لقد دعاهم هود عليه السلام وهم تحت ضربات القحط إلى التعقل، فالكون يخضع لنظام دقيق، وإن الاطعام والأمن بين يدي الذي يملك الجوع والخوف، فمن انحرف عن نظام الاطعام والأمن سقط في دائرة الجوع والخوف والمد والاستدراج فماذا كان رد عاد في عالم القحط والجدب؟ (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) (33) لقد ردوا على هود عليه السلام فيما قاله لهم.
فلقد طالبهم هود بأمرين هما: أن يتركوا آلهتهم ويعبدوا الله وحده، وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم، فهذه كانت مطالب هود عليه السلام. أما الرد عليه فجاء إجمالا وتفصيلا. (أما إجمالا) فبقولهم: (ما جئتنا ببينة) أي ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه من الرسالة، إن دعوتك لنا خالية من المعجزة. فما هي معجزتك الخارقة للعادة؟ وبما أنه لا توجد معك معجزة. فلا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه (وأما تفصيلا) فلقد رفضوا دعوته التي طالبهم فيها برفض الشركاء فقالوا: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) كما رفضوا دعوته إياهم إلى الإيمان والطاعة فقالوا: (وما نحن لك بمؤمنين) ووفقا للإجمال والتفصيل فقد آيسوه في كلتا الحالتين،. ثم قالوا له: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) أي نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون.
لشتمك إياها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك. ومن كان هذا شأنه فلا يعبأ بما يقوله في دعوته (34).
لقد طالبوه بالمعجزة، وأخبره أنهم لن يتركوا آلهتهم من قوله، أي بمجرد قوله اتركوهم يتركوهم. وأعلنوه بصراحة أنهم له غير مؤمنين. ثم نظروا إلى
____________
(31) الميزان: 300 / 10.
(32) سورة الأعراف، الآية: 96.
(33) سورة هود، الآيتان: 53 - 54.
(34) الميزان: 301 / 10.
هكذا تفكر عاد في عالم القحط. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على عمق الحضيض الذي تهاووا فيه بعد انحرافهم عن الصراط المستقيم، إن الإنسان عندما يفقد الماء يتضرع، ولكن أصحاب الأعمدة والصخور كانت لهم قلوب لا تعاني من فقد الماء. قلوب من حجارة. نبتت وترعرعت في خيام الأخلاق الحديدية.
* معجزة هود عليه السلام:
لقد انتفخ جبابرة عاد وطالبوه بالمعجزة (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) ثم قالوا بأن أصنامهم قد مسته بسوء (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) فجاء رد هود عليه السلام بما يريدون. جاء بالمعجزة التي تستقيم مع الذي عند قوم عاد. وعاد عندها القوة وتسير على ثقافة (من أشد منا قوة؟) لهذا جاءتهم المعجزة التي تقصم ظهر قوتهم: قوة الفرد أو القبيلة أو المرتزقة أو الدولة، والمعجزة جاءت في رد هود عليه السلام: (قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) (35).
لقد أعلن البراءة من شركائهم. ولا ينفي ذلك كونه برئ منها من أول مرة. وإعلانه البراءة هنا ليضع القوم أمام التحدي وأمام المعجزة. فلقد قالوا بأن الأصنام قد مسته بسوء. فرد عليهم بأنه برئ منها لأنها لو كانت آلهة حقا وتتمتع بعلم وقدرة فيجب عليها أن تقهره وتنتقم منه لنفسها وهو يعلن تبرؤه منها فالتبرء حجة بينة على أنها ليست بآلهة وعلى أنها لم تعتره بسوء كما ادعوا. وبعد أن حطم عليه السلام القاعدة الصنمية للأوثان التي من حجر. انتقل إلى القاعدة الصنمية التي من لحم ودم وعظم. وقدم للجبابرة معجزته التي أذلتهم وهم في أزهى لباس للقوة قال: (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) لقد كان في قوله لهم أمر ونهي تعجيزيان لقد طالبهم أن يكيدوا له وفي قوله (جميعا) إشارة إلى أن
____________
(35) سورة هود، الآيات: 54 - 56.
ويؤمنوا به وبرسالته التي من عند الله. لأنه لولا أنه نبي من عند الله، صادق فيما يقوله، مصون من عند ربه.. لقدروا عليه بكل ما أرادوا من عذاب أو دفع، وأخبرهم بأن معجزة التحدي للقوة لا تعود إلى كونه أشد منهم قوة ولا إلى أنه ينتمي إلى جنس غير جنس البشر، فهو بشر يخاف ويكره، ولكنه لن يخاف من قوتهم الطاغية، ليس لأنه يحمل معجزة التحدي للقوة، وإنما لأنه توكل على الله ربه وربهم، فهو سبحانه الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه. وهو سبحانه المحيط بهم جميعا والقاهر لهم. وهو سبحانه الذي ينصر الحق ويظهره على الباطل إذا تقابلا.
