الصفحة 243
فرعون (إنني معكما أسمع وأرى) أما قوله: (سيهدين) أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها (206).

وانتهى موسى عليه السلام بقومه إلى البحر، ومن خلفهم تجري عربات وخيول فرعون يقودها الصفوة في الدولة، وكل واحد فيهم يريد أن يكون له شرف قتل موسى ليزداد قربا من فرعون، وعند مسافة قدرها الله بين الطرفين، جاء وقت المفاصلة. يقول تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) (207) قال المفسرون: أي كل قطعة منفصلة من الماء (كالطود) وهو القطعة من الجبل العظيم. وفي موضع آخر يقول تعالى:

(فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) (208) قال المفسرون: عندما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق كل فرق كالطود العظيم، أرسل الله تعالى الريح على أرض البحر. فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض.

وقوله: (لا تخاف دركا) أي من فرعون (ولا تخشى) أي من البحر (209).

وحفظ الله تعالى البحر على حاله وهيئته حتى قطعه موسى ومن معه وخرجوا منه، وأوحى الله تعالى إلى موسى: (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) (210). قال المفسرون: أي اتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون (211). وجاء فرعون وجنوده. وشاهدوا الطريق اليابس. واندفعوا فيه، لم يسجل القرآن أن فرعون تدبر في الأمر، وأيقن كعسكري أن الذي أمامه مانع طبيعي وليس صناعيا ووجود الطريق اليابس في المانع الطبيعي في لحظة يعني أن هناك معجزة، وهذا في حد ذاته يدعوه كرجل عسكري أن يعيد تقدير الموقف على أساس جديد. لم يسجل القرآن ذلك ليسقط فرعون أمام التاريخ كعسكري وكفرعون وكإنسان، وانطلق فرعون بغيا وراء موسى

____________

(206) الميزان: 277 / 15.

(207) سورة الشعراء، الآية: 63.

(208) سورة طه، الآية: 77.

(209) ابن كثير: 160 / 3.

(210) سورة الدخان، الآية: 24.

(211) الميزان: 140 / 18.

الصفحة 244
وقومه يقول تعالى: (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) (212) فعندما دخل آخرهم الطريق اليابس في البحر. انطبق البحر عليهم يقول تعالى:

(فأغرقناه ومن معه جميعا) (213) (انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) (214) لم ينج أحد لقد غرق الكهنة صناع الآلهة التي من ذهب والتي من طين! وغرق الأمراء الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش أمام كل فرعون. لينالوا بارتعاشهم كل شئ ترجوه من متاع رخيص، وغرق الجنود الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش والصياح، لقد أصبح الجميع فريسة للأمواج وسقط فرعون معهم، والذي كان يتباهى منهم بالتصور أصبح أرخص من أي شئ في الوجود. يقول تعالى:

(فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) (215) قال المفسرون: أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد (216).

وفي الآية من الاستهزاء بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم (217) وفي موضع آخر يقول تعالى عن فرعون: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم) (218) قال المفسرون: النبذ: الطرح للشئ من غير أن يعتد به. والمعنى: فأخذناه وجنوده. وهم ركنه. وطرحناهم في البحر. والحال أنه أتى من الكفر والجحود والطغيان بما يلام عليه. وإنما خص فرعون بالملامة مع أن الجميع يشاركونه فيها. لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك، وفي الآية من الإيماء إلى عظمة القدرة وهول الأخذ، وهوان أمر فرعون وجنوده ما لا يخفى (219).

لقد غرقوا. ولم يكونوا في حاجة إلى قبر وشاهد يدل عليهم، لقد غرقوا ولم يغن عنهم أوزير الذي نسجه الخيال وقال لهم إنه ينتظر الموتى ليضعهم بين الأبرار، لقد غرقوا وقت شروق الشمس التي طالما سبحوا بحمدها! ودخل الطين

____________

(212) سورة طه، الآية: 78.

(213) سورة الإسراء، الآية: 103.

(214) سورة الزخرف، الآية: 55.

(215) سورة القصص، الآية: 40.

(216) ابن كثير: 390 / 3.

(217) الميزان: 38 / 16.

(218) سورة الذاريات، الآية: 40.

(219) الميزان: 380 / 18.

الصفحة 245
في أفواههم القذرة. يقول تعالى في نهايتهم: (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) (220) قال المفسرون: بكاء السماء والأرض على شئ فائت، كناية تخيلية عن تأثرهما عن قوته وفقده، فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم، كناية عن هوان أمرهم على الله. وعدم تأثير هلاكهم في شئ من أجزاء الكون (221) وقيل: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها (222).

* مقتل الفرعون:

لقد كان لكل مستكبر قصