على رؤيتهم. وأن الذين انضبطوا بهذا النص حقيقة هم أهل التأويل..

- إن قول الفقهاء لا يمثل الاجماع كما يدعون لا على مستوى السلف ولا على مستوى الخلف. وإنما يمثل على الأغلب اتجاه أهل السنة أو أهل الحديث كما يحبوا أن يصفوا أنفسهم الذين هم في الحقيقة الحنابلة والأشاعرة..

____________

(1) المرجع السابق..

(2) المرجع السابق. وانظر كتب العقائد وكتب التفسير وكتابنا: عقائد السنة وعقائد الشيعة..


الصفحة 213
- إن كثير من الفقهاء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام قد هاجموا هذا الاتجاه الذي يقود إلى التجسيم وأطلقوا على أصحابه وقف الحشوية. وهو تعبير عن كونهم لا يتحاشون عن التشبيه والتجسيم والحشو بكلام الرجال والتستر بالسلف الذين يقولون بالتفويض - أي تفويض معنى النص ومراده إلى الله - والتوحيد والتنزيه.


الصفحة 214

الصفحة 215

الرسول المهمل



الرسول الخاتم لا يهتم
بمستقبل الدين والأمة..



الصفحة 216

الصفحة 217
من أخطر ما يحاول الفقهاء والمحدثون نسبته إلى الرسول إهماله مستقبل الدعوة والأمة. ففي الوقت الذي تؤكد فيه النصوص القرآنية أن رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة ومحمد (ص) هو خاتم الرسل. يأتي الرواة بروايات تؤكد تناقض الرسول مع هذه الحقيقة وجهله بها. وجاء الفقهاء من بعدهم فباركوا هذا التناقض وأكدوا هذا الجهل..

ولقد كانت الكتب السابقة تحمل البشري للمؤمنين بقدوم نبي جديد يجدد أمر الدين وينهض بالأمة. وهذا يعني أن مستقبل الدعوات الإلهية لم يكن موضع إهمال..

وجاء القرآن بعشرات النصوص التي تتعلق بالمستقبل ليس في حدود الحياة الدنيا وحدها وإنما في حدود الحياة الأخرى أيضا (1)..

وبشر الرسول (ص) بكثير من القضايا المستقبلية التي تتعلق بآل بيته وبواقع الأمة من بعده. وبسلوك الحكام وفقهاء السوء وفتح الدنيا على المسلمين. وظهور الموبقات والفرق والخلافات (2)..

وفي وسط هذا الكم من النصوص القرآنية والنبوية يأتي الرواة والفقهاء فينسبون للرسول التقصير والاهمال في أخطر القضايا التي يتعلق بها مستقبل الدين الخاتم..

ينسبون إليه تقصيره في جمع القرآن وترتيبه وتركه مهملا متفرقا في صدور الناس هذا يحمل سورة وهذا يحمل آية وهذا يحمل كلاما ينسبه للقرآن..

____________

(1) أنظر سورة الإسراء آية رقم 7. وسورة الأحزاب آية رقم 64 ، 68. وسورة سبأ آية رقم 31 ، 33. وسورة النصر. وسورة الصف آية رقم 9. وسورة الانفطار وسورة الانشقاق..

(2) أنظر كتاب الفتن في البخاري ومسلم وكتب السنن الأخرى..


الصفحة 218
وينسبون إليه إهماله وصية أمته ووضع الخطوط العريضة التي تحفظ الدعوة بعد وفاته..

والسبب المباشر في نسبة هذا الاهمال للنبي (ص) يعود إلى أن الخوض في هاتين القضيتين يصطدم اصطداما مباشرا بالوضع الذي ساد بعد وفاة الرسول خاصة الوضع السائد زمن تدوين الروايات وجمعها..

إن الخوض في هاتين القضيتين سوف يفتح الباب لطرح المناوئ للوضع السائد ألا وهو طرح آل البيت الذي ينادي به الشيعة والذي يقول بالوصية لعلي وأبنائه ويقول بأن القرآن كان بحوزة آل البيت مجموعا ومرتبا وأن الرسول لم يهمل أمر القرآن والوصية..

- بين الروايات والفقهاء:

يروى عن زيد بن ثابت أن أبا بكر استدعاه أثناء حرب اليمامة. فإذا عمر عنده. قال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال إن القتل استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله (ص). قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. وإنك رجل شاب - أي زيد - عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فأجمعه. قال زيد: فوالله لو كانوا كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لك يفعله رسول الله.. قال: هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره.. فكانت الصحائف عند أبي بكر حتى توفاه الله. ثم عند عمر حياته. ثم عند حفصة بنت عمر (1)..

____________

(1) البخاري كتاب فضائل القرآن..


الصفحة 219
قال ابن حجر: المراد بالجمع هنا جمع مخصوص وهو جمع متفرقة في صحف ثم جمع تلك الصحف في مصحف واحد مرتب السور (1)..

وقال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون (ص) إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين بذلك وفاء لوعد الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة (2)..