وأمام معجزة هود عليه السلام ارتدت عاد ثوب المذلة، فآلهتهم لم تفعل لهود عليه السلام شيئا رغم سهر فقهاء الجبابرة أمامها وطلبهم تدخلها، والجبابرة والعتاة لم يستطيعوا أن يضروا هودا وهم أصحاب شعار (من أشد منا قوة؟) إن دولة تحمل شعارا لا تستطيع العمل بمضمونه هو - وفقا لمقاييس أصحاب القمة - مذلة وهو - وفقا لمقاييس أصحاب القاع - مهانة. (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) (37). وعندما كانت عاد في ثوب المذلة، كان هود عليه السلام بين أتباعه في عافية وسلامة لا يستطيع أحد أن يمسه بسوء أو يناله بشر، وعندما ذاق جبابرة عاد مرارة العجز، انسحبوا من المواجهة، انسحبت الدولة كلها بأوثانها وفقهائها وجبابرتها وجنودها من أمام هود عليه السلام، ووقفوا جميعا في خندق من خنادق الصد عن سبيل الله لا يملكون فيه إلا بذاءة اللسان.
____________
(36) الميزان 302 / 10.
(37) سورة فصلت، الآية: 15.
ثالثا: استعجال العذاب:
ظل هود عليه السلام يدعو قومه، لكن الاستكبار كان يجري في دمائهم.
رغم ما يعانون من ذل نتيجة لعدم مقدرتهم على الكيد لهود. ولما يعانونه من القحط لإمساك المطر عنهم. والمستكبر المحتاج أكثر خطرا من غيره، لأنه يستعمل جميع أدوات البطش التي لا يستعملها غيره. وإن كان غيره يمكن أن يدمر من حوله من أجل نفسه فإن المستكبر المحتاج يمكن أن يدمر كل من حوله حتى نفسه ولا يتنازل عن هواه وجميع الذين استكبروا قبل أن يضربهم عذاب الاستئصال أوقفهم الله في دائرة الحاجة كي يستغفروا. لكنهم خرجوا من الدائرة وهم يشهرون مخالبهم في وجه كل طاهر، ويغرسون أنيابهم في جسم كل عفيف، طمعا في أن يخنقوا الأرض أو يصيبوها بالوباء. إن الاستكبار بجميع فصائله ينطلق من مملكة الظلم، التي يديرها أصحاب الرؤوس الفارغة والقلوب القاسية، وهؤلاء لا يتنازلون عن هوى من أهوائهم فيه حاجة لهم. وإن ترتب على ذلك الهلاك للجميع. لأنهم ببساطة ألد أعداء الجنس البشري وإن كانوا ينتمون إليه. هم ألد أعداء الإنسانية لأنهم يتصورون أن في عروقهم تجري الدماء النقية، ووفقا لهذا التصور أو الاعتقاد رفضوا قديما النبي البشر، وتطور الرفض فيما بعد إلى كل حامل علم لا يستقيم مع أهوائهم وإن كان حامل العلم معه سلطان وبرهان.
لقد خرجت عاد من دائرة الاحتياج رافضة للتوبة والاستغفار، وأمام العناد كان هود عليه السلام يبلغ رسالات ربه إليهم (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) (38) لم يحدثهم عن قلاعهم وحصونهم. إنما دعاهم فقط إلى عبادة الله. ولم يضف على ذلك شيئا. فماذا كان ردهم؟ (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) (39) لقد كان جوابهم له فيه احتقار ومهانة. واجهوه أولا بأن فيه سفاهة. وواجهوه ثانيا بأنهم يظنون أنه من الكاذبين.. لتد واجهوه بهذه التهم لأنهم سمعوا منه دعوته أكثر من
____________
(38) سورة الأعراف، الآية: 65 (39) سورة الأعراف، الآية: 66.
لم يقابل هود عليه السلام الشر بمثله. ولم يفارقه العطف واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه. لقد رموه بالسفاهة، فقال: ليس بي سفاهة، ورموه بالكذب فقال: أنا لكم ناصح أمين، إنه منطق النبوة في الوعظ والإرشاد وهود عليه السلام كان واسع الصدر في دولة ترفع شعار (من أشد منا قوة؟) وكان ذا شعور قوي وزاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا صلب الإيمان في دولة إذا بطشت بطشت بطش الجبارين، وبعد أن نفى عن نفسه ما ألقوه عليه من تهم قال لهم: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) (42). لقد أراد أن يجذبهم من خيمة الأهواء والغطرسة إلى رحاب
____________
(40) سورة الأعراف، الآيتان: 67 - 68.
