دعاء

اللهم لا تعذب عينا تنظر إلى علوم تدل عليك

ولا يدا تكتب في سبيلك

ولا لسانا يخبر عنك

ولا قدما تمشي في خدمتك

سيدي. بعزتك وجلالك لا تدخلني النار

سيدي. لا تدخلني النار. وجميع من قال آمين


الصفحة 6

الصفحة 7

المدخل

المقدمات والنتائج الحقيقية

إن للتاريخ حركة. ولمعرفة الحاضر معرفة حقيقية يجب التنقيب في أوراق الماضي. ثم ترتب المعلومات على امتداد الرحلة لاستنتاج المجهولات، والذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية، فالحاضر لا يمكنه الوقوف على حقيقة إلا بالرجوع القهقرى. وبتحليل الحوادث التاريخية للحصول على أصول القضايا وأعراقها. فعند الأصول ترى النتيجة على مرآة المقدمة، ولأن حركة التاريخ على صفحتها الصالح والطالح ويصنع أحداثها المحسن والمسئ. فلا بد من تحديد الدوائر والخطوط بدقة ليظهر أصحاب كل طريق، وظهور هؤلاء على صفحة الحاضر لا يتحقق إلا بعرض حركتهم في أحداث الماضي على قاعدة العلم، ولأن التشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على علم فقط دون غيره، فلا بد من عرض الحركة البشرية على هذا التشريع والتقنين، فعلى قاعدة العلم تظهر حقيقة العمل، والقرآن الكريم قارن العلم بالعمل لتظهر الحقيقة عند المقدمة. ولا يحدث الالتباس أمام الباحث عند النتيجة.

ولكي تحصل على الحقيقة فلا بد من النظر في المقدمة الأزلية

الصفحة 8
التي عندها بدأ الخلق، فعند هذه المقدمة نرى العلم الذي عليه حددت الحركة، وبعد النظر في المقدمة الأزلية نتدفق على المسيرة البشرية، لنبحث عن استقامة الفكر والحركة. وخلوصهما من شوائب الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية.

1 - [ حجة الفطرة ]

للإنسان مهمة. ومهمته عبادة الله تعالى. قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (1) والمعنى: أي إنما خلقتهم لأمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم (2). وحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة والعبودية وتوجيه وجهه إلى مقام ربه (3). ولأن العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة. جهز الله تعالى الإنسان بالفطرة وجعل ينبوع دينه سبحانه فطرة الإنسان نفسه، وقضى تعالى بأن تكون الفطرة ضمن النسيج الإنساني لا تتبدل ولا تتغير أبدا، لتكون حجة بذاتها على الإنسان يوم القيامة، وينبوع الدين في الفطرة يشهد به قوله تعالى: (وإذ أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (4). قال المفسرون: إجتمعوا هناك جميعا وهم فرادى، فأراهم الله ذواتهم المتعلقة بربهم، وأشهدهم على أنفسهم (ألست بربكم).

وهو خطاب حقيقي لهم وتكليم إلهي لهم. وهم يفهمون مما يشاهدون أن الله سبحانه يريد منهم الاعتراف وإعطاء الموثق (قالوا بلى شهدنا).

وأعطوه الاقرار بالربوبية. فتمت له سبحانه الحجة عليهم يوم القيامة.

____________

(1) سورة الذاريات آية 56.

(2) تفسير ابن كثير 238 / 4.

(3) تفسير الميزان 388 / 18.

(4) سورة الأعراف آية 172.


الصفحة 9
وإن كانوا في نشأة الدنيا على غفلة إلا أنهم إذا كان يوم البعث عادوا إلى مشاهدتهم ومعاينتهم وذكروا ما جرى بينهم وبين ربهم، ولو لم يفعل الله تعالى هذا ولم يشهد كل فرد على نفسه. لأقاموا جميعا الحجة عليه يوم القيامة. بأنهم كانوا غافلين في الدنيا عن ربوبيته. ولا تكليف على غافل ولا مؤاخذة (1).

فعلى هذه الفطرة يولد الإنسان. قال رسول الله (ص) " كل مولود يولد على الفطرة " يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه (2) ولما كانت المعرفة قد ثبتت عند المقدمة ونسي الإنسان الموقف في الدنيا وسيذكره في الآخرة، فإن الله سبحانه قد أقام على الإنسان الحجج في الدنيا لقوله على ما ثبت عند المقدمة. وتكون زادا له في سلوكه نحو الآخرة. ومن هذه الحجج ما هو ضمن النسيج الإنساني. قال تعالى:

(ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين)(3) قال في الميزان: أي جهزنا الإنسان في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيات على سعة نطاقها، وجعلنا له لسانا وشفتين يستعين بهما على التكلم والدلالة على ما في ضميره من العلم، وعلمناه طريق الخير وطريق الشر بإلهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر. قال تعالى:

(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) (4). قال في الميزان: أي إنه تعالى عرف الإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور، وميز له ما هو تقوى مما هو فجور (5).

ومن هذه الحجج أيضا ما هو تحت سقف الكون الواسع.

____________

(1) الميزان 325 / 8.

