وإذا نظرنا في القرآن الكريم وتدبرنا آياته الكريمة، نجد أن الله تعالى امتدح الحواريون في أكثر من موضع، واعتبر شهادتهم حجة على المسيرة الإسرائيلية. وحاذى سبحانه بين قاعدة الحواريين وبين قاعدة الذين آمنوا في الدعوة الخاتمة على نبيها الصلاة والسلام، وفي آيات أخرى، ربط الحواريين والذين آمنوا في الدعوة الخاتمة برباط واحد هو رباط الشهادة لله.
أما المحاذاة بين الحواريين وبين الذين آمنوا. ففي قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله. قال الحواريون نحن أنصار الله) (1). والمراد بنصرتهم لله. أن ينصر الذين آمنوا النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. في سلوك السبيل الذي يسلكه إلى الله على بصيرة، ثم جاءت محاذاة الحاضر بالماضي في الدعوة الإلهية. فقال تعالى: (كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله. قال الحواريون نحن أنصار الله) ومعنى أن الحواريين أنصار الله. أي أنهم أنصارا لعيسى
____________
(1) سورة الصف آية 14.
وأما ربط الحواريين والذين آمنوا برباط واحد هو رباط الشهادة لله، ففي قوله تعالى: (قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) (1) ابن كثير في تفسيره: أن الشاهدين هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (2). والشاهدين ذكروا في أكثر من موضع بالأناجيل.
وأفاض سفر الرؤيا في أوصافهم، وتفسيرات علماء أهل الكتاب كلها تشير إلى أنهم الأمة الخاتمة. ومنهج هذه الأمة بينه (الأمين الصادق) كما جاء في سفر الرؤيا. بأنه يقدم الذهب النقي الذي صفته النار، ويقدم الثياب البيضاء التي تستر العري المعيب. والكحل الذي يشفي العينين فيعود إليهما البصر من جديد.
وبهذا تنسجم المقدمة مع النتيجة. تنسجم خاتمة دعوة إلهية إلى بني إسرائيل مع مقدمة دعوة إلهية للبشرية جمعاء، وعلى هذا يمكن القول أن مقدمة التلميذ الخائن الذي وهبه الله للمسيح. ثم صد عن سبيل الله بعد ذلك. لا تنسجم مع النتيجة التي جاءت في النصوص الكتابية، وعلى هذا الضوء يسقط الاتهام الذي تم توجيهه إلى قاعدة الحواريين.
2 - [ الوصايا الأخيرة ]
سارت دعوة المسيح عليه السلام بين الصخور وبين القلوب القاسية لتقيم حجتها، وعلى امتداد الطريق تعددت الأعداء، وتحالف
____________
(1) سورة آل عمران آية 52.
(2) تفسير ابن كثير 365 / 1.
فلقد تظاهر جنود الملك بالتدين ودخلوا مع الفريسيين أشد فرق اليهود تعصبا في دائرة واحدة، وانطلقوا إلى المسيح عليه السلام يحملون إليه سؤالا يقوم عليه اقتصاد الدولة الرومانية، وكانوا بهذا السؤال يريدون أن يوقعوا بالمسيح عليه السلام في شباكهم ليسلموه إلى الحاكم. بحجة أنه يناهض النظام ويضرب اقتصاده في مقتل، ولكن المسيح تفادى الصدام مع أصحاب القلوب القاسية بالإجابة التي أذهلتهم.
وعلى هذا المنوال بدأت التحالفات بين اليهود وبين خصومهم لاصطياد المسيح عليه السلام، وعندما ضاقت الحلقات، بدأ المسيح عليه السلام يخبر بالغيب عن ربه جلا وعلا. فحدث اليهود بما سيفعلوه للفتك به وكيف سينجيه الله من أيديهم، وحدث التلاميذ بأنه سيبقى معهم وقتا قليلا وإنهم لن يقدروا أن يذهبوا معه إلى حيث يذهب، وقال لهم إن عنده أمور كثيرة يريد أن يتحدث معهم فيها.
ولكن الوقت لن يسعفه لإتمام ذلك. وسوف يرسل الله إليهم. المحمد.
____________
(1) مرقص 12 / 13 - 17.
