الصفحة 217
أنتم بشر ممن خلق " أي لكم أسوة بأمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده. فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

وقال تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا. قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما هم في شقاق)(1) وقبل هذه الآيات بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده، كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، ويستنتج من ذلك أن أهل الكتاب على عهد البعثة الخاتمة، كانوا قد انتهى بهم المطاف إلى أرضية الاختلافات والانشعابات. التي أفرزتها اختراعاتهم وهوساتهم. بعد أن صبغوا دين الله بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، وروي أن اليهودي عبد الله بن صوريا قال للرسول (ص): ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك (2). فقال الله لرسوله (قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) أي: قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم. وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين.

ثم ذكر لهم أن الدعوة الخاتمة تؤمن بالله وما أنزل إليها وهو القرآن وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود

____________

(1) سورة البقرة آية 135.

(2) تفسير ابن كثير 186 / 1.

الصفحة 218
والنصارى، ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم لتشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك " لا نفرق بين أحد منهم ". ثم قال تعالى:

(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) أي. فإن آمنوا بما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه.

من الآيات السابقة يمكن أن نستشف الثقافة التي كان اليهود والنصارى يبثونها على عهد الرسالة الخاتمة. فلقد ادعوا بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، ويبدو أن القرآن عندما ضرب العمود الفقري لثقافتهم هذه، قرروا بأن يعمل كل حي من أحيائهم على إنفراد، ويمكن أن نستشف ذلك من قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب) (1) قال المفسرون: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله (ص)، وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه مع علمهم بخلاف ذلك، ولهذا قال تعالى: (وهم يتلون الكتاب) أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد (2)، وبالجملة: قد كان أوائل اليهود والنصارى على شئ، وهذا لا تخلو منهم كتبهم لإقامة الحجة عليهم على امتداد المسيرة، ثم ابتدع الذين من بعدهم وتفرقوا، ثم جاء العلماء الذين وضعوا التفسير الشفهي للتوراة (التلمود) وعنده انقسم اليهود إلى فرق وأحزاب، وانتهى الأمر بأن وقف الحي اليهودي داخل دائرة حددها

____________

(1) سورة البقرة آية 113.

(2) ابن كثير 155 / 1.

الصفحة 219
الأحبار، ووقف الحي النصراني داخل دائرة حددها بولس لخدمة أصحاب الدائرة الأولى، فالثقافة التي تخرج من مدونات خدمة النصارى لليهود تقول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه، أما الثقافة التي يقول كل منهم أن الآخر ليس على شئ، فهي نتيجة لحجة البعثة الخاتمة ومواجهتها للأطراف مجتمعين، فالدعوة الخاتمة أرشدتهم إلى الحق ليتفكروا ويتدبروا، وبدلا من أن يرجعوا إلى كتبهم التي لا تخلو من حق ويعرضونها على منهج البعثة الخاتمة، إنطلقوا من التفسير الشفهي وهذا التفسير لا يقيم حقا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لأنه مقابلة للفاسد بالفاسد.

وفي مجال عمل كل حي منفردا عن الآخر. قام كل منهما بوضع جميع الأنبياء داخل الحي الخاص به، ورد القرآن عليهم قولهم، قال تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله، ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) (1)، والمعنى: قال كل من الفريقين إن إبراهيم ومن ذكر بعده منهم، فقال تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله)، أي فإن الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابهما بعد إبراهيم. فإذا كان تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فكيف يكون إبراهيم والذين ذكروا معه هودا أو نصارى؟

وقال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا

____________

(1) سورة البقرة آية 140.

الصفحة 220
والله ولي المؤمنين، ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم. وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون، با أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) (1).

لقد أنكر الله عليهم قولهم ذلك، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها، وشهد سبحانه بأن إبراهيم كان متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الإيمان وما كان من المشركين، وأخبر سبحانه بأن أحق الناس بمتابعة إبراهيم. الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي. يعني محمدا (ص) والذين آمنوا. لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم، وكذا كل من اتبعه دون أن يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل، ثم أخبر تعالى بأن طائفة من أهل الكتاب تود أن تضل الذين آمنوا بإلقاء الشبهات بينهم، وإنهم يضلون أنفسهم أولا. لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد) (2)، ثم قال سبحانه (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون) وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها، وإنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم، كنبوة النبي (ص)، وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني، وإن يد الله مبسوطة، وإن الله غني، وإن الدجال فتنة فيه تصب جميع الفتن، إلى غير ذلك. وقوله تعالى: (وأنتم تشهدون) والشهادة هو الحضور والعلم عن حس، دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله. إنكارهم كون النبي (ص) هو النبي الموعود الذي بشر

____________

(1) سورة آل عمران آية 65 - 71.

