الصفحة 116
كما قال كفار قوم نوح وقوم هود من قبل: (ائتنا بما تعدنا) فعلى أي شاطئ من الوحل كان يقف هذا النمط؟ لقد خرجوا على الكون، والصخور التي صنعوها لتكون لهم سكنا يحميهم من الرياح لن تقف حائلا بينهم وبين ما يستحقون من عقوبة، ولن تبكي عليهم الأرض ولا السماء وسوف يلعنون على امتداد الرحلة البشرية داخل معسكرات الذين آمنوا.

لقد عقروا ناقة الله، وعندما عقروها قال لهم الله: (تمتعوا)..

يا لعظمة الانتقام. (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) عقروا ناقة الله التي لا أب لها ولا أم. الناقة التي خلقها الله عن طريق الإعجاز كما خلق آدم. لتكون حجة عليهم ومقياسا للماء في ديارهم. وبعد أن عقروها. قال لهم رب العالمين العزيز الصبور: (تمتعوا) يتمتعون في مدينتهم. ويتنعمون بالحياة. ويتلذذون بأنواع النعم. ثلاثة أيام. يتمتعون بالحياة الرخيصة، التي صدوا عن سبيل الله من أجلها، وقتلوا من أجلها ويتلذذون بما لديهم من نعم ظنوا أنها تقودهم إلى السعادة! وبعد ذلك سيعلمون الحقيقة في وقت لا يجدي فيه الندم.

* 8 - محاولة قتل صالح عليه السلام:

عندما رفض القوم التوبة والاستغفار بعد قتل الناقة، وعدهم صالح عليه السلام بالعذاب، وكان ذلك يوم الأربعاء يقول المسعودي: فقالوا له مستهزئين:

يا صالح متى يكون ما وعدتنا به من العذاب عن ربك؟ فقال: تصبح وجوهكم يوم مؤنس (الخميس) مصفرة. ويوم العروبة محمرة. ويوم شبار مسودة. ثم يصبحكم العذاب يوم أول (73) وعندما أعلن صالح عليه السلام عليهم هذا، كان بالمدينة تسعة رهط (74)، وهم التسعة الذين أخبر الله عنهم في كتابه. بقوله.

(وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (75)، يقول ابن كثير: عن هؤلاء التسعة إنهم كانوا كبراء ثمود ورؤساءهم (76). وقال

____________

(73) مروج الذهب: 48 / 2.

(74) الرهط الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين.

(75) سورة النمل، الآية: 48.

(76) ابن كثير: 367 / 3.

الصفحة 117
البغوي: كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح (77). فهؤلاء الجبابرة اجتمعوا بعد عقر الناقة. وبعد أن أخبرهم صالح عليه السلام بالعذاب الذي سيحل بهم. وأصدروا قرارا بقتل صالح عليه السلام. حتى يستطيعوا العيش كما يريدون. ولا ينغص عليهم أحد هذا العيش. فلقد عقروا الناقة وأكلوها، ولم يبق إلا الرسول والدعوة، فإذا قتل صالح، فلن يتبقى غير المستضعفين. وهؤلاء تقومهم السيوف التي قتلت الناقة.

يقول المسعودي: فهم التسعة بقتل صالح وقالوا: إن كان صادقا (فيما أخبرهم بالعذاب) كنا عاجلناه قبل أن يعاجلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته (78). وقام الجبابرة بتحديد خطوات تنفيذ جريمتهم. وقد أخبر الله تعالى عن خطوطها العريضة فقال: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون * ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون) (79) قال المفسرون: قال الرهط المفسدون وقد تقاسموا بالله. لنقتلن صالحا وأهله بالليل (لنبيتنه وأهله) فالتبيت القصد بالسوء ليلا، وبعد عملية قتله يقولون لوليه إذا حدث وعرفهم. ما شهدنا هلاك أهله. وفي هذا مكر منهم، لأنهم عندما ينفون مشاهدتهم لمهلك أهل صالح عليه السلام فإنهم في نفس الوقت ينفون مشاهدة مهلك صالح نفسه. وأيضا بنفيهم مشاهدة مهلك أهل صالح يضعهم في دائرة الصدق أمام القوم، لأن الحقيقة أنهم شاهدوا مهلك صالح وأهله جميعا لا مهلك أهله فقط.

إن ثمود تحرت الدقة في تنفيذها للجريمة كي يبدوا الجبابرة بملابسهم الفاخرة أمام القوم في دائرة الصدق والشرف والمروءة (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون) أما مكرهم فهو التواطؤ على تبييته وأهله، والتبييت كما ذكرنا السوء بالليل. وأما مكره تعالى. فهو تقديره سبحانه هلاكهم جميعا. يقول المسعودي: فأتوه ليلا، فحالت الملائكة بينهم وبينه وأمطرتهم الحجارة ومنعه

____________

(77) البغوي: 291 / 6.

(78) مروج الذهب: 48 / 2، ابن كثير: 229 / 2.

(79) سورة النمل، الآيات: 48 - 50.

الصفحة 118
الله منهم (80) وقال ابن كثير والبغوي: قال هؤلاء التسعة بعد ما عقروا الناقة هلم فلنقتل صالح، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته.

فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله. فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطأوا على أصحابهم. أتوا منزل صالح فوجدوهم (أي أصحابهم) منشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ثم هموا به، فقامت عشيرته دونه، ولبسوا السلاح، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا، وإن كان كاذبا، فأنتم من وراء ما تريدون. فانصرفوا عنهم (81).

(ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * (82) لقد ضربتهم الحجارة يوم الأربعاء.

اليوم الذي عقروا فيه الناقة. ضربتهم قبل قومهم، ليذوق القوم عذاب الذل.

