الصفحة 224

ويروى أن الإمام علي سئل: هل خصكم رسول الله (ص) بشئ؟ فقال:

كتاب الله وهذه الصحيفة. فقيل وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر (1)..

وفي رواية أخرى: ما عهد إلى رسول الله (ص) شيئا خاصا من دون الناس (2)..

ومثل هذه الروايات الهدف منها هو ضرب فكرة الوصية لعلي بن أبي طالب أو بصورة أخرى نفي وجود وصية للرسول (ص) خاصة بمستقبل الدعوة والإمامة من بعده..

وهذا موقف طبيعي من قوم يدعون أن الرسول مات وترك القرآن في مهب الريح معرض للضياع والنسيان. فإذا كان هذا موقفهم من كتاب الله الذي يعني وجوده وجود الدين وضياعه ضياع الدين. فكيف يمكن موقفهم فيما هو أدنى من ذلك..؟

يقول الفقهاء: قولها - أي عائشة - وما شعرت أنه مات فمتى أوصى إليه الظاهر أنهم ذكروا عندها أنه - أي الرسول - أوصى له - أي لعلي - بالخلافة في مرض موته فلذلك ساغ لها إنكار ذلك واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها فلا يرد ما قيل إن هذا لا يمنع الوصية قبل ذلك ولا يقتضي أنه مات فجأة بحيث لم يتمكن من الايصاء ولا يتصور ذلك لأنه (ص) علم قرب أجله قبل المرض ثم مرض أياما فلم يوص لأحد لا في تلك الأيام ولا قبلها ولو وقع الايصاء لادعاه الموصى له ولم يدع ذلك علي لنفسه ولا بعد أن ولي الخلافة ولا ذكره أحد من الصحابة يوم السقيفة (3)..

وعن رواية ابن أوفى يقولون: السؤال وقع عما اشتهر بين الجهال من الوصية إلى أحد أو فهم السؤال عن الوصية في الأموال فلذلك ساغ نفيها لا أنه

____________

(1) البخاري. كتاب العلم..

(2) مسلم كتاب الأضاحي ومسند أحمد ح‍ 1 / 118.

(3) مسلم هامش كتاب الوصية..


الصفحة 225
أراد نفي الوصية مطلقا لأنه أثبت بعد ذلك أنه أوصى بكتاب الله أي بدينه أو به وبنحوه ليشمل السنة (1)..

ويقولون عن الرواية الثالثة: قولها - أي عائشة - ولا أوصى بشئ أي في المال لعدم تركه مالا وإن أوصى بالكتاب والسنة ولا أوصى لأحد بالخلافة فإنه مقصودها بالانكار (2)..

وقال النووي عن الرواية الرابعة والخامسة: فيه إيطال ما زعم الرافضة - الشيعة - من الوصية لعلي وغير ذلك من اختراعاتهم (3)..

إلا أن ما يمكن الخروج به من مثل هذه الروايات أن فكرة الوصية كانت مشاعة بين الناس وقد كثرت من حولها التساؤلات. وأن هذه التساؤلات كانت تتركز حول علي..

وباستعراض رواية عائشة التي تتحدث فيها عن موت الرسول في حجرها ومناقشتها على ضوء الروايات الأخرى التي تتحدث عن موت الرسول بين يدي علي يتبين لنا أن نفي عائشة للوصية محل شك (4)..

أما الرواية الثانية فهي تدين القوم وتشكك في طرحهم ومواقفهم إذ أنها تثبت أن الرسول أوصى بكتاب الله وهذا يعني وجود الكتاب كاملا مجموعا ومدونا وهو ما يتناقض مع ادعاءهم أن الرسول ترك القرآن غير مجموع وأن أبا بكر جمعه.

وهذا الاعتراف بوصية الرسول بالكتاب إنما هو محاولة للتهرب من إلقاء الضوء على آل البيت بزعامة علي الذين أوصى بهم الرسول في حجة الوداع كما أشرنا إلى النصوص الخاصة بذلك سابقا (5)..

كذلك قول عائشة ما ترك رسول الله. هو قول صادر عنها كرد فعل للصدام

____________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق..

(3) مسلم هامش باب تحريم الذبح لغير الله. كتاب الأضاحي. وقد وردت في هذا الباب عدة روايات حول هذه المسألة بصيغ مختلفة..

(4) أنظر باب الرواية بين الشك واليقين..

(5) أنظر الباب السابق ذكره..


الصفحة 226
الذي وقع بين الإمام علي وفاطمة وبين أبي بكر بخصوص الإمامة وميراث الرسول. وعائشة خصم لعلي وآل البيت فمن ثم فإن الرواة والفقهاء يتلقفون أقوالها تلقف الكرة كي يدعمون بها موقفهم في مواجهة خط الإمام علي وآل البيت المناوئ للخط السائد الذي يتحالفون معه وينصرونه برواياتهم وأقوالهم..

ونفس النتيجة نصل إليها باستعراض رواية علي وهي إدانة القوم واتهامهم بالتضليل وطمس الحقائق. فكون أن الإمام يسئل هذا السؤال هل خصكم رسول الله بشئ من دون الآخرين يعني أن في الأمر شئ يتعلق به دون الناس.