(2) السجدة آية 46.

الصفحة 221
به التوراة والإنجيل، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه، وأيضا إنكارهم ما يبنيه لهم النبي الخاتم (ص) من آيات ربهم التي تنطق بها كتبهم. التي بين أيديهم ويشهد القرآن بها، ثم قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) والمعنى لم تظهرون الحق في صورة الباطل؟ وقوله: (وأنتم تعلمون) دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية، غير ما يشاهد من الآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.

ولما كان الله تعالى قد أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون، فإنه تعالى بين في آية أخرى من آيات القرآن الكريم، أن جدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم، رغبة منهم في إدحاض الحق الصريح بهذا الجدال، قد أوقعهم في فتنة المسيح الدجال، ففي قوله تعالى: (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير)(1)، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب. أن هذه الآية نزلت في اليهود فيما ينتظرونه من أمر الدجال، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قال اليهود. يكون منا ملك آخر الزمان. البحر إلى ركبتيه. والسحاب دون رأسه. يأخذ الطير بين السماء والأرض. معه جبل خبز ونهر، وقال أبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وذلك إنهم ادعوا أن المسيح (الدجال) منهم وإنهم يملكون به الأرض، فقال الله لنبيه (ص) آمرا له: أن يستعذ من فتنة الدجال (2).

وبالجملة بينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن الرقعة التي يقف

____________

(1) سورة غافر آية 56.

(2) أنظر تفسير ابن كثير 84 / 4، تفسير الميزان 348 / 17.

الصفحة 222
عليها أهل الكتاب ويطالبون من فوقها الميراث الذي كتبه الله لإبراهيم، رقعة لا علاقة لها بإبراهيم ولا بالأنبياء الذين جاؤوا من بعده، لأنها رقعة أوجدها الاختلافات والانشعابات، وهذا لا يستقيم مع الدين الإلهي، لأن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم عليه السلام، وهذا الدين هو الذي تتمسك به الدعوة الإلهية الخاتمة، ولما كان القوم لا علاقة لهم بإبراهيم، وشهد بذلك حزقيال وأشعيا ويوحنا والمسيح عليه السلام، وشهد بذلك القرآن الكريم الذي أنزل على محمد (ص)، فالنتيجة هي أن القوم لا علاقة لهم بميراث إبراهيم في الدنيا والآخرة، ولما كان القوم ما زالوا يعتقدون بأن القدر يخبئ لهم أمير سيخرج آخر الزمان يمتلكون به الأرض. فإن الدعوة الخاتمة أخبرت بأن المسيح الدجال سيخرج آخر الزمان، وأنه سيرفع شعار أرض الميعاد، وأن أكثر أتباعه من اليهود، ويلحق بهم الذين أخذوا بذيول اليهود، ثم الذين اتبعوا سنن أهل الكتاب شبرا بشبر وذراعا بذراع..

رابعا - [ البيان والإنذار ]:

أقامت الدعوة الإلهية الخاتمة حجتها على أهل الكتاب، وبينت لهم أن الله تعالى منذ بعث نوح عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل سبحانه رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته، قال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) (1) وبينت الدعوة الخاتمة أن جميع الأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى (وما أرسلنا من قبلك من

____________

(1) سورة الحديد آية 21.

الصفحة 223
رسول إلا نوحي إليه إنه لا إله إلا أنا فاعبدون). وإن إبراهيم عليه السلام لم يدع غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، ومن ترك طريقة إبراهيم عليه السلام يكون قد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، وبينت الدعوة أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه بالإسلام وبنيه وصوا أبناءهم به من بعدهم، قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (2).

وبينت الدعوة الخاتمة بأنها تؤمن بكل نبي أرسل، وأخبرت أن كل من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال تعالى لرسوله (ص) (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (3)، وأعلنت الدعوة من يومها الأول أنها على ملة إبراهيم عليه السلام قال تعالى: (ثم أوحينا إليك أن إتبع ملة إبراهيم حنيفا) (4)، وقال جل شأنه لرسوله (ص) (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)(5).

____________

(1) سورة الأنبياء آية 25.

(2) سورة البقرة آية 131.

(3) سورة آل عمران آية 162.

(4) سورة النحل آية 123.

(5) سورة الأنعام آية 162.

الصفحة 224
لقد بينت الدعوة الإلهية الخاتمة للبشرية العقيدة الحقة، وأقامت الحجة على أهل الكتاب ليتفكروا وليتدبروا. ليعلموا أن دين إبراهيم برئ من جميع العقائد التي عليها بصمات العجول وآلهة الأمم المتعددة، وأن دين إبراهيم لا علاقة له بعقائد التثليث وألوهية المسيح، ولم تكن مهمة إبراهيم عليه السلام في يوم من الأيام هي البحث عن الميراث من النيل إلى الفرات، وإنما كان عليه السلام إماما للناس، يقتدون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله، وهذه الإمامة لا ينالها ظالم من ولده، لأن الله لا يجعل الظالمين أئمة ولا يعطي الإمامة لعدوه. لأن هؤلاء يأتون كنتيجة لأعمال الظالمين من الناس، والله تعالى رؤوف بالعباد، والناس تحت مظلة الاختبار يمتحنون، فمن سلك طريقا على ذروته إمام للرحمة والعدل. وصل إلى غايته، ومن سلك طريقا على ذروته إمام يدعو إلى النار، دخل فيها.

وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة، بين الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن شريعته تنهى عن الفحشاء والمنكر وتأمر بالمعروف، وتحذر من البغي والاستكبار والاختلاف، وتنادي بالعدل والإحسان والاستقامة، وتدعو إلى العمل الصالح والتفكر والتدبر والإصلاح والإخلاص، وإن منهج الدعوة عموده الفقري هو التوحيد، وشجرته الأخلاق الفاضلة، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.

وعلم أهل الكتاب وغيرهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. وقال تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) (1)، ولقد أختبر الله تعالى الفرع الإسرائيلي من الشجرة الإبراهيمية. وبعث فيهم الأنبياء والرسل لينظر سبحانه كيف تعمل القافلة، وعلم أهل الكتاب كيف سارت القافلة. وبماذا حكم الله عليها.

____________

(1) سورة الأعراف آية 128.

الصفحة 225
وهذا الحكم يقرؤه فيما بين أيديهم من التوراة الحاضرة، ومنه قول الرب لهم " ها أنذا أنساكم وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآبائكم إياها. وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسى " (1)، وقال: " هوذا من أجل آثامكم بعتم. ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم " (2)، وبين هذا الحكم وبين البعثة الخاتمة. قتلوا الأنبياء الذين بعثهم الله لإقامة الحجة على الأجيال المتعاقبة، وعندما جفت المسيرة من الماء. بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ليختبر الله تعالى بمنهجه أمة جديدة في مقدمة عالم جديد.

وببعثة النبي الخاتم. حكمت الدعوة الإلهية حكمها الفصل على قصة الميراث. التي سهر عليها بني إسرائيل ليلا طويلا، وذلك ببسط الدعوة يدها على المسجد الحرام والمسجد الأقصى في رحلة واحدة في ليلة واحدة، قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) (3)، فالميراث بدأت حدوده من موضع سجود. وانتهت إلى موضع سجود، وهو ممتد إلى كل موضع سجود، وليس معنى هذا أن الدعوة الخاتمة تبحث عن الأرض والطين، وإنما معناه أنها ترعى التقوى في أي مكان وتعمل من أجل الاصلاح في كل مكان، ترعى التقوى لأن العاقبة للمتقين، وتعمل من أجل الاصلاح حتى يرث الصالحون، قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (4).

ولأن الدعوة تقوم على التوحيد، ولأن التوحيد هو الحصن

____________

(1) أرميا 23 / 40.

(2) أرميا 17 / 2 - 4.

(3) سورة الإسراء آية 1.

(4) سورة الأنبياء آية 105.