(2) المصدر السابق 330 / 8.

(3) سورة البلد آية 7 - 10.

(4) سورة الشمس آية 6.

(5) الميزان 296 / 20.

الصفحة 10
وجميعها تدعو الإنسان للتقوى في التفكر والتذكر والتعقل للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم. قال تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) (1).

إن للإنسان هدف وغاية. وكليات دين الله موجودة في فطرة الإنسان. ولا تبدل الفطرة أبدا لأنها حجة بذاتها وإنما يخطئ الإنسان في استعمالها، وعدم الانتباه إلى نداءات الفطرة يؤدي إلى فساد دين الإنسان الفطري. وعندما يفسد الدين لا تتعادل القوى الحسية الداخلية للإنسان. وينتج عن هذا أنه يتبع في عقيدته ما يزينه له الشيطان في الخارج.

2 - [ الهداية وأصول الاختلاف ]

ركب الله تعالى في الإنسان السمع والبصر والفؤاد، ومن هذا التركيب نشأ فيه قوة الادراك والفكر وبهما يستحضر الإنسان ما هو ظاهر عنده من الحوادث. ويستقرئ ما كان لينطلق إلى ما سيكون. ولأن الإنسان ذو شعور وإرادة. فإن الله تعالى هيا له وجود يقبل الارتباط معه ويستطيع الانتفاع به، قال تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) (2).

وقال: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) (3). إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخرة للإنسان.

وبعد قيام الإنسان بواجب الخلافة عند الله في الأرض. واجهت الفطرة أول اختلاف لها على الأرض. ومنشأ هذا الخلاف أن الإنسان موجود اجتماعي. وجد ليساير الأفراد من نوعه يريدون منه ما يريده

____________

(1) سورة لقمان آية 11.

(2) سورة البقرة آية 29.

(3) سورة الجاثية آية 13.

الصفحة 11
منهم. ولما كان في الإنسان القوي والضيف والمريض إلى غير ذلك.

ونظرا لتعارض المصالح بين هذا وذاك. ظهر الاختلاف في الأغراض والمقاصد والآمال. وجاء الاختلاف في المعاش وهو الذي يرجع إلى الدعاوى وينقسم به الناس إلى مدع ومدعى عليه. وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدى عليه وآخذ بحقه وضائع حقه.

ولأن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف في المعاش على أرضية الاجتماع المدني. ولأن الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف نظرا لتعدد الأغراض وتعدد الأشياء التي سخرها الله للإنسان.

فإنها لم تتمكن من رفع الاختلاف. وكيف تدفع شئ ما تجذبه إليه نفسها. ولأن الفطرة لا تستطيع أن تقدم تشريع يكون على عاتق الناس.

وتأمرهم بإتيان أمور هي الواجبات وما في حكمها وتنهاهم عن أمور هي المحرمات وما في حكمها. استدعى ذلك وضع قوانين إلهية ترفع الاختلافات والمشاجرات في لوازم الحياة. فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع.

فالاختلاف الأول في أمر الدنيا فطري. وكان سببا لتشريع الدين.

ليكون الدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني والمصلح لأمر حياته. يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها. وينظم للإنسان مسلك حياته، ووضع الله سبحانه ما شرع من الشرائع والقوانين على أساس التوحيد. لأن التوحيد هو الحصن الحصين الذي يحفظ الإنسان من الخطأ والزلة، ومن أساس التوحيد بنى الدين أسلوبه الاجتماعي وقوانينه الجارية على أعمدة الأخلاق. ومن هذا الحصن يعرف الناس ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم ليسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملون في العاجل ما يعيشون به في الآجل، وليعلموا أن التشريع الديني والتقنين الإلهي هو

الصفحة 12
الذي بنى على علم فقط دون غيره، قال تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (1).

وإصلاح الفطرة بالفطرة وتعديل قواها المختلفة عند طغيانها، إصلاح وتعديل داخل في الصنع والإيجاد. قال تعالى: (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (2) قال في الميزان: بين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شئ إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة. وقال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا) (3) وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده ويعطيه ما يستحقه. وإن عطائه غير محذور ولا ممنوع من قبله تعالى. ومن المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه. فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة. فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية. وإذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله. وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته فالإصلاح - لو كان - يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة. وهي الجهة الإلهية التي تأتي عن طريق النبوة بالوحي. والخلاصة: إن نوع الإنسان مستخدم بالطبع. وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف في جميع شؤون حياته. ويقضي التكوين والإيجاد رفع هذا الاختلاف وما يترتب عليه. ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته يتحقق بأحد أمرين: إما

____________

(1) سورة يوسف آية 40.

(2) سورة طه آية 55.

(3) سورة الإسراء آية 20.

الصفحة 13
بفطرته وإما بأمر ورائه، لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف في المعاش، فوجب أن تكون الهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة. وهو التفهيم الإلهي المسمى بالنبوة والوحي (1).

وبعد نزول التشريع الإلهي. جاء الاختلاف الثاني. وهو الاختلاف في الدين. فعندما أصلحت الأمور ببعث النبيين وإرسال المرسلين. وظهر الانذار والتبشير والثواب والعقاب، جاء الاختلاف في معارف الدين أو أمور يوم القيامة، وترتب على هذا الاختلاف اختلال أمر الوحدة الدينية. وظهرت الفرق والأحزاب وتبع ذلك الاختلاف غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين جاءهم النبيين بالكتاب ظلما وعتوا منهم. بعد ما تبين لهم أصول الدين ومعارفه وتمت عليهم الحجة.

وعلى هذا فإن المسيرة البشرية عصف بها اختلافان: اختلاف فطري في المعاش وأمور الحياة. ورفع هذا الاختلاف بالدين. ثم اختلاف في نفس الدين. وهذا الاختلاف أوجده العلماء ويستند إلى البغي. وفي هذين الاختلافين يقول تعالى: (كان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما إختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) (2) قال في الميزان:

ذكر البعض أن المراد بالآية أن الناس كانوا أمة واحدة على الهداية. لأن الاختلاف أنما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، وقد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا. وعن أن الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف. فما هو الموجب بل ما

____________

(1) تفسير الميزان 131 / 2.

(2) سورة البقرة آية 213.

الصفحة 14
هو المجوز لبعث الأنبياء وإنزال الكتاب. وحملهم على البغي بالاختلاف وإشاعة الفساد؟ وذكر آخرون: أن المراد بالآية: أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة. إذ لولاها لم يكن وجه لترتيب قوله تعالى: (فبعث الله النبيين.. الآية). وقد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر أن هذا الضلال الذي ذكره. وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه.. الآية). إنما نشأ عن سوء سريرة علماء الدين بعد نزول الكتاب وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والإنزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي، فما المصحح لنسبة ذلك إلى علماء الدين؟ (1).

ويقول صاحب الميزان: قوله تعالى: (وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) هو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، وقوله تعالى (وما اختلف فيه) أي في الكتاب (إلا الذين أوتوه) أي الذين حملوه، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله. والمختلفون بهذا الاختلاف حملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر أحدهما اختلاف عن بغي وعلم والآخر بخلافه (2).

فالأنبياء والرسل عليهم السلام بعد نزول الكتاب. أقاموا الحجة وشيدوا بناء الوحدة الدينية. ولأن دين الله واحد لا غير ولا تدعو النبوة إلا إليه. فإن الناس إذا كذبوا أحد الأنبياء فقد كذبوا كل الأنبياء في الحقيقة، ولما كان التشريع الديني والتقنين الإلهي يحتاج إلى بيان من الأنبياء والرسل عليهم السلام. فإن الله أيدهم بالعصمة وصانهم من الخطأ والغفلة في تلقي الوحي من الله وحفظه وتبليغه، وقد دل القرآن

____________

(1) الميزان 125 / 2.

(2) المصدر السابق 127 / 2.

الصفحة 15
الكريم على عصمتهم عليهم السلام في قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (1) وكما قطع الله تعالى عذر الناس بميثاق الفطرة قطعه أيضا بإرسال الرسل. فقال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (2) وفي الآية إشارة إلى عصمتهم عليهم السلام. لأن من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحاجتهم. إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله ورضاه. من قول أو فعل وخطأ أو معصية. وإلا كان للناس أن يتمسكوا به. ويحتجوا على ربهم سبحانه.

. وبعد إقامة الحجة بواسطة الأنبياء والرسل. جاء الاختلاف في الدين من الذين أوتوه بغيا بينهم. والاختلاف في الدين يخالف الفطرة الإنسانية. ولقد أمر الله تعالى العلماء أن يبينوا الحق وينشروا علمهم بين الناس. وتوعد سبحانه الذين يكتمون ما أنزل الله. قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) (3).

قال في الميزان: أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبيين للناس لا لهم فقط. وذلك أن التبيين لكل شخص. إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلاغ وأدواته كاللسان والكلام، وكتمان العالم علمه هو كتمان للعلم عن الناس بعد أن بينه الله لهم، ولقد عد الله تعالى هذا سببا لاختلاف الناس

____________

(1) سورة النساء آية 64.

(2) سورة النساء آية 165.

(3) سورة البقرة آية 159.

الصفحة 16
في الدين وتفرقهم.. وأفاد القرآن أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب، إنما هو ناشئ عن بغي العلماء الحاملين له. فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب. معلول ببغي العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف وظلمهم. حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة. فقال: (وأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) (1) وقد تبين أن الآية التي يقول فيها تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) (2) مبتنية على قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم) (3) وجزاء هذا البغي بذيل الآية السابقة وهو قوله تعالى: (أولئك يلعنهم الله) (4).

وبالجملة: إن اختلاف الناس في الدين الذي يكون سببا للطغيان والعناد، يختلف عن اختلافهم في أمور الدنيا الذي هو فطري. وجميع الاختلافات والتفرعات التي ظهرت في الأديان. كلها صنيعة الهوى والنفس البشرية. وتعلق بها شوائب الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية.

