ومنزلة هارون جاءت على لسان بولس عندما قال " إن الكاهن الأعلى كان يؤخذ من بين الناس، ويعين للقيام بمهمته نيابة عنهم في ما يخص علاقتهم بالله، وذلك لكي يرفع إلى الله التقدمات والذبائح...
ولم يكن أحد يتخذ لنفسه هذه الوظيفة الشريفة متى أراد، بل كان يتخذها من دعاه الله إليها كما دعا هارون " (2) وعلى هذه الخلفية. ذكر بولس أنه كان في طريقه إلى دمشق لإنجاز مهمة كلف بها. وهي القبض على بعض أتباع المسيح وسوقهم مقيدين إلى أورشاليم، وقال " وفيما هو منطلق إلى دمشق وقد اقترب منها. لمع حوله فجأة نور من السماء فوقع على الأرض. وسمع صوتا يقول له: شاول. شاول. لماذا تضطهدني؟ فسأل: من أنت يا سيد؟ فجاءه الجواب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. والآن قم وأدخل المدينة فيقال لك ما يجب أن تفعله " (3).
وإذا كان بولس قد ذكر هنا أن المسيح أمره بدخول المدينة ليتلقى الأوامر. فإنه ذكر في موضع آخر أن المسيح عينه خادما له وحمله رسالة إلى الأمم. قال " فسألت: من أنت يا سيد؟ فأجاب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، أنهض وقف على قدميك فقد ظهرت لك لأعينك
____________
(1) أعمال الرسل 26 / 5 - 7.
(2) عبرانيين 5 / 1 - 5.
(3) أعمال الرسل 9 / 3 - 7.
ثالثا - " بولس والشريعة ":
على امتداد عهد المسيح عليه السلام. كان يقول " لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء. ما جئت لألغي بل لأكمل " (6)، وعندما جاء بولس وقاد المسيرة ألغى الشريعة. قال " كانت الشريعة هي مؤدبنا حتى مجئ المسيح لكي تبرر على أساس الإيمان، ولكن بعد ما جاء الإيمان تحررنا من سلطة المؤدب، فإنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنكم جميع الذين تعمدتم في المسيح قد لبستم
____________
(1) أعمال الرسل 26 / 15 - 17.
(2) غلاطية 1 / 1.
(3) غلاطية 1 / 11.
(4) كورنثوس 1 / 17.
(5) كور 1 / 10.
(6) متي 5 / 17.
فكم بالأحرى نخلص بحياته ونحن مصلحون " (2). وقال " يا إخواني.
فإنكم بواسطة جسد المسيح الذي مات. قد صرتم أمواتا بالنسبة للشريعة لكي تصيروا إلى آخر. إلى المسيح نفسه " (3). وقال " إن المسيح حررنا بالفداء من لعنة الشريعة. إذ صار لعنة عوضا عنا. لأنه قد كتب:
ملعون كل من علق على خشبة " (4).
وعلى هذا الأساس الذي وضعه بولس. ألغيت الشريعة التي جاء أنبياء بني إسرائيل ليبينوها للناس. وليحذرونهم من المخالفة والانحراف الذي يترتب عليه لعنهم إلى يوم القيامة، وبولس ألغى الشريعة تحت عنوان: أن المسيح مات عن العصاة في الوقت المعين. وما دام قد مات عوضا عن الجميع وصار لعنة لأجلهم. فمعنى ذلك أن الجميع قد ماتوا بالنسبة للشريعة. وعندما قام المسيح من بين الأموات صاروا إليه ولبسوا فيه. وما دام الأمر كذلك فلا فائدة ترجى من الشريعة. لأن الأحياء لا يعيشون بالشريعة وإنما بالذي مات عوضا عنهم ثم قام (5)!! ولم يكتفي بولس بإلغاء الشريعة. بل هدد العاملين بها. ولا ندري أي إيمان يكون بغير الكتب السماوية وتصديق الأنبياء. وهل عرفنا الإيمان إلا بالناموس الذي هو من أوامر الله.
____________
(1) غلا 3 / 23 - 29.
(2) روما 5 / 7 - 11.
(3) روما 7 / 4 - 5.
(4) غلا 3 / 13.
(5) أنظر: كور 5 / 16، غلا 3 / 23 - 29، روما 5 / 7 - 11.