وهو يرى جبابرته وشيوخه وسادته. يسبحون في بحر من الدماء أمام بيت صالح عليه السلام. لقد قتلوا في الخلاء بعيدا عن بطون الجبال وأحشائها. وهم الذين قضوا حياتهم يحفرون في الصخر ليوفروا لأنفسهم نوما آمنا ومعيشة آمنة. لقد شاهدوا شيوخهم في العراء بعد أن أعطوهم بيعة إلى الأبد ليقتلوا بها كل طاهر حتى يعيش الجبابرة وفقهاؤهم وجنودهم في أمان. فها هم الجبابرة محت الحجارة ملامحهم، وها هم الغوغاء والرعاع الذين يرقصون مع كل قرد ينتظرون ألوانا ثلاثة على وجوههم: صفراء، ومحمرة، ومسودة، وبعد ذلك يأخذهم العذاب الأليم. كي يلحق التابع بالمتبوع.

* 9 - يوم الصيحة:

بعث الله تعالى في ثمود رسولا منهم فكذبوه. وأيد سبحانه رسوله فيهم بآية مبصرة هي الناقة فعقروها، والله تعالى عندما يرسل آياته إنما يرسلها تخويفا للناس ليحذروا بمشاهدتها عما هو أشد منها وأفظع. ولكن ثمود لم يخافوا وتقبلوا العادة المتوارثة على ما هي عليه، عادة آبائهم كفار قوم نوح وقوم هود الذين قالوا

____________

(80) مروج الذهب: 48 / 2، البغوي: 293 / 6.

(81) ابن كثير: 368 / 3، البغوي: 293 / 6.

(82) سورة النمل، الآيتان: 50 - 51.

الصفحة 119
لكل رسول عندما أنذرهم عذاب الله: (ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) وعندما وعدهم صالح عليه السلام بأن العذاب نازل بهم في ثلاثة أيام هموا بقتله ولكن الله حال بينهم وبينه وأمطرتهم الحجارة. ومنعه الله منهم.

عندما أصبح القوم نظروا إلى وجوههم كما وعدهم صالح. فوجدوا اللون الأصفر على وجوههم وهو علامة اليوم الأول. فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا:

قد جاءكم ما قال صالح. فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح. فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها! ولم يتوبوا ولم يرجعوا! فلما كان اليوم الثالث أصبحوا وجوههم مسودة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح. فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح (83).

وهكذا أدار الجبابرة العتاة معركتهم مع التوبة! لقد جرى في عروقهم الدم والموت، ولكن الاستكبار الذي نقب الصخور! أقام الدليل على أنه التلميذ الوفي لآبائه الذين كانوا بدورهم أوفياء للشيطان، وفي اليوم الأخير دقق العتاة في كل شق بكل صخرة وبكل جدار، وعلموا أنهم لن يفعلوا بمشاعلهم شيئا في الظلام.. وعندما أصبحوا من يوم الأحد. تغيرت الأجسام. وتيقن القوم صدق الوعد وأن العذاب واقع بهم. فجلسوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب؟ (84) وأوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام بالخروج، وخرج صالح في ليلة الأحد من بين ظهرانيهم مع من خف من المؤمنين فنزل موضع مدينة الرملة من بلاد فلسطين، وآتاهم العذاب يوم الأحد (85) آتاهم جبرائيل عليه السلام فصرخ لهم صرخة خرقت أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم، وكانوا قد تحنطوا وتكفنوا في الأيام الثلاثة بعد أن علموا أن العذاب نازل بهم لا محالة، فماتوا جميعا في طرفة عين. صغيرهم

____________

(83) الميزان: 316 / 10.

(84) ابن كثير: 229 / 2.

(85) مروج الذهب: 48 / 2.

الصفحة 120
وكبيرهم فلم يبق لهم ناعقة ولا رعية ولا شئ إلا أهلكه الله، فأصبحوا في ديارهم موتى، وأرسل الله تعالى إليهم مع الصيحة نار من السماء فأحرقتهم أجمعين (86).

قد ذكر الله تعالى أن سبب هلاكهم أنهم أخذتهم الرجفة فقال تعالى:

(فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) (87) وفي موضع آخر قال سبحانه: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) (88) وفي موضع ثالث قال سبحانه:

(فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) (89) والرجفة والصيحة والصاعقة دثار واحد لعذاب واحد أحاط بالظالمين من كل مكان وهذا العذاب عنوانه العريض هو الدمدمة. يقول تعالى: (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها) (90) والدمدمة على الشئ: الإطباق عليه. يقال مثلا: دمدم عليه القبر. أي أطبقه عليه.

والدمدمة على ثمود أي شملهم الله بعذاب يقطع دابرهم بسبب ذنبهم. فسوى الدمدمة بينهم. فلم يفلت منهم قوي ولا ضعيف ولا كبير ولا صغير. وتحت عنوان الدمدمة تكون الصواعق التي لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها ومع هذا وذاك ترتجف الأرض نتيجة لملامسة الاهتزاز الجوي الشديد لها، ونتيجة لذلك توجف القلوب. وترتعد الأركان، فثمود جاء إليها العذاب الأليم من تحت دثار الدمدمة، عذاب تحمله صاعقة سماوية اقتربت الصيحة هائلة ورجفة في الأرض وفي قلوبهم. فأصبحوا في دارهم وفي بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم، لقد ضربتهم صيحة واحدة أصبحوا بعدها كالشجر اليابس كما أصبحت . عاد من قبل كجذوع نخل خاوية. يقول تعالى: (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) (91) أصبح العتاة وفقهاء الجبابرة كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته.. إنه عدل الله، لقد عقروا ناقة الله،

____________

(86) الميزان: 316 / 10.

(87) سورة الأعراف، الآية: 78.

(88) سورة هود، الآية: 67.

(89) سورة فصلت، الآية: 17.

(90) سورة الشمس، الآيات: 13 - 15.

(91) سورة القمر، الآية: 31.

الصفحة 121
واستكبروا أن تأكل وتشرب في أرض الله، فجعلهم الله في مماتهم كشجر لا يصلح إلا للدواب، ولقد رفعوا رقابهم أمام صالح عليه السلام وتطاولوا على الذين آمنوا. فجعلهم الله في مماتهم ساقطين على وجوههم وركبهم. ولقد شيدوا دورهم ومساكنهم داخل الصخور وتطاولوا بها على المستضعفين من الذين آمنوا (فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون * فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين * (92) أي ما تمكنوا من قيام من مجلسهم ليفروا من عذاب الله. وهو كناية عن أنهم لم يمهلوا حتى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم (93). لقد أطبق العذاب على ثمود فلم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم.. لقد حفروا في الصخور كي يتجنبوا الرياح المهلكة التي أطاحت بعاد. لكن العذاب جاءهم من طريق أسرع من الرياح. لقد حفروا في الصخور مخافة الموت فجلسوا فيما حفروا ينتظرون الموت. بعد أن تأكدوا من أن الذي وعدهم به صالح من عذاب آت لا ريب فيه. وأن عليهم أن يدفعوا ثمن خيانتهم للفطرة ولأنفسهم وللرسول وللمعجزة وللكون كله الذي ساروا فيه في عكس اتجاهه. لقد جلسوا وتحنطوا وتكفنوا ولم يعد في ثمود من يثق في أي قول يقال له من العتاة الذين وثنوا الفطرة ومهدوا السبيل لثقافة الانحراف والشذوذ وصدوا عن سبيل الله، لم يعد هناك من يثق في قول العتاة وذلك في وقت لن يجدي فيه الندم، بعد أن أطاحوا بالتوبة والاستغفار يوم أن دعاهم نبيهم إليها.

كان كل فرد في ثمود لا يثق إلا في كفنه، ذلك الشر الذي يطرد الشر من على صفحة هذه الأرض، وبينما هم في الأكفان جاءتهم الرجفة التي لم يعملوا لها حساب وفقا لمقاييس فروع الهندسة في عالم العتاة. والرجفة هي الاضطراب والاهتزاز الشديد كما يحدث في زلزلة الأرض وتلاطم البحر، وعندما ضربتهم، الرجفة أصبحوا في بيوتهم جاثمين، والجثوم في الإنسان كالبروك في الإبل، لقد برك الجبابرة وأتباعهم كل داخل دياره وعلى أبدانهم أكفانهم ليذوقوا عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشد. جثوا في بطون الجبال (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فما أغنى عنهم ما

____________

(92) سورة الذاريات، الآيتان: 44 - 45.

(93) الميزان: 381 / 10.

الصفحة 122
كانوا يكسبون) (94) لقد جرى عليهم العذاب وفق ما يأذن به الله. وبينما كانت الدمدمة تحيط بهم من كل جانب. كان صالح عليه السلام ومن معه لا يخافون، لأنهم في رحاب الرحمة وداخل دائرة الأمن التي لا يشملها الغضب الإلهي (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا قي ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) (95) (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) (96).

وذهبت ثمود. بعد أن جعلها الله عبرة لكل من يعرض عن آيات الله. لقد كانت الناقة بينهم وتعيش على أرضهم وتنفعهم ولا تضرهم. ولكن قلوب الحجر التي في الصدور أعرضت عن آيات الله. فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون إن وجود آية بين الناس حجة بالغة. وقتل هذه الآية جريمة من أعظم الجرائم يترتب عليها فتح أبواب الفتن وأبواب العقاب. لقد ذهبت ثمود ومن بعدها جاءت أمم أخذت منها سلاحها وأقوالها وأفعالها. ثم قامت بتطوير هذه الأدوات وهذه الثقافات وفقا للعصور التي ابتليت بهم. وقامت هذه الأمم ببناء أكثر من جرف صخري وراء جدر النفس من أجل الصد عن سبيل الله، ولكن تحت السماء لا يفر الظالمون.. واللسان والقلم في كل عصر مستعدان دوما لأن يحكيان القصة الأخيرة عند المحطة الأخيرة لهذه الأمم. لأن سقوط الباطل علامة من علامات الحق. فالباطل طارئ لا أصالة له في الوجود. والباطل مطارد من الله. ولا بقاء لشئ يطارده الله. إن الباطل مهزوم مهزوم. ولن تبقى إلا آثاره التي تفوح بالأبخرة النتنة الكريهة تلك الأبخرة التي أنتجها الضمير الآثم على مر العصور.

____________

(94) سورة الحجر، الآيات: 82 - 84.

(95) سورة هود، الآيتان: 67 - 68.

(96) سورة النمل، الآيتان: 52 - 53.

الصفحة 123

انحرافات قوم لوط عليه السلام

(قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)

سورة النمل، الآية: 56


الصفحة 124

الصفحة 125

المؤتفكة وأمطار بلا ماء

إنحراف الماء

مقدمة:

بعد استئصال ثمود ذكر القرآن الكريم قوم لوط. ولوط عليه السلام كان في فاتحة دعوة إبراهيم عليه السلام.. فهو من السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم عليه السلام، وهاجر معه إلى الأرض المقدسة، ثم بعثه الله تعالى إلى قومه في المكان الذي استقر فيه. ولأن أحداث استئصال قوم لوط تتداخل معها بعض مواقف إبراهيم عليه السلام. رأينا أن نسلط الأضواء على المسيرة الإبراهيمية الطاهرة فيما يتعلق بمشاركتها لمسيرة لوط عليه السلام.

* قافلة الفطرة.

بعد نوح عليه السلام هاجرت القوافل من حول الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح، فنزل عاد إلى الأحقاف ونزل ثمود إلى الحجر كما ذكرنا، وقال المسعودي: " وسار ولد كوش بن كنعان نحو المغرب حتى قطع نيل مصر ثم افترقوا فسارت منهم طائفة ميمنة بين المشرق والمغرب وهم النوبة والبجة والزنج، وسار فريق منهم نحو المغرب وهم أنواع كثيرة " (1).. " ونزل طسبم وجديس ابنا لاوز بن أرام إلى اليمامة والبحرين ومعهما أخوهما عمليق بن لاوز بن

____________

(1) مروج الذهب: 2 / 3.

الصفحة 126
إرم. ومنهم العماليق. تفرقوا في البلاد ونزل أخوهم أميم بن لاوز أرض فارس.

ونزل ماش بن إرم بن سام بابل على شاطئ الفرات فولد نمرود بن ماش وهو الذي بنى الصرح ببابل. وملك خمسمائة سنة. وهو ملك النبط. وفي زمانه فرق الله الألسن. فجعل في ولد سام تسعة عشر لسانا، وفي ولد حام سبعة عشر لسانا، وفي ولد يافث ستة وثلاثين لسانا، وتشعبت بعد ذلك اللغات وتفرقت الألسن، وتفرق الناس في البلاد، وولد أرفخشد بن سام بن نوح شالخ. فولد شالخ فالخ بن شالخ (الذي قسم الأرض وهو جد إبراهيم عليه السلام) وعابر بن شالخ وابنه قحطان بن عابر وابنه يعرب بن قحطان. وقحطان أبو اليمن كلها وهو أول من تكلم بالعربية لإعرابه عن المعاني وإبانته عنها، ويقطن بن عابر بن شالخ هو أبو جرهم. وجرهم بنو عم يعرب، وكانت جرهم ممن سكن اليمن وتكلموا بالعربية. ثم نزلوا بمكة فكانوا بها (2).

لقد تفرقت القبائل وتعددت الألسن، وتعددت دوائر الشذوذ وخطوط الانحراف عن الصراط المستقيم، فكان إبراهيم عليه السلام رحمة من الله للبشرية جمعاء، بعثه الله في هذا الاتساع الذي يموج بالفتن، ليكون أبا للمسلمين وليواجه الانحراف ويبطل عقائد التعدد وربوبية النجوم والنار ويدعو إلى عبادة الله الواحد. وإذا كان نوح عليه السلام يعتبر أبا للبشرية بعد الطوفان، فإن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء وإليه تنتهي أنسابهم. وإذا كان نوح قد نجاه الله من الغرق لتبدأ البشرية صفحة جديدة، فإن الله سبحانه نجا إبراهيم من الحريق إيذانا بمنطلق جديد للدعوة إلى الله في عالم البشر الفسيح - لقد كان نوح عليه السلام بداية وكان إبراهيم عليه السلام بداية - والبداية هنا لا تختلف عن البداية هناك، لأن كلا منهما من الصراط المستقيم وعليه يقول تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة) (3) إنها البداية.. النبوة والكتاب، فالله تعالى يخبر أنه منذ بعث نوحا عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته. وكذلك إبراهيم عليه السلام لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته (4) كما قال تعالى: (وجعلنا في

____________

(2) مروج الذهب: 37، 38 / 1.

(3) سورة الحديد، الآية: 26.

(4) ابن كثير: 5 (4 / 3).

الصفحة 127
ذريتهما النبوة والكتاب) والبداية عند إبراهيم عليه السلام لا تخرج إلا من البداية عند نوح عليه السلام يقول تعالى: (سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الآخرين * وإن من شيعته لإبراهيم) (5) والشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم.

وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر (6) (وإن من شيعته لإبراهيم) أي من أهل دينه. وقيل: على منهاجه وسنته (7).

فنوح عليه السلام وذريته من أنبياء الله تصدوا للإستكبار الذي نقب الحجارة وقال من أشد منا قوة؟ وتصدوا للإستكبار الذي تصدى لآيات الله وعقر الناقة فلم تغن عنهم بيوت الحجارة من الله شيئا. وإبراهيم عليه السلام وذريته من أنبياء الله تصدوا للإستكبار الذي انطلق من قلوب أشد قسوة من الحجارة. وتصدوا للإستكبار الذي عقر كل فضيلة من وراء جدر النفس التي استولى الشيطان على ملكاتها. وتصدوا للفتات الآدمي الذي اتخذ إلهه هواه. وإذا كان هنالك وفي عصر نوح وذريته من أنبياء الله فتات رفض بشرية الرسول فإن في عصر إبراهيم وذريته من أنبياء الله. يوجد أيضا هذا الفتات، وهذا الرفض انتهى آخر الأمر إلى اتخاذ الأهواء آلهة. فألوهية الهوى ابن طبيعي لعقيدة رفض الرسول البشر، فالذين رفضوا الرسول البشر لأنهم يماثلونه في البشرية ويملكون من زخرف الحياة ما لا يملكه، ساقهم الشيطان إلى دائرة الأنانية والطمع ثم إلى دائرة حب الذات فدائرة عبادة الذات والهوى. لقد أمسكوا بذيل الدنس الذي رفض السجود لآدم بحجة أفضليته لأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين. والفتات الآدمي بدأ بمقدمة تقول بأنه أفضل من الأنبياء وانتهى بنتيجة من جنس العمل هي عبادة الذات والهوى، فإبراهيم عليه السلام وذريته من أنبياء الله جاؤوا ليحطموا هذه الأوثان الآدمية آخر الزمان بعد أن حطموا حجارتها أول الزمان.

وإبراهيم عليه السلام هو الثاني من أولي العزم وأصحاب الشرائع العامة.

ويقول فيه تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من

____________

(5) سورة الصافات، الآيات: 79 - 83.

(6) الميزان: 147 / 17.

(7) ابن كثير 12 / 4.

الصفحة 128
المشركين) (8) كان عليه السلام على دين لم يكن عليه أحد غيره، كان أمة وحده، عاش في طفولته في معزل عن مجتمع قومه، ثم خرج إليهم فوجدهم يعبدون الأصنام. فلم يرض منهم ذلك، وبدأ عليه السلام يحاج أباه في عبادته الأصنام، ويدعوه إلى رفضها وتوحيد الله سبحانه، ولم يزل يحاجه ويلح عليه حتى طرده وأوعده أن يرجحه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء، ولم يكتف برفض الأصنام في حدود البيت، وإنما كان يحاج القوم في أمر الأصنام كما جاء في سورة الأنبياء والشعراء والصافات. ويحاج أقواما آخرين منهم، يعبدون الشمس والقمر والكواكب. وشاع خبر إبراهيم في الانحراف عن الأصنام والآلهة، حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد، واعتل هو بالسقم فلم يخرج معهم وتخلف عنهم، فدخل بيت الأصنام. وانطلق على آلهتهم ضربا باليمين. حتى جعلهم جذاذا، إلا كبير لهم لعلهم يرجعون إليه، فلما عاد القوم وعلموا بما حدث بآلهتهم وفتشوا عمن ارتكب ذلك، قال بعضهم: سمعنا فتى يذكر الناس يقال له إبراهيم، فأحضروه إلى مجمعهم، وأتوا به على مشهد من الناس وبدأوا يسألوه.. فقالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون. وقد كان أبقى كبير الأصنام ولم يجذه ووضع الفأس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنه هو الذي كسر سائر الأصنام، وهو عليه السلام قال ذلك وهو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك، لأنهم يعلمون أنه جماد، لكنه قال ما قال حتى يعترفوا بصريح القول بأن آلهتهم جمادات لا حياة لهم ولا شعور، ولذلك لما سمعوا قوله، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على، رؤوسهم. لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. قال: أفتعبدون من دون الله ما لا يضركم ولا ينفعكم. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون؟ أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون؟

وأقام الحجة الدامغة انطلق أصحاب الأدمغة الفارغة. فقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم! فبنوا له بنيانا. وأسعروا فيه النار، ثم ألقوه فيها، فجعلها الله بردا عليه وسلاما، وأبطل كيدهم. كما جاء في سورة الأنبياء والصافات، وقد تصدى عليه السلام خلال هذه الأيام لملك البلاد وكان يعبده القوم ويتخذونه ربا! فحاج

____________

(8) سورة النحل، الآية: 12.

الصفحة 129
الملك إبراهيم في ربه. فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، فغالطه الملك وقال: أنا أحي وأميت! أحضر من يستحق القتل وأطلق سراحه. فحاجه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر كما جاء في سورة البقرة. ولما أنجاه الله من النار أخذ عليه السلام يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد. فآمن له فئة قليلة. وقد سمى الله تعالى منهم لوطا. ومنهم زوجته التي هاجر بها. ثم تبرأ عليه السلام هو ومن معه من المؤمنين من قومهم. وتبرأ هو من آزر الذي كان يدعوه أبا. ولم يكن بوالده الحقيقي. بل كان عمه (9). وهاجر عليه السلام ومن معه وعلى رأسهم لوط إلى الأرض المقدسة. ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (10) يقول تعالى: (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) (11).

وأثنى الله تعالى على إبراهيم في كتابه أجمل ثناء، وكرر ذكر اسمه في نيف وستين موضعا من كتابه. وإبراهيم اتخذه الله خليلا (سورة النساء، الآية: 125) وكان صديقا نبيا (سورة مريم، الآية: 41) وجعله الله للناس إماما (سورة البقرة، الآية: 124) وآتاه الله العلم والحكمة والكتاب والملك والهداية وجعلها كلمة باقية في عقبه (سورة النساء، الآية: 54، سورة الأنعام، الآيات: 74 - 90، سورة الزخرف، الآية: 28) وجعل له لسان صدق في الآخرين (سورة الشعراء، الآية: 84 سورة مريم، الآية: 50) فهذه بعض من المنح التي منحها الله تعالى لإبراهيم عليه السلام. الذي رفع لواء الفطرة في عالم أقام دوائر للشذوذ في كل مكان ووضع حول هذه الدوائر عساكره وخيوله للصد عن

____________

(9) الدليل على أن آزر لم يكن والده أن إبراهيم عليه السلام تبرأ من آزر في أوائل دعوته كما جاء في سورة التوبة، الآية: 114. ثم استغفر عليه السلام لوالديه وهو على كبر في آخر عهده فقال: (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) سورة إبراهيم، الآية: 4. وآذر كان عم إبراهيم وليس والده. والعم يطلق عليه لفظ الأب كما في قوله تعالى: (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب وقد أطلق عليه لفظ الأب.

(10) الميزان: 215 / 7.

(1) سورة الأنبياء، الآية: 71.

الصفحة 130
سبيل الله، وبينما كان إبراهيم والذين معه يرفعون راية الفطرة كان هناك في مكان آخر قوم يعملون من أجل هدم الفطرة بتعطيلهم للنسل، وذلك عندما ارتكبوا جريمة لم يسبقهم فيها أحد من العالمين!.

* 1 - النبي والانحراف:

1 - لوط عليه السلام:

كان لوط عليه السلام من كلدان في أرض بابل، ومن السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم عليه السلام، آمن به وقال: إني مهاجر إلى ربي (سورة العنكبوت، الآية: 21) فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين (سورة الأنبياء، الآية: 71) يقول المسعودي: " وأرسل لوطا إلى المدائن الخمس. وهي: سدوم. دعمورا. وادمونا. وصاعورا.

وصابورا " (12) ومدينة سدوم وما والاها من المدائن سماها الله في كتابه بالمؤتفكات (سورة التوبة، الآية: 70) وكانوا يعبدون الأصنام، ويأتون بالفاحشة: اللواط وهم أول من شاع فيهم ذلك (سورة الأعراف، الآية: 80) فأرسل الله لوطا إليهم، فدعاهم إلى تقوى الله وترك الفحشاء والرجوع إلى طريق الفطرة، وأنذرهم وخوفهم فلم يزدهم إلا عتوا.

ولوط عليه السلام هو ابن هاران بن تارح بن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، كما ذكر أنه ابن خالته أيضا. وقد ذكر لوط في ثلاث عشر سورة من القرآن الكريم. هي: الأنعام، الأعراف، هود، الحجر، الأنبياء، الحج، الشعراء، النمل، العنكبوت، الصافات، ق، القمر، التحريم. والقرآن في ذكره تارة يفصل وأخرى يوجز في بيان الأحوال، ولقد أثنى تعالى على نبيه لوط ثناء جميلا فقال تعالى: (ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوما فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين) (13).

____________

(12) مروج الذهب: 42 / 1.

(13) سورة الأنبياء، الآيتان: 74 - 75.

الصفحة 131

2 - الدعوة:

كان قوم لوط أهل لهو ولغو وفساد ودجل وباطل. فلقد خلعوا جلباب الحياء فكانوا لا يخجلون من فعل القبيح الذي تأباه البهائم وتنفر منه جميع النفوس البشرية من سابق ولاحق، وكانوا لا يستحي بعضهم من بعض أن يأتي بأفظع المنكرات، فيجتمع كبيرهم وصغيرهم والأب والابن والسيد والعبد منهم على نكاح الرجل الغريب واللواط به، ولو في محضر نسائهم وبناتهم. ويتعاقبون الآخر بعد من سبقه.. ولقد بعث فيهم لوط عليه السلام بعد أن اهتدى بهدى إبراهيم وتبعه في هجرته ثم افترقا ليعملا بما فرضه الله تعالى عليهما من نشر الفضائل ونصح الناس وإرشادهم وتبليغهم التكاليف، وكان لوط عليه السلام غاية في الكرم واستمساك بالزمام ورعاية بالجار والنزيل، فقد بالغ في جهاد الملحدين ودفع أذاهم، وكان قومه إذا وفد إليهم أحد من الناس وثبوا إليه ليفضحوه ويسلبوا ماله. فكان عليه السلام يحجز بينهم ويدافعهم ويمنعهم عنه. ويحذر الوافد سوء معاملتهم حتى لقي منهم ما لقي من التهديد والأذى ولم يكن له فيهم من ناصر، وكان من أشد الناس إليه أذى: زوجته، فكانت هي عينا لقومها على زوجها، فكانت كافرة، ولم تؤمن بالله ولا برسوله، فلذلك أهلكها الله تعالى معهم وأصابها ما أصابهم (14).

وفي هذا الانحراف الساقط ووسط هذا الشذوذ الذي يحيط به الدنس والعار من كل اتجاه، أطلق لوط عليه السلام صيحاته محذرا، ولكن بجاحة الشهوة لا سمع لها ولا بصر ولا فؤاد، لقد دار القوم ضد حركة الكون وخرجوا على كل ما فيه. لقد خلق الله الذكر والأنثى. وجهز كل صنف من الصنفين بأعضاء وأدوات ومن يتأمل في صنع الله، وإلقائه تعالى غريزة الشهوة في كل منهما والجمع بينهما بالنكاح. يعلم أن الحكمة من وراء ذلك هي التناسل الحافظ لبقاء النوع حتى حين، فالرجل مخلوق للمرأة لا لرجل مثله، والمرأة مخلوقة للرجل لا لامرأة مثلها، والنظرة الإنسانية تهدي إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال. وازدواج النساء بالرجال دون النساء، ولكن القوم أقاموا جدرا داخل نفوسهم فلم يتدبروا.

وأقاموا أسوارا عالية من السحب الداكنة السوداء حول الفطرة فلم يسمحوا لشعاع

____________

(14) كتاب الأنبياء: 158، 174.

الصفحة 132
من نور يخرج منها ليهديهم، لقد أقاموا الأصنام بداخلهم وطغت أهواؤهم تحت جلودهم في مستنقع من أبوال الشياطين. وفي هذا المستنقع أصبحت الفاحشة سنة قومية. الخارج عنها خارج عن القانون! وبدأ لوط عليه السلام دعوته بالطريقة التي يبدأ بها رسل الله يقول تعالى: (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) (15) لقد كذبوا جميع المرسلين، لأن الذي يكذب واحدا منهم يكون في الحقيقة قد كذبهم جميعا.

ولوط عليه السلام عندما دعاهم. دعاهم أولا إلى تقوى الله. وأخبرهم بأنه أمين لا يغشهم. وأن طاعته من طاعة الله. ولأنه الأمين على ما يحمله إليهم من دعوة.

فهو لم يسألهم على ما يدعوهم أجرا وجزاء. حتى لا يتهموه بأنه يطلب نفعا يعود إليه. وهو أيضا لا يدعوهم من غير جزاء مطلوب. فدعوته ليست عبثا. ولكنه إنما يطلب الجزاء من الله رب العالمين. ثم بدأ عليه السلام يبث نداء الفطرة لعل النداء يقرع مسامعهم. فقال: (أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) (16) والمعنى: أتأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع (17). فيكون في معنى قوله في موضع آخر: (ما سبقكم بها أحد من العالمين) (18). (أتأتون الذكران من العالمين) الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والذكران جمع ذكر مقابل الأنثى. وإتيانهم كناية عن اللواط، والعالمين جمع عالم وهو الجماعة من الناس. أتأتون الذكران وتتركون ما خلق الله لكم من أزواجكم؟ إنكم بهذا تكونون خارجين عن الحد الذي خطته لكم الفطرة. عندما قال لهم لوط ذلك، لم يقولوا له ما أنت إلا بشر مثلنا، ولم يسألوه أن يأتيهم بمعجزة تثبت أنه رسول من الله. لم يسألوا شيئا من هذا، لأن عقولهم هناك في مباول الشيطان وأفعالهم ضد البشرية لأنها تؤدي إلى إهمال طريق التناسل. إن القوم يعبدون الأوثان ويأتون الذكران ولا رد عند من هذا شأنه لذا كان ردهم الوحيد على لوط عليه السلام عندما أراد أن يردهم إلى رحاب

____________

(15) سورة الشعراء، الآيات: 160 - 164.