(41) الميزان: 178 / 10.
(42) سورة الأعراف، الآية: 69.
لقد طالبهم بالشكر في أربعة مواضع:
(أولا): أنه سبحانه بعث فيهم رسولا منهم وهذه نعمة تستحق الشكر.
(ثانيا): أنه سبحانه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح دون غيرهم من الأمم.
(ثالثا): أنه سبحانه زادهم في الخلق بصطة. وزيادة الخلق تزيد القوة ويترتب على ذلك إقامة المدينة والحضارة.
(رابعا): أنه سبحانه أعطاهم من النعم ما لا تحصى ولا تعد وكل نعمة من نعم الله يجب شكرها، وشكرها أن توضع في موضعها، فماذا كان رد الجبابرة عندما طالبهم هود عليه السلام بأن يذكروا الله ويشكروه؟ (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) (44) لقد رفضوا الذكر والشكر. وذلك لرفضهم عبادة الله وحده. كما حافظوا في ردهم على عبادة ما وجدوا عليه آباءهم. وفي خاتمة ردهم طالبوا بالعذاب. وهكذا طالب هود بمطالب تنسجم مع الفطرة، فردوا بردود تنسجم مع العذاب العظيم لقد استكبرت عاد! قالوا لهود عليه السلام: (أجئتنا لنعبد الله وحده) لقد وجدوا في التوحيد قيد، وجدوا فيه افعل ولا تفعل. أما ما كان يعبد الآباء فلا قيد فيه. لأن الأصنام لا تأمر ولا تنهى. وعلى هذا تكون أهواء الجبابرة طليقة في عالم الاغواء والتزيين. والقوي فيهم يكون سيدا للغابة، ولا قانون إلا قانونه، وفي عالم الغابة هذا، إذا قدمت ماءا صافيا لإنسان، برزت أنيابه كذئب يعوي!
وإذا حملت طعاما نقيا للجائعين، لا ينظرون إليه.. بل إليك! ويقتفون أثرك
____________
(43) ابن كثير: 224 / 2.
(44) سورة الأعراف، الآية: 70.
كلمة! ليتأملها عقل، فستدفع ثمن إنسانيتك غاليا، لأن الفكرة رحمة، والذئاب تعتبر الرحمة شذوذا. لقد رفض الجبابرة أن يعبدوا الله وحده، وأرادوا أصنام الآباء وما كان يراه الآباء. فالجماجم تحت التراب تراث. ورفض التراث في قانونهم جريمة. والجماجم تحت التراب على هداها يسير الأحياء والشيطان لهم دليل. إنه عالم الصم البكم العمي، رفضوا الشكر في المقدمة ورفعوا ما كان يعبد آباؤهم في الخاتمة ثم قالوا لهود عليه السلام: (فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وعندما قالوا ذلك سمعوا الرد الأخير على أقوالهم. الرد الذي ستأتيهم من بعده الخاتمة ليكونوا بعد ذلك أحاديث وعبرة لمن أراد الاعتبار.
فعندما سألوا هودا عليه السلام أن يأتيهم بالعذاب: (قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) (45).
أجابهم عليه السلام: بأنه قد وقع عليهم من ربهم رجس وغضب. لأنهم يحاجونه في هذه الأصنام التي سموها هم وآباؤهم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لهم على عبادتها حجة ولا دليل (46) وبأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم. أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس والغضب. ثم هددهم بما يستعجلون من العذاب. وأخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، وأمرهم بالإنتظار. وأخبرهم بأنه مثلهم في انتظار العذاب (47).
وعلى هذا انتهى الجدل، وانتظر الجميع القول الفصل الذي يحمل العذاب الشامل على فريق الجبابرة وأتباعهم. ويكون رحمة شاملة على طائفة المؤمنين مع هود عليه السلام، وجبابرة عاد عندما طلبوا العذاب، ظنوا أن في هذا الطلب تعجيز لهود عليه السلام مقابل تعجيزه لهم في الكيد له. فأمام معجزته التي طرحها عليهم (فكيدوني جميعا) قالوا له: (فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) فقولهم: (إن كنت من الصادقين) يحمل ظنهم في عدم مقدرته
____________
(45) سورة الأعراف، الآية: 71.
(46) ابن كثير: 225 / 2.