ومجمل ما ذكره الفقهاء حول قيام أبو بكر بجمع القرآن لا يخرج عن كونه يدور في حدود الثناء تارة والتبرير تارة أخرى..

وتعد هذه الرواية المذكورة عاليا هي الرواية الوحيدة حول هذا الحدث الخطير. فمن ثم سوف نكتفي بها في هذا الباب وهي على كل حال تعتبر شافية وكافية لإلقاء الضوء على هذا الحدث وإبداء الملاحظات عليه تلك الملاحظات التي يمكن أن نوجزها فيما يلي:

الملاحظة الأولى:

لماذا كلف أبو بكر زيدا وحده بهذا الأمر الخطير..؟

إن مثل هذا الموقف يشير وكان زيد هو كاتب الوحي الوحيد أو هو على الأقل المتفوق على كتاب الوحي الآخرين. فهل هذا صحيح..؟

لنترك الروايات تجيب على ذلك..

يروى عن الرسول (ص) قوله: " خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب " (3)..

ومن الواضح أن هؤلاء الأربعة ليس فيهم زيد بن ثابت..

ويروى عن ابن مسعود قوله: " والله لقد علم أصحاب رسول الله (ص) أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم " (4)..

____________

(1) فتح الباري ح‍ 9 / 8 وما بعدها..

(2) المرجع السابق. وتأمل هذا التبرير الواه. أنظر لنا كتاب دفاع عن القرآن.. والخدعة..

(3) البخاري كتاب فضل القرآن..

(4) المرجع السابق..


الصفحة 220
ويروى عنه أيضا قوله: " والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت. ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت " (1)..

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم يستعن أبو بكر بعبد الله بن مسعود وهل كان أبو بكر وعمر لا يعرفان أمر الرسول بأخذ القرآن من هؤلاء الأربعة..؟

الملاحظة الثانية:

إذا كان القراء يموتون في حرب اليمامة. فهل الحفاظ وكتبة الوحي ماتوا أيضا..؟

والإجابة تتضح من خلال الروايات السابقة أن حرب اليمامة لم يكن بها أحد من كتاب الوحي أو حفظة القرآن. وإنما كان بها سالم مولى أبي حذيفة وهو الوحيد الذي قتل فيها وكان قتله هو الذي دفع بعمر إلى إقناع أبي بكر بإصدار هذا القرار (2)..

الملاحظة الثالثة:

أن أمر الجمع لو كان مصيريا كما يصور عمر ما رفضه أبو بكر بداية وجادله فيه. وما جادلهم فيه زيد أيضا حين أوكلوا له مهمة الجمع..

ومثل هذه الشبهة هي التي دفعت ببعض الفقهاء إلى القول بأن ما فعله أبو بكر هذا هو من باب الاجتهاد في أمر تركه الرسول فهو لا يدل على وجوب ولا تحريم (3)..

قال الباقلاني: كان الذي فعله أبو بكر من ذلك فرض كفاية بدلالة قوله (ص): " لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ". مع قوله تعالى (إن علينا جمعه وقرآنه) قوله (إن هذا لفي الصحف الأولى) وقوله (رسول من الله يتلو صحفا مطهرة) فكل أمر رجع لإحصائه وحفظه فهو واجب على الكفاية وكل ذلك من النصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم. وقد فهم عمر أن ترك النبي جمعه لا دلالة فيه على المنع ورجع إليه أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك وأنه ليس

____________

(1) المرجع السابق. ونفس هذا النص ورد على لسان علي بن أبي طالب..

(2) أنظر فتح الباري ح‍ 9 / 9.

(3) المرجع السابق..


الصفحة 221
في المنقول ولا المعقول ما ينافيه وما يترتب من ترك جمعه من ضياع بعضه ثم تابعهما زيد بن ثابت وسائر الصحابة على تصويب ذلك (1)..

ويظهر لنا من كلام ابن الباقلاني أنه يلتزم نهج التبرير لموقف أبي بكر ويحاول توفيق هذا الموقف مع النصوص القرآنية الصريحة والتي تؤكد أن أمر الجمع والبيان والترتيب هي مهمة الوحي ويقوم بتنفيذها الرسول واعترافه أن عملية جمع القرآن من قبل أبي بكر هي فرض كفاية كما أشار إلى مثل ذلك ابن حجر يعني أن هذه العملية لم تكن ضرورية وكان يمكن تركها. وفي هذا اعتراف صريح أن القرآن موجود ومجموع..

الملاحظة الرابعة:

لماذا لم يقول أبو بكر وعمر بهذه المهمة..؟

هل لم يحفظا شيئا من القرآن..؟

إن المكانة التي يضع فيها الرواة والفقهاء أبو بكر وعمر كانت توجب ألا يستعينا بأحد في هذا الأمر. فهما كما تصور الروايات وزيرا الرسول وجناحاه وأقرب الناس إليه وخير صحابته. وقد كان القرآن يتنزل موافقا لرأي عمر كما تصور الروايات على ما سوف نبين فيما بعد.. فما داما في هذه المكانة فأين القرآن الذي ورثاه عن الرسول..؟

إننا في مواجهة رواية جمع القرآن بين أمرين:

إما أن نكذب الرواية وننفيها من أساسها..

