لقد هدم عليه السلام عقائدهم وثقافاتهم التي تقوم عليها، فدعاهم لأن يتدبروا وأن يتقوا الله، وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، ثم نفى عن نفسه أي طمع دنيوي. والدليل أنه لم يسألهم الأجر كما يسألهم كهان الأوثان الأجر عندما يفتونهم، وليس معنى أنه لا يسألهم الأجر أن ما يقوم به لا وزن له، وإنما له ثواب وأجر عند الله رب العالمين وهو يطمع في هذا الأجر وهذا الثواب، وبعد أن قرع عليه السلام آذانهم بالتوحيد. رد عقولهم إلى الحقيقة التي تعاموا عنها فقال: (أتتركون في ما ها هنا آمنين)؟ أي أنكم لن تتركوا في أرضكم وما أحاط بكم في أرضكم هذه. وأنتم مطلقوا العنان لا تسألون عما تفعلون وآمنون من أي مؤاخذة إلهية (14) لقد وعظهم وحذرهم نقم الله أن تحل بهم.. وذكرهم بأنعم الله حيث أنبت الله لهم الجنات وفجر لهم من العيون الجاريات وأخرج لهم من الزروع والثمرات (15) لكنهم لم يشكروا النعمة ويضعوها في محلها، وإنما اتخذوا تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها. وأنهم كانوا حانقين متقنين لنحتها ونقشها (16) ولأن ما يفعلوه لا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، أمرهم أن يقبلوا على الله بطاعته. لأن طاعته من طاعة الله. وأن لا يطيعوا أمر المسرفين.. فلا يقلدوهم ولا يتبعوهم في أعمالهم وسلوكهم. وخطابه عليه السلام كان للعامة التابعين للمسرفين، وكان للمسرفين الذين يقلدون آباءهم ويطيعون أمرهم ولقد - أمر بعدم طاعتهم لأنهم يفسدون في الأرض غير مصلحين. والإفساد لا ومن معه العذاب الإلهي والله عزيز ذو انتقام.
____________
(13) سورة الشعراء، الآيات: 141 - 152.
(14) الميزان.
(15) تفسير البغوي: 232 / 6.
(16) ابن كثير: 343 / 3، البغوي: 233 / 6.
لقد دعاهم عليه السلام لكي يدخلوا في رحاب الأمن الحق الذي يربط أجزاء الكون بالعدل. ولكن العدل عند خيمة الانحراف، أن تتركهم وما يفعلون، وأن تتركهم وما يقولون، وأن لا تحول بينهم وبين ما يحبون! العدالة عندهم أن تتركهم حتى لو أدت أعمالهم إلى احتراق الأخضر واليابس في مشهد واحد.
____________
(17) الميزان.
(18) سورة الشعراء، الآيتان: 153 - 154.
(19) الميزان.
* 3 - انحراف جديد:
كانت ثمود أمة من أمم الانحراف، والانحراف لا بد وأن يترك تحت رماده بذور يصلح زرعها على أرض معسكر الانحراف. الذي يستلم الراية فيما بعد.
وهذه البذور تظل تحت الأرض لفترة حتى يأتي من يتعهدها حتى تكبر وتصبح شجرة من الدنس في نهاية الطريق. وإذا كانت ثمود قد تعهدت شجرة (ما أنت إلا بشر مثلنا) التي قام كفار قوم نوح بتسليمها لكفار قوم هود، فإن ثمود كان لها السبق في إضافة معنى آخر يقبل بشرية الرسول بشروط، ولقد اتسعت هذه الشروط فيما بعد وكان في اتساعها كارثة.