رابعا - " بولس والتبشير بالنبي الخاتم (ص) ":
بعد أن ألغى بولس الشريعة. ودفع بالقافلة إلى حيث لا ضابط لها فيما تفعل أولا تفعل. وترتب على هذا ظهور الكثير من الأحبار والرهبان ليشرعوا للناس ويأكلوا أموال الناس بالباطل. وظهور الكثير من الفرق التي اتخذت عقيدة أرض الميعاد وثقافتها وقودا لها. وكان الحي النصراني هو الأرض الخصبة لهذه الفرق. نظرا لوجود الحي اليهودي مع الحي النصراني تحت سقف واحد ينتمي إلى بني إسرائيل بالاسم.
وبولس قام بالتعتيم على نبوة الرسالة الخاتمة. من خلال تصوره لعقيدة ميراث بني إسرائيل. بمعنى أنه تتبع الميراث من عند بدايته. ومن عند البداية ضرب الخط الذي يبعث الله منه النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. والوعد جاء ذكره في التوراة على النحو التالي " في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لتلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات " (1).
ويقول بولس في هذا الوعد " فإنه قد كتب إن إبراهيم كان له إبنان. أحدهما من الجارية. والآخر من الحرة. أما ابن الجارية فقد ولد حسب الجسد. وأما ابن الحرة فإتماما للوعد " (2) وابن الجارية الذي يقصده بولس. هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وأمه هاجر عليها السلام. ومن ذريته بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. أما ابن الحرة الذي يقصده بولس. فهو إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وأمه سارة عليها السلام، ومن أبنائه يعقوب ومن ذريته بعث الله أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام.
____________
(1) تكوين 15 / 18 - 20.
(2) غلا 4 / 22 - 24.
لقد جرد بولس الحي النصراني من الشريعة التي يتمسك بها الحي اليهودي، وعلى هذا يصبح لا معنى وراء اعتناق اليهودي للنصرانية التي حررها بولس من الشريعة، ولأن النصرانية التي أسسها بولس تعمل تحت سقف الحي اليهودي. فإن وجود النصارى تحت هذا السقف يكون له معنى بأي صورة من الصور، وبولس نفسه يقول " لي رجاء بإن يحقق الله ما وعد به آباءنا. وما زالت أسباط شعبنا الاثني عشر تواظب على العبادة ليل نهار راجية تحقيقه " (1). وقد علمنا من قبل أن الأسباط الاثني عشر تخص الحي اليهودي، وأن التلاميذ الاثني عشر يخصوا دعوة المسيح فإنهم ذلك.
ودفع القافلة النصرانية لخدمة الأهداف اليهودية. نراها في أصول بولس التي تتحدث عن الميراث وتضرب من خلاله آيات التبشير بالنبوة الخاتمة. ومن ذلك قوله " قد سمعتم بتدبير نعمة الله الموهوبة لي لأجلكم. كيف كشف لي السر عن طريق الوحي. كما كتبت قبلا بإيجاز. ويمكنكم حينما تقرأون ما كتبته أن تدركوا اطلاعي العميق على سر المسيح. ذلك السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في الأجيال الماضية مثلما أعلن اللآت بوحي الروح لرسله القديسيين وأنبيائه، وهو:
____________
(1) أعمال الرسل 26 / 6 - 8.
فالسر العميق بإيجاز شديد. هو أن الأمم الذين هم بلا شريعة.
يمكن أن يكون لهم نصيبا في الميراث إذا وقفوا مع النصارى وهم أيضا بلا شريعة. تحت سقف المسيح الذي حرر الناس من لعنة الشريعة إذ صار لعنه عوضا عنهم. لأنه قد كتب: ملعون كل من علق على خشبة.
فلكي تصل بركة إبراهيم إلى الأمم. لا بد أن يكون ذلك عن طريق قبول المسيح (2). وقبول المسيح من شروطه قبول الإنجيل الذي صار بولس خادما له. ومن المعلوم أن بولس لم يصاحب المسيح عليه السلام ولم يشر في رسائله أنه رآه أو تحدث معه أو شاهد معجزاته على عهد ا لدعوة.
ولما كان اليهود على امتداد مسيرتهم يتمسكون بعقيدة الشعب المختار أي الشعب ذو الدماء النقية الذي يرث الأرض التي كتبها الله لإبراهيم، فإن بولس ألحق النصارى بنسل إبراهيم ولكن عن طريق آخر هو طريق الروح، فقال " وقد وجهت الوعود لإبراهيم ونسله. ولا يقول " وللأنسال " كأنه يشير إلى كثيرين، بل يشير إلى واحد، إذ يقول " ولنسلك " يعني المسيح " (3) ثم يقول لاتباعه وهو يلحقهم بنسل المسيح " وأما أنتم أيها الأخوة، فأولاد الوعد على أمثال إسحاق، ولكن لما كان في الماضي المولود بحسب الجسد يضطهد المولود بحسب الروح، فكذلك أيضا يحدث الآن، إنما ماذا يقول الكتاب؟، اطرد الجارية
____________
(1) إفسوس 3 / 3 - 7.