3 - [ أضواء على الإلقاءات الشيطانية ]

كان الاختلاف في الدين مقدمة لظهور الأحزاب والفرق التي أخلت بأمر الوحدة الدينية، والاختلاف في الدين سعى إليه الشيطان منذ

____________

(1) سورة الأعراف آية 44.

(2) سورة البقرة آية 159.

(3) سورة البقرة آية 213.

الميزان 389 / 1.

الصفحة 17
اللحظة الأولى بعد أن شملته لعنة الله عندما رفض السجود لآدم، والشيطان قام ببناء منهجه ليعارض به مهمة الإنسان التي خلق من أجلها. وهو قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (1) والمنهج الشيطاني يقوم على عرقلة طريق العبادة. وقد بينه الله تعالى في كتابه فقال: (قال رب بما أغويتني لأزين لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) (2).

فالزينة التي أودعها الله في الكون لتكون مدخلا للإيمان كما في قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) (3) وقوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (4) فهذه الزينة وغيرها. قام الشيطان بتزيينها ليكون هذا التزيين مادة للإغواء ثم للاحتناك على طريق عبادة النجوم والكواكب وكافة الأرباب الأرضية.

والزينة والإغواء يخاطبان في الإنسان غرائزه. وعن طريقهما يتم إمداد الفرد بالطاقة العصبية المذمومة للتعبير عن هذه الغرائز، وتتوقف قوة الدفع حسب طبيعة الشئ الذي استمال الغريزة، ومع عملية الدفع تبدأ الاتجاهات. والاتجاهات هي تنظيم مستمر لعمليات الدوافع والانفعالات والإدراك والمعرفة فيما يتعلق بناحية معينة من عالم الفرد، وإذا كان الاتجاه الفطري قد غرست فيه معرفة الله عز وجل ومعرفة الخير والشر، فإن تغيير هذا الاتجاه يكون نتيجة لمعلومات

____________

(1) سورة الذاريات آية 56.

(2) سورة الحجر آية 39.

(3) سورة ق آية 6.

(4) سورة الأعراف آية 32.

الصفحة 18
جديدة أفرزتها دائرة التزيين والإغواء. فعلى هذه المعلومات يتغذى الإنسان الضعيف فينقلب مزاجه، ويقصد بالمزاج مجموعة الخصائص الانفعالية. أو بعبارة أخرى مجموعة الصفات التي يتسم بها سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه، ومع هذه الانقلابات تنشأ العواطف التي يقوم عليها صروح الحب في غير الله والعبادة لغير الله. وفوق هذه الصروح تنقسم الحياة الفعلية وفوق هذا الانقسام يكون الاحتناك الشيطاني. وهو قوله تعالى: (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي، لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا، قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) (1) قال في الميزان: والاحتناك في الآية: الالجام. وهو من قولهم: حنك الدابة بحبلها أي جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به (2). فعلى طريق الاحتناك وهو طريق اللاعبادة واللادعوة واللاشعور.

تبرز القوافل التي على عاتقها يكون تنفيذ البرنامج الشيطاني الذي يعارض به مهمة الإنسان في الأرض. وهو قوله تعالى: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم) (3) قال في الميزان: أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم وسبيلك السوي الذي يوصلهم إليك وينتهي بهم إلى سعادتهم.. فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه (4).

والشيطان لا يتمكن من إكراه الناس على المعصية. وإنما يدعو الناس إلى الضلال فقط. وهو قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من أتبعك من الغاوين) (5) والشيطان نفسه سيعترف بعدم إكراه

____________

(1) سورة الإسراء آية 63.

(2) الميزان 144 / 13.

(3) سورة الأعراف آية 16.

(4) الميزان 31 / 8.

(5) سورة الحجر آية 42.


الصفحة 19
الناس على المعصية يوم القيامة. وهو قوله تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر أن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم. وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) (1) وكما ذكرنا أن مجال دعوة وعمل الشيطان هو أحاسيس الناس وعواطفهم ومشاعرهم، لإيجاد الدافع الذي يغير الاتجاه بعيدا عن إتجاه الفطرة.

وجحافل الشيطان تكون أشد عنفا عند الذين آمنوا في حياة الأنبياء. قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا) (2) قال في الميزان: ومعنى جعل العدو من المجرمين أن الله جزاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم. فعاندوا الحق وأبغضوا الداعي إليه وهو النبي (3) وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي. إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) (4).

قال في الميزان: ومعنى الآية. وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى وقدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه وإقبال الناس عليه وإيمانهم به، ألقى الشيطان في أمنيته ووسوس للناس وهيج الظالمين وأغرى المفسدين ليفسدوا الأمر على ذلك الرسول أو النبي ويبطلوا سعيه، ولكن الله يزيل ما يلقي الشيطان ثم

____________

(1) سورة إبراهيم آية 22.

(2) سورة الفرقان آية 31.

(3) الميزان 205 / 15.

(4) سورة الحج آية 52 - 53.


الصفحة 20
يحكم آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي وإظهار الحق. وقيل: والتمني ربما جاء بمعنى القراءة والتلاوة. فيكون معنى الآية على هذا المعنى:

وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا وقرأ آيات الله ألقى الشيطان شبها مضللة على الناس بالوسوسة ليجادلوه بها ويفسدوا على المؤمنين إيمانهم، فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه.