فعندما اشتد صد اليهود عن سبيل الله. وبدأوا يعدون العدة للفتك بالمسيح. قال لهم المسيح " أنا باق معكم وقتا قليلا. ثم أعود إلى الذي أرسلني. عندئذ تسعون في طلبي ولا تجدونني. ولا تقدرون أن تذهبوا إلى حيث أكون " (1). ومن الطبيعي أن اليهود لا يستطيعون الصعود إلى السماء. وبعد أن أخبر المسيح عليه السلام اليهود بأمور مستقبلية. قال لتلاميذه " يا أولادي الصغار. سأبقى عندكم وقتا قصيرا بعد. ثم تطلبونني. ولكني أقول لكم ما سبق أن قلته لليهود. إنكم لا تقدرون أن تأتوا حيث أنا ذاهب. وصية جديدة أنا أعطيكم. أحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم أنا. تحبون بعضكم بعضا. بهذا يعرف الجميع إنكم تلاميذي إن كنتم تحبون بعضكم بعضا. فسأله سمعان بطرس: يا سيد أين تذهب؟ أجابه يسوع: لا تقدر أن تتبعني الآن حيث أذهب ولكنك ستتبعني فيما بعد " (2) أي أنه لن يقدر أن يتبعه فيما ستسفر عنه الأحداث. حيث ينتهي الأمر بكف الله أيدي اليهود عن المسيح.
ورفعه إليه، وهذا معنى قوله " لا تقدر أن تتبعني الآن " ثم أخبره بأنه سيتبعه فيما بعد في الحياة الأبدية يوم القيامة. ولا يخلو النص من الإشادة بالاثني عشر. ومعنى أن المسيح يحبهم ويأمرهم بحب بعضهم بعضا. أن طريق الخيانة مغلق على هذا الدرب.
ويذكر القرآن الكريم. أن الله تعالى أخبر المسيح عليه السلام بعملية الرفع التي تحدث بها مع اليهود ومع التلاميذ فيما بعد، قال
____________
(1) إنجيل يوحنا 7 / 34.
(2) إنجيل يوحنا 13 / 34 - 36.
فبعد هذا البيان الوافي الشافي. بدأ المسيح عليه السلام يحدث الجميع بما ستنتهي إليه الأحداث. وأخبرهم بأنهم لن يقدروا أن يتبعوه حيث يذهب. وقال لتلاميذه أنهم سيتبعوه فيما بعد. سيتبعوه بالحجة الدامغة التي تفوق حجة الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم يتبعوه في
____________
(1) سورة آل عمران آية 55.
(2) سورة الأنعام آية 60.
(3) تفسير ابن كثير 366 / 1.
(4) الميزان 208 / 3.
ولأن معجزة الرفع إلى السماء سيكفر بها البعض وسيتأولها البعض الآخر ويضعها في غير موضعها. ولأنه على طريق هذه المعجزة فتن عديدة صنعها اليهود وتنتهي جميعا إلى الدجال. فإن من عدل الله ورحمته أنه أقام الحجة داخل الحي اليهودي. فجاءهم المسيح بالعلم الذي يبين بداية ونهاية المعجزة، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة، والله تعالى أوجب على نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه. وهو قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم) (1). ولما كان الحواريون في الصدارة من بعد المسيح. فلقد أخبرهم المسيح بأنهم سيشاهدون معجزة الرفع ليحدثوا الذين آمنوا بالحقيقة عندما يرى الناس الشبيه على الصليب، وجاء في إنجيل يوحنا أن المسيح قال للتلاميذ وهو يعدهم للقيام بالدعوة " الحق الحق أقول لكم: إنكم سترون السماء مفتوحة.
وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان " (2) فهذا النص يفيد أنهم كانوا في بعض الأوقات يشاهدون نزول الملائكة بالوحي على امتداد البعثة، ثم شاهدوا معجزة الرفع التي تنسجم مع طريق نزول الوحي على المسيح، ليردوا الوحي والرفع إلى قدرة الله تعالى وهم يبينون للناس حقيقة الأحداث التي تجري حولهم، فلا يسقط في فتنتها إلا الذين صنعوا الفتن من القاسية قلوبهم ومن شابههم.
وذكر الإنجيل أن المسيح بشر قبل رفعه (بالمعزي) الذي سيرسله الله ليشهد الشهادة الحق. التي يشهدها التلاميذ للمسيح. لتفوق حجتهم على حجة الكافرين به إلى يوم القيامة، ذكر يوحنا أن المسيح
____________
(1) سورة التوبة آية 115.
(2) إنجيل يوحنا 1 / 51.
لا يأتيكم المعزي... وعندما يجئ يقدم للعالم البرهان على الخطيئة وعلى البر وعلى الدينونة " (3) " ما زال عندي أمور كثيرة أقولها لكم.
ولكنكم الآن تعجزون عن احتمالها. ولكن عندما يأتيكم روح الحق.
يرشدكم إلى الحق كله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. بل يخبركم بما يسمعه. ويطلعكم على ما سوف يحدث " (4).