(2) غلا 3 / 13 - 14.
(3) غلا 3 / 15 - 17.
ولقد خلط بولس بين الأوراق عندما قال: " ولفظة هاجر. تطلق على جبل سيناء في بلاد العرب، وتمثل أورشاليم الحالية فإنها مع بنيها في العبودية، وأما الثاني. فرمزه الحرة التي تمثل أورشاليم السماوية.
التي هي أمنا " (2).
فمنهج بولس فيما يختص بالميراث، أثبت لليهود الحق فيه، لأنهم أولاد يعقوب بن إسحاق، وهم أصحاب شريعة موسى والأنبياء، والحي النصراني له الحق في الوعد على أمثال إسحاق. لأنه ينتسب إلى المسيح بالروح. كما يقول الإنجيل الذي صار بولس خادما له، والحي اليهودي مع الحي النصراني في عقيدة بولس. لا يمثلان أورشاليم التي يتجول فيها بولس وجميع فرق بني إسرائيل. فأورشاليم التي لعن الله أهلها الذين قتلوا الأنبياء وجعلوا بيته فيها مغارة لصوص، وجاءتها البعوث من كل مكان لتدمر ما فيها وتسبي أهلها. بعد أن عبدوا البعل وأقاموا المرتفعات للآلهة المتعددة، أورشاليم هذه لا تخص إلا هاجر وولدها إسماعيل وذريته العربية كما تقول عقيدة بولس، أما ما يخص بولس وأتباعه فهي أورشاليم السماوية. أورشاليم الجديدة التي جاء ذكرها في أسفار الأنبياء كما ذكرنا. ومن أوصافها " أرضها مربعة طولها يساوي عرضها. وهي متساوية الطول والعرض والارتفاع " (3). وقال مفسرو العهد الجديد: هي مكعبة، " ولن يدخلها شئ نجس ولا ما
____________
(1) غلا 4 / 18 - 31.
(2) غلا 4 / 25 - 26.
(3) رؤيا 21 / 16.
" ويطل عليها جبل ضخم عال " (3). " ولا يوجد بها هيكلا "، (4). " وبنزول أورشاليم من عند الله يكتب الله عليها اسمه الجديد " (5). " ويصير بيت الله وسط الناس " (6). وذكر سفر الرؤيا أن المبعوث إلى أورشاليم الجديدة هو الشاهد " الأمين الصادق " (7).
ففي عقيدة بولس أن أورشاليم هذه لا تخص هاجر وولدها. وإنما تخص بولس وأتباعه (!!). ونتيجة لخلط الأوراق حدث الضلال على امتداد المسيرة، ولم يجني الحي النصراني إلا السراب الذي لا يروي ظمأ ولا يسمن ولا يغني من جوع، وبتأمل أحداث آخر الزمان نجد أن المسيرة النصرانية التي زودها بولس بوقوده لتكون في خدمة الأهداف اليهودية، ستكون معلقة في الهواء. حيث لا أرض طالت ولا سماء، بينما يكون اليهود في هذا الوقت تحت قيادة أمير السلام ابن داوود ينعمون بما لديهم من مادة وميراث كما يعتقدون، ويقول بولس عن مكان النصارى في أحداث آخر الزمان " إننا نحن الباقين أحياء إلى حين عودة الرب لن نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه سينزل من السماء حالما يدوي أمر الجميع. وينادي رئيس ملائكة ويبوق في بوق إلهي، عندئذ يقوم الأموات في المسيح أولا، ثم إننا نحن الباقين أحياء نختطف جميعا في السحب للاجتماع بالرب في الهواء، وهكذا نبقى مع الرب
____________
(1) رؤيا 21 / 27.
(2) رؤيا 21 / 1.
(3) رؤيا 21 / 10.
(4) رؤيا 21 / 22.
(5) رؤيا 3 / 3.
(6) رؤيا 21 / 3.
(7) رؤيا 3 / 3 - 20.