فعندما حاصر صالح عليه السلام ثمود بحججه الدامغة، ولم تجد ثمود فيه إلا كل الخصال الحميدة، هرول إليه الضعاف واعتنقوا دعوته، وأمام هذا المد - وإن كان ضعيفا - اهتز الذين يحرصون على الحياة، وأصبحت أوراق فقه التحقير والانتقاص من البشر الذين يحملون رسالات الله لا تجدي. بعد أن أحرزت الدعوة تقدما لها في ديار الضعاف. لهذا قام كفار ثمود لتطوير فقه التحقير والانتقاص بما يسحب البساط من تحت أقدام النبوة فقالوا كما أخبر سبحانه:
(أبشر منا واحد نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر) أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر) (20) لقد نصبوا شباك الصد عن سبيل الله، شباك صنعت من خيوط الحسد، وقالوا: " لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا قيادتنا لواحد منا " (21) فلو كان الوحي حقا، وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر جميعا (22) باختصار بثت أبواق ثمود ثقافة جديدة تقول للعامة والخاصة أن إثبات الرسالة لصالح وحده فيه انتقاص لكم، لأنكم تماثلونه في البشرية، فإذا جاز أن يدعي الرسالة، فمن حقكم أن تدعوا الانتفاخ بالروح القدس. وهذا البيان لن يصب في النهاية إلا في سلة الجبابرة. لأن الضعاف لن يجرؤ واحد منهم أن يدعي الانتفاخ أو يدعي الرسالة. لأنه لا يملك أن يقدم البينة عليها، فالبيان بالنسبة للضعفاء تحصين لهم في مواجهة صالح عليه السلام. أما بالنسبة للجبابرة، فإنهم إذا ادعوا الرسالة
____________
(20) سورة القمر، الآيتان: 24 - 25.
(21) ابن كثير: 264 / 4، البغوي: 135 / 8.
(22) الميزان.
فإذا كانت ثمود قد دقت أوتاد العدة والجموع في أول الزمان، فإن القرآن الكريم مزق هذه العدة وهذه الجموع في معسكر الباطل، في رده على الذين قالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فقال تعالى:
(أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون * ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسرر عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) (24).
قال المفسرون: إن قولهم هذا ينبغي أن يتعجب منه! فإنهم يحكمون فيما لا يملكون، فهذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها ويرزقون. وهي رحمة منا. لا قدر لها ولا منزلة عندنا. وليست إلا متاعا زائلا. نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيئتهم. فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى.
وهي مفتاح سعادة البشر الدائمة والفلاح الخالد. فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها عمن شاؤوا. إن متاع الدنيا من مال وزينة، لا قدر لها عند الله سبحانه ولا منزلة، ولولا أن يجتمع الناس على الكفر لو شاهدوا تنعم الكافرين، لجعلنا لمن يكفر
____________
(23) سورة الزخرف، الآية: 31.
(24) سورة الزخرف، الآيات: 32 - 35.
* 4 - المعجزة:
اتهمت ثمود صالح عليه السلام بأنه من المسحرين! وطالبوه بآية إن كان من الصادقين. وكان بعثه فيهم وهو غلام آية ولكنهم لم يتدبروها، ولقد طالبوه بإظهار العلامات كما ذكر المسعودي: ليمنعوه من دعائهم. وليعجزوه عن
____________
(25) الميزان.
(26) سورة هود، الآية: 68.
(27) راجع سلسلة بحوثنا عن المسيح الدجال.
وتقدم زعيم القوم وقال له: يا صالح إن كنت صادقا في قولك، وأنك معبر عن ربك، فاظهر لنا من هذه الصخرة ناقة (وكانت صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها الكاتبة (29) وكانوا يعظمونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة) (30) ولتكن هذه الناقة: وبراء، سوداء، عشراء، نتوجا حالكة، صافية اللون، ذا عرف وناصية وشعر ووبر (31).
كان القوم لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله، وحول كل صنم جماهيره تهتف: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا من هذه الصخرة الناقة التي سألنا. لقد سأل الجبابرة معجزة من جنس ما يملكون وهتفت الجماهير هتاف الصخر الذي فيه يعملون. فقال لهم صالح عليه السلام: " لقد سألتموني شيئا يعظم علي ويهون على ربي سبحانه وتعالى " (32) وعندئذ أوحى إليه الله تعالى:
(إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر * ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) (33) لقد أوحى سبحانه إليه بأنه سيرسل على طريق الإعجاز الناقة التي سألوها، امتحانا لهم، وأمره أن يصبر على أذاهم، وأن يخبرهم بعد إرسال الناقة. أن الماء مقسوم بين الناقة وبين القوم، لكل منهما نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه، فالقوم يحضرون عند شربهم والناقة عند شربها (34) وفي يوم عيد القوم، وقف صالح عليه السلام أمام الصخرة يستغيث بربه، فتحركت الصخرة وتململت، وبدا منها حنين وأنين، ثم انصدعت من بعد تمخض شديد، كتمخض المرأة حين الولادة. وظهر منها ناقة على ما طلبوا من الصفة،
____________
(28) مروج الذهب: 47 / 2.
(29) ابن كثير: 228.
(30) الميزان: 315 / 10.
(31) مروج الذهب 47 / 2.
(32) الأنبياء / العاملي: 105.
(33) سورة القمر، الآيتان: 27 - 28.
(34) الميزان: / 19.
لقد خرجت الناقة بمشيئة الله، أوجدها سبحانه كخلق آدم وحواء من غير أب ولا أم.. أوجدها تعالى تأييدا لصالح وتصديقا لدعوته، وآية من مبرئ الأكوان وموجد الزمان والمكان، لتدل على وحدانيته سبحانه، وعندما خرجت الناقة وولدها من الصخرة آمن خلق كثير (37) وقال صالح عليه السلام: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم * واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) (38).
قال المفسرون: دعاهم أولا أن يعبدوا الله، وكانوا مشركين يعبدون الأصنام، وأخبرهم أنه قد جاءتهم من ربهم شاهد قاطع في شهادته، وهي الناقة التي أخرجها الله لهم من الصخرة. آية لنبوته بدعائه عليه السلام لربه، ثم أمرهم أن يتركوها تأكل من أرض الله، وحذرهم أن يمنعوها أو يمسوها بسوء كالعقر والنحر، فإن وبال ذلك عذاب أليم يأخذهم، ثم دعاهم إلى أن يوجهوا طاقاتهم التوجيه الصحيح، بأن يذكروا نعم الله عليهم، وذكرهم أن الله تعالى جعلهم خلفاء يخلفون أمما من قبلهم كعاد، وأن الله تعالى هو الذي مكنهم في منازلهم وكما أنه هو الذي أخرج لهم الناقة من بطن الصخرة فإنه تعالى هو الذي أعطاهم القوة ليتخذوا من السهول قصورا وينحتون من الجبال بيوتا. وهذا يدعوهم إلى ذكر آلاء الله فيهم، ولا يعثوا في الأرض مفسدين كان هذا توجيه صالح عليه السلام لهم، بعد أن أخرج الله الناقة من الصخرة الصماء، بين دهشة القوم، وتهليل وتكبير صالح عليه السلام والذين آمنوا معه.
____________
(35) مروج الذهب: 47 / 2.
(36) ابن كثير: 228 / 2.
(37) مروج الذهب: 47 / 2، ابن كثير: 228 / 2.
(38) سورة الأعراف، الآيتان 73 - 74.
* 5 - مواجهات بين الحق والباطل:
بعد معجزة الناقة آمن الناس، وتوارى بعض من الملأ الذين أصروا على الاستكبار وراء جدر النفاق أو جدر الصخر. بعد أن كبر عليهم أن يصبحوا من رعايا الصراط المستقيم وتحت قيادة صالح عليه السلام الذي يصغرهم في السن ولا يمتلك ما يمتلكوه من مال وجموع، والاستكبار في كل زمان ومكان لا يرضى إلا بما يشبع نفسه الأمارة بالسوء وأهواءه التي استنقعت في الدنس، الاستكبار هو الاستكبار من يوم أن رفض الشيطان أن يسجد لآدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، كان الاستكبار في ثمود يتنفس برئة آباء معسكر الانحراف ولا يجد لنفسه وجودا إلا في هذا المعسكر، لذلك كان يعز عليهم أن يروا صالحا عليه السلام، وهو يحطم عقيدة وثقافة خيام الشذوذ والانحراف. ولأن حياتهم فيما يحطمه صالح عليه السلام، فإنهم خاضوا العديد من المواجهات معه، منها ما حمل لافتات الترغيب وعرض المناصب القيادية، ومنها ما حمل لافتات التحقير والتشاؤم من الذين آمنوا، ومنها ما حمل الخناجر والسيوف لقتل صالح وقتل الناقة، وكان لكل لافتة زمان ورجال، فالزمن الذي عاصر معجزة الناقة أو سمع عنها كان المستكبرون يرفعون لافتة الصد المناسبة له، والزمن الذي لم ير ولكنه سمع كان له لافتة تناسبه، وفي جميع الأزمنة لم تخل الدائرة حول صالح عليه السلام من المؤمنين به وبرسالته.
1 - الترغيب بدائرة الضوء:
بعد أن امتص المجتمع معجزة الناقة، رأى جبابرة ثمود أن وجود المستضعفين حول صالح عليه السلام فيه خطر عليهم، فعلموا من أجل امتصاص الدعوة، بمعنى أن يدخلوها تحت عباءاتهم حتى إذا خرجت لا تحطم طرقهم، وكان سبيلهم من أجل تحقيق ذلك هو التلويح بالمنصب الرفيع في ثمود لصالح إذا ترك آلهتهم وشأنها، وقد رويت أحاديث عديدة في محاولات ثمود هذه. وفي كتاب الله تعالى إشارات تدل على عمليات التلويح بالمنصب. يقول تعالى:
(وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب * قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك
لقد بدأ حديثه ودعوته بقوله: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) وفي هذا تحطيم للأرباب والآلهة التي اتخذوها من دون الله. ومنهج صالح عليه السلام في هذا لا يتبدل ولا يتغير، ثم ذكرهم بعد ذلك بنشأتهم من الأرض.
وبين لهم أن الله الذي أنشأهم من الأرض استخلفهم فيها، وعلى هذا فإنهم لا يفتقرون في وجودهم وبقائهم إلا إليه تعالى. لأنه تعالى هو الذي أنشأ وهو الذي استخلف، وبما أنه تعالى هو الذي يجب عليهم أن يعبدوه ويتركوا غيره، لأنه تعالى خالقهم والمدبر لأمر حياتهم، فيجب عليهم أن يسألوه أن يغفر لهم معصيتهم التي اقترفوها بعبادة غيره وأن يرجعوا إليه بالإيمان به وعبادته إنه تعالى قريب مجيب.
هذا معنى ما قاله صالح عليه السلام. فماذا قال له رؤوس القوم الذين يحافظون على الانحراف؟ (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) والمعنى: أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحين. تنفع بخدماتك مجتمعهم.. لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد والكمال (40) كنا نرجوك في عقلك (41) ولكن هذا الرجاء قد خاب (42) لقد يئسوا منك، وسبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن دولتهم، وتمحو أظهر مظاهر قوميتهم (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) كيف وإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، واستمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت. ووحدة قومية لها استقامة في الرأي والإرادة (43) ويقول
____________
(39) سورة هود، الآيات: 61 - 64.
(40) الميزان: 312 / 10.
(41) ابن كثير: 451 / 2.
(42) في ظلال القرآن: 1907 / 2.
(43) الميزان: 312 / 10.
عندما قالوا لصالح عليه السلام: لقد كان لنا رجاء فيك، وكنت مرجوا فينا لعلمك ولعقلك ولصدقك ولحسن تدبيرك. عندما قالوا هذا كانوا يلوحون بالمنصب في حقيقة الأمر. وعندما لوحوا بالمنصب عرضوا مطالبهم عندما قالوا:
فكل شئ يا صالح إلا هذا، وما كنا نتوقع أن تقولها. فيا لخيبة الرجاء فيك (44) وأمام الترغيب بالمنصب لوحوا بقبضتهم الحديدية في حالة رفض مطالبهم عندما أخبروه أنهم في شك مما يدعوهم إليه شك يجعلهم يرتابون فيه وفيما يقول:
(وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب). وهكذا عرضت ثمود مطالبها. لقد أرادت الأصنام رمز وحدتها القومية، فوضعت ما أرادت على سهم حديدي، مقدمته رجاء إن أصاب هدفه تمت لهم السيطرة على الدعوة، وإلا فثقافة التشكيك في مؤخرة السهم الحديدي من شأنها أن تقضي على الدعوة وتعود بالقطيع إلى غابات الآباء.
أمام ثمود وقف صالح عليه السلام يرى معالم الضياع على وجوه القوم، هو يدعوهم إلى الطهارة وهم يعملون من أجل إقامة سنن دولتهم، وهو قد حذرهم من قبل أن لا يمسوا الناقة بسوء، وبايعوه على ذلك وها هو يرى علامات النكث ترى بين طيات فقه التشكيك الذي لوحوا به، فقال لهم ردا على ما أثاروه: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة منه فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير) (45). والمعنى: أخبروني. إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي. وأعطاني الله الرسالة وأمرني تبليغ رسالته. فمن ينجيني من الله ويدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم فيما تريدونه مني، وما يريدوه مني هو ترك الدعوة (46). إن حرصكم من أجل أن أترك الدعوة وأرجع إليكم لا يزيدني إلا خسارة. إن اللحوق بكم فيه غضب لله وحرماني شرف الرسالة وخزي في الدنيا وعذاب في الآخرة وهذا كله خسارة بعد خسارة.