و (المعزي) الذي بشر به المسيح قبل رفعه إلى السماء، ترجمة للكلمة الإغريقية " البارقليط " ومعناها في قاموس اللغة اليونانية:
" المعزي. المحامي. الشفيع. المحمد. المحمود " وورد اسم " بار قليط. فارقليط. باراكليت. والمعزي. والمحامي. والمؤيد، في تراجم إنجيل يوحنا. ويقول الدكتور / حجازي السقا: والحق أن المسيح نطق لفظ " بيرقليط " وهو يترجم: أحمد. ويقول النصارى أن المسيح نطق " باراقليط " وعلى ذلك فليس هو أحمد. أي أن الخلاف في الكسرة والفتحة. فعلى الكسرة يكون اسم أحمد. وعلى الفتحة لا يكون اسم
____________
(1) المصدر السابق 15 / 26.
(2) المصدر السابق 16 / 1 - 3.
(3) المصدر السابق 16 / 4 - 9.
(4) المصدر السابق 16 / 12.
فمن أراد الوقوف على هذا البحث فعليه بمصدره (1).
لقد بشرهم عيسى عليه السلام بالمعزي. أو بالمحامي الذي يدافع عن الفطرة ويشهد الشهادة الحق في أحداث يعجزون عن احتمالها. وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة " (2) وقال " أنا أولى الناس بابن مريم. الأنبياء أولاد علات. وليس بيني وبينه نبي " (3) وفي لسان العرب في معنى " أولاد علات " أي إنهم لأمهات مختلفة ودينهم واحد.
وبنو العلات: بنو رجل واحد من أمهات شتى (4).
وبشرهم المسيح بالمعزي أو بأحمد أو بالمحمود أو بالشفيع روح الحق. الذي يرشدهم إلى الحق كله. لأنه لا يقول شيئا من عنده. فما من شفيع إلا بعد إذن الله تعالى. قال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه) (5). وقال: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (6). وقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (7). و قال:
(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا. وقالوا اتخذ الله ولدا. لقد جئتم شيئا إدا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. إن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ
____________
(1) أنظر كتاب نقد التوراة / د. حجازي السقا ص 207 وما بعدها.
(2) رواه مسلم (الصحيح 96 / 7).
(3) رواه مسلم (الصحيح 96 / 7).
(4) لسان العرب مادة علل ص 3080.
(5) سورة يونس آية 3.
(6) سورة البقرة آية 255.
(7) سورة سبأ آية 23.
وبعد أن بشرهم المسيح عليه السلام. رفع عينيه نحو السماء وقال " أنا مجدتك على الأرض وأنجزت العمل الذي كلفتني " (2) " أظهرت اسمك للناس الذين وهبتهم لي من العالم. كانوا لك فوهبتهم لي، وقد عملوا بكلمتك وعرفوا الآن أن كل ما وهبته لي فهو منك. لأني نقلت إليهم الوصايا التي أوصيتني بها فقبلوها.. وآمنوا إنك أرسلتني من أجل هؤلاء أصلي إليك " (3).
وبتحذير المسيح من الذين يدعون النبوة. وبتبشيره بروح الحق الذي يرسله الله إلى العالم قبل يوم القيامة. تنتهي دعوة المسيح عليه السلام في بني إسرائيل. وإذا كان العهد القديم قد انتهى بتبشير ملاخى " هانذا أرسل إليكم إيليا النبي قيل يوم الرب اليوم العظيم المخوف.
فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأخرب الأرض بلعن " (4) فإن العهد الجديد انتهت آخر بشاراته بالمعزي فأخبرهم المسيح عليه السلام بأن المعزي سيطلعهم على ما سوف يحدث.
وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال له تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في
____________
(1) سورة مريم آية 87.
(2) يوحنا 17 / 5.
(3) استثنى النص يهوذا. ولقد بينا أن الخائن لا وجود له في نصوص أخرى.
(4) ملاخى 4 / 5 - 6.
إلا كان من أصحاب النار " (3).
3 - [ الشك المريب ]
بعد أن تكاتفت مؤسسات الباطل من أجل الصد عن سبيل الله، بلغت الأحداث ذروتها برفع المسيح عليه السلام، ليكون رفعه آية للذين يؤمنون بأن القوة جميعا لله، ويكون في الرفع عقوبة للذين ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم جزاءا بما قدموا. لتلقى بهم العقوبة في طريق الضنك حتى ينتهي بهم المقر. تحت أعلام المسيح الدجال آخر الزمان، ورفع المسيح عليه السلام جاء ذكره في مزامير داوود وهو يخبر بالغيب عن ربه. قال " لأنك قلت أنت يا رب ملجئي.
لا يلاقيك الشر ولا تدنو ضربة من خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك " (4). وذكر تعالى في القرآن الكريم أنه حفظ المسيح عليه السلام
____________
(1) سورة البقرة آية 159.
(2) سورة النساء آية 51.
(3) رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).
(4) مزامير 91 / 9 - 10.
وقال تعالى في رفع المسيح عليه السلام (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا. وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما) (2).
ومن هذه الآيات نعلم (أولا): أن المسيح عليه السلام لم يتوف بأيديهم لا صلبا ولا غير مصلوب، بل شبه لهم، أي أخذوا غير المسيح عليه السلام فقتلوه أو صلبوه (ثانيا) إن الذين اختلفوا في عيسى أو في قتله لفي شك منه. والشك نقيض اليقين (ثالثا) إن ما قالوه ترجع أصوله إلى الظن. أي إلى التخمين.
وقوله تعالى: (وما قتلوه يقينا) أي ما قتلوه قتل يقين. أو. ما قتلوه أخبرك خبر يقين " بل رفعه الله إليه " أي إلى السماء " وكان الله عزيزا حكيما " ومعنى العزيز. أي الممتنع فلا يغلبه شئ. وقيل: هو القوي الغالب كل شئ. ومعنى حكيما: أي الذي يحكم الأشياء ويتقنها. فهو تعالى حكيم في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم.
____________
(1) سورة المائدة آية 110.
(2) سورة النساء آية 155 - 158.
ويعتقدوا بأن الشبيه هو المسيح، فلقد أوجب تعالى على تفسير أن يبين لعباده ما يتقون. قال تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) (1). والمسيح عليه السلام وتلاميذه من بعده أقاموا الحجة على المسيرة أثناء الدعوة وعند ذروة الأحداث وبعدها. ثم بعث النبي الخاتم (ص) وبين للناس الذي هم فيه مختلفون.
ومن بين فرق النصارى يوجد من يعتقد بأن المسيح عليه السلام لم يصلب وإنما صلب رجل آخر شبه به. يقول بتراند راسل " كانت طائفة الدوسيين قد ذهبوا إلى أن المسيح لم يكن هو الذي صلب. بل بديل أشبه به. وقد ظهر رأي مماثل لذلك في الإسلام " (2).
وعند البحث عن القاعدة التي ينتسب إليها الشبيه الذي ألقي عليه شبه المسيح عليه السلام، لا نجد إلا قاعدتين لا ثالث لهما. إما أن يكون من الفريق الذي صد عن سبيل الله، وأما أن يكون من التلاميذ الذين أقروا بنصرتهم للمسيح وسلكوا السبيل الذي يسلكه إلى الله، فإذا افترضنا أن الشبيه ينتمي إلى الفريق الكافر بالدعوة. نجد أن هذا الافتراض يؤدي إلى هدم الدعوة من رأس، وذلك لأن الشبيه في هذه الحالة سيعلن على الذين أشرفوا على محاكمته وعلى الجموع بعد ذلك.
أنه ليس المسيح حتى يحاكموه ثم يصلبوه، وقد يستغل شيوخ اليهود هذا الاقرار. فيدمرون دعوة المسيح ويغرسون أعمدة دعوتهم على لسان الشبيه، ويترتب على ذلك فتنة الذين آمنوا بالمسيح وانتصار الباطل على الحق وهذا محال. لأن الرفع كان بقدرة العزيز الحكيم الذي له الحكمة
____________
(1) سورة التوبة آية 115.
(2) حكمة الغرب / بتراندراسل ص 242.
وبالجملة: لم يعلن الشبيه عن اسمه ولم يذكر في أي موطن من المواطن أنه ليس المسيح. كما جاء في الأناجيل. وعلى هذا فلا بد أن يكون الشبيه من القاعدة الثانية. قاعدة التلاميذ. الذين قالوا " نحن أنصار الله " وقالوا (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) (1) ويؤكد ذلك الأحاديث التي وردت في كتب التفسير. ومنها ما روي أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه " يا معشر الحواريين. أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه. فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا. فقال له المسيح: هو أنت ذاك. فألقى عليه شبه عيسى. ورفع عيسى من روزنة البيت إلى السماء، وفي رواية " وألقى عليه شبه عيسى حتى كأنه هو. وفتحت روزنة من سقف البيت.
وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم فرفع إلى السماء " (2).