4 - [ تأملات في الامتحان والابتلاء ]

غرس الله تعالى في أعماق الفطرة معرفته تعالى، وحمل النسيج الفطري إلهاما يميز به الإنسان ما هو تقوى مما هو فجور، ويعرف به طريق الخير وطريق الشر، وخلاصة القول أن الإنسان خلقه الله في أحسن تقويم. وهو قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) (1) قال في الميزان: ومعنى كونه في أحسن تقويم. صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الأهداف الرفيعة العليا، والفوز بحياة خالدة عند ربه. سعيدة لا شقاوة معها، وذلك بما جهزه الله به من العلم النافع ومكنه من العمل الصالح.

فالإنسان إذا آمن بما عمل وزاول صالح العمل. رفع الله عمله.

كما قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (2) أما إذا وقف الإنسان تحت ولاية الشيطان. فإنه يندرج في أسفل سافلين أي في مقام منحط، والمراد بالسفالة على أي حال. الشقاء والعذاب.

والإنسان ينطلق إلى العلم النافع والعمل الصالح من مخزونه الفطري ومن الدين الذي بعث به الله الأنبياء والرسل عليهم السلام،

____________

(1) سورة التين 5.

(2) سورة فاطر آية 15.


الصفحة 21
فالفطرة تربط الإنسان بغاية وجوده. والدين هو الطريقة الخاصة في الحياة التي تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، وشجرة الفطرة والدين تنبت في التوحيد. وأسلوب دين الله وقوانينه الجارية قامت على أساس الأخلاق التي تحفظ الإنسان من الخطأ والزلة، وعلى هذا الأساس الأخلاقي يكون العلم النافع. لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلاقه.

ولما كان الإنسان قد خلقه الله في أحسن تقويم. وذلك بتآلف العناصر التي يتكون منها. بحيث تتجه اتجاها موحدا نحو غرض معين، ولما كان الإنسان قد أنشأه الله مختارا في فعله. بمعنى أنه يعرف ما هو تقوى مما هو فجور. وله أن يميل في كل عمل إلى كل من جانبي الفعل والترك، فإن تعالى أجرى عليه الامتحان والحكمة في إسكان الله تعالى في الأرض بعد أن زينها سبحانه بجميع اللذائذ المادية، هي امتحان النوع الإنساني فردا فردا لإظهار صلاحية الإنسان الباطنية لاستحقاق الثواب والعقاب، والامتحان ناموس إلهي ولا يستثنى منه المؤمن والكافر والمحسن والمسئ، وكل جزء من أجزاء العالم وكل حالة من حالاته التي لها صلة بالإنسان هي من الوسائل والعوامل التي يمتحن الله البشر بها، وتحت سقف الامتحان يوجد إلقاءات شيطانية نفذت من أودية التزيين والإغواء. وتوجد أعلام الأنبياء والرسل عليهم السلام التي تسوق أتباعها نحو صراط الله العزيز الحكيم، وبين هذا وذاك لا يخفى الحق. لأن الحق لا يخفى بأي وجه وعلى أي تقدير. لأن الحق في النسيج الفطري. ولا يمنع الناس من قبوله والخضوع الباطني أمامه. إلا البغي والظلم والجحود والعناد والاستكبار.

فالإنسان يمتحن فردا فردا ليتلبس السعيد بسعادته والشقي

الصفحة 22
بشقائه والله غني عن العالمين، قال تعالى: (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) (1). وقال: (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) (2). وقال: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (3). وقال: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين) (4). وقال: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) (5) وقال: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) (6).

وإذا كان الإنسان يمتحن داخل وعائه الفردي. فإنه يمتحن أيضا داخل وعائه الاجتماعي، يمتحن شعوبا وقبائل وأمم، قال تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات) (7) قال في الميزان: والامتحان يكون فيما أعطى الله وأنعم.

وليست التكاليف الإلهية والأحكام المشرعة إلا امتحانا إلهيا للإنسان في مختلف مواقف الحياة، وفي قوله: (فاستبقوا الخيرات) فتح لأبواب الرحمة، أي فاستبقوا الخيرات وهي الأحكام والتكاليف. ولا تشتغلوا بأمر الاختلافات التي بينكم وبين غيركم (8).

فلما كان على الفرد حجج من الله. كذلك على المجتمعات حجج من الله. لأن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد

____________

(1) سورة يونس آية 108.

(2) سورة الأنعام آية 104.

(3) سورة فصلت آية 46.

(4) سورة العنكبوت آية 6.

(5) سورة الإسراء آية 72.

(6) سورة الإسراء آية 19.

(7) سورة المائدة آية 48.

(8) الميزان 352 / 5.

الصفحة 23
من أفرادها، ولما كان لكل فرد أجل محدد ومحتوم وله نهاية، فكذلك هناك أجل آخر وميقات أخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد. للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس من الأفكار والمبادئ، فهذا المجتمع الذي يسمى بالأمة. له أجل وله موت له حياة وله حركة، ولما كان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت. فكذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون ولناموس. كذلك الأمم أيضا لها آجالها المضبوطة، قال تعالى: (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (1).

وحركة المجتمع تحت سقف الامتحان. حركة تحكمها سنة الاستخلاف وهي السنة التي يمتحن بها الله الحاكم والمحكوم قال تعالى: (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (2) وحركة المجتمعات على امتداد التاريخ الإنساني حركة ناطقة. بمعنى أن الله تعالى جعل الماضي ينطق في الكون ليتدبر الحاضر وهو منطلق نحو المستقبل، قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) (3) فالحاضر إذا تدبر الماضي وجد أن الله تعالى يحيي الذين آمنوا وعملوا الصالحات حياة طيبة غير التي يعطيها للآخرين، وأن الحياة الدنيا التي يعتقد الموجود الحي إنها سعادة لنفسه وراحة لذاته.

إنما تكون سعادة فيها الراحة والبهجة إذا جرت على حقيقة مجراها.

ويجد الحاضر أن العذاب الذي رآه الناس هو نتيجة طبيعية لأعمالهم.

وأن الله لم يهلك أمة إلا بعد الانذار والحجة. وما هلكت أمة إلا بشركها بالله والإعراض عن آياته واستكبارهم في مقابل الحق وتكذيبهم

____________

(1) سورة الأعراف آية 34.

(2) سورة الأعراف آية 129.

(3) سورة يوسف آية 109.

الصفحة 24
الأنبياء والرسل. فإذا علم الحاضر هذا. استقام تحت مظلة الامتحان.

واستخدم جميع الموجودات واعتبرها وسيلته في الدنيا لبلوغ سعادة الآخرة.

وفي الوقت الذي يدعو فيه القرآن الكريم بتدبر الماضي، فإنه في الوقت نفسه يكشف عن المستقبل عندما يقف كل فرد للحساب أمام ربه. يوم ترى كل أمة جاثية وخشعت الأصوات للرحمن. ففي هذا اليوم يظهر التابع والمتبوع في كل مجتمع على حقيقته. يقول تعالى: (يوم نقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) (1) وفي مشهد آخر يقول تعالى: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) (2).

وبالجملة: إن للإنسان هدف واضح ومحدد وهو عبادة الله تعالى. وهذا الهدف الواضح المحدد يملك إمكانية تسمح بتحقيقه. وإن الشيطان لا يملك السلطان الذي يغير هذا الهدف. وإنما يحمل لافتات الزينة والزخرف التي تدعو إلى الضلال. ويوم القيامة يتبرأ الشيطان من الذين اتبعوه.

والخلاصة: قال تعالى: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون. فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) (3) قال في الميزان: " هل تظنون إنما خلقناكم عبثا تحيون وتموتون من غير غاية باقية في خلقكم وإنكم إلينا لا ترجعون " (فتعالى الله...) الآية.

____________

(1) سورة الأحزاب آية 68.

(2) سورة المؤمنون آية 106.

(3) سورة المؤمنون 115.

الصفحة 25
ووصف سبحانه نفسه بأنه ملك وأنه حق وأنه لا إله إلا هو وأنه رب العرش الكريم، فله سبحانه أن يحكم بما شاء من بدء. وعود وحياة وموت ورزق، نافذ حكمه ماضيا أمره لملكه، وما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق ولا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق، ولا يفعل سبحانه إلا حقا. فللأشياء رجوع إليه وبقاء به وإلا كانت عبثا باطلة ولا عبث في الخلق ولا باطل في الصنع (1).

5 - [ الدين الخاتم ]

أوجب الله تعالى على نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه.

فبعث سبحانه الأنبياء والمرسلين حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن مجال بحثنا هنا يبدأ من المسيرة الإسرائيلية لنقف على مشروع المسيح الدجال وينتهي إلى الأمة الخاتمة لنقف على مشروع المهدي المنتظر، فإننا سنلقي هنا بعض الضوء على المسيرة الإسرائيلية باعتبار إنها المسيرة السابقة على الدين الخاتم.

وبنظرة سريعة على المسيرة الإسرائيلية، نجد أن الدين الإلهي الذي بعث به موسى عليه السلام. نزل في وقت بدت فيه أعمال الكفار كالحجب المتراكمة والظلمات التي بعضها فوق بعض تخنق نور المعرفة في القلوب. وقامت فيه الحاجة الإنسانية للأمن والطعام بالهبوط بالإنسانية إلى درك أسفل سافلين، ويعود ذلك إلى العقائد التي رفع الشيطان أعلامها حول الأرباب المتعددة من كواكب ونجوم وأصنام وأوثان، ففي الوقت الذي كانت الإنسانية قد اكتسبت شعورا وجدانيا من الواقع يؤثر في سلوكها وشعورها. ويفرغ عليها طابعا خاصا. نزل الدين الإلهي على موسى عليه السلام. ليقود بني إسرائيل إلى صراط الله

____________

(1) الميزان 73 / 15.

الصفحة 26
الحميد ويكونوا هم بدورهم حجة على غيرهم. ولقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل نعما عديدة. تبدأ ببعثة موسى وهدايتهم إلى دين الله.