وكونه يشير إلى الكتاب فهذا يعني أن القرآن موجود ومجموع وبحوزته هو..

وكونه يشير إلى الصحيفة فهذا يعني أنه قد كتب شيئا عن الرسول (ص) غير القرآن..

وإذا كان الرواة والفقهاء يعترفون أن هناك من كان يدون أحاديث رسول الله في حياته مثل عبد الله بن عمرو بن العاص (1)..

ويعترفون أن الرسول أوصى بالكتاب والسنة على الرغم من اعترافهم بعدم تدوينهما في زمن الرسول. فإن هذا كله يشير إلى أن الكتابة كانت مألوفة في عهد الرسول. وما دامت الكتابة مألوفة في الرسائل والأحاديث أفلا تكون مألوفة في الوحي..؟

وماذا كانت وظيفة كتاب الوحي إذن؟

هل كان الرسول يترك كل كاتب منهم يكتب ما يسمع منه من آيات في وقت ما وحدث ما. ويترك الآخر يكتب عنه آيات أخرى دون أن يوجه هؤلاء الكتاب إلى تجميع وترتيب ما كتبوه..؟

وإذا كان قد ترك ذلك في بداية حركة الوحي فهل يترك حين قرب أجله..؟

____________

(1) تأمل شهادة أبو هريرة لعبد الله بن عمرو بأنه كان يكتب الحديث عن الرسول وهو لا يكتب في البخاري كتاب العلم وانظر شرح البخاري لابن حجر ح‍ 1..


الصفحة 227
إن القوم أرادوا بنسبة هذه الرواية للإمام علي أن يضربوا فكرة الوصية المتعلقة به على لسانه حتى يقطعوا دابر الشك في نفوس المسلمين. إلا أن التأمل في الرواية يصل إلى نتيجة عكسية تشكك في أطروحة القوم وفي رواياتهم..

والمتأمل في كم الروايات المنسوبة للرسول المتعلقة بالقرآن والوصية يتبين له أن القوم في حرج بالغ. ففي الوقت الذي يتداولون فيه الروايات التي تنفي جمع القرآن ووجود الوصية يتداولون أيضا كم من الروايات تدحض ها الادعاء وتؤكد جمع القرآن في زمن النبي ووجود الوصية..

ومن هذه الروايات:

يروى أن ابن عباس سئل: أترك النبي من شئ؟

فأجاب: ما ترك إلا ما بين الدفتين..

وسئل محمد بن الحنيفة نفس السؤال فأجاب: ما ترك إلا ما بين الدفتين (1)..

ويروى عن الرسول (ص) قوله: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " (2)..

ويروى عنه (ص): " تعاهدوا القرآن " (3)..

ويروى أن عائشة جاءها رجل فقال: أريني مصحفك.. فأخرجت له المصحف فأملت عليه السورة. أي التي يريد (4)..

ويروى عن الرسول (ص) قوله: " إن جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي " (5)..

ويروى: جمع القرآن على عهد النبي (ص) أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (6)..

____________

(1) البخاري كتاب فضل القرآن..

(2) المرجع السابق..

(3) المرجع السابق..

(4) المرجع السابق..

(5) المرجع السابق..

(6) المرجع السابق..


الصفحة 228
ويروى عنه (ص): " من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " (1)..

ويروى أن رجلا كان يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط. فتغشته سحابة. فلما أصبح أتى النبي (ص) فذكر ذلك له. فقال: " تلك السكينة " (2)..

قال ابن حجر معلقا على الرواية الأولى: قوله ما بين الدفتين أي ما في المصحف وليس المراد أنه ترك القرآن مجموعا بين الدفتين لأن ذلك يخالف ما تقدم من جمع أبي بكر ثم عثمان (3)..

والمتأمل في كلام ابن حجر هذا يرى مدى تحكم عبادة الرجال في نفوس هؤلاء فهو قد عمل على إخضاع النص الصريح لموقف أبي بكر والمفروض أن يكون العكس من ذلك أي يخضع أبو بكر للنص..

إن المسلم إذا ما خير بين نص صريح وبين موقف من مواقف الصحابة فإنه يجب أن يختار النص لأنه هو الأساس أما الموقف فهو شئ طارئ يرتبط بصاحبه..

ولقد ضرب لنا الرواة والفقهاء مثلا صارخا في عبادة الرجال بميلهم إلى موقف أبي بكر وعمر وعثمان على حساب النصوص الصريحة التي تؤكد وجود القرآن وجمعه في حياة الرسول (ص)..

وكان من نتيجة هذا الموقف أن حط من قدر الرسول ووضع القرآن في دائرة الشك..

يروى: سألنا أصحاب رسول الله (ص): كيف تحزبون القرآن. قالوا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور إحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل من ق حتى نختم (4)..

____________

(1) المرجع السابق..

(2) المرجع السابق..

(3) فتح الباري ح‍ 9 / 53..