____________
(44) في ظلال القرآن: 1907 / 2.
(45) سورة هود، الآية: 63.
(46) الميزان: 313 / 10.
(هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) (47) أخبرهم بوضوح شديد، أن الناقة تأكل في أرض الله محررة، وحذرهم أن يمسوها بسوء، بجرح، أو قتل أو حتى ضرب وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، وبرفضه عليه السلام لعرضهم احترقت ورقة الاستكبار التي رغب بها صالح عليه السلام للدخول في دائرة الضوء الثامودي.
2 - حملات التشكيك:
قبل ظهور معجزة الناقة آمن بصالح عليه السلام أصحاب القلوب الصافية والعقول السليمة، وهؤلاء في الغالب من المستضعفين. آمنوا بمجرد أن دعا صالح إلى الله تعالى، كما هو الحال مع سائر الأنبياء والرسل، أما رؤساء القوم وشيوخهم فكانوا في شك من نبوة صالح عليه السلام ورسالته وصدقه في كل ما يدعيه وبعد معجزة الناقة وخروجها من الصخرة حسب طلبهم وبعد اتفاقهم على ذلك، آمنت منهم جموع كثيرة، ودخلوا في دائرة الاستبصار. ولكن الحال لم يستمر على هذا طويلا. فظهور الناقة أمامهم يوم شربها أصبح عادة كما أن العديد منهم ضاق ذرعا بالناقة نظرا لأن دوابهم كانت تخاف منها وتفر من طريقها رغم أن الناقة لا تؤذيها. ومع طول الأمد بدأ الاغواء الشيطاني وإغواء النفس الأمارة بالسوء، وتحرك الاستكبار من وراء الجدر ومن داخل الساحات العامة، وتحرك الملحدين الجفاة الغلاظ، وجروا معهم ضعاف الإيمان وجماهير الغوغاء أهل الطيش الهمج الرعاع أتباع كل ناعق يعمل لهم رغيفا.
كان يعيش على أرض ثمود من رأى معجزة خروج الناقة وسمع الوصية بها، ومن لم ير خروجها ولكنه سمع عنه وعن الوصية، ومن آمن بصالح عليه السلام سواء رأى المعجزة أو لم يرها. وبالإضافة إلى هؤلاء كان على أرض ثمود عمالقة
____________
(47) سورة هود، الآية: 64.
وبدأ معسكر الباطل في العدوان يقول تعالى في تحركهم: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه؟ قالوا: إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) (48).
لقد وقف الاستكبار أمام رقعة الاستضعاف. ووجه حديثه إلى الذين آمنوا بصالح. كي تصل رسالة الاستكبار بطريق غير مباشر إلى جموع المستضعفين في ثمود، وكانوا في الغالب الأعم يلجأون إلى صالح ويسمعون منه، ولقد دل سبحانه بيان قوله: (للذين استضعفوا) بقوله: (لمن آمن منهم) على أن المستضعفين هم المؤمنون، وأن المؤمنين إنما كانوا من المستضعفين، ولم يكن يؤمن به أحد من المستكبرين (49) فأمام رقعة الاستضعاف وقف الذين استكبروا وطرحوا على المستضعفين سؤالا (أتعلمون أن صالحا مرسلا من ربه؟) إنه سؤال التشكيك بعد أن طال الأمد إلى حد ما وأصبحت معجزة الناقة تخضع للتراث، إن شاؤوا أضافوا إليه أساطير التشويه، وإن شاؤوا تركوه على حاله ولتفعل الأموال ما تريد فإن لم يكن فالسياط، وأمام السؤال كان الجواب (قالوا: إنا بما أرسل به مؤمنون) إنه جواب الثقة بالنفس. جواب من لا يخاف التهديد والتخويف. لقد أعلنوا الإيمان بما أرسل به، وما أرسل به لا يخضع لأساطير التشويه لأنهم على يقين من أمرهم. ولا يهتز أمام السخرية والاستنكار، لأنه راسخ في أعماق الفطرة وأعماق الوجود، ولا يخاف من سياسات التجويع والتخويف، لأن من عرف الحق لا يجوع ومن تمسك بالصبر لا يخاف. وأمام هذا المشهد ألقى الاستكبار بورقته التي تحمل شهوة الملك (قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) لم تعد القضية قضية الناقة، لقد كفروا
____________
(48) سورة الأعراف، الآيتان: 75 - 76.
(49) الميزان: 182 / 8.
لقد طرح صالح عليه السلام دعوته في حقيقة واحدة (أن اعبدوا الله) فكانت النتيجة ظهور فريقان. فريق مؤمن وفريق كافر (51) فأما الفريق الكافر فلقد استثمر مشاكله التي جاءت نتيجة لأفعاله في الصد عن سبيل الله، وذلك عندما دعاهم صالح عليه السلام بأن يستغفروا الله لعله سبحانه أن يرحمهم. فقالوا له:
(اطيرنا بك وبمن معك) (أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا) لقد تشاءمنا بك وبمن معك ممن آمن بك، وبما أن قيامك بالدعوة وإيمانهم بك، قارن ما ابتلينا به من المحن والبلايا! فلن نؤمن بك ولن نستغفر (52)!
إنهم يشككون في صالح وأتباعه مستغلين أوضاعهم الاقتصادية في هذا التشكيك. أي يستثمرون مشاكلهم في الصد عن سبيل الله، طامعين أن يعود عليهم هذا الاستثمار بالنصر المظفر على صالح عليه السلام والذين آمنوا معه (ألا بعدا لثمود) إن منطق التشكيك باستثمار المشاكل منطق غير سليم لأنه
____________
(50) سورة النمل، الآيات.: 45 - 47.
(51) ابن كثير: 367 / 3، البغوي: 290 / 6.
(52) الميزان: 373 / 15.
(طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله، وهو كتاب أعمالكم، ولست أنا ومن معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق إليكم هذه الابتلاءات، بل أنتم قوم تختبرون بهذه الأمور ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم) (53).
وأمام منطق صالح عليه السلام وحججه الدامغة! بدأ الشيطان يقود قافلة الانحراف بعد أن دعاها ولبت نداءه. وبدأت القافلة تخطط إلى ما هو أبعد من التشكيك، كي تحتفظ بالقومية التي شيد آباؤهم خيامها في معسكر الانحراف.
* 6 - نظرات في حركة الناقة:
لقد حافظ الانحراف في كل رمز من رموزه من أيام ابن آدم الأول قاتل أخيه. واحتوت خيامه على كل ثقافة للشذوذ وللتوثين تركها كفار قوم نوح وقوم هود. ولم تحفظ ذاكرة ثمود معجزة ناقة خرجت من الصخر بلا أب وبلا أم، ونسبها الله إلى نفسه وقال: (ناقة الله) لقد احتفظت ذاكرتهم بكل ما يبعدهم عن الله، وأبت عقولهم إلا أن تشرب من أوعية الدنس والعار التي تحتوي على ثقافة اتباع الهوى وطول الأمل.. تلك الثقافة التي خط الشيطان خطوطها الأولى. فمن ثمود من شاهد الناقة وهي تخرج من الصخرة ومن ورائها يجري ولدها، وسمع بأم أذنيه تحذير صالح عليه السلام من مساسها بأي سوء، ومنهم من سمع ولم يشاهد. ولكن هذا وذاك في معسكر الانحراف. لا قيمة لسمعهم
____________
(53) الميزان: 373 / 15.
إن أتباع الانحراف لهم آذان لا يسمعون بها ولهم عيون لا يبصرون بها ولهم قلوب لا يفقهون بها، لأنهم يستعملون حواسهم فيما لا يعود عليهم وعلى الإنسانية بالسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وهم ما فقدوا مقياس الاستعمال الصحيح لحواسهم إلا بعد أن نسوا أو تعاموا عن الدليل الحق الذي يقودهم إلى الطريق الحق، ومن كانت مقدمته النسيان أو التعامي عن الحق في أول الطريق تمرغ في نهاية الطريق على أرض السراب بحثا عن الماء ولن يجد الماء! لأن المقدمة كانت تقوم على نسيان الله ومن نسي الله في أول الطريق أنساه الله نفسه على امتداد الطريق وانتهى أمره إلى الهلاك والله غني عن العالمين. وثمود نست وتعامت ففقدت الدليل، والدليل يحدثها من كل جانب. يقول لهم قولا واحدا:
(يا قوم اعبدوا الله) ويحذرهم تحذيرا واحدا (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) (54) لقد كان لوجود الناقة بينهم حكمة، ومن وراء هذه الحكمة هدف، إن الناقة كانت شيئا ماديا يروه بأم أعينهم في طرقاتهم. كانت دابة على هيئة لم يألفوها، اختار عباقرتهم وفقهاؤهم أوصافها بأنفسهم وأخرجها الله لهم من الصخرة التي عينوها أيضا بأنفسهم، وهذا في حد ذاته دعوة للتدبر على امتداد أجيال ثمود، وإذا كانت الناقة وهيئتها هي الجزء المادي من المعجزة! فإن أفعالها هي الشطر الثاني من المعجزة وأفعال الناقة كانت حجة على الجميع من الطفل الرضيع وحتى الشيخ الفاني. كانت حجة على الذي رأى وسمع والذي لم ير ولم يسمع من ثمود.