(16) سورة الشعراء، الآيتان: 165 - 166.

(17) الميزان: 109 / 15.

(18) سورة الأعراف، الآية: 80.

الصفحة 133
الفطرة: (لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون) (19).

لقد لوح أهل الدنس بالقبضة الحديدية في وجه رسول الله، أخبروه بأنه إذا لم ينته ويكف عن مواعظه ودعوته لهم بترك ما هم عليه، فسيكون من المنفيين من قريتهم. فكان رده عليه السلام: إني لا أخاف الخروج من قريتكم ولا أكترث به. بل مبغض لعملكم (20) راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة. ثم دعا عليه السلام ربه أن ينجيه من أصل عملهم الذي يأتون به بمرأى ومسمع منه.

فهو منزجر منه، أو من وبال عملهم والعذاب الذي سيتبعه لا محالة، ولم يذكر عليه السلام إلا نفسه وأهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد (21)!

* 2 - استعجال العذاب:

لبث لوط في قومه ثلاثين سنة، يدعوهم إلى الله عز وجل. وكانوا لا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة (22) ولم ييأس لوط عليه السلام من دعوتهم، وكانوا قد حذروه من قبل أنه إذا لم ينته فسيطرد من القرية! لقد أراد أصحاب الدنس أن يقطعوا شعاع الرحمة النازل من السماء، وليس في الوجود أشد حمقا من مثل هؤلاء. إنهم ينامون في الدنس والعار، ولا يريدون أن يستيقظوا على صوت يدعوهم إلى التفكير في أحوالهم من منطلق فطري. حتى ولو كان هذا صوت الوحي! إن هذا النوع من الناس ضيق الأفق لا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الشيطان، ويكفيهم عارا أن الشيطان زين لهم أدبار الذكران وغواهم في هذه الجزئية، فاعتبروها دستورا لحياتهم. لقد طالبوا لوطا عليه السلام بالصمت لكن لوطا نبي ليس له إلا أن يبلغ رسالة ربه. وعندما قام لوط بالبلاغ أصدروا عليه قرار الطرد! يقول تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم

____________

(19) سورة الشعراء، الآيات: 167 - 169.

(20) البغوي 235 / 6، ابن كثير: 345 / 3.

(21) الميزان: 310 / 15.

(22) كتاب الأنبياء: 162.

الصفحة 134
إنهم أناس يتطهرون) (23).

لقد خاطب الإحساس فيهم، فقال: (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون) أي وأنتم في حال يرى بعضكم بعضا وينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء!! (24) (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون) أي بل أنتم قوم مستمرون على الجهل ولا فائدة في توبيخكم والإنكار عليكم (25) فماذا كان جواب القوم؟ أعلنوا إعلانهم بإخراج آل لوط من القرية.

وسبب قرار الطرد: أن آل لوط يتنزهون عن هذا بالعمل (26) أو يتحرجون من فعل ما تفعلونه ومن إقرارهم على صنيعهم، فإخراجهم من بين أظهرهم فإنهم لا يصلحون لمجاورتهم في بلادهم (27)!! وقرار الإخراج ورد أيضا في سورة الأعراف (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) (28).

أخبرهم أن ما يفعلوه لم يفعله أحد من الأمم والجماعات من قبل، وأنهم بهذا العمل تعدوا على سبيل الفطرة، فترك سبيل النساء والاكتفاء بالرجال إسراف وجهل لأنه وضع للشئ في غير محله. ولم يكن يجد القوم جوابا على خطاب لوط. لقد كان خطاب لوط فيهم (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء) فجاءت إجابتهم عليه: (أخرجوهم من قريتكم) لقد وضعوا ما ليس بجواب موضع الجواب وفي هذا دلالة على سفههم. وعندما أصدروا قرار الطرد أنذرهم لوط عليه السلام بالعذاب يقول تعالى: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر) (29) أي خوفهم أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره وتخويفه (30) ولم يلتفتوا

____________

(23) سورة النمل، الآيات: 54 - 56.

(24) الميزان: 376 / 5، البغوي: 594 / 6، ابن كثير: 694 / 6.

(25) الميزان: 376 / 15.

(26) الميزان: 376 / 5.

(27) البغوي: 294 / 6، ابن كثير: 368 / 3.

(28) سورة الأعراف، الآيات: 80 - 82.

(29) سورة القمر، الآية: 36.

(30) الميزان: 81 / 19.

الصفحة 135
إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه (31).

وفي عالم الجدل العقيم اتسعت دائرة الشذوذ أكثر فأكثر وبدأ القوم يعملون من أجل تصدير فاحشتهم، فقطعوا الطرق وعندما ابتعد المارة عن طرقهم حين شاع أمرهم صاروا يطلبون الرجال من البلاد، ويدفعون على ذلك المال (32).

وعند هذا الحد أنذرهم لوط عليه السلام العذاب الأليم، لأن القوم بدأوا يحاربون الفطرة في أرض الله الواسعة، لكنهم كعهدهم لم يسمعوا ولم ينصتوا إلى صوت الحق. وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يأتي قوم لوط فيقول لهم: أنهاكم الله أن تعرضوا لعقوبته. فلم يطيعوه (33) وأنذرهم لوط عليه السلام الإنذار الأخير.

وكان جوابهم عليه هو أيضا الجواب الأخير (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين * قال رب انصرني على القوم المفسدين) (34).

لقد كشف لوط عليه السلام عن الأهداف التي ستنتهي إليها أقدام هذا الفتات الآدمي المهلهل. الذي شق فيه الشيطان شقوقه وقدم له حلول قضاياه.

فأخبرهم أن فعلهم هذا سيؤدي إلى إهمال طريق التناسل. وهذه جريمة لا تعادلها جريمة. كما أن فعلهم هذا سيؤدي إلى ثقافة تكون وصمة عار في جبين البشرية.