(4) رواه أحمد وأبو داود. وانظر فتح الباري ح‍ 9 / 35..


الصفحة 229
قال ابن حجر: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي (ص) (1)..

وهذا التصريح من ابن حجر أمام تلك الرواية الصريحة التي ذكرناها إنما هو تصريح تشوبه الحيرة والخلل. فالرواية تدل على أن ترتيب القرآن كان موضع اهتمام الصحابة وهذا الاهتمام ينبع من اهتمام الرسول بلا شك ولا يعقل أن يكون هناك ترتيب ولا يكون هناك جمع . إلا أن ابن حجر أراد أن يطوق الرواية باعترافه أن الترتيب كان موجودا على عهد الرسول على ما هو في المصحف الحالي أي مصحف عثمان. أي أنه اعترف بالترتيب ولم يعترف بالجمع بل ربط الجمع بعثمان وكأنه بهذا يشير إلى أن ما فعله عثمان بالمصاحف هو عمل مشروع وأن مصحفه هو مصحف الرسول فهو قد جمعه على ترتيب الرسول..

وهذا كلام مردود بالروايات والوقائع..

فعثمان ليس من كتبه الوحي وحين تصدى لأمر القرآن تصدى له عن طريق السلطة أي لم يكن هذا الموقف موجودا ويتبناه قبل أن يتولى الحكم كما أن هذا الموقف لم يكن محل إجماع الصحابة..

يروى أن عثمان أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام فنسخوها في المصاحف.. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. وقال زيد بن ثابت: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله (ص) يقرأ بها. فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة ابن ثابت الأنصاري (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فألحقناها في سورتها في المصحف (2)..

____________

(1) فتح الباري..

(2) البخاري كتاب فضل القرآن..


الصفحة 230
ويروى أن عثمان سئل عن عدم كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في أول سورة التوبة. فأجاب أن قصتها شبيهة بالأنفال فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها (1)..

ونخرج من هاتين الروايتين بما يلي:

أولا: أن المصحف الذي نسخه عثمان هو مصحف حفصة الذي جمعه أبو بكر.

ثانيا: أن عثمان أوكل بنسخ المصحف إلى زيد بن ثابت وهو نفسه الذي أوكل إليه أبو بكر جمع القرآن..

ثالثا: أن الثلاثة الآخرين المساعدين لزيد ليسوا من كتاب الوحي.

رابعا: أنه فقدت من النساخ آية الأحزاب ولم يجدوها إلا عند واحد فقط وهو نفس ما حدث في الجمع الأول..

خامسا: أن ما كان بحوزة حفصة هو صحف فقط وهذا يناقض ما ذكر من أن الجمع كان على أشياء متفرقة مثل العسب والألواح واللخاف. فهل نسخت حفصة المصحف الذي بحوذتها. أم هو تخبط الرواة؟

سادسا: أن عثمان يجهل آيات القرآن وتاريخه حيث إن الروايات تثبت أن الرسول لم يكن يعلم ختم السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم وكان من علامة ابتداء السورة نزول البسملة (2)..

سابعا: أن حال عثمان كحال أبي بكر وعمر من أنهم جميعا تصدوا لمسألة لا خبرة لهم فيها وأوكلوها إلى آخرين..

ثامنا: أن أمر عثمان بإحراق المصاحف دون مصحفه يدل دلالة قاطعة على أن هناك مصاحف موجودة كاملة ومتداولة بين الصحابة من عهد الرسول وعهد أبي

____________

(1) فتح الباري ح‍ 9 / 34 وما بعدها..

(2) المرجع السابق..


الصفحة 231
بكر وعمر. وأن عثمان لم يلجأ لأي من هذه المصاحف بل لجأ لمصحف حفصة المخزون (1)..

تاسعا: أن الصحابة ثاروا على قرار حرقة المصاحف وعلى رأسهم كتاب الوحي بقيادة ابن مسعود. وأدى هذا الأمر إلى إشعال نار الثورة على عثمان والتي أدت إلى مصرعه (2)..

عاشرا: أن عثمان يتهم الرسول (ص) بالاهمال والتقصير حين يذكر أنه قبض ولم يبين للناس أمر سورة التوبة..

ومن هذا كله يتبين لنا أن ما فعله عثمان بالمصاحف هو امتداد لما فعله أبو بكر. وأن الهدف من الجمع الأول هو الهدف من النسخ الثاني. إنها مسألة خاصة بحكم الخلفاء الثلاثة وشرعيتهم..

يروى أن ابن مسعود قال: يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت.

ويروى عنه قوله: لقد أخذت من في رسول الله (ص) سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان (3)..

ويقول ابن حجر: لما أمر بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود فقال من استطاع أن يغل - يخفي - مصحفه فليفعل (4)..

ويروى عن ابن مسعود قوله قال تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم

____________

(1) كان هناك مصحف لأمام علي. ومصحف لأبي بن كعب ومصحف لابن عباس ومصحف لابن مسعود. وهذه المصاحف كانت مشهورة. أنظر كتب تاريخ القرآن. مثل تاريخ القرآن للزنجاني. ومثله لعبد الصبور شاهين. وانظر الاتقان في علوم القرآن للسيوطي ومقدمات كتب التفسير..