وكما أن الناقة بهيئتها معجزة تقود إلى الله الحق فإن أفعال الناقة كانت أيضا معجزة تقود إلى الله الحق، وبما أن طريق الله الحق يبينه لثمود صالح عليه السلام! فإن معجزة الناقة المادية والفعلية هدفها أن تقف ثمود منصتة إلى الرسول الحق الذي يدلهم إلى الطريق الحق.
لقد كان عمل الناقة الوحيد أن تشرب يوما ولا يحضر شربها غيرها، وأن
____________
(54) سورة الأعراف، الآية: 73.
إن فقدان الماء في يوم وخاصة في عالم الصحراء. وبالأخص في عالم ثمود الذي يقوم فيه العمال والجنود بنحت الصخور. يكون أمرا شاقا على مستوى الفرد وعلى مستوى الدولة التي تريد أن تنفذ خطتها وفق أطروحة الآمال الطويلة، وهو أمر شاق أيضا على سير التجارة وانتقال القوافل من هنا إلى هناك، لأن نقطة بدء الرحلة يتحدد يومها وفقا للقسمة بين الناقة وبين القوم. كي تتزود القوافل بالماء اللازم في اليوم المحدد لها. هذا إذا توفر لها الماء فعلا، نظرا لأن الناقة في يومها كانت إما تشربه جميعا أو تشرب معظمه، وليس الماء فقط بل نبات المراعي أيضا الذي تتزود منه القوافل ليكون زادا لدوابهم. باختصار كان في فقدان الماء ليوم واحد فقط خطورة عظيمة تهدد أركان ثمود، وبما أن الماء في يد القدرة الإلهية فكان أمام ثمود حلا واحدا لا بديل له. وهو الإيمان بالله وعبادته وفقا لهذا الإيمان. وخطوط هذه العبادة تكمن في طاعتهم لصالح عليه السلام لأن طاعته من طاعة الله.
____________
(55) ابن كثير: 228 / 2.
(فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا) (58) إن الناقة على الأرض مقياس للماء. ولله في خلقه شؤون. ولكن أصحاب الأدمغة الفارغة، والأحلام التافهة، لم يفقهوا حقيقة الأمر، ورفضوا الاستغفار واستثمروا أوضاعهم الاقتصادية المنهارة. التي يرجع سببها الرئيسي لكفرانهم بالنعمة ولصدهم عن سبيل الله.. استثمروها في مربعات التشكيك بصالح والذين معه، قائلين له: ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا! (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون) (59).
____________
(56) سورة الإسراء، الآية: 59.
(57) سورة هود، الآية: 52.
(58) سورة نوح، الآيتان: 10 - 11.
(59) سورة النمل، الآيتان: 46 - 47.
وخيرا يدخل عقولهم لو تدبروا. وكانت الناقة جدارا يحميهم من الفتن لأنها تردهم إلى صالح. لأنهم إذا سقطوا في الفتن بلا دليل. فلا أمل في نجاتهم.
وصالح عليه السلام حذرهم من الفتن التي ليس فيها دليل يقود حين قال لهم:
(طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون) (61) إن النجاة في عالم الفتنة لا تكون إلا لأصحاب البصائر الذين يعلمون أن طائرهم عند الله، ولأنهم يبدأون طريقهم من الله! فإنهم على امتداد الطريق تكون همتهم بالله وشغلهم فيه وفرارهم إليه، وثمود قامت بحملات الترغيب والترهيب والتشكيك من أجل الصد عن سبيل الله، وقال الذين استكبروا للذين آمنوا: (أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا: إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) (62) وثمود لم يسمعوا للدليل الذي بعثه الله فيهم ليقودهم إلى الطريق المستقيم. لم يسمعوا له حين قال لهم: (فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (63) ولقد عصوا الله وأطاعوا أمر المسرفين لأن معهم مصالحهم وفي أوعيتهم أهواءهم. وعندما عصوا
____________
(60) سورة الملك، الآية: 30.