(47) الميزان
قد يؤدي إلى انتشار الشذوذ والانحراف في المجتمعات الأخرى. لهذا كان بتر العضو المريض الذي لم يتقبل الدواء. رحمة وعبرة وشفاء للإنسانية في كل مكان. رحمة لأن الداء قد بتر ودفن في مكانه ولم يجتحهم، وعبرة كي يعيد المنحرف ترتيب أوراقه على أساس صحيح، وشفاء لقوم مؤمنين وتثبيت وإبلاغ لهم بأن السماء لا يفر من تحتها الظالمون.
لقد دخلت عاد بأقدامها إلى دائرة الاستئصال، وعندما قالوا لهود عليه السلام: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) (48) لم يزد عليه السلام في رده عن قوله: (إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون) (49) لقد قصر عليه السلام العلم بنزول العذاب في الله تعالى: (إنما العلم عند الله) لأن العذاب من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل. أما هود فلا علم له ما هو العذاب؟ ولا كيف هو؟ ولا متى هو؟ ولذلك عقب عليه السلام بقوله: (وأبلغكم ما أرسلت به) أي أن الذي حملته وأرسلت به إليكم هو الذي أبلغته إليكم، ولا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟
وكيف هو؟ ومتى هو؟ ولا قدرة لي عليه، وإني أراكم قوما تجهلون، فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم وخيركم من شركم. حين تردون دعوة الله وتكذبون بآياته وتستهزؤون بما يوعدكم به من العذاب (50). لقد ظنت عاد أن طلبها للعذاب تعجيز لهود عليه السلام، في الوقت الذي كانوا فيه يسيرون بأقدامهم على طريق العذاب الذي يصل بهم إلى اليوم العظيم. لقد كانت أقدامهم تدب على أرض جدباء أخذ أهلها حذرهم من الطوفان فأذلهم العطش.
____________
(48) سورة الأحقاف، الآية: 22.
(49) سورة الأحقاف، الآية: 23.
(50) الميزان: 211 / 18.
* وجاءت الرياح:
جلس قضاة الطاغوت في ديار الجبابرة ومن حولهم جنود عاد الذين شربوا من إناء الأخلاق الحديدية في ثقافة (من أشد منا قوة؟) جلسوا تحت السماء التي تمسك عنهم المطر، ومن حولهم نخالة الحبوب الناشفة. وأوراق الأشجار الميتة، لم يرفعوا أكفهم إلى السماء حتى يرفع الله عنهم العقاب، وإنما انطلقوا في يوم عيدهم إلى أكبر أصنامهم وتجمعوا حوله يسألونه الماء أساس حضارة عاد، ففي هذا العيد وكان يوافق دائما يوم الأربعاء. خرج الجبابرة وخدامهم من الفقهاء والجنود ومن حولهم الغوغاء والرعاع أصحاب العيون التي انطفأ منها كل بريق يحمل معنى من معاني الرحمة، وأمام الصنم الأكبر وقفوا يبتهلون ويتضرعون بالآباء تحت لهيب الشمس المحرقة، ولم تكن هناك رياح تسري في الحدائق سريانها البديع. ولم يكن للنسيم الرقيق وجود بينهم يوم زحامهم على أصنامهم. كان الحر شديدا وقطرة الماء أمل للإنسان وللحضارة العريضة التي تتربع عليها عاد، وبينما هم ينظرون في الأفق شاهدوا سحابا ثقيلا يستقبل أوديتهم. يقول تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) (51) لقد حكموا على العارض بما يعلمون، ولكن الحقيقة لا يعلمها إلا الله فما كل سحاب يأتي بالماء، وما كل رياح تحمل الخير، فعاد وفقا لحضارتها وعقيدتها وثقافتها تحكم على الأشياء بما جرت به العادة، فالأب الأول في قافلة الانحراف ترك صنما، وهذا الصنم عبدته القافلة كلها، فإذا جاءت عاد ووجدته يكون الخروج عن العادة والتقاليد شذوذا. وأمام العادة والتقاليد فليسقط السمع والبصر والفؤاد. ووفقا لهذا المقياس شاهدوا العارض فقالوا بأنه ممطر، لأن علمهم وقف عند الحد الذي يقول بأن السحاب لا يحمل إلا الماء. أما الذين يؤمنون بالله فيعلمون أن العناصر كلها خاضعة لخالقها، وقد تحمل هذه العناصر النعم لقوم بينما تحمل النقم لقوم آخرين، وقد تمطر السماء هنا ماء بينما تمطر في مكان آخر حجارة من سجيل منضود. لهذا كان الإيمان بالله هو روح النظر إلى الأشياء عند الذين آمنوا. وكانت تقوى الله هي المقياس الذي تتحطم عليه العادات والتقاليد، وكان الخوف من مكر الله يجعلهم في ارتعاد دائم، لأنهم بشر
____________
(51) سورة الأحقاف، الآية: 24.