الصفحة 226
الحصين الذي يحفظ الإنسان من الزلل، قال رسول الله (ص) " والذي نفس محمد بيده. لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به. إلا كان من أصحاب النار " (1)، وروي أنه (ص) ذهب إلى يهود. وقال لهم " يا معشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال " أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم فقال " ذلك أريد " (أي: أريد أن تعرفوا أني بلغت) ثم قال لهم " إعلموا إنما الأرض لله ولرسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله " (2) فالرسول (ص) بلغ بالإسلام، ولكن القوم كانت عيونهم على الأرض والطين، لأنهم من أجل هذا الميراث يعملون، فوقفوا بما يعتقدون أمام القول الفصل وهو " إعلموا أن الأرض لله ورسوله ". ولم يكن الجلاء من جزيرة العرب عقابا وحيدا للذين يصدون عن سبيل الله، وإنما أنذرهم الله بعقاب أليم في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها على أدبارها. أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمرا مفعولا) (3). قال في الميزان: دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه، وطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة، وهذا المحو ليس هو المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها، بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها، فإذا كانت الوجوه تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله

____________

(1) رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).

(2) رواه مسلم (الصحيح 159 / 5).

(3) سورة النساء آية 47.

الصفحة 227
الناس عليها، فإن الوجوه المطموسة لا تقصد إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه ودنياه لم ينل إلا شرا وفسادا، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس بفالح أبدا، وقوله تعالى: (نطمس وجوها) فيه أنه تعالى أتى بالجمع المنكر، ولو كان المراد الجميع لم ينكر، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها هدف من ورائه حكمة، هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد وهو إبعاد للجماعة بشر لا يلحق إلا ببعضهم، كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الانذار والتخويف، لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب (1).

خامسا - [ العنكبوت والدعوة ]:

حذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين كفروا من أهل الكتاب، لأن الدعوة تقيم وجهها للدين وتتجه بالبشرية إلى الأمام.

وتمدها على امتداد الطريق بالزاد الفطري الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، بينما تتقدم قافلة الذين كفروا إلى الخلف بزاد عذاب الطمس الذي ضربه الله عليهم بما كسبت أيديهم، وعلى امتداد هذا الطريق. كلما بالغ أصحابه في التقدم زادوا في التأخر ولن يحصلوا على السعادة الحقيقية أبدا.

ومن الآيات التي حذر فيها الله من الذين كفروا من أهل الكتاب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء

____________

(1) الميزان 367 / 4.

الصفحة 228
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (1). قال في الميزان:

نهى عن مودتهم الموجبة إلى تجاذب الأرواح والنفوس، لأن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق. إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية، وقوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) أي لتضارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم. المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى والاستكبار عن الحق وقبوله، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة الملية، لكن يبعث القوم على الاتفاق ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق. ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا، فهذا هو الذي جعل الطائفتين اليهود والنصارى على ما بينهما من الشقاق والعداوة مجتمعا واحدا، يقترب بعضه من بعض ويرتد بعضه إلى بعض، يتولى اليهود النصارى وبالعكس. ويتولى بعض اليهود بعضا وبعض النصارى بعضا، وبالجملة: لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يدا واحدة عليكم. لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة، وربما أمكن أن يستفاد من قوله " بعضهم أولياء بعض " معنى آخر وهو:

أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذين هم أولياؤكم على البعض الآخر، ولا ينفعكم ذلك. فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم (2).

ومن آيات التحذير أيضا قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا

____________

(1) سورة المائدة آية 51.

(2) تفسير الميزان 373 / 5.

الصفحة 229
نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا) (1) قال في الميزان: أي أنك ترى اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب. أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم، يشترون الضلالة وتختارونها على الهدى ويريدون أن تضلوا السبيل، فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه. وظهروا لكم في زي الصلاح. واتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين. فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم، لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، والله أعلم منكم بأعدائكم.

وهم أعداؤكم، فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم، فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءكم وأنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم (2).

ومنها قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك عن الله من ولي ولا نصير) (3)، قال في الميزان:

أي. إن هؤلاء ليسوا براضين عنك حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم، ثم أمر الله رسوله بالرد عليهم بقوله " قل إن هدى الله هو الهدى " أي إن الاتباع إنما هو لفرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله، أما غيره وهو ملتكم ليس بالهدى، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة (4)، وقال ابن كثير: وقوله تعالى:

____________

(1) سورة النساء آية 45.

(2) الميزان 363 / 4.

(3) سورة البقرة آية 120.

(4) الميزان 265 / 1.

الصفحة 230
(ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم... الآية) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طريق اليهود والنصارى، بعد ما علموا من القرآن والسنة، والخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله " حتى تتبع ملتهم " حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة (1).

وبالجملة: حذر الله تعالى الأمة من تنظيمات أهل الكتاب.