فإلقاء الشبه على واحد من التلاميذ فيه حفظ للدعوة. لأن حركته على امتداد المحنة هي حركة التلميذ الذي امتحن الله قلبه بالإيمان. فلن يتكلم ولن يتحرك إلا وفقا لتعاليم المسيح. ووفقا لتوصياته التي تخص هذه المحنة بالذات. لينجو الذين آمنوا ويسقط الذين كفروا في الفتنة.
ويمكن أن يصل الباحث إلى أن الذي صلب لم يكن المسيح عليه السلام. إذا تدبر في الأحداث ودقق النظر في أقوال الشبيه. ونحن سنلقي الضوء على حركة الرجل الذي صلب كما جاءت في الأناجيل.
وإذا كانت الأناجيل قد قدمتها على أساس أنها حركة المسيح. فإن على الباحث أن يقرأها ويتدبرها على أساس أنها صادرة من الشبيه. وفي
____________
(1) سورة آل عمران آية 52.
(2) أنظر: تفسير ابن جرير وتفسير البغوي وتفسير ابن كثير في قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه).
ومن الأعجب أن رؤساء الكهنة والكتبة. كانوا يعرفون المسيح. فلقد شاهدوه في الهيكل وهو يلقي بمواعظه. وتحدث إليهم وتحدثوا إليه في أكثر من مكان. كما ذكرت الأناجيل (1). كما أن جنود الدولة كانوا يعرفونه أيضا. وقد ذهبوا إليه وسهم بعض اليهود يسألونه عن الجزية.
هل يعطونها للدولة أم لا. وكانوا يريدون من وراء ذلك أن يوقعوه تحت عقوبة مناهضة السلطة الرومانية، ولقد أجابهم المسيح يومئذ بقوله " ما لقيصر لقيصر وما لله لله " كما ذكرت الأناجيل (2).
وتبدأ الأحداث أن رؤساء الكهنة والفريسيون بعد أن عقدوا العزم على القبض على المسيح عليه السلام، بعثوا إليه بمجموعة وأوكلوا إليها هذا العمل. وذكرت الأناجيل أن يهوذا الخائن كان معهم، ويذكر إنجيل يوحنا أنهم عندما اقتربوا من المسيح " تقدم نحوهم وقال:
من تريدون؟ أجابوه: يسوع الناصري. فقال لهم: أنا هو " " فلما قال أنا هو. تراجعوا وسقطوا على الأرض " (3) من هذا النص نعلم أن رؤساء الكهنة بعثوا بمجموعة للقبض على المسيح لم يكن فيها أحدا يعرف
____________
(1) أنظر: دخول المسيح إلى أورشاليم (متي 21 / 1 - 17)، وتوبيخه للفريسيين وعلماء الشريعة (لوقا 11 / 37 - 54) ومحاولة اليهود رجم المسيح (يوحنا 10 / 21 - 39)، طرد الباعة من الهيكل (متي 21 / 12 - 17، مرقس 11 / 15 - 18، لوقا 19 / 45).
(2) أنظر (متي 22 / 15 - 12، مرقس 12 / 13 - 17، لوقا 20 / 20 - 26).
(3) يوحنا 18 / 4 - 7.
عقب القبض على شبيه المسيح. كان الشك عنوانا رئيسيا في كل محاكمة وقف أمامها الشبيه. جاء في إنجيل متي " وانعقد المجلس اليهودي الأعلى بحضور رؤساء الكهنة والشيوخ كلهم. وبحثوا عن شهادة زور على المسيح ليحكموا عليه بالموت. ولكنهم لم يجدوا..
أخيرا تقدم اثنان وقالا: هذا قال: إني أقدر أن أهدم هيكل الله وأبنيه في ثلاثة أيام. فوقف رئيس الكهنة وسأله: أما تجيب بشئ على ما يشهد به هذان عليك؟ ولكن يسوع ظل صامتا فعاد رئيس الكهنة يسأله قال:
أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح؟! فأجابه يسوع:
أنت قلت. وأقول لكم أيضا إنكم منذ الآن سوف ترون ابن الإنسان
ومن الدليل أن الشبيه كان يتنبأ بنزول عيسى عليه السلام أنه عندما أخبرهم بمجئ المسيح على سحب السماء. يذكر إنجيل متي. أنهم ضربوه ولطمه بعضهم قائلين " تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك " (5).
وظل الشك رداءا للقوم على امتداد الليل. ويقول لوقا في إنجيله " ولما طلع النهار. اجتمع مجلس شيوخ الشعب المؤلف من رؤساء الكهنة والكتبة وقالوا: إن كنت أنت المسيح فقل لنا!! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون. وإن سألتكم لا تجيبوني. ألا إن ابن الإنسان من الآن سيكون جالسا عن يمين قدرة الله " (6)..