وعندما شاهدت عاد العارض وهي تحت مظلة عقيدة الأصنام وثقافة الاستكبار (قالوا هذا عارض ممطرنا) لكن الحقيقة كانت على خلاف ذلك يقول تعالى: (بل هوما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) (52) فبين سبحانه أولا أنه العذاب الذي استعجلوه حين قالوا لهود: (فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وزاد سبحانه في البيان ثانيا بقوله: (ريح فيها عذاب أليم) تهلك كل ما مرت عليه من إنسان ودواب وأموال، وفي موضع آخر يقول سبحانه: (أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) (53) والريح العقيم هي المفسدة التي لا تنتج شيئا (54) والتي عقمت أن تأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح. كتنشئة سحاب أو تلقيح أشجار أو نفع حيوان أو تطيب هواء (55) وفي موضع آخر يقول تعالى: (إنا أرسلنا عليها ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) (56) وفسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، والشديدة البرودة، والشديدة الصوت، والشديدة الهبوب (57). وقوله تعالى: (في يوم نحس مستمر) المراد باليوم هنا قطعة من الزمن، لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع. لقوله تعالى في موضع آخر: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات) (58) وقوله تعالى:
(سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) (59). فتبارك الذي يضرب في كل زمان وكل مكان ويرحم في كل زمان. وكل مكان.
____________
(52) سورة الأحقاف، الآيتان: 24 - 25.
(53) سورة الذاريات، الآيتان: 41 - 42.
(54) ابن كثير: 236 / 4، البغوي: 71 / 8.
(55) الميزان.
(56) سورة القمر، الآيتان: 19 - 20.
(57) ابن كثير: 364 / 4، الميزان /، البغوي: 134 / 8.
(58) سورة فصلت، الآية: 16.
(59) سورة الحاقة، الآية: 7.
لقد طحنت الريح قصورهم وحصونهم ومدائنهم. عصفت عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية) وكانت ترفع الرجال والنساء إلى الجو ثم ترمي بهم فيقعون على رؤوسهم منكسين.
وكانت الريح تقلع الرجال والنساء من تحت أرجلهم ثم ترفعهم إلى السماء ثم تحطمهم حطما، كانت الريح تمر بأهل البادية فحملهم هم ومواشيهم وأموالهم حتى يكونوا بين السماء والأرض وتلقى بأهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة (63) لقد قهرت الريح الذين فشوا في الأرض وقهروا أهلها تحت شعار (من أشد منا قوة؟) أما هود عليه السلام وأتباعه فروي أنه عليه السلام اعتزل ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس (64) (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من
____________
(60) البغوي: 135 / 8، ابن كثير: 265 / 4.
(61) سورة القمر، الآيات: 20 - 22.
(62) ابن كثير: 342 / 3، البغوي: 231 / 6.
(63) ابن كثير: 412 / 4.
(64) ابن كثير: 226 / 2.
لقد جاءتهم الريح في يوم نحس كانوا يحتفلون فيه بمجد آبائهم الأوائل.
ففي اليوم النحس جاءتهم الريح لتكون عليهم في أيام نحسات ذات غبار وتراب لا يرى فيها أحد أحدا. جاءتهم مسخرة من الله عليهم، تضربهم مرة بعد مرة كي يستوعب الجميع الهلاك وذكر المسعودي: أن الريح أتتهم يوم الأربعاء. فما جاءت الأربعاء الثانية وفيهم أحد حي (67). وذهبت عاد وأصبحوا عبرة لمن أراد الاعتبار. وبقيت الريح.. نعم بقيت، فهي على كل مكان من الأرض. وهي في جوف كل إنسان وهي في مخازن الله. وكما ذكرنا أن للمؤمن مقاييس ينظر بها إلى الأحداث من حوله وما يمكن أن يترتب عليها، فليس كل ريح تأتي بخير وليس كل سحاب يأتي بماء. ولقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه. فلما سئل: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وإذا رأيته أنت عرفنا في وجهك الكراهية. قال عليه وآله الصلاة والسلام " ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب.
قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا " (68) وذهبت عاد. وقطع دابر الذين كفروا. فلا ترى لهم باقية. ليسر في عصرنا أحد ينتسب إلى عاد بدمائه لأن دابرهم قد قطع. ولكن في عصرنا من هواه على هوى عاد، في عصرنا يوجد من يقول: (من أشد منا قوة؟) وفي عصرنا أعلام ورايات تمارس سياسات التجويع والتخويف، وفي عصرنا فتحت للغطرسة معاهد، وراجت الأخلاق الحديدية التي لا تقيم للفضيلة وزنا. بل ذبحتها تحت المقاصل تحت شعار روح العصر الحديث. وفي عالم الأخلاق الحديدية. زخرف الشيطان كل شئ بما يستقيم مع روح العصر. وفي عالم الزخرف اعتنق الناس فضائل الأهواء وكل فضيلة من حديد. كل فضيلة ظاهرها الرحمة وباطنها يقبع فيه
____________
(65) سورة هود، الآية: 58.