وبعد إلقاء بعض الضوء على أطروحة بولس داخل الحي النصراني، نسجل هنا أقوال بعض علماء مقارنة الأديان، يقول يواكيم برنز " لقد كان بولس سباقا إلى قبول فكرة انفصال المسيحية عن اليهودية. ومهد بإنشاء العقيدة المناسبة " (2)، ويقول د. جوستاف لوبون " إن بولس أسس باسم يسوع دينا لا يفقهه يسوع لو كان حيا، ولو قيل للحواريين الاثني عشر إن الله تجسد في يسوع ما أدركوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين " (3)، ويقول د. شارل جنيبر رئيس قسم الأديان بجامعة باريس " لقد تجاهل بولس فكرة عيسى الناصري ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب، فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود. رجل سماوي احتفظ الله به إلى جانبه، أمدا طويلا، حتى نزل إلى الأرض لينشئ فيها حقا لبشرية جديدة يكون هو دمها، وهذه العقيدة تنتهي إذا سمح لنا باستخدام هذا التعبير. إلى ثمرة تبعث كثيرا على الاستغراب. هي أن عيسى يصور لنا ابنا لله. ولكن فكرة الله بالنسبة لبولس تدخل ضمن ميراثه من العقيدة اليهودية، فكيف إذن يتأتى تصور أن يكون لله ابن. وهذا لا يمت بصلة إلى العقيدة اليهودية " (4)، ويقول
____________
(1) تسالونيكي 4 / 16.
(2) باباوات من الحي اليهودي / يواكيم برنز ص 74.
(3) حياة الحقائق / جوستاف لوبون ص 187.
(4) المسيحية ونشأتها وتطورها / شارل جنيبر ص 105.
خامسا - " فرض العقيدة البوليسية ":
وضع بولس الذي كان ينتمي إلى طائفة الفريسيين خميرته داخل الحي النصراني الذي يقف تحت السقف اليهودي، ولم تكن خميرة بولس ضارة باليهود وإنما كانت في خدمتهم، ثم اتسعت الخميرة بعد ذلك بفضل المراكز الثقافية التي كانت فرقة الفريسيون تشرف عليها، وهذه المراكز قامت أعمدتها على تعاليم الماسونية، وكان بولس يتردد على هذه المراكز (2)، وكان يصدر أوامر صارمة إلى تلاميذه بأن يقتدوا به، وأن يعتزلوا كل من يخالفهم وأن ينتبهوا إلى مثيري الانقسامات حول تعاليمه.
وذكر المحققون أن بولس كان نشيطا دائم الحركة ذا قوى لا تكل وذا نفس لا تمل، وكان شديد الذكاء بارع الحيلة قوي الفكر، يدبر الأمور لما يريد، ويسدد السهام لغاياته ومآربه فيصيبها، استطاع أن يحمل أكثر الناس على نسيان ماضيه وأن يندمجوا في شخصه حتى يصير هو كل شئ. وهم لا يستطيعون رد قوله، ولقد خطى بولس خطواته الواسعة مستفيدا من حداثة عهد الناس بالمسيحية. وبعلاقته بالكهنة والحكام وأصحاب السلطة، وأخذ بولس في التطواف في الأقاليم. يقوم بالدعاية ويلقي الخطب. ويكتب الرسائل. حتى أن رسائله كانت هي الرسائل التعليمية بما اشتملت عليه من مبادئ في الاعتقاد وبعض
____________
(1) حقيقة التبشير / أحمد عبد الوهاب ص 59.
(2) أنظر: كتابنا عقيدة الدجال ط دار الهادي بيروت.
وبالنظر في رسائل بولس لمعرفة منهجه في نشر دعوته نجده يقول في رسالة " كونوا جميعا أيها الأخوة مقتدين بي. ولاحظوا الذين يسلكون بحسب القدرة التي ترونها فينا. فإن كثيرين ممن يسلكون بينكم. وقد ذكرتهم بكم مرارا. واذكرهم الآن أيضا، إنما هي أعداء لصليب المسيح " (2) ويقول في رسالة أخرى وقد ضج من الذين تصدوا لتعاليمه " أتوسل إليكم أيها الأخوة. أن تنتبهوا إلى مثيري الانقسامات والعثرات خلافا للتعليم الذي تعلمتم. وأن تبتعدوا عنهم " (3) وفي رسالة يقول " أوصيكم أيها الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح. إن تعتزلوا عن كل أخ يسلك سلوكا فوضويا لا يوافق التعليم الذي تلقيتم منا " (4) ويبدو أن المعارضين لتعاليمه قد تصدوا لهذه التعاليم في بداية الأمر. مما أدى إلى أن يلوح لهم بولس بقبضته الحديدية مهددا لهم بالعقاب. يقول في رسالة من رسائله " لي ثقة بكم في الرب. إنكم لن تعتنقوا رأيا آخر.
وكل من يثير البلبلة بينكم سيتلقى عقاب ذلك كائنا من كان " (5).