وإما أن نقر ونعترف بجهل أبي بكر وعمر وعدم ارتباطهما بالقرآن وبالتالي التشكيك في قدرهما ومكانتهما من الرسول (ص)..

وتبني أي من الموقفين يضع الرواة والفقهاء في مازق حرج..

الملاحظة الخامسة:

أن زيد أيضا لم يتجه إلى أي من كتاب الوحي المعروفين أثناء قيامه بعملية الجمع وهذا يشير إلى أنه وجه من قبل أبي بكر وعمر

____________

(1) المرجع السابق ص 10..


الصفحة 222
إلى أشخاص بعينهم حتى أنه لم يجد آخر التوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري مع وجود أبي مسعود وأبي بن كعب وعلي بن أبي طالب..

ومثل هذا الموقف يشكك في عملية الجمع ويكشف لنا أن المسألة لها أهداف أخرى لصالح الخليفتين (1)..

وهذا الموقف من جهة أخرى يشكك في القرآن ذاته إذ كيف يعقل أن خزيمة هو الوحيد الذي عنده آخر التوبة دون غيره؟

وهو يشكك في الرسول أيضا ويؤكد إهماله وتقصيره في إبلاغ آيات الله للناس وتوزيعه نصوص القرآن على هواه وكان هواه مع خزيمة فخصه بهذه الآية ولو قدر لخزيمة أن يموت لضاعت الآية معه وبالتالي كأنها ما نزلت..

ومثل هذا لا يعقل وهو يدعونا إلى الشك في رواية الجمع لا الشك في القرآن أو في الرسول (ص)..

الملاحظة السادسة:

أن ما تم جمعه وضع عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة بنت عمر. وهذا يشير إلى أمرين:

الأول: أن هذا الجمع خاص بأبي بكر وعمر وليس للمسلمين..

الثاني: أن أبا بكر وعمر تراجعا عن هذا الأمر وقررا الاحتفاظ بما جمعاه..

الملاحظة السابعة:

أن ترك القرآن مفرقا في صدور الرجال وعلى العسب واللخاف وغير ذلك يعني اتهاما مباشرا للرسول (ص) بالتقصير والاهمال إذ أن ترك مهمة الجمع للرجال فيه مساس بالقرآن ويفتح الباب للشك في نصوصه. كما يفتح الباب لتحريفها..

ولما كان الرسول هو خاتم الرسل ولن يأتي رسول من بعده يصحح عقائد الناس ويتصدى لتحريف الكتاب وهو ما كان يحدث في الأمم السابقة - كان لا بد وأن تكون عملية الجمع والتدوين تامة وكاملة تحت إشراف الرسول في حياته وقبل مماته وهو ما تؤكده الروايات الذي عرضنا لبعضها والتي سوف نعرضها فيما بعد..

____________

(1) أنظر لنا الميزان الجلي بين أبي بكر وعلي وهو مناقشة واسعة للروايات الواردة في أبي بكر المنسوبة للرسول..


الصفحة 223
يقول ابن حجر: وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد في فضائله وينوه بعظيم منقبته لثبوت قوله (ص): " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ". فما جمع القرآن أحد بعده إلا وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة وقد كان لأبي بكر من الاعتناء بقراءة القرآن ما اختار معه جوار الله ورسوله وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله: (يتلو صحفا مطهرة) وكان القرآن مكتوبا في الصحف لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد ثم كانت محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها فنسخ منها عدة مصاحف وأرسل بها إلى الأمصار (1)..

وكلام ابن حجر هذا الذي يدافع به عن أبي بكر ويحاول أن يوجد له منقبة وفضيلة بفعله هذا الذي من أبرز نتائجه التشكيك في القرآن واتهام الرسول بالاهمال. يعد صورة من صور التبرير الذي هو نهج الفقهاء على الدوام. إلا أن ابن حجر لم يجيبنا كيف عاش المسلمون بدون القرآن الذي ظل محفوظا حتى نسخه عثمان؟

وفيما يتعلق بوصية الرسول يروى القوم على لسان عائشة قولها حين سئلت:

هل كان عليا وصيا - أي للرسول -؟ قالت: متى أوصى إليه؟ وقد كنت مسندته إلى صدري أو حجري. فدعا بالطست. فلقد انخنثت في حجري فما شعرت أنه قد مات. فمتى أوصى إليه (2)..

ويروى: سئل عبد الله بن أبي أوفى: هل كان النبي (ص) أوصى؟ قال: لا.

فقلت: أي السائل -: كيف كتب على الناس وصية أو أمروا بالوصية؟ قال:

أوصى بكتاب الله (3)..؟

ويروى عن عائشة قولها: ما ترك رسول الله دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرة ولا أوصى بشئ (4)..

____________

(1) فتح الباري ح‍ 9 / 10..

(2) مسلم والبخاري كتاب الوصية..

(3) المرجعين السابقين..

(4) مسلم كتاب الوصية..