التي لها أهداف قريبة وأهداف بعيدة، والتي يحمل أعلامها الفرق المختلفة والطوائف المختلفة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) (2) قال المفسرون: يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا فريقا من أهل الكتاب. الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم) (3)، وهكذا قال ههنا (إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) وفي آية أخرى قال تعالى:

(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) (4).

وباختصار: فالقاعدة العريضة منهم ودوا لو يردون الذين آمنوا من بعد إيمانكم كفارا، وهناك فرق حملت أعلام هذه القاعدة وانطلقت رجاء تنفيذ هذا الهدف، وهناك طائفة من أهل الكتاب مهمتها إطفاء الأنوار رغبة منها في أن تضل قافلة الذين آمنوا عن الطريق، والمعنى:

أن الطائفة في خدمة الفريق والفريق في خدمة القاعدة. وليس معنى

____________

(1) ابن كثير في التفسير 163 / 1.

(2) سورة آل عمران آية 100.

(3) سورة البقرة آية 109.

(4) سورة آل عمران آية 69.

الصفحة 231
هذا إن قاعدة أهل الكتاب خالية من العلماء الذين يبحثون عن الحقيقة.

فهؤلاء أثر أقدامهم على الطريق. والإسلام لم يغلق أبوابه أمام الذين يريدون الاستبصار منهم في الدين، وقد أمر الله تعالى بمجادلتهم بالتي هي أحسن. فقال تعالى في آية محكمة (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظالموا منهم) (1) وقوله: (إلا الذين ظلموا منهم) يعني أهل الحرب، وذكر تعالى في كتابه. إن الذين قالوا أنهم من أتباع عيسى عليه السلام وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله، وما ذاك إلا لما في قلوبهم من الرقة والرحمة، ويوجد فيهم قسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم ورهبانا، من صفتهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع والانقياد للحق واتباعه والإنصاف، وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول الخاتم (ص). ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قال تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) (2)، فهذا الصنف من النصارى كان أول ظهوره بالحبشة في النجاشي وأصحابه، وهم المذكورين في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله) (3)، وهم الذين قال الله فيهم (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) (4)، ومنذ أيام النجاشي

____________

(1) سورة العنكبوت آية 46.

(2) سورة المائدة آية 82.

(3) سورة آل عمران آية 199.

(4) سورة القصص آية 52.

الصفحة 232
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية، لم تغلق الدعوة أبوابها في وجوه الذين يريدون الاستبصار في الدين، لأن الله تعالى أمر رسوله الخاتم (ص). أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. والموعظة الحسنة ليحذروا بأس الله تعالى، وأمره تعالى أن من احتاج من الناس إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.

فمن هذه النصوص ومن غيرها نعلم أن الدعوة الإلهية الخاتمة حذرت من اتباع أي مشروع تقدمه الطوائف أو الفرق التي تهدف من وراء برامجها الصد عن سبيل الله، وفي نفس الوقت فتحت الدعوة أبوابها للباحثين عن الحقيقة من أهل الكتاب لتقيم الحجة عليهم وعلى غيرهم في كل مكان وزمان..


الصفحة 233

ثانيا - [ من وصايا الدعوة الخاتمة ]

1 - [ ظل المنزلة الممدود ]

على امتداد المسيرة الإسرائيلية كان لشجرة الأنبياء فيها علامات وبصمات، وفي التوراة الحاضرة يمكن للباحث أن يتبين نبوة هارون ومنزلته هو وبنيه من موسى عليه السلام، فالتوراة تنص على وحي الله تعالى لهارون. وهنا تكون النبوة، ولما كان موسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل وعليه أنزلت التوراة، فإن نبوة هارون. أو.

وحي الله تعالى لهارون. كان يتعلق بتفسير الشريعة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، بمعنى: أن التوراة أنزلها الله تعالى على موسى، وأن تفسير الشريعة أوحى الله تعالى بها إلى هارون عليه السلام، فكان هارون مشاركا لموسى عليه السلام في تفسير الشريعة، وموسى عليه السلام منفردا على هارون بتلقي التوراة من الله سبحانه وتعالى، وهو قول الله تعالى في القرآن حاكيا عن موسى قوله (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) (1)، فالنص القرآني يقول أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله، وأن يكون هذا الوزير هارون أخاه، وسأله أن يشركه في أمره، والوزير في

____________

(1) سورة طه آية 29 - 32.


الصفحة 234
لغة العرب: الذي يحمل ثقل الملك، وقيل: هو الذي يلتجئ إليه الملك في آرائه وأحكامه، وقيل: هو الذي يعين الملك ويقويه (1)، وفي التوراة الحاضرة. كان هارون الكاهن الأكبر الذي يفسر الشريعة، والكاهن في لسان العرب: هو من يقوم بأمر الرجل ويسعى في حاجته.

وقال: والعرب تسمى كل من يتعاطى علما دقيقا كاهنا (2).

وسؤال موسى عليه السلام ربه جل وعلا أن يشرك هارون في أمره، أي في أمر يخص موسى. وهو تبليغ ما بلغه من ربه، فهذا هو الأمر الذي يخصه، وسأل ربه أن لا يشاركه فيه أحد سوى هارون، وقال ابن كثير في تفسيره. في قوله تعالى: (واجعل، لي وزيرا من أهلي... الآية) وهذا أيضا سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه، وهو مساعدة أخيه هارون له، وقوله " أشدد به أزري " أي ظهري وقوله " وأشركه في أمري " أي في مشاورتي (3).

هذا ما يتعلق بوزارة هارون ومساعدته موسى في تبليغ الدين أو شئ من أجزائه، وموسى عليه السلام سأل ربه ذلك. لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف، فهو كان يخاف التكذيب مع ما جمعه من ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان، وكان على علم بفرعون وقومه وما هم عليه من الشوكة والقوة، وكان على علم بالانحطاط الفكري وجهل وضعف بني إسرائيل، لهذا سأل ربه بعض الأمور التي كان يحتاجها في رسالته لا في نبوته، ومنها طلب الوزير، أما فيما يتعلق بخلافة هارون لموسى عليه السلام في قومه. فجاء في قوله تعالى:

(وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل

____________

(1) أنظر: لسان العرب مادة وزر ص 4824.

(2) أنظر: لسان العرب مادة كهن ص 3950.

(3) تفسير ابن كثير 147 / 3.

الصفحة 235
المفسدين) (1) قال ابن كثير: إستخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون. ووصاه بالإصلاح وعدم الافساد، وهذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله له وجاهه وجلاله صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء (2)، والاستخلاف لا يكون إلا في غيبة، وكانت غيبة موسى عن بني إسرائيل حين كان يفارقهم للميقات، وقوله لأخيه " ولا تتبع سبيل المفسدين ". فيه أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون ويقلبون عليه الأمور، ويتربصون به الدوائر، فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم فيشوشوا عليه الأمر. ويكيدوا ويمكروا به. فيتفرق جمع بني إسرائيل ويتشتت شملهم. بعد تلك المحن التي كابد هارون في إحياء كلمة الاتحاد بينهم.

وبالجملة: كان هارون عليه السلام وزيرا لموسى عليه السلام.

وكان يساعده في تبليغ الدين أو شئ من أجزائه، وكان يخلف موسى عليه السلام في غيبته. ويحافظ على سبيل موسى عليه السلام من الذين يتربصون به، ليكون السبيل حجة على بني إسرائيل وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء، ويكون شاهدا على المفسدين على امتداد المسيرة كي يتبين الباحث عن الحقيقة خطأهم، وسبيل الأنبياء فقد ذرأ الله ذرية آدم. لا يضره من خالفه أو من خذله أو من عاداه.

أما فيما يتعلق بأبناء هارون عليه السلام، فلقد ذكرت التوراة الحاضرة، أن الله تعالى اصطفى أبناء هارون من بعده ليفسروا الشريعة لبني إسرائيل، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية بعث منهم الأنبياء والربانيين، وآخر الأنبياء الذين بعثوا من ذرية هارون. كان المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولقد بينا ذلك فيما سبق، ولقد قلب بنو

____________

(1) سورة الأعراف آية 142.

(2) تفسير ابن كثير 243 / 2.

الصفحة 236
إسرائيل الأمر على أنبيائهم. وقتلوا بعضهم وكذبوا البعض الآخر، عندما جاؤوهم بما لا تهوى أنفسهم.