(61) سورة النمل، الآية: 47.
(62) سورة الأعراف، الآيتان: 75 - 76.
(63) سورة الشعراء، الآيات: 150 - 152.
ركبت ثمود دواب المسرفين كي يصلوا بها إلى خيمة الآباء العتيقة في معسكر الشذوذ والانحراف، وبينما هم في رحلة الانحراف اتخذت ثمود أخطر قراراتها.
ألا وهو قرار قتل الناقة! الناقة التي تساعدهم كي يستغفروا، وتساعدهم كي لا يقعوا في بحور الفتن، وتدفعهم دفعا في اتجاه المبعوث فيهم. وبقرار ثمود قتل الناقة، يكونون قد دخلوا في حرب مع الله، لأن على الناقة تحذير، وهذا التحذير نقله إليهم صالح عليه السلام: (يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) (64) (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) (65). لقد كانت الناقة لهم امتحان كما في قوله تعالى: (إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر) (66) فإذا كانت الناقة امتحان فإن الخروج عليها جريمة. ولما كانت الناقة لها علاقة بالماء والنبات والزمان! فإن الخروج عليها في حقيقة الأمر خروج على النظام الكوني الذي ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض.
وعلى هذا يكون قرار ثمود جريمة ما بعدها جريمة. وما أكثر الجرائم التي ارتكبت في عالم الفتن وظن أصحابها أنها إنما وقعت على أرضية لا يفسد فيها للود قضية، هذا ظنهم ولكن الحقيقة أن هذه الجرائم من جنس الجريمة التي في ملف ثمود ويترتب عليها بصورة أو بأخرى ما أصاب ثمود.
* 7 - سفك الدماء:
خرجت الناقة بلا حارس وبلا سائس في اليوم المحدد لها ومعها فصيلها (ابنها) وروي أن ثمود مشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها. لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يقتلها ونجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق. ولد زنا لا يعرف له أب. يقال له: قدار. شقي الأشقياء. شؤم عليه. فجعلوا له جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده. تركها حتى شربت وأقبلت
____________
(64) سورة هود، الآية: 64.
(65) سورة الشعراء، الآيتان: 155 - 156.
(66) سورة القمر، الآية: 27.
فضربها ضربة أخرى فقتلها. وخرت على الأرض على جنبها. وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل. فرغا ثلاث مرات إلى السماء (67) وروي أن جماعة تبعوا فصيلها لما هرب منهم فرماه أحدهم بسهم فأصابه في قلبه. فسقط على الأرض ثم جروه برجليه وأنزلوه. ووضعوا لحمه مع لحم أمه واقتسموه بينهم (68).
وروى ابن كثير أنها عندما شد عليها قدار بالسيف. خرت ساقطة إلى الأرض. ورغت رغاء واحدا تخدر سقبها (فصيلها) ثم طعنها قدار في لبتها فنحرها، وانطلق سقبها (فصيلها) حتى أتى جبلا منيعا فصعد أعلى صخرة فيه ورغا.. وقال ابن كثير يقال إنه رغا ثلاث مرات وأنه دخل في صخرة فغاب فيها.
ويقال: إنهم اتبعوه فعقروه مع أمه (69) وبلغ الخبر صالحا عليه السلام. فجاءهم وهم مجتمعون فلما رأى الناقة بكى وقال: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) (70) وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء (71) وكان الله تعالى قد أوحى إلى نبيه صالح: أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم، ولم يكن لهم منها ضرر. ولم يكن لهم فيها ضرر. وكان لهم أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام. فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم.. وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث.. فلما أبلغهم صالح عليه السلام الذي أوحاه إليه ربه. اشتدوا وعتوا وتمردوا وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (72).
لقد عقروا الناقة وابنها. واقتسموا لحم الابن وأمه بينهم، لقد أكل القوم ناقة الله! أكلوا ناقة الله! ما هذا؟ على أي درب من دروب الانحراف كان يقف هذا النمط من بني الإنسان؟ وعندما أكلوا.. دعاهم نبيهم للاستغفار، فقالوا
____________
(67) الميزان: 315 / 10.
(68) كتاب الأنبياء: 106.
(69) ابن كثير: 229 / 2.
(70) سورة هود، الآية: 65.
(71) ابن كثير: 229 / 2، مروج الذهب.