وتمر بنجاتهم من آل فرعون وتنتهي بإنزال التوراة وتشريع الشريعة التي تزهو بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهي سنة التوحيد. تأمرهم بطاعة الله ورسوله والعدل التام في مجتمعهم وعدم الاعتداء على غيرهم من الأمم.

وفي خيمة الاجتماع بين لهم موسى أن الأخلاق الفاضلة. تحتاج إلى عامل يحرسها ويحفظها في ثباتها ودوامها وهذا العامل هو التوحيد، وبين أن أركان المجتمع الصالح لا تثبت إلا برجال تحددهم الدعوة من صفاتهم الرسوخ في العلم، وأخبرهم أن تفسير أحكام الشريعة موقوفة على هارون وبنيه (1) وفي الوقت الذي كان موسى عليه السلام يبين فيه طريق الخير. أخبرهم بالغيب عن ربه بأنهم سيختلفون من بعده (2)، وسينحرفون (3) وسيفعلون ما يوجب لعنة الله عليهم (4).

ووقع ما أخبر به موسى عليه السلام، وبرزت قيادات هدفها التصارع على الملك، وكان اختيار هذه القيادات يتم نتيجة لصفات القائد الشخصية وأحيانا الجسمانية، ولم يتطرق الاختيار إلى عامل الأصالة أو المركز الديني، وتحت قيادة هذه الزعامات تسللت ثقافات عبادة العجول وغيرها من الأمم إلى بني إسرائيل، وعندما بعث فيهم داود عليه السلام ساقهم بعيدا عن عبادة المادة ووحد الدولة، ولكن هذا الاصلاح لم يدم طويلا. فبعد سليمان بن داود عليهما السلام انقسمت

____________

(1) أنظر: سفر اللاويين 1 / 9، 8 / 1 - 14.

(2) المصدر السابق 26 / 3 - 8.

(3) التثنية 31 / 4 2 - 29.

(4) المصدر السابق 38 / 15 - 36.

الصفحة 27
الدولة إلى مملكتين لا قوة لهما ولا مهابة، كانت مملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشاليم، بينما كانت مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها (شكيم) ثم (السامرة)، وبين المملكتين اشتعلت الحروب والصراعات، وقامت في كل مملكة العديد من الانقلابات طمعا في الحكم، وكانت هذه الانقلابات تنتهي بمجازر دموية. وفي بعضها كان الطرف المنتصر يقوم بقتل الأسرة المالكة ليقضي على النسل الملكي في المملكة المهزومة، وفي وسط هذا الظلام المتراكم قامت المسيرة الإسرائيلية تحت أعلام المملكتين. بعبادة البعل وبناء المشارف لتقديم الذبائح وصنعوا الشر وحادوا عن طريق الفطرة.

وبينما كانت المسيرة الإسرائيلية تتخبط في دروب الانحراف. جاء ملك آشور على مملكة إسرائيل وقام بسبيهم (عام 721 ق). وجاء ملك بابل على مملكة يهوذا وقام بسبيهم (عام 586 - ق م). وفي أرض السبي تغذت المسيرة الإسرائيلية من الثقافات العنصرية. ومن عقائد لا تؤمن بما وراء الحس. ولا ينقاد أتباعها إلا إلى اللذة والكمال المادي. وفي الحي اليهودي تلبست هذه الثقافات بلباس الدين. وظهرت مقولات الأخبار التي تصف اليهود بأنهم المخصوصون بالكرامة الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم. وبرروا ذلك بأن الله جعل فيهم نبوة وكتابا وملكا.

فلهم بذلك السيادة والتقدم على غيرهم. وأخذوا من أفواه أحبارهم أن الدين الموسوي لا يعدوا بني إسرائيل إلى غيرهم، وعلى هذا فهو جنسية بينهم، ولما كانت هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل، فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره. وتحت قيادة الحس والمادة أصبح القوم لا يقبلون قولا إلا إذا دل عليه الحس. وأن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبرائهم من جمال المادة وزخرف الحياة، وعلى امتداد هذا الفقه تناقضت الملكات الإنسانية قولا وفعلا بعد أن

الصفحة 28
كفر أصحابها بنعمة الله، وأنتج هذا التناقض العديد من الفتن المهلكة.

ولأن هذه الفتن تقود أصحابها إلى المسيح الدجال. وقعت المسيرة إلا من رحم الله في شراك الدجال. يقول النبي في (ص) " وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال " (1).

ومن لطف الله تعالى بعباده بعث فيهم المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولكن بنو إسرائيل كذبوه وطالبوه بأن يعيد لهم الملك إن كان هو المسيح حقا، وهذه الروح الباغية التي دبت في قلوبهم جعلتهم يفسدون في الأرض ويميتوا الروح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية، وكانت مقولة شعب الله المختار وأرض الميعاد أصل أصيل في الصد عن سبيل الله. لأن الفطرة تقول بأن الأرض لله يورثها الله من يشاء من عباده، والله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، لأن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل ناعق.

أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية، بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين، فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين. وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة.