والدعوة الإلهية الخاتمة على نبيها الصلاة والسلام، امتد ظلها من حيث انتهت ظلال أنبياء بني إسرائيل، بمعنى: في بداية الدعوة جعل الله قياس النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى عليه السلام، وجعل قياس أمة النبي (ص) إلى فرعون وقومه، قال تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) (1)، فبتدبر الآية. نجد أن دائرة النبي (ص) يقابلها دائرة موسى عليه السلام، ودائرة الأمة يقابلها دائرة فرعون، والقرآن عبر عن موسى بالرسول، وفي هذا إشارة إلى أن السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالة موسى لا نفس موسى بما أنه موسى، وإذا كان السبب هو مخالفة الرسالة، فيقابله تحذير الأمة من مخالفة رسالة محمد (ص)، لأن المخالفة تؤدي إلى عذاب الأخذ الوبيل. قال ابن كثير في تفسيره إحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر (2).

كما جعل الله تعالى قياس أذى النبي (ص) إلى أذى موسى عليه السلام، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا) (3)، قال ابن كثير: وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي (ص). أو يوصلوا إليه أذى، وقال تعالى مخبرا عن رسوله موسى عليه السلام أنه قال لقومه (لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم

____________

(1) سورة المزمل آية 15.

(2) تفسير ابن كثير 438 / 4.

(3) سورة الأحزاب آية 69.

الصفحة 237
الفاسقين) (1)، ولما كانت عقوبة الذين أذوا موسى عليه السلام وعدلوا عن الحق مع علمهم به. أن الله أزاغ قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، فإن الله تعالى توعد الذين يؤذون النبي (ص). باللعن في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (2). قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشئ. ومن آذاه فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله.

ولما كان الناس يختبرون على امتداد المسيرة البشرية لينظر الله إلى عباده كيف يعملون، فإننا نجد موسى عليه السلام يبين معالم هذا الاختبار لبني إسرائيل فيما أخبر الله تعالى أنه قال لقومه (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (3)، وهذه المعالم بينها الله تعالى لرسوله الخاتم في قوله (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات. وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) (4).

فالدعوة الإلهية ظلالها ممتدة ودوائر الهدى فيها تشبه بعضها بعضا، والعذاب الذي توعد الله به الظالمين هناك من جنس العذاب الذي ينتظر الظالمين هنا، وعلى امتداد الدعوة الإلهية. أمر الله عباده بأن لا يزكوا أنفسهم لأنه سبحانه أعلم بمن اتقى وله سبحانه أنه يزكي من يشاء، وتحت سقف التزكية يختبر العباد، قال تعالى: (وجعلنا بعضكم

____________

(1) سورة الصف آية 5.

(2) سورة الأحزاب آية 57.

(3) سورة الأعراف آية 129.

(4) سورة يونس آية 14.

الصفحة 238
لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) (1) قال في الميزان: أي إنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها، فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم، فيتميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان. والمتبعون للأهواء من طلاب الحق، وقوله تعالى: (وكان ربك بصيرا) أي عالما بالصواب في الأمور، فيضع كل أمر في الموضع المناسب له ويجري بذلك أتم النظام، فهدف النظام الإنساني كمال كل فرد بقطعه السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له ويستحقه، ولازم ذلك بسط نظام الامتحان بينهم، ولازمه ارتفاع التمايز بين الرسل وغيرهم (2)، وقال ابن كثير في تفسيره في معنى الآية: أي اختبرنا بعضكم ببعض وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع ممن يعصي، ولهذا قال (أتصبرون وكان ربك بصيرا) أي بمن يستحق أن يوحى إليه. كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك. وقال ابن إسحاق في قوله " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " أي لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم (3).

ولما كان الناس يختبرون بالأنبياء والرسل. فإنهم يختبرون أيضا بتلاميذ وحواري وأوصياء الأنبياء والرسل. ولقد تم اختبارهم بأبناء هارون وبتلاميذ المسيح عليه السلام. ويشهد بذلك كتب التراجم والتواريخ والسير والأمة الخاتمة لم تستثنى من ذلك، ولقد قابلت دائرة هارون وبنوه في الشريعة الموسوية. دائرة علي بن أبي طالب وبنوه في الشريعة المحمدية، ففي الحديث الصحيح روي أن النبي (ص) قال لعلي بن أبي طالب " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي

____________

(1) سورة الفرقان آية 20.

(2) الميزان 194 / 15.

(3) ابن كثير في التفسير 313 / 3.

الصفحة 239
بعدي " (1). وفي رواية " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا إنك لست نبيا. إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن من بعدي " (2)، وروي أنه قيل لسفيان الثوري: حدثني بأحسن فضيلة عندك لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فقال: " حدثني سلمة بن كهيل عن حجية عن علي بن أبي طالب أن رسول الله (ص) قال له " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " (3)، وعن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول الله (ص) لعلي " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ". قال سعيد بن المسيب. ف أحببت أن أشافه بها سعد بن أبي وقاص. فلقيت سعدا. فحدثته بما حدثني عامر بن سعد. فقال سعد: أنا سمعته. فقلت: أنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه فقال: نعم وإلا فاسكتا (أي صمتا) (4)، وعن موسى الجهني قال: دخلت على فاطمة بنت علي. فقال لها رفيقي أبو سهل: كم لك؟

قالت: ست وثمانون سنة. قال: ما سمعت من أبيك شيئا؟ قالت:

حدثتني أسماء بنت عميس أن رسول الله (ص) قال لعلي " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي " (5).

وحديث المنزلة حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والحاكم وأحمد والطبراني وغيرهم، وقال ابن كثير: تقصى

____________

(1) البخاري (الصحيح 300 / 2) مسلم (الصحيح 174 / 15) الترمذي (الجامع الصحيح 640 / 5).

(2) ابن أبي عاصم وتال الألباني، إسناده حسن ورجاله ثقات (كتاب السنة 565 / 2) وأحمد والحاكم (كنز العمال 606 / 11) (مستدرك الحاكم 133 / 3) (الفتح الرباني شرح مسند الإمام أحمد 204 / 21).

(3) ابن البخار (كنز العمال 151 / 13).

(4) مسلم (الصحيح 174 / 15).

(5) أخرجه الإمام أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير فاطمة بنت علي وهي ثقة (الفتح الرباني 129 / 23).

الصفحة 240
الحافظ ابن عساكر هذا الحديث في ترجمة علي بن أبي طالب في تاريخه فأجاد وأفاد وبرز على النظراء والأشباه والأنداد (1) وقال الحافظ الكتاني:

وحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى. حديث متواتر. جاء عن نيف وعشرين صحابيا (2). وروى الحديث كل من: أبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، ومالك بن الحويرث، وسعد بن أبي وقاص، وقيس بن جنادة، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأم سلمة، وأسماء بنت عميس. وغيرهم (3).

ولما كانت الدعوة الإلهية لبني إسرائيل جعلت هارون وبنيه مع التوراة على خط واحد. فإن الدعوة الإلهية الخاتمة جعلت أهل البيت مع القرآن على خط واحد، فعن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله (ص) يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال " وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي " (4).

وعن زيد بن ثابت قال. قال رسول الله (ص): إني تارك فيكم خليفتين. كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لا يتفرقا حتى يردوا على الحوض (5)، وعن أبي سعيد قال:

____________

(1) البداية والنهاية / ابن كثير 342 / 7.

(2) نظم المتناثر في الحديث المتواتر / الكتاني ص 195.

(3) المصدر السابق ص 195.

(4) مسلم (الصحيح 179 / 15) وأحمد والحاكم (الفتح الرباني 104 / 22).

(5) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (الزوائد 9 / 193) (الفتح الرباني

الصفحة 241
قال رسول الله (ص): إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر.

كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي. وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1)، وعن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم قالا: قال رسول الله (ص) " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (2).

والعترة كما جاء في لسان العرب هي: ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه. وعترة النبي (ص). ولد فاطمة البتول عليها السلام (3) وفي قوله " إني تارك فيكم الثقلين " قال النووي: سميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما وقيل: لثقل العمل بهما (4).

وحديث الثقلين حديث صحيح. رواه أحمد والطبراني عن زيد بن ثابت، والطبراني وأبو نعيم عن حذيفة بن أسيد، وابن أبي عاصم وأحمد والطبراني وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري، والترمذي والنسائي والحاكم عن زيد بن أرقم، وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي والخطيب عن جابر. ومسلم عن زيد بن أرقم (5).

____________

105 / 22) والطبراني (كنز العمال 186 / 1).

(1) رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن والطبراني وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1) (كتاب السنة 644 / 2).

(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (الجامع 663 / 5) وقال في تحفة الأحوازي رواه مسلم من وجه آخر (التحفة 290 / 10).

(3) لسان العرب ص 2796.

(4) مسلم شرح النووي 179 / 15.

(5) أنظر: كنز العمال ص 172، 173، 186، 187 / 1، 435 / 4، 290 / 5 وكتاب السنة ص 351، 644 / 2 والبداية والنهاية 209 / 5.