(2) أنظر كتب التاريخ. وقد سمي عثمان حراق المصاحف. وانظر لنا كتاب السيف والسياسة وكتاب الخدعة..

(3) فتح الباري ح‍ 9 / 16. والرواية الأولى للترمذي والثانية لأبي داود..

(4) المرجع السابق ص 39..


الصفحة 232
القيامة) غلوا مصاحفكم وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله (1)..

ويروى عن ابن مسعود أيضا: والله لا أدفعه - يعني مصحفه - لعثمان - أقرأني رسول الله (2)..

ومثل هذه الروايات تشير إلى صدام الذي وقع بين عثمان وبين الصحابة بسبب المصاحف. وقد تمكن عثمان من إخضاع المدينة بينما الكوفة تغلي بزعامة ابن مسعود وغيره من الصحابة (3)..

إن ما استعرضنا من الروايات ونصوص الفقهاء إنما يؤكد لنا أن مصحف أبو بكر ومصحف عثمان كلاهما لم يكونا محل إجماع المسلمين آنذاك. وإن عمل أبو بكر وعثمان لا يخرج عن كونه صورة من صور التعدي على كتاب الله وإخضاعه للوضع السائد. وكان هذا العمل على حساب الرسول.. ويصطدم بنصوص القرآن الصريحة..

مثل قوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

وقوله (لا تحرك به لسانك لتجعل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قراناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه) [ القيامة: 16 - 18 ]..

أما النصوص التي تؤكد وجود الوصية فمنها:

يروى عن الرسول (ص) قوله: " ما حق امرئ له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " (4)..

ويروى عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس. وما يوم الخميس. ثم بكى

____________

(1) المرجع السابق..

(2) أنظر البخاري كتاب فضل القرآن. وشرحه لابن حجر..

(3) أنظر المراجع التاريخية التي ترصد فترة عثمان. مثل الطبري ومروج الذهب والكامل.

وانظر لنا الخدعة. والسيف والسياسة..

(4) مسلم والبخاري كتاب الوصية..


الصفحة 233
حتى خضب دمعه الحصباء. فقال: اشتد برسول الله (ص) وجعه يوم الخميس.

فقال: " ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ". فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: هجر رسول الله. قال (ص): " دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه " (1)..

وفي رواية أخرى قال معارضو كتابة الوصية: إن رسول الله (ص) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا. فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يقول غير ذلك فلما اكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله: " قوموا "..

قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم لغطهم (2)..

قال الفقهاء: ائتوني أمر وكان حق المأمور أن يبادل للامتثال. لكن ظهر لعمر مع طائفة أنه ليس على الوجوب وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قول الله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شئ)..

وقوله (تبيانا لكل شئ) (3).

وقال الخطابي: إنما ذهب عمر إلى أنه لو نص بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة الاجتهاد وعدم العلماء (4)..

وقال ابن الجوزي: وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه - الرسول - في حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلى الطعن في ذلك المكتوب (5)..

وقال ابن حجر: قول ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين الرسول وبين

____________

(1) مسلم كتاب الوصية والبخاري كتاب الجهاد..

(2) مسلم كتاب الوصية والبخاري كتاب المغازي..

(3) فتح الباري ح‍ 8 / 132..

(4) المرجع السابق..

(5) المرجع السابق..


الصفحة 234
كتابه. ليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه هذا الظاهر وإنما تعين حمله على غير الظاهر لأن عبيد الله بن عبد الله بن عباس راوي الحديث تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها لأنه ولد بعد النبي بمدة طويلة ثم سمع من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى (1)..

وقال عياض: معنى كلمة الهجر التي ذكرها عمر - أفحش يقال هجر الرجل إذا هذى. وأهجر إذا أفحش (2)..

ويعلق ابن حجر على وصف النبي (ص) بالهجر بقوله: وقوع ذلك عن النبي مستحيل لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى) (3)..

وقال النووي وغيره: قوله قد غلب عليه الوجع أي فيشق عليه إملاء الكتاب ظهر لعمر أن الأمر ليس للوجوب ودل أمره لهم بالقيام من عنده على أن أمره بالإتيان بآلة الكتابة كان على الاختيار ولهذا عاش (ص) بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش فإذا اعتزم امتثلوا وقد عد هذا من موافقات عمر. واختلف في المراد بالكتاب فقيل كان أراد أن يكتب كتابا ينص فيه على الأحكام ليرتفع الخلاف وقيل بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء حتى لا يقع بينهم الاختلاف (4)..

وقولنا في هذا كله وهو ما يلي:

أولا: إن الرواية الأولى تنص على وجوب الوصية وعدم جواز أن يبيت المرء دون أن يكتب وصيته. فإذا كانت الوصية واجبة في الأموال فهي أكثر وجوبا في أمور الدين ومستقبل الدعوة الخاتمة..

____________

(1) المرجع السابق..

(2) المرجع السابق..