وفي الوقت الذي كانت الظلمات فيه بعضها فوق بعض، بعث الله تعالى رسوله محمد (ص) بالرسالة الخاتمة إلى الإنسانية جمعاء، ولأن الإنسان كائن حي يرغب ويحس ويدرك وينفعل ويتذكر. ويتعلم ويتخيل ويفكر ويعبر ويريد ويفعل، ولأن العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة أخذ وعطاء وفعل وانفعال وتأثير متبادل وصراع موصول. وهو في تعامله

____________

(1) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).

الصفحة 29
معها يتأثر وينفعل بشتى الانفعالات. ويعبر عن أفكاره ومشاعره باللفظ تارة وبالحركة والإشارة تارة أخرى. ويكد ويسعى ويضرب في الأرض ويندمج في حلقات اجتماعية، فلأجل ذلك وغيره. قامت الرسالة الخاتمة بتوجيه الغرائز والانفعالات الإنسانية، ليتم التآلف بين العناصر المختلفة للشخصية وتتحد ويقوى ما بينها من ارتباطات. لتسلك مسلكا واحدا نحو هدف واحد.

وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة، خاطب القرآن والسنة المطهرة عقل الإنسان ووجدانه. وتم إرشاده إلى معرفة الله والإيمان به، وبينت له العبادات التي تدعم صلة الإنسان بربه وتزكي نفسه وتسمو بروحه، وانطلق الخطاب إلى المجتمع فبينت الأحكام والمبادئ التشريعية الأمور التي تنظم أمر المجتمع تنظيما عادلا متوازنا. وتخلصه من كل أسباب الصراع والانحراف وتتكافأ فيه الفرص لجميع الناس في حدود قدراتهم المختلفة، وأمر الشرع الحنيف برد أي اختلاف إلى الله ورسوله. قال تعالى: (وما اختلفتم في شئ فحكمه إلى الله) (1).

وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (2). وأمر الله الذين آمنوا بأن لا يكون لهم اختيار أمام اختيار الله ورسوله. قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) (3). وعلى هذا فمن حكم بغير حكم الله ورسوله يكون قد وقف في دائرة من دوائر ثلاث: دائرة الكفر لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (4). أو دائرة الظلم. لقوله تعالى: (ومن

____________

(1) سورة الثوري آية 10.

(2) سورة الحشر آية 7.

(3) سورة الأحزاب آية 36.

(4) سورة المائدة 44.

الصفحة 30
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (1) أو دائرة الفسق لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (2). وتحديد كل دائرة يخضع لفقه دقيق عال. فمن أراد الوقوف عليه فليراجع كتب العلماء.

والقرآن الكريم كتاب البعثة الخاتمة. يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله. وسلوك ما تألفه وتعرفه بحسب طبعها. ويحث حثا بالغا على تعاطي العلم ورفض الجهل. في جميع ما يتعلق بالسماويات والأرضيات والنبات والحيوان والإنسان من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائكة والشياطين وغير ذلك. ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، واشترط القرآن التقوى في التفكر والتذكر والتعقل وربط العلم بالعمل. للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم وخلوصه من الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية. والقرآن الكريم يتعرض بمنطقه لجميع شؤون الحياة الإنسانية. ويحكم على الإنسان منفردا أو مجتمعا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى. ويحكم على الحاضر والبادي والعالم والجاهل والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي مكان كان، وجميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد.

والدعوة الخاتمة لا تفرق بين أحد من رسل الله، لأن الدعوة الإلهية للبشرية دعوة واحدة، قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) (3). فأمرت الدعوة بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل. لأن من

____________

(1) سورة المائدة 45.

(2) سورة المائدة 47.

(3) سورة البقرة آية 285.

الصفحة 31
كذب نبي من الأنبياء يكون في الحقيقة قد كذب جميع الأنبياء وفرق بين الله ورسله. قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) (1).

وبالجملة:

إن البعثة الخاتمة تقضي بوقوف الاستكمال الإنساني. فعدم نسخ الدين وثبات الشريعة. يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه، والقرآن كتاب لا يقبل الإبطال والتهذيب والتغيير والنسخ، وثبات الشريعة يفيد بأن الحجة الدامغة قد أحاطت بالناس وهم يسيرون تحت سنة الامتحان لينظر الله إليهم كيف يعملون، وتحت هذه السنة نفى الله الدين الإجباري بعد أن تبين للناس الرشد من الغي. قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) (2).

6 - [ خاتمة المطاف ]

قامت الرسالة الخاتمة بإرشاد بني إسرائيل إلى طريق الحق، وقامت بتصحيح ما لديهم من معلومات وما يحتفظون من ذكريات تتعلق بأحداث لم يشهدوها في الماضي، ابتداءا من هجرة إبراهيم عليه السلام إلى الأرض المباركة. ومرورا بخلافة داود عليه السلام وقيام مملكته وبناء سليمان عليه السلام للهيكل. وانتهاء ببعثة المسيح عليه السلام وما انتهت إليه، ولكن الذين كفروا من بني إسرائيل لم ينصتوا إلى الحق

____________

(1) سورة النساء آية 151.

(2) سورة البقرة آية 256.