____________
(1) متي 26 / 60 - 64.
(2) لأمة / أي درع. ويقال سلاح.
(3) رواه الطبراني وابن عساكر (تواتر أحاديث نزول المسيح ص 253).
(4) رواه الطبراني وابن عساكر (التواتر ص 164) (تفسير ابن كثير 583 / 1).
(5) متي 26 / 68.
(6) لوقا 22 / 66 - 70.
ثم انتقلوا به من الحي اليهودي إلى مقر الحاكم بيلاطس.
يقول إنجيل متي " ووقف يسوع أمام الحاكم فسأله الحاكم: أأنت ملك اليهود؟ أجابه: أنت قلت. وكان رؤساء الكهنة والشيوخ يوجهون ضده الاتهامات وهو صامت لا يرد. فقال له بيلاطس: أما تسمع ما يشهدون به عليك. لكن يسوع لم يجب الحاكم ولو بكلمة حتى تعجب الحاكم كثيرا " (1).
وعندما علم بيلاطس أن المسيح تابع وفقا لتقسيم الدولة لسلطة هيرودس. أحاله اليه. وكان هيرودس في أورشاليم وقتئذ. وذكر إنجيل لوقا بأنه كان في اشتياق لرؤية المسيح ليشاهد معجزاته. وقال " من هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذه الأمور. وكان يرغب في أن يراه " (2) وعندما وقف الشبيه في حضرة هيرودس طلب منه أن يرى آية ما تجري على يديه. ولكن الشبيه لا يستطيع أن يقدم معجزة لأنه تلميذا للمسيح عليه السلام. والمسيح وحده هو الذي يحيي الموتى بإذن الله ويشفي المرضى بإذن الله. يذكر إنجيل لوقا " ولما رأى هيرودس يسوع فرح جدا لأنه كان يتمنى من زمان طويل أن يراه بسبب سماعه الكثير عنه. ويرجو أن يرى آية ما تجري على يديه. فسأله في قضايا كثيرة. أما هو فلم يجبه عن شئ. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يتهمونه بعنف. فاحتقره
____________
(1) متي 27 / 11 - 14.
(2) لوقا 9 / 9.
وفي هذا النص كفاية على أن الذي تحدث معه هيرودس لم يكن المسيح عليه السلام، وإنما كان شبيهه، فهيرودس كان يتمنى أن يرى المسيح. ويرجو أن يرى آية، والله تعالى أيد المسيح عليه السلام بأكثر من آية، وكان عليه السلام تجري معجزاته في المدن ويوبخ الذين شاهدوها ولم يتوبوا. يقول متي في إنجيله " ثم بدأ يسوع يوبخ المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته لكون أهلها لم يتوبوا " (2) وهيرودس سأل آية. ومن تعاليم المسيح قوله كما جاء في إنجيل مرقس " ليس الأصحاء هم المحتاجين إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعو أبرارا بل خاطئين " (3) وكان يقول كما جاء في إنجيل متي " ما رأيكم في إنسان قد جاء لكي يخلص الهالكين. ما رأيكم في إنسان كان عنده مئة خروف فضل واحد منها. أفلا يترك التسعة والتسعين في الجبال. ويذهب يبحث عن الضال. الحق أقول لكم: إنه إذا وجده فإنه يفرح به أكثر من فرحه بالتسعة والتسعين التي لم تضل " (4) فوفقا لهذه النصوص لا يوجد مانع يحول بين هيرودس وبين ما يرجو أن يراه على أيدي المسيح عليه السلام. والدعوة الإلهية في عصر النبوة تفتح للآيات طرقا عديدة ليؤمن الناس بما وراء المعجزة. ولكن ما حدث في وجود هيرودس وجليسه يدعو إلى العجب. فهيرودس الذي قال عن المسيح يوما " من هو هذا الذي أسمع عنه هذه الأمور. وكان يرغب في أن يراه " (5).
وعندما رآه فرح جدا لأنه كان يرجو أن يرى آية ما تجري على
____________
(1) لوقا 23 / 8 - 12.
(2) متي 11 / 20.
(3) مرقس 2 / 17.
(4) متي 18 / 11 - 14.
(5) لوقا 9 / 9.