قال المفسرون: قوله: (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل) هذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط وبقطع السبيل إهمال طريق التناسل وإلغاؤها وهي إتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء وترك نكاحهن (35) فقطع النسل دوران في عكس اتجاه حركة الوجود. وعدم الاستقامة مع حركة الكون يؤدي إلى الضرب وعذاب الاستئصال. أما الورقة الثقافية التي ستنتج عن جريمة قوم لوط. يقول المفسرون: قوله: (وتأتون في ناديكم

____________

(31) البغوي: 137 / 8.

(32) كتاب الأنبياء: 162.

(33) ابن كثير: 454 / 3.

(34) سورة العنكبوت، الآيات: 28 - 30.

(35) الميزان: 123 / 15، ابن كثير: 389 / 6، البغوي: 389 / 6.

الصفحة 136
المنكر) النادي هو المجلس الذي يجتمعون فيه. ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله. فوسط الأهل يأتون بالفحشاء أو بمقوماتها الشنيعة على مرأى ومسمع من الجميع (36) إنها ورقة ثقافية قابلة للتصدير في عالم يعج بالأوثان والشهوات والرقيق والأهواء. وقيل إن المراد بقطع السبيل: قطع سبيل المارة بديارهم، فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم، وكانوا يرفعون ابن السبيل بالخذف. فأيهم أصابه كان أولى به. فيأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضي بذلك (37)! ولكن السياق يقضي بخلاف ذلك.

وقد يكون قد فعلوا ذلك. ولكن قطع السبيل بإهمال طريق التناسل وإلغاؤها هو الذي تدل عليه آيات القرآن في أكثر من موضع كما سيأتي وقيل إن إتيان المنكر في النادي هو أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات والقبائح مثل الشتم والسخف والقمار وخذف الأحجار على من مر بهم وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط (38).

لقد بين لهم لوط عليه السلام أن عملهم يقطع النسل ويشوه الوجه البشري خزيا وعارا. لكن القوم لم يروا أن في هذا إخلالا بالشرف لأنهم لا يعرفون ما هو الشرف. وأصروا على أن يكتبوا أسماءهم في قائمة الاستئصال وهم مختارون (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) لقد استهزء أهل اللواط وسخروا، كما استهزء من قبلهم الأكثر منهم فحولة وذكورة.

وأمام طلبهم لم يملك لوط عليه السلام إلا أن يقول: (رب انصرني على القوم المفسدين) دعاء منه عليهم. وقد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض ويقطع النسل ويهدد الإنسانية بالفناء (39).

* 3 - ملائكة البشرى والعذاب:

كان إبراهيم عليه السلام في مكان قريب من مكان القوم الذين أرسل إليهم لوط عليه السلام، فبعد ارتحالهم من العراق إلى بلاد الشامات وفلسطين، استقر

____________

(36) - الميزان: 123 / 15.

(37) ابن كثير: 389 / 6.

(38) البغوي: 389 / 6.

(39) الميزان: 124 / 15.

الصفحة 137
لوط عليه السلام في بلاد الأردن على الأظهر، وكانت قريته التي حل بها وسكنها اسمها (سدوم) ويجاورها قراها الخمس. وذكر المسعودي: " أن هذه بلاد بين تخوم الشام والحجاز مما يلي الأردن وبلاد فلسطين إلا أن ذلك من خير الشام " (40) فهذا مكان لوط عليه السلام. أما مكان إبراهيم عليه السلام فكان في قلب الأرض التي بارك الله حولها في فلسطين. فالمسافة كانت تسمح بالتزاور بينهما. والذي نقصده من قرب المسافة أن نضع مكان إبراهيم ومكان لوط على لوحة واحدة، وننظر فيها بإمعان فإبراهيم عليه السلام هناك كان قد مسه الكبر، وكانت زوجته عجوزا عقيما. وقضية أن يكون لهما ولد قضية بمقاييس البشر مستحيلة. فالولد من رجل مسه الكبر وامرأة عجوز عقيم لا يأتي إلا بمعجزة خارقة للعادة وبأمر (كن) هذا هو الحال في فلسطين، أما في سدوم فالأمر مختلف، فهناك اتفاق شيطاني للقضاء على النسل. فالغلام والشاب والرجل والكهل.

ردوا على رسالة لوط إليهم بطريقة عملية تستقيم مع طريقة الذين رفضوا البشر الرسول من قوم نوح وعاد وثمود، فالأوائل رفضوا بشرية الرسول لأنهم يمتلكون ما لا يمتلكه الرسول، أما قوم لوط فرفضوا البشرية جمعاء بقطعهم السبيل، وهذا الرفض صورة معدلة من الرفض الشيطاني حين أمر بالسجود لآدم فقال: أنا خير منه! فالصورة الشيطانية لفقه أنا أخير منه ارتدى أكثر من رداء على امتداد المسيرة البشرية وجميع الأردية تصب في هدف واحد هو الصد عن سبيل الله.

إذ إبراهيم عليه السلام يقف على أرضية جدباء لا ولد فيها وهو ممتلئ بالرضا، وقوم لوط هناك يقفون على أرضية يمكن أن يكون عليها الخصب والولد ولكنهم أسرفوا وأفسدوا وقالوا لنبيهم ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. لقد وقفوا في خندق المحاربة لله. ومن حارب الله قصمه الله وقطع دابره. إن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة. وما تسقط من ورقة في هذا الكون الفسيح إلا يعلمها. لقد انطلق إبراهيم ولوط من العراق إلى الأرض الجديدة رافعين راية التوحيد والفطرة وعلى رقعة واحدة بدأ كل منهما في تنفيذ ما أمره الله تعالى به. إبراهيم في أعلى الشامات يرفع راية التوحيد والفطرة ولوط في أدنى الشامات يرفع نفس الراية وسط فتات آدمي مهلهل زين له الشيطان

____________

(40) مروج الذهب: 42 / 1.