واستغل بولس علاقته للملوك وأصحاب السلطة في ضرب المعارضة، فأمر أتباعه بالدخول تحت سقف السلطة وذلك بالدعاء للحكام والخضوع لقانونهم، في الوقت الذي كان اليهود يخضعون فيه لقانونهم المستمد من الشريعة تحت رعاية الكهنة والشيوخ، قال بولس في رسائله " ذكر المؤمنين أن يخضعوا للحكام والسلطات ويطيعوا
____________
(1) المقارنات / د. محمد الصادقي ص 64.
(2) فليبي 3 / 17 - 18.
(3) روما 16 / 17.
(4) تسالونيكي 3 / 6 - 8.
(5) غلاطية 5 / 10.
سادسا - " الطريق إلى الأمم ":
وضع بولس منهجه وسط ساحة زمنية تربط بين دعوتين إلهيتين.
الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل والدعوة الإلهية الخاتمة إلى البشرية كافة، وبولس في منهجه أعطى للمسيح صفة الديمومة. أي صفة الألوهية. وربط أتباعه بهذه الصفة... ومعنى هذا أنه أغلق باب التوبة.
بمعنى: إذا كانوا مع المسيح والمسيح فيهم. فما الجدوى من وراء التوبة؟ وترتب على ذلك عدم التفات أتباعه إلى آية تدعو إلى الرجوع إلى الله.
وبولس عندما جرد مسيرته من الشريعة الموسوية. ألقى داخل ساحات الأمم حيث الشرائع المتعددة للعقائد المتعددة. التي يشرف عليها كهنة الوثنية والملوك الذين أقاموا ملكهم على ثقافة تقول: أن في عروقهم تجري دماء الآلهة، ودخول بولس إلى ساحة الأمم كان معولا آخر ضرب به تعاليم المسيح عليه السلام، وكان المسيح قد حدد ساحة بني إسرائيل دون غيرها لدعوته. وجاء في إنجيل متي أن امرأة كنعانية طلبت من المسيح أن يشفي ابنتها المجنونة، لكنه لم يجيبها بكلمة، وعندما قال له التلاميذ " اصرفها لأنها تصيح وراءنا. أجابهم: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (3)، وقال متي هنري في تفسيره أي
____________
(1) تيطس 3 / 1.
(2) ثيموثاوس 2 / 2 - 3.
(3) متي 15 / 25.
وترتب على دخول بولس إلى الساحة الأممية. أن الحي النصراني الذي يشرف عليه بولس. امتص كثيرا من العقائد والثقافات الوثنية، ومع هذه الأحمال رتعت الأهواء التي تلبست بالدين وأغلقت باب التوبة، فلم يقف على أبواب التوبة من هضم الوثنية ومن إعتقد بأن المسيح حرره من لعنة الناموس وأن المسيح عندما قام من بين الأموات صار إليه ولبس فيه، وفي امتصاص المسيحية للوثنية يقول ديورانت في قصة الحضارة: " إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنتها (2) بعد أن هضمت تقاليد العقل الوثني فكرة المسيح الإله (3) وقصارى القول: أن المسيحية كانت آخر شئ ابتدعه العالم الوثني القديم (4).
وعلى الساحة الوثنية تعددت الآراء لعدم استقرار الفطرة على ما فطرها الله عليه، وانعقدت المجامع المسيحية للبحث عن ثوب يخفي العرى المعيب، فكان مجمع نيقية (325 م) وتصدى المجتمعون فيه إلى عقيدة الوحدانية التي قال بها آريوس، وأقر المجمع عقيدة المسيح الإله، ثم جاء مجمع القسطنطينية (381 م) ليقر ألوهية الروح القدس، ثم مجمع أفسس (431 م) وأقر أن المسيح له طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، ثم مجمع خلقيدونية (451 م) وأقر أن المسيح له طبيعتان ومشيئتان، وتوالت المجامع لتزيل الإشكال، فما يلبث الإشكال حتى يصير ألف إشكال.
____________
(1) متي هنري 27 / 1.
(2) قصة الحضارة / ديورانت مجلد 11، ب 27، ف 2، ص 276.
(3) المصدر السابق مجلد 11، ف 5، ب 28، ص 320.
(4) المصدر السابق مجلد 11، ف 2، ب 27، ص 276.
سابعا - " الخاتمة ":
أقام الله حجته على بني إسرائيل بإرساله الأنبياء والرسل إليهم، وقام الأنبياء والرسل بإرشاد القافلة الإسرائيلية إلى ما فيه سعادتهم وأخبروهم بما يستقبلهم من أحداث في بطن الغيب وهم يخبرون بالغيب عن الله تعالى، وحذروهم من مقدمات يترتب عليها فتن تقودهم إلى نتيجة لعن الله أتباعها إلى يوم القيامة، وبشروهم بأبواب يفتحها الله لطف منه تعالى بعباده، وعلى الأبواب هداة عينهم الله وحدد أوصافهم، وأخبروهم أن من أخذ بالأسباب للوقوف على هذه الأبواب واتبع الذين عينهم الله وحددهم وعمل صالحا فقد نجا.
وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية صار الصالح والطالح تحت سقف الامتحان والابتلاء. لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، وانقسمت المسيرة على نفسها، وانتهى الاختلاف والافتراق بعد العلم إلى عبادة البعل وأقامت المرتفعات لآلهة الأمم المتعددة، وعلى هذه الرقعة اقتتلوا فيما بينهم على الملك، ونتيجة لظلمهم بعث الله عليهم البعوث، وتم سبي مملكة إسرائيل بواسطة آشور. وسبي مملكة يهوذا بواسطة بابل، وبعد السبي الأول وقع اليهود تحت حكم خمسة دول: فارس (538 - 333 ق. م) اليونان (333 - 323 ق. م) مصر (323 - 204 ق. م) سوريا (204 - 167 ق. م) فترة المكابين - وهي فترة استقل فيها اليهود من
____________
(1) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
وفي خاتمة الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل. بعث الله إليهم المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وعلى امتداد دعوته قامت الفرق اليهودية التي وقعت في فتنة الميراث وملحقاتها بالصد عن سبيل الله، وصدع المسيح عليه السلام بالحق فبين لهم ما اختلفوا فيه وبشرهم بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وهو يخبرهم بأن ملكوت الله سينزع من أيديهم ويسلم إلى شعب آخر، وتكاتفت المجامع اليهودية من أجل القضاء على المسيح ودعوته، ولكن الله كف أيديهم عنه ورفعه إليه، وبعد رفع المسيح اضطهد اليهود تلاميذه وكان قد أخبرهم بهذا الاضطهاد والقتل، وفي هذه الآونة ظهر بولس على الساحة. وكان من أشد أعداء الدعوة، وبولس ينتمي إلى طائفة الفريسيين وهي طائفة متطرفة حذر المسيح تلاميذه من تعاليمها، وعندما بدأ بولس يمارس الدعوة باسم المسيح " حاول أن ينضم إلى التلاميذ فخافوا منه. إذ لم يصدقوا أنه صار تلميذ " (1)، وبدأ بولس مهمته التي غير فيها دين المسيح، وصارت المسيحية الحاضرة مطبوعة بطابعة منسوبة إليه.
وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية. دمر هيكل سليمان في عهد نبوخذ ناصر (586 ق. م) ثم دمر الهيكل الذي أعاده عزرا ونحميا (135 ق. م) وبعد أن أعيد بناؤه تم تدميره بواسطة الإمبراطور تيطس (70 م) وقام الإمبراطور هادريان بطرد اليهود من أورشاليم (135 م) وألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية اليهودية (435 م).
وأصبح الطريق مفتوحا أمام الدعوة الخاتمة على نبيها وآله الصلاة وأذكى السلام. (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره
____________
(1) أعمال الرسل 9 / 26.
وبعد رفع المسيح عليه السلام. لم يعرف إلا النزر اليسير عن تلاميذه، وكان عليه السلام قد أخبرهم بأنهم سيضطهدون ويقتلون، وفي هذه الآونة ظهر بولس على الساحة، وكان من أشد الناس على الدعوة، وكان يعمل بكل ما في وسعه لاعتقال المؤمنين بها، وبولس ينتمي إلى طائفة الفريسيين. وهي طائفة تقوم ثقافتها على التفسير الشفهي للناموس (التلمود). وقد حذر المسيح عليه السلام تلاميذه من تعاليم هذه الطائفة، ودخل بولس إلى النصرانية بحجة أنه رأى المسيح على طريق دمشق، وأن المسيح عينه تلميذا له، وعندما ذهب بولس إلى أورشاليم اتجه نحو التلاميذ لينال منهم شرعية الدعوة أمام الجموع، وجاء في سفر أعمال الرسل " أنه حاول أن ينضم إلى التلاميذ. فخافوا منه. إذ لم يصدقوا أنه صار تلميذ " (2)، ولكن بولس مارس الدعوة بما له من ذكاء.
وما له من جاه. عند شيوخ اليهود وملوك وحكام الأقاليم، وبدأ بولس في تنفيذ برنامجه. فألغى الشريعة داخل الحي النصراني. وشكك في أحقية إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السلام في الميراث، وعلى هذا الأصل صد عن سبيل النبي الخاتم وبشاراته في التوراة والإنجيل، ثم توجه بقافلته نحو الأمم، وهو ما لم يفعله المسيح عليه السلام، ودخول بولس بدعوته إلى ساحة الأمم يعطي: كره لتعاليم المسيح أولا، وإنشاء قاعدة تكون في خدمة أهدافه القريبة وأهداف اليهود البعيدة ثانيا، والصد عن سبيل الدعوة الخاتمة ثالثا، وذلك لأن المسيح لم يتقدم إلى الساحة الأممية لأن منهجه يخاطب بني إسرائيل، وكان
____________
(1) سورة الصف آية 8 - 9.
(2) أعمال الرسل 9 / 26.
متي، مرقص، لوقا، يوحنا، أعمال الرسل، الرؤيا.
وبالجملة: بعد سبي اليهود. حكم فلسطين خمسة دول هي:
فارس (538 - 333 ق. م) واليونان (333 - 323 ق. م) ومصر (323 - 204 ق. م) وسوريا (204 - 167 ق. م) ثم فترة المكابين (1) (167 - 63 ق. م) وروما (63 ق. م - 633 ميلادية).
وأهم الأحداث التي وقعت في الحي اليهودي: تدمير هيكل سليمان في عهد نبوخذ ناصر (586 ق. م) وتدمير الهيكل الذي أعاده عزرا ونحميا (135 ق. م) وبعد إعادة بناء الهيكل. دمره الإمبراطور تيطس (75 ميلادية) وقام الإمبراطور هادريان بطرد اليهود من أورشاليم (عام 135 ميلادية) وألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية اليهودية عام (435 ميلا دية).
وأصبح الطريق مفتوحا أمام الدعوة الخاتمة ليقيم الله بها حجته على العالمين. (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (2)
____________
(1) هي فترة استقل اليهود فيها من الناحية العملية.
(2) سورة الصف آية 8 - 9.
... وجاء الحق
وجاء الحق
أولا - [ الدعوة الخاتمة وأهل الكتاب ]
على أعتاب الدعوة الإلهية الخاتمة كانت الساحة الإنسانية ترتع فيها أعلام المادية. التي لا يريد أصحابها إلا الحياة الدنيا وزينتها. ولا يرجون بعثا ولا نشورا. ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية، وفي مقابل أصحاب المادة. رفع دعاة الروح أعلامهم.
وانطلقوا في مسيرة يرفضون فيها الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر النشأة المادية. لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، وسارت القافلة البشرية تحت هذه الأعلام التي لا تحقق السعادة في الدنيا، لأن حملة الأعلام المادية أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليه، وحملة أعلام الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها.
كانت المسيرة البشرية في حاجة وسط يقف بين الطرفين.
ويقودهما إلى الهدف الذي من أجله خلق الله الإنسان، وسط لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف. وإنما يقف بين الجانبين جانب الجسم
ومن لطف الله تعالى ورحمته بالعباد، بعث سبحانه النبي الخاتم، النبي الأمي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليقود أمة تحمل للبشرية دينا يهدي الناس إلى وسط الطرفين. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
- [ دعوة أهل الكتاب ]
أولا - (الدعوة إلى التوحيد الحق):
توجهت الدعوة الإلهية الخاتمة إلى البشرية كافة، وأن أهل الكتاب بينهم من يعرفون الحق ومعارف الدين، وفيهم رهبان وزهاد يعرفون عظمة ربهم ولا يستكبرون، وفيهم الباحث عن الحقيقة، توجهت الدعوة إليهم من طرق عديدة لتحيطهم بالحجة من كل مكان.
وبين الله تعالى لهم أن رسوله الخاتم (ص). هو النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من إتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وبهديهم إلى صراط مستقيم) (1)، والمعنى: أن الرسول يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه، وأن دعوته تدعو إلى الصراط المستقيم المهيمن على الطرق كلها.
____________
(1) سورة المائدة آية 15.
تعالى الله سبحانه وتقدس وتنزه عن الشركاء. والنظراء. والأعوان.
والأضداد. لا إله إلا هو ولا رب سواه، فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة، فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.
____________
(1) سورة آل عمران آية 64.