لقد جلس شبيه المسيح في دائرة الصمت الذي لا يضر، دائرة الصمت فيها والكلام محسوبان بدقة بالغة، حتى لا تنهار الدعوة من رأس. ولكن تفوق حجة الذين آمنوا على حجة الكافرين إلى يوم القيامة، وكان عزاء الشبيه وهو يتلقى من الناس الأذى والسخرية، أنه ينصر دين الله، ومن حوله صدى صوت المسيح عليه السلام عندما قال وهو يخاطب التلاميذ " طوبى لكم متى أهانكم الناس واضطهدوكم وقالوا فيكم من أجلي كل سوء كاذبين. افرحوا وتهللوا فإن مكافأتكم في السماوات عظيمة. فإنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم " (1). والشبيه كان تحت جميع الضربات التي تم توجيهها إليه. متعلقا بالثواب الذي سيناله في الآخرة، فقد قال أمام الحاكم بيلاطس " ليست مملكتي من
____________
(1) متي 5 / 11 - 13.
فالشبيه في دائرة الصمت هو في حقيقة الأمر في دائرة المنتصر.
وهو في هذه الدائرة يؤدي فريضة الصوم في أسمى معانيها. وقد سئل المسيح عليه السلام يوما " لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين وأما تلاميذك فلا يصومون؟ فأجابهم: هل يقدر أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم. ما دام العريس بينهم لا يقدرون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيام يكون العريس فيها قد رفع من بينهم. فيومذاك يصومون " (3).
إن للصوم معاني وللصوم مراتب بعد رفع المسيح. والشبيه في دائرة الصمت كان يؤدي فريضة. تحفظ للدعوة مكانها في عالم تقذر بقذارة الكفر والطغيان، وفي مصادر الإسلام كان الشبيه يعلم أنه سيقتل لا محالة حين يشبه للقوم في صورة عيسى عليه السلام (4). وفي مصادر النصارى كان التلاميذ يعلمون أن في اتباع المسيح مشقة لا يتحملها إلا مؤمن، ومن هذه المشاق عقوبة الصلب لكل من يلعنه المجتمع، ورغم قسوة هذه العقوبة. إلا أن المسيح عليه السلام قال " إن أراد أحد أن يسير ورائي فلينكر نفسه. ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني " (5). وحمل الشبيه صليبه. وفي نهاية المطاف نكس رأسه وأسلم الروح.
وأصابت الفتنة المهلكة الذين يسارعون في الأرض الفساد. ففي
____________
(1) يوحنا 18 / 36.
(2) متي 19 / 27 - 30.
(3) مرقص 2 / 19.
(4) أنظر تفسير ابن كثير لدى قوله تعالى: (وما قتلوه...).
(5) لوقا 9 / 23.
____________
(1) متي 27 / 43.
(2) يوحنا 19 / 19.
(3) سورة النساء آية 157.
(4) سورة النساء آية 18.
4 - [ التقدم إلى الخلف ]
أخبر المسيح عليه السلام تلاميذه بأنهم سيضطهدون وسيطردون خارج المجامع. وإنه سيأتي وقت يظن فيه من يقتلهم أنه يؤدي خدمة لله (1) وفي آخر الدعوة قال المسيح لتلاميذه " حين أرسلتكم بلا صرة مال ولا كيس زاد ولا حذاء. هل احتجتم إلى شئ. فقالوا: لا فقال لهم: أما الآن فمن عنده صرة مال فليأخذها وكذلك من عنده حقيبة زاد. ومن ليس عنده فليبيع رداءه ويشتر سيفا " (2) لقد كان عليه السلام يعدهم للدفاع عن أنفسهم. وكما نزل الستار على أبناء هارون من بعد موسى وهارون. وهم الذين عينتهم الدعوة الإلهية لتفسير الشريعة، وكما ضاعت أصواتهم في ساحات الضوضاء والغوغاء فلم ترى معالمهم في السطور التي احتوتها الأصول، كذلك نزل الستار على تلاميذ المسيح عليه السلام من بعد رفع المسيح، وضاعت أصواتهم على موائد المجامع. ولم تكن لهم معالم في سطور القرارات التي أصدرتها المجامع عبر تاريخها. ولم يعرف من سيرة تلاميذ المسيح عليه السلام إلا ما أخبرت به الدعوة الإلهية الخاتمة. روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " كونوا كأصحاب عيسى. نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير. موت في طاعة خير من حياة في معصية " (3) وبعد اضطهاد الأصحاب جاء العصر الذي اضطهد فيه الأتباع
____________
(1) أنظر: يوحنا 16 / 1 - 3.
(2) لوقا 22 / 35 - 37.
(3) رواه ابن عساكر عن ابن مسعود. والطبراني عن معاذ (كنز العمال 216 / 1).
قيل: كان الأخدود بنجران. وكان بها بقايا قوم على دين عيسى بن مريم، وأراد ملك من ملوك حمير كان قد تهود أن يحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها، فجمع من كان بنجران على دين المسيح ثم عرض عليهم دين اليهودية، فأبوا عليه واختاروا القتل. فاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب وأشعل فيه النيران. فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف، وقوله تعالى: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله..) أي ما كرهوا من أولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله. فأحرقوهم لأجل إيمانهم. وقيل: أن لأصحاب الأخدود وقائع متعددة وقعت بالحبشة واليمن والعجم والإشارة في الآية إلى جميعها. وذكر ابن كثير أنه في زمن قسطنطين. ألقى النصارى الذين كانوا على دين المسيح عليه السلام في أخدود وقتلوا جميعا بالنار (2). ومن الثابت أن قسطنطين هو الذي دعا إلى مؤتمر نيقية عام 325 م. وهو الذي اعتمد قانون الإيمان النصراني الذي يقول بألوهية المسيح. كما سنبين في موضعه.
وبالجملة: تم اضطهاد وقتل الذين سلكوا سبيل عيسى عليه السلام. ونزل عليهم الستار كما نزل من قبل على أبناء هارون في صدر المسيرة الإسرائيلية. ورغم نزول الستار إلا أن آثار أقدامهم واضحة على امتداد الطريق. لأنها أصل من أصول الدعوة يقام به الحجة على كل من يتدبر في الأصول. وهذا الأصل يقود إلى الدعوة الخاتمة التي جعلها الله حجة على البشرية جمعاء.
____________
(1) سورة البروج آية 4 - 8.
(2) ابن كثير في تفسيره 495 / 4.
ولما كان بولس تعود إليه الخميرة الأولى للمسيرة المسيحية الحاضرة، فإن البحث يقضي بضرورة إلقاء بعض الضوء عليه وعلى اجتهاداته. فيما يتعلق بالعمل بالشريعة الموسوية والتبشير بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، على إعتبار أن دعوة المسيح عليه السلام كانت تقوم على هذين الاتجاهين.
أولا - " من هو بولس "؟:
يقول بولس عن نفسه " إن اليهود جميعا يعرفون نشأتي من البداية. فقد عشت بين شعبي في أورشاليم منذ صغري. وما داموا يعرفونني من البداية فلو أرادوا لشهدوا. ليشهدوا إنني كنت فريسيا أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في ديانتنا " (2) ويقول " كنت متفوقا في الديانة اليهودية على كثيرين من
____________
(1) تاريخ الكنيسة / لويرم ص 83.
(2) أعمال الرسل 26 / 5 - 7.
ولقد علمنا فيما سبق أن المسيح عليه السلام حذر من الفريسيين ومن خميرهم. أي من تعاليمهم (2). ولقد كان الفريسيون من أشد الناس خطرا على دعوة المسيح على امتداد بعثته وبعدها، وبولس نفسه يشهد بذلك. قال " كنت أعتقد أنه يجب أن أبذل غاية جهدي لأقاوم اسم يسوع الناصري، وقد عملت على تنفيذ خطتي في أورشاليم. بتفويض خاص من رؤساء الكهنة، فألقيت من السجن عددا كبيرا من القديسيين، وكنت أعطي صوتي بالموافقة عندما كان المجلس يحكم بإعدامهم، وكم عذبتهم في المجامع كلها لأجبرهم على التجديف. وقد بلغ حقدي عليهم درجة جعلتني أطاردهم في المدن في خارج البلاد " (3) وقال " كنت أضطهد كنيسة الله متطرفا إلى أقصى حد. ساعيا إلى تخريبها " (4).
ثانيا - " كيفية اعتناق بولس للنصرانية ":
بما أن بولس كان متفوقا في الديانة اليهودية كما ذكر. فإنه كان يعلم بمنزلة هارون وبنيه في الشريعة اليهودية، والراصد لحركة بولس في اتجاه النصرانية. يجد أنه ادعى لنفسه منزلة هارون لتكون مدخله إلى الحي النصراني، وبعد الدخول ادعى لنفسه أن منهجه لم يتسلمه من إنسان بل من الله، وإنه اطلع على السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في الأجيال الماضية، وقال إن النعمة الموهوبة إليه لم تكن عبثا. لأنه عمل جاهدا أكثر من الرسل الآخرين، ومن تحت هذا السقف خرجت عقيدة
____________
(1) غلاطية 1 / 14.
(2) أنظر: متي 12 / 22 - 37، متى 16 / 5 - 12، مرقس 8 / 14 - 21، لوقا 11 / 37 - 54.
(3) أعمال الرسل 26 / 10 - 12.