(66) سورة الأعراف، الآية: 72.
(67) مروج الذهب: 159 / 2.
(68) ابن كثير: 161 / 4.
وذهبت عاد. ولما كانت عاد في صدر القافلة البشرية من بعد قوم نوح.
وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خاتمة القافلة الإنسانية فإن الله تعالى ربط بين البلاء والختام في مواضع من القرآن الكريم. وبين سبحانه أن عادا كانوا من التمكن على درجة عالية لم تكن لكفار مكة. وكان لهم من أدوات الادراك والتمييز ما يستطيع به الإنسان الاحتيال لدفع المكاره والاتقاء من الحوادث المهلكة المبيدة. لكن كل هذا لم يغن عنهم. ولم تنفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئا عندما جحدوا آيات الله. فما الذي يؤمن كفار خاتمة القافلة من عذاب الله وهم جاحدون لآيات الله يقول تعالى بعد أن أخبر عن هلاك عاد (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون * ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) (70) وفي الربط بين البدء والختام أيضا يقول تعالى لرسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) (71) إنها تذكرة إنذارية، ليكون البدء هناك عبرة للخاتمة هنا (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * واتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاد كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) (72).
* مشهد وحركة:
لقد جحدت عاد بآيات الله من الحكمة والموعظة والمعجزة التي أظهرت لهم طريق الرشد وميزت لهم الحق من الباطل، جحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم، وعصوا رسول ربهم هودا عليه السلام، ومن قبله من الرسل، لأن عصيان الواحد منهم هو عصيان للجميع. فكلهم يدعون إلى دين واحد، وعلى ذلك فهم عندما يعصون هودا يكونون قد عصوا بعصيانه سائر رسل الله، وسلسلة الأنبياء
____________
(69) سورة إبراهيم، الآية: 42.
(70) سورة الأحقاف، الآيتان: 26 - 27.
(71) سورة فصلت، الآية: 13.
(72) سورة هود، الآيتان: 59 - 60.
بالرغيف والشهوة والجاه والمال، بالتخويف والتجويع والترغيب والترهيب. ثم تأمل رد أئمة الكفر في عاد وكل عاد مهما اختلفت الأسماء والأعلام. تأمل ردهم على الخدام الخلان (أنحن صددناكم؟) أنحن صرفناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟! إن بلوغه إليكم بواسطة الرسول أقوى دليل على أننا لم نحل بينه وبينكم لقد سمعتم الدعوة. وكنتم مختارين بين الإيمان وبين الكفر. لكنكم كنتم متلبسين بالإجرام مستمرين عليه، فأجرمتم بالكفر بالإيمان لما جاءكم من غير أن يخبركم عليه، فكفركم منكم ونحن برءاء منه (74) إنه العتاب الذي لا يجدي.
ويؤدي في النهاية إلى ضعف من العذاب لكل من الأئمة والخدام، إن عادا بداية وعبرة للمجرمين (ولو ترى إذ المجرمين ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا
____________
(73) سورة سبأ، الآيتان: 31 - 32.
(74) الميزان.
ولن يعودوا.
لقد اتبع الجبابرة الصغار الجبابرة الكبار في الحياة الدنيا. التف الصغار حول كل جبار عنيد واتخذوه قدوة من يوم نوح عليه السلام وحتى يوم محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. ليصدوا عن سبيل الله. ولكن مدارس الصد على امتداد الزمان هي التي تسقط وهي التي تحترق. إن سقوط الباطل في كل زمان يعني انتصار الحق في كل زمان والباطل باطل وإن رفع شعار (من أشد منا قوة؟) وكان معه أكثر الناس، والحق حق وإن قل أتباعه والحق حق وإن وقف في حظيرة على الأرض. والباطل باطل وإن رفع أبنيته على الأعمدة ألم تر أن عادا استأصلهم الله وأن هود أنجاه الله برحمة منه. ألم تر أننا نقص هنا أخبار المجرمين ليرى الحاضر سقوط الباطل المهين في الدنيا والآخرة.
____________
(75) سورة السجدة، الآية: 12.
انحراف ثمود قوم صالح عليه السلام
(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)
سورة فصلت، الآية: 17
* ثمود! قبور في الصخور
[ أعلام الجحود ]
مقدمة:
بعد هلاك عاد بنحو مائة عام، ظهرت حضارة ومدينة أخرى تقودها ثمود.
وثمود من العرب العاربة. جاءت قافلتهم من حول جبل الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح عليه السلام. شأنها كشأن العديد مق القوافل التي تركت المنطقة الأولى وانتشرت في الأرض، وكان على رأس قافلة ثمود: ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وانتهى مسيرها إلى موقع بين الشام والحجاز، وكانت أهم حاضرة لهم مدينة الحجر.. وذكر المسعودي: أن حجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين وهي مصاقبة لخليج العقبة.. وما زالت آثار ثمود باقية إلى يومنا هذا والمكان الذي فيه ديارهم يعرف اليوم ب (فج الناقة). والنبي الذي بعثه الله تعالى إلى ثمود. هو صالح عليه السلام. وكان بينه وبين هود عليه السلام - كما ذكر المسعودي - نحو مائة عام (1). وصالح عليه السلام ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم بالقيام بأمر الله والنهضة للتوحيد ضد الوثنية.
ويذكره الله تعالى بعد نوح وهود عليهما السلام. ولقد أثنى الله عليه بما أثنى به على أنبيائه ورسله. وذكر صالح عليه السلام في القرآن تسع مرات في سور:
الأعراف، هود، الشعراء، وذكرت ثمود في القرآن في أحد عشرة سورة:
____________
(1) مروج الذهب: 47 / 2.
* 1 - في خيام الانحراف:
قال تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (2) ويقول عز وجل: (وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين) (3) لقد كانت البداية هدى، وهذا الهدى غزته ثقافة الجودي، ثقافة ما بعد الطوفان التي قامت على أعمدة التوحيد، وعندما انطلقوا لإقامة مجتمعاتهم الجديدة. كانت الفطرة في أعماقهم تدلهم على طريق الصواب. وبالجملة. عرفهم الله الحق وما يؤدي إليه والباطل وماذا يترتب عليه. فمن هنا كانت دائرة الاستبصار، ولكن دائرة الاستبصار هذه انطفأت في صدور الذين كفروا. وذلك بعد أن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم. وعلى هذا كانت دائرة العمى، وعندما جاءهم رسول من ربهم كي يعيدهم إلى دائرة الاستبصار، صدوا عن سبيل الله، وإلى هنا شق القوم طريقهم في اتجاه الاستئصال والله غني عن العالمين، وطريق ثمود نحو الاستئصال هو نفسه طريق عاد. بكل شعاراته وأعلامه، لقد رفضت ثمود ما رفضته عاد، فمن خيمة الشذوذ والانحراف رفضوا الرسول البشر.. يقول تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون) (4) وفي احتجاجهم على نبيهم صالح عليه السلام قالوا له: (ما أنت إلا بشر مثلنا) (5). لقد أمسكوا بذيل الآباء في رفض البشر الذين يدعونهم إلى عبادة الله وحده، رغم أنهم يحملون المعجزات التي تؤيد دعواهم، وذلك لأنهم يشاركونهم في البشرية. هذا في الظاهر. أما الحقيقة فلأنهم يروا أنفسهم أفضل من الأنبياء، من حيث أنهم يمتلكون الأموال والأولاد والأنعام وزينة الحياة الدنيا. ولديهم العتاد والجموع وهذا ما لم يتوفر للأنبياء،
____________
(2) سورة فصلت، الآية: 17.
(3) سورة العنكبوت، الآية: 38.
(4) سورة فصلت، الآية: 14.
(5) سورة الشعراء، الآية: 159.
وإذا كانت ثمود قد أمسكت بذيل عاد في رفض البشر الرسول، فإنهم سقطوا معهم في قاع اتباع الهوى وطول الأمل. فأما اتباع الهوى فأورثهم الصد عن الحق. وأما طول الأمل فأورثهم نسيان الآخرة، ومع ثقافة الصد والنسيان لم تتدبر ثمود فهلك عاد وقوم نوح من قبل. فأقاموا بيوتهم في بطون الصخر وجعلوا لها أبوابا ضيقة يتحكمون فيها عند هبوب الرياح. حتى لا يهلكوا كما هلكت عاد. وكانت عاد من قبل قد شيدت لها أبنية على قمم المرتفعات حتى لا يهلكهم الطوفان الذي أهلك قوم نوح من قبل. وعن ثمود يقول تعالى: (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين) (6) أي يسكنون الكهوف المنحوتة من الحجارة ظنا منهم أن هذا يجعلهم آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية. إنها ثقافة النسيان. التي انطلقت إلى غابة طول الأمل الشيطانية. وهناك في كل جرف صخري داخل واديهم السحيق. أقاموا مساكنهم التي ظنوا أنها تدفع عنهم الموت، ولم يكن يدري أهل ثقافة الانحراف. أن كفران النعمة أورثهم الجوع والخوف. والجائع لا يشبع من طعام ولا من حياة، ولأنه يريد مزيد من الحياة، خاف من المستقبل، وفي عالم الخوف يقف الخائف وراء الجدر، فلا يقاتل إلا من ورائها ولا يكيد إلا من ورائها، وثمود لم تكتف بالوقوف وراء الجدر بل دخلت فيها. يقول تعالى:
(وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) (7) أي الذين ينحتون الصخر ويخرقونه ليتخذون منه بيوتا (8). لقد ظنوا أن ما يصنعوه يؤمن سعادتهم في الدنيا، ولم يدر أهل كفران النعمة ونسيان العهد، أن بطون الجبال ستكون عذابا لهم في يوم أليم وأن حضارتهم لن تحمل للمستقبل إلا دخانا، يدل على أن في هذا المكان يوما ما اضطرمت نار الغضب، كي يعتبر بهم من أراد الاعتبار.