ثانيا - (الدعوة إلى اتباع قبلة الرسالة الخاتمة):
عندما بعث النبي الخاتم (ص)، كان الاختلاف بين اليهود على تحديد القبلة اختلاف ثابتا لا شك فيه، ونسيانهم للجبل المقدس الذي يجب أن يتوجهوا إليه. نسيان مسطور فيما بين أيديهم من كتاب، قال أشعيا وهو يحذرهم بأن الرب قال لهم " أما أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسي فإني أعينكم للسيف " (1). وهذا النسيان ترى معالمه على التوراتين: السامرية والعبرية، فبينما تقول التوراة السامرية أن القبلة في اتجاه جبل " جرزيم "، تقول التوراة العبرانية إنها في اتجاه جبل " عيبال "، والمسيح عليه السلام شهد بوجود هذا الاختلاف في عهد بعثته، وبشرهم بأن العبادة لن تكون في المستقبل لا في اتجاه هذا الجبل ولا في اتجاه أورشاليم، وذلك لأن الله سينزع من أيديهم القيادة ويسلمها إلى شعب آخر (2). وما ذكره المسيح عليه السلام بخصوص القبلة، جاء عندما كان متوجها إلى أورشاليم، فقالت له امرأة سامرية " يا سيدي أرى إنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، فأجابها يسوع: صدقيني يا امرأة ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم " (3). وقبل البعثة الخاتمة. لم يكن في أورشاليم هيكلا. بعد أن دمر الإمبراطور تيطس آخر هيكل عام 75 ميلادية، ولم يكن في أورشاليم حاخامية لليهود. بعد أن ألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية عام 435 ميلادية وترتب على ذلك تفرق اليهود في الأرض.
ولما كانت الدعوة الإلهية المتوجهة إلى بني إسرائيل قد نزل
____________
(1) أشعيا 65 / 11.
(2) متي 21 / 42 - 45.
(3) يوحنا 4 / 22.
وعندما كانت القبلة في اتجاه بيت المقدس، تدبر في الأحداث الذين يعرفون الحق ومعارف الدين والزهاد من أهل الكتاب وأصغوا لصوت الحق، وتكاتم البعض ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا، وانطلقوا يصدون عن سبيل الله، وبعد أن أقامت الدعوة حجتها على بني إسرائيل في هذا الأمر، أمر تعالى رسوله (ص) بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بمكة، وأخبره بأن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم، قال تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول
____________
(1) سورة البقرة آية 142 - 145.
وبالجملة كان التوجه إلى بيت المقدس، ثم صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، امتحان لأهل الكتاب الذين علموا من أبنائهم أن قيادة الدعوة الإلهية ستنتقل من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل. وأن عنوان هذه الدعوة ورسولها هو النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان امتحان أيضا للذين اتبعوا النبي (ص) من العرب وغيرهم، لأن صرف التوجه عن بيت المقدس سيثير شكوك البعض، وسيغذي أهل الكتاب والذين في قلوبهم مرض هذه الشكوك وهم يصدون عن سبيل الله، وتحت سقف هذا الامتحان ينظر الله إلى عباده كيف يعملون.
ثالثا - [ اتباع إبراهيم عليه السلام ]
بعد عهد السبي تاجر اليهود بالميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، وانطلقوا في اتجاه هذا الهدف بالعمل على إقامة مملكة داوود وعاصمتها أورشاليم، بعد أن تبنوا عقيدة تقول أن مملكة داوود هي وعاء للعهد الإبراهيمي، وعلى امتداد مسيرتهم وبخهم الأنبياء على هذا الاعتقاد، فقال لهم حزقيال تقولون " إن إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض.
ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا... تأكلون بالدم وترفعون
____________
(1) سورة البقرة آية 146.
وعندما بعث النبي الخاتم (ص)، تحدث أهل الكتاب بعقيدتهم الخاصة بالميراث، وعملوا على نشر الثقافة التي تصب في وعاء هذه العقيدة، واليهود في مصادر الإسلام أعلنوا أنهم في انتظار المسيح الذي يملكون به الأرض، والنصارى تحدثوا بما وضعه بولس في عقولهم.
وهو أن الأمم شركاء لليهود في الميراث، ووفقا لهذا الاعتقاد بدؤوا في التحرك لوقف تحرك الدعوة الخاتمة في اتجاه الأمم، وشيد اليهود والنصارى صروحهم على إبراهيم عليه السلام، فبينما زعم الحي اليهودي أن إبراهيم كان يهوديا، زعم الحي النصراني أن إبراهيم كان نصرانيا، وفي زحمة هذه الثقافات. قالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ، وهذه الأقوال والاعتقادات شهد بها القرآن الكريم ورد عليها وأقام على هؤلاء وهؤلاء الحجة الدامغة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) (4) والمعنى: لو كنتم كما تدعون أبناؤه وأحباؤه. فلم أعددت لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم " بل
____________
(1) حزقيال 33 / 23 - 25.
(2) متي 3 / 7 - 11.
(3) يوحنا 8 / 37.