(3) المرجع السابق..

(4) مسلم هامش باب ترك الوصية.. كتاب الوصية..


الصفحة 235
وإذا كان الرسول (ص) يقول بهذا. فهو يؤكد أن الوصية كانت موضع اهتمامه في الأموال وغيرها من أمور الدين والدنيا..

والفقهاء بالطبع لم يركزوا على هذه الرواية التي حصروها في شؤون المال والميراث ولم يحاولوا التأكيد على أهمية الوصية من خلالها.

أما الرواية الثانية الخاصة بكتابة كتاب يعصم الأمة من الضلال والردة والانحراف بعد الرسول فهي رواية ذات دلالات خطيرة وصريحة تتعلق بوصية الرسول فمن ثم نرى الفقهاء وقد أحاطوا بها من كل جانب محاولين تمييعها تارة وتأويلها على غير المراد تارة وتبرير مواقف الجبهة الرافضة للوصية بزعامة عمر تارة أخرى وهو ما يبدو بوضوح من خلال نصوصهم التي عرضناها..

ثانيا: إن استعراض الرواية الثانية يكشف لنا ما يلي:

- أن الرسول أراد كتابة وصية تعصم الأمة من الضلال بعده وهو في مرض الموت وهذا يعني أن هذه الوصية ذات دلالات مستقبلية وسياسية فاصلة ومصيرية..

- أن الصحابة انقسموا في مواجهة طلب الرسول إلى قسمين:

قسم مؤيد لكتابة الوصية..

وقسم معارض لها..

القسم الأول يتزعمه علي والأنصار..

والقسم الثاني يتزعمه عمر والمهاجرين..

- أن الاتجاه المعارض رفع شعار حسبنا كتاب الله. وفي هذا إشارة إلى وجود القرآن كاملا ومجموعا. ومن جهة أخرى هو محاولة للتغطية على الوصية والتقليل من شانها..

- أن رفع هذا الشعار في مواجهة الرسول فيه تجاوز لحد الأدب معه ومساس بشخصه الكريم. إذ أن الرسول هو الذي أنزل عليه الكتاب فليس من اللائق أن ينبه إليه.

- أن الاتجاه المعارض لجا إلى الطعن في شخص الرسول كمحاولة لإثارة الاتجاه الآخر وجذبه نحو الصدام معه دفاعا عن الرسول لا عن الوصية مما أدى بالرسول إلى حسم الموقف ووقف الصدام بين الطرفين بدلا من الاصرار على كتابة الوصية وهو ما حدث عندما قرر الرسول طرد الجميع من غرفته..


الصفحة 236
ثالثا: إن الفقهاء دافعوا دفاعا مستميتا عن عمر مبررين موقفه بمبررات واهية وساذجة فيها استخفاف بالعقل. وذلك بدلا من أن يدافعوا عن الرسول وعن النص..

رابعا: إن الفقهاء أنزلوا عمر منزلة المجتهد بموقفه هذا الذي تجاوز فيه حد الأدب مع الرسول واتهمه بالتخريف والهذيان..

خامسا: إن الفقهاء لم ينفوا وجود الوصية وكونها وصية مصيرية تتعلق بمستقبل الدين والإمامة من بعد الرسول..

ونحن لا نريد هنا أن نخوض في موقف عمر ودوافعه وأبعاده فذلك ليس مجاله هنا وإنما المجال هنا يتركز في إبراز دور الرواة والفقهاء في تشويه الرسول والحط من قدره ومكانته العالية والمساس بدوره ورسالته (1)..

ولقد أشرنا سابقا إلى الروايات التي تشير إلى وصية الرسول (ص) بآل البيت في حجة الوداع والتي تؤكد تأكيدا قاطعا أنهم المقصودون بالوصية وإن كانت رواية الكتاب لم ينتج عنها كتابة الوصية فإن الرسول قد بينها وحددها في أكثر من موضع ولعل هذا هو ما جعله لا يكتبها حين وقع الصدام أمامه بسببها لكونها بينة واضحة ولعله يكون قد كتبها وتم التعتيم عليها من قبل الحكام والفقهاء كما تم التعتيم على الكثير من النصوص الهامة..

عندما يقول الرسول (ص) في حجة الوداع: " أذكركم الله في أهل بيتي "..

أليست هذه وصية..؟

وعندما يقول: " أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولها كتاب الله.. وأهل بيتي "..

أليست هذه وصية..؟

وعندما يقول: " من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (2)..

____________

(1) أنظر دور عمر في كتابنا السيف والسياسة وكتابنا الخدعة..

(2) رواه أحمد والترمذي والهيثمي في مجمع الزوائد. ورجاله ثقات. وقال عنه السيوطي حديث متواتر.


الصفحة 237
أليست هذه وصية..؟

وعندما يقول: " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " (1)..

وفي رواية: " اثنا عشر خليفة " (2)..

وفي رواية: " لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة " (3)..

إلا أن هذه الروايات المحرجة التي أفلتت من الرواة لم تفلت من الفقهاء الذين وجهوا دفتها بعيدا عن آل البيت بتمييع مفهوم آل البيت تارة وتأويل الرواية لتخدم الحكام تارة والطعن في صحتها وسندها تارة أخرى..

وهم قد مروا على روايات حجة الوداع مرور الكرام دون أن يلقوا الضوء على مدلولاتها. وهم معذورون في هذا بالطبع إذ أن تبني مدلولات مثل هذه الروايات يصطدم بالوضع السائد الذي يستمدون وجودهم منه..

وهذا ما يبدو بوضوح من الرواية الأخيرة التي يبشر فيها الرسول باثني عشر خليفة. فهم قد طبقوا هذه الرواية على الحكام..

يقول الفقهاء: تردد العلماء في المعني المراد بهذا - أي بالاثني عشر - فقالوا يحتمل أن يكون المراد بالاثني عشر خليفة مستحقو الخلافة من أئمة العدل.

ويحتمل أن يكون المراد اجتماعهم في زمن واحد يفترق الناس عليهم فتتبع كل طائفة واحدا منهم. ويحتمل أن يكون المراد بالاثني عشر الذين يكون معهم إعزاز الخلافة وسياسة إمارة الإسلام واجتماع الناس كلهم على كل واحد منهم (4)..

وينقل صدر الدين الحنفي: الاثنا عشر: الخفاء الراشدون الأربعة. ومعاوية وابنه يزيد. وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز ثم أخذ الأمر في الانحلال (5)..

____________

(1) مسلم. كتاب الإمارة..

(2) مسلم كتاب الإمارة..

(3) مسلم كتاب الإمارة..

(4) مسلم هامش كتاب الإمارة..

(5) شرح العقيدة الطحاوية..


الصفحة 238
وقال السيوطي: الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وهؤلاء ثمانية. ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية. وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل.

وبقي الاثنان المنتظران أحدهما المهدي لأنه من آل بيت محمد (ص) (1)..

وقال ابن الجوزي: قد أطلت البحث في معنى هذا الحديث وتطلبت مظانه وسألت عنه فلم أقع على المقصود به لأن ألفاظه مختلفة ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة. ثم وقع لي فيه شئ وجدت الخطابي بعد ذلك قد أشار إليه ثم وجدت كلاما لأبي الحسين بن المنادي وكلاما لغيره (2)..

وقال آخر: يحتمل في معنى هذا الحديث أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان فقد وجدت في كتاب دانيال إذا مات مهدي ملك بعده خمس رجال من ولد السبط الأكبر ثم خمسة من ولد السبط الأصغر ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر ث م يملك بعده ولده فيتم بذلك اثني عشر ملكا كل واحد منهم إمام مهدي (3)..

وقال القاضي عياض: لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عز الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتن (4)..

ويروى عن كعب الأحبار قوله: يكون اثنا عشر مهديا ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال (5)..

وقيل: إن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدن الإسلام إلى يوم القيامة.. يعلمون بالحق وإن لم تتوالى أيامهم (6)..

____________

(1) تاريخ الخلفاء المقدمة..

(2) أنظر كشف المشكل وفتح الباري ح‍ 13 / 181..

(3) فتح الباري..

(4) تاريخ الخلفاء المقدمة وانظر فتح الباري..

(5) فتح الباري ح‍ 13 / 182.

(6) المرجع السابق..


الصفحة 239
ويقول ابن حجر:.. والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمى معاوية يومئذ بالخلافة ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن ثم اجتمعوا على ولده يزيد ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك ثم لما مات يزيد وقع الخلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين ثم قاموا عليه فقتلوه وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك (1)..

ومن الواضح أن الفقهاء يتخبطون في تحديد الأئمة الاثني عشر الذين أوصى بهم الرسول وبشر بهم في عدة روايات وهذا الخبط يعود سببه في كونهم أخضعوا النص للسياسة وسيروه في طريق الحكام الذين غلبوا على الأمة بالسيف من أبي بكر حتى آخر حكام بني أمية الذين حصروا الروايات في دائرتهم. وأهملوا بني العباس الذين جمعت الروايات في عصرهم ونموا وترعرعوا في ظلالهم (2)..

ولم يحدث في تاريخ المسلمين أن اجتمعوا على حاكم من الحكام كما يدعي الفقهاء الذين يريدون إيهام المسلمين بأن اغتصاب السلطة بالقوة والاستقرار في الحكم يعني موافقة وإجماعا عليهم..

وهل يقبل أن يبشر الرسول بأمثال هؤلاء الحكام مثل عثمان ومعاوية وولده يزيد وأبناء مروان الذين يشهد التاريخ بفسادهم وإجرامهم ويربط بهم عزة الإسلام. والظاهر أن الفقهاء يريدون أن يربطوا عزة الإسلام بحركة الغزو المسلح والذي قامت به جيوش هؤلاء الحكام والتي كان نتيجتها سيادة دولهم على المشرق والمغرب على أساس أن هذه السيادة هي سيادة الإسلام.

____________

(1) المرجع السابق..

(2) نستثني من هؤلاء الإمام علي فهو الحاكم الوحيد الذي جاء باختيار الناس ورضاهم وإن لم يتم الاجماع عليه..


الصفحة 240
لقد أغفل الفقهاء تماما آل البيت تحت ضغط السياسة وتوجهوا بأبصارهم نحو الحكام..

أهملوا الإمام علي..

وأهملوا الإمام الحسن..

وأهملوا الإمام الحسين..

وأهملوا زين العابدين..

وأهملوا محمد الباقر..

وأهملوا جعفر الصادق..

وأهملوا موسى الكاظم..

وأهملوا علي الرضا..

وأهملوا محمد الجواد..

وأهملوا علي الهادي..

وأهملوا الحسن العسكري..

وأهملوا المهدي المنتظر..

أهملوا هؤلاء واهتموا بالحكام..

إن المتتبع لتاريخ هؤلاء الاثني عشر سوف يتبين له أنهم هم المقصودون بوصية الرسول وهم ورثة علمه وحججه على الناس وقد تم التعتيم عليهم وعلى سيرتهم في كتب التاريخ من قبل الرواة والفقهاء والحكام. وكان نتيجة هذا التعتيم أن نشأت الأجيال المسلمة لا تعرف عنهم شيئا خاصة بعد أن سلطت الأضواء على الأئمة الزائفين الذين حلوا محلهم (1)..

وكما حاول الرواة والفقهاء التعتيم على أئمة آل البيت حاولوا أيضا التعتيم

____________

(1) أنظر مروج الذهب للمسعودي. وتاريخ اليعقوبي. والبداية والنهاية لابن كثير وطبقات ابن سعد. ووفيات الأعيان لابن خلكان وكتب التراجم. وانظر لنا موسوعة آل البيت..


الصفحة 241
على قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) بأن صرفوا معناه على نساء النبي (1)..

إن تخصيص آل البيت بالتطهير من دون بقية فئات الأمة يعني أنهم الفئة المؤهلة لقيادة الأمة وحفظ الدين من بعد الرسول. فمهمة الحفظ والقيادة لا بد وأن تكون لفئة تحمل مواصفات النبي (ص).. وهذا دليل قاطع على كونهم هم الذين أوصى بهم الرسول ويدل على ذلك ربطهم بالكتاب..

____________

(1) أنظر كتب التفسير سورة الأحزاب. وانظر موسوعة آل البيت..


الصفحة 242

الصفحة 243

الرسول الجاهل



الرسول يفر من الوحي
ويفتي بلا علم ويحتال
عليه الناس. ويتميز
عليه عمر..



الصفحة 244

الصفحة 245
تكتظ كتب السنن بعشرات الروايات التي تصف الرسول (ص) بالجهل وتشكك في قدراته على القيام بدوره كنبي مرسل..

وكالعادة بارك الفقهاء هذه الروايات وقاموا بتبريرها وتأويلها دون أن ينتبهوا إلى خطورتها ومساسها بشخص الرسول..

ولقد تمادى الفقهاء في موقفهم فباركوا روايات ترفع مقام عمر فوق مقام الرسول وتدخله مقام النبوة وتجعله مشاركا للرسول في أمر الوحي ولقد جمعنا في هذا الباب الكثير من الروايات المتناثرة في كتب السنن والتي تصلح كل رواية منها ليقوم عليها بابا خاصا بها. لكننا ألحقناها بالباب لقرب موضوعها من موضوعه وتجنبا للإطالة وتيسيرا للقارئ..

وبين الروايات المتعلقة بالرسول والروايات المتعلقة بعمر نقف في دهشة وضجر من هؤلاء الفقهاء الذين هان عليهم رسولهم إلى هذا الحد..

- الرسول والوحي:

بدا القوم بتجهيل الرسول (ص) مع أول خطوة خطاها على طريق البعثة والرسالة في مكة..

تروي عائشة أن الرسول (ص) كان يخلوا بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد. وأن الملك جاءه فقال اقرأ. قال: " ما أنا بقارئ ". فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ. قال: " ما أنا بقارئ ". فأخذه فغطه ثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ. قال: " ما أنا بقارئ ". فأخذه فغطه الثالثة ثم أرسله فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم). فرجع بها الرسول يرجف فؤاد ودخل على خديجة قائلا: " زملوني زملوني ". فزملوه حتى ذهب منه الروع. واخبر خديجة بالخبر وقال: " لقد خشيت على نفسي ".. فأخذته خديجة على ورقة بن نوفل وكان على دين النصرانية..


الصفحة 246
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى.. ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال الرسول: " أو مخرجي هم "؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي (1)..

ونخرج من هذه الرواية بالنتائج التالية:

أولا: أن هناك شط يحيط بربط هذه الرواية بعائشة. إذ أن حدث نزول الوحي على الرسول كان قبل ولادتها حسب الروايات التي تقول أنها ولدت في السنة الثانية أو الرابعة أو الخامسة.. وحتى تثبت لنا صحة هذه الرواية فيجب على القوم أن يعترفوا أن عمر عائشة هو أكبر بكثير مما يذكرون لكي يثبت لنا صحة معايشتها لهذا الحدث وهذا هو الأرجح وإلا تصبح هذه الرواية على كف عفريت..

ثانيا: أن الرسول (ص) كان يتعبد بغار حراء من قبل البعثة وهذه إشارة إلى كونه كان معدا لاستقبال الوحي. فمن ثم فإن ظهوره له لم يكن مفاجأة وبالتالي فليس هناك مبرر للخوف منه..

ثالثا: إن تبني مثل هذه الرؤية التي تنص على خوف الرسول وفزعه من جبريل إنما ينبع من عقيدة الرواة والفقهاء في كون الرسول غير معصوم قبل البعثة فهذه الرؤية تجرد الرسول من خاصية الوعي والعلم بما يتعلق بالوحي والرسالة قبل البعثة وهو ما تؤكد النصوص التالية من الرواية..

رابعا: إن ما يدحض هذا التصور هو تعبد الرسول الدائم في غار حراء وهو ما تؤكده الرواية - قبل بعثته. فعلى أساس أي دين كان يتعبد؟

ومن أين له العلم بهذا..؟

خامسا: إن القوم يتداولون رواية تقول على لسان الرسول (ص): " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " (2)..

____________

(1) البخاري كتاب بدء الوحي. ومسلم كتاب الإيمان..

(2) مسلم كتاب الفضائل..


الصفحة 247
وهذه الرواية تعطينا دلالة قاطعة أن الرسول كان في حفظ الله ورعايته من قبل أن يوحى إليه..

سادسا: إن جبريل قام بتعذيب الرسول وإكراهه على القراءة. وهذا سلوك غير معقول من رسل الله سبحانه ولا يجوز نسبته لجبريل (ع)..

سابعا: إن ذهاب الرسول لورقة النصراني ليستفتيه يشم منه رائحة الطعن والتشويه لشخص الرسول ودعوته وكأنه يشير إلى وجود صلة بين ما جاء به الرسول وبين النصارى..

ثامنا: إن الرسول لم يكن يعلم شيئا عن أبعاد الدعوة التي أوحى إليه بها ونتائجها المستقبلية. وإن ورقة هو الذي نبهه إلى هذا. وهو يقود إلى نفس النتيجة السابقة..

ومن خلال هذا كله يمكننا الحكم ببطلان هذه الرواية وعدم صحة نسبتها للرسول (ص) فإن نسبتها له يعني اتهامه بالجهل. وهذا الاتهام يقودنا إلى الطعن في الرسالة. وبالتالي فنحن نضحي بالرواية وبالرجال الذين أكدوها في مقابل الحفاظ على الصورة السامية للرسول والذي هو يعد حفاظا على الدين الذي جاء به..

ويروى عن الرسول (ص) قوله: " بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه. فرجعت فقلت زملوني " (1)..

وهذه الرواية تعد امتدادا للرواية السابقة التي تؤكد جهل الرسول بأمر الوحي والذعر منه والفرار من أمامه. إلا أن الجديد في هذه الرواية هو ظهور جبريل أمام الرسول جالس على كرسي بين السماء والأرض وهو كلام لا معنى له ولا صلة له بالأمر وهو على ما يبدو من اختلاق خيال الراوي..

فهل ظهر جبريل لمجرد إخافة الرسول فقط. أم جاء إليه بكلام الله؟

____________

(1) مسلم كتاب الإيمان. والبخاري كتاب بدء الوحي..


الصفحة 248
وكيف سوف يوصل إليه هذا الكلام ما دام قد فر منه..؟

ويروى عن الرسول (ص) قوله: " فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج عن صدري ثم غسله بماء زمزم. ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه " (1)..

وفي رواية أخرى: " بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان بين رجلين. فأتيت بطست من ذهب ملئ حكمة وإيمانا. فشق من النحر إلى مرافق البطن ثم غسل البطن بماء زمزم. ثم ملئ حكمة وإيمانا " (2)..

وفي رواية ثالثة: إن رسول الله (ص) أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرع فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه عقلة. قال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه. ثم أعاده في مكانه (3)..

ويروى: " أوتيت فانطلقوا بي إلى زمزم فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت " (4)..

ويظهر لنا من خلال هذه الروايات الأربعة التي تدور حول حدث محدد وهو شق قلب الرسول. أنها روايات متناقضة وتضرب بعضها بعضا..

ففي الرواية الأولى وقع الحدث في بيت الرسول وبعد البعثة..

وفي الرواية الثانية وقع الحدث في البيت الحرام وبعد البعثة..

وفي الرواية الثالثة وقع الحدث في طفولة الرسول وبالخلاء..

وفي الرواية الرابعة لم يتحدد المكان..

وهذا وحده كاف للشك وتبرير رفضها..

وإذا قدر لنا التسليم بصحتها فأي الروايات سوف نختار.

____________

(1) البخاري كتاب الصلاة. ومسلم كتاب الإيمان..

(2) البخاري كتاب بدء الخلق ومسلم كتاب الإيمان.

(3) مسلم كتاب الإيمان.

(4) المرجع السابق..