____________
(6) سورة الحجر، الآية: 82.
(7) سورة الفجر، الآية: 9.
(8) ابن كثير: 508 / 4.
* 2 - الرسول والدعوة.
1 - الرسول:
بعث صالح عليه السلام وكان يومئذ غلام حدث (9) وروي أنه بعث وهو ابن ست عشرة سنة، فلبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة (10) وذكر ابن الأثير في الكامل أنه بعث وهو ابن ثلاثين سنة، ومات وهو ابن ثمان وخمسون سنة (11) ورواية بعثه وهو غلام رواها غير واحد، وهناك روايات ذكرت أن دعوة صالح عليه السلام كانت عشرين سنة، وهذه مدة غير كافية لنسيان ثقافة خروج الناقة من الصخرة. ومن المعروف أن معجزة الناقة أدت إلى إيمان العديد وعلى رأسهم رئيس القوم (12). أما الرواية التي نصت على أن صالحا عليه السلام بعث وهو غلام أو ابن ست عشرة سنة وأنه لبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة، فهي تستقيم مع الأحداث لأن المدة كافية لظهور أجيال ترى في الناقة عادة مألوفة، ولا تراها كمعجزة كما رآها الجيل السابق، ومع هذه الأجيال تدور معارك العقيدة، بين معسكر الحق ومعسكر الشذوذ الذي يسهر عليه آباء الانحراف الذين لم يؤمنوا برسالة صالح وتمسكوا بذيول الآباء. فالناقة كانت في الحقيقة حجة على جيلين. جيل طلب الآية. وجيل لم يطلب الآية ولكنه رآها وهو يشب بين القوم.
الجيل الأول آمن منه من آمن وعاش في ثقافة المعجزة، أما الجيل الثاني فجاء يسمع ثقافة المعجزة وثقافة الصد عن السبيل، وهو مخير بين هذا وذاك. إما أن يكون مع الناجين. وإما أن يكون امتدادا لأجيال لن تلد إلا فاجرا كفارا وحينئذ يكون عذاب الاستئصال.
بعث صالح عليه السلام وهو غلام. وبعث الله تعالى صالحا في هذا السن معجزة في حد ذاتها. ليرى فيه القوم رجاحة العقل في زمن عز فيه أن يرى عاقل تنجبه ثقافة الجوع والخوف والصخور، وصالح عليه السلام كان من بيت شرف
____________
(9) مروج الذهب / المسعودي: 47 / 2.
(10) الأنبياء / العاملي: 104.
(11) الفتح الرباني: 46 / 20.
(12) مروج الذهب: 47 / 2، ابن كثير: 228 / 2، تفسير الميزان: 315 / 10.
وشب صالح عليه السلام في ثمود، وكان كل يوم يمر يشعر معه الجبابرة بالخطر الذي يحمله صالح عليه السلام. لقد وجدوه يحمل عقيدة تعمل من أجل الإطاحة بما كان عليه آباؤهم. وهذه العقيدة تلازمه من يوم أن شاهدوه في أول أمره كنبت أخضر ذي أصل ثابت. يتسلق فرعه في اتجاه السماء، إلى اليوم الذي أصبح فيه كشجرة تشب مع الأجيال وتحمل لهم الثمار، كان الجبابرة يشعرون بالخطر، ولأنهم لا يتنفسون إلا من خيمة الانحراف، كان كل يوم يمر لا يزدهم من الإيمان إلا بعدا، لم يتدبروا يوما في أحوال صالح الذي حمل الرشد والكمال في شخصه وبيته، ولا يأتي منه إلا الخير. ولا يترقب منه إلا النفع.
2 - الدعوة:
يقول تعالى: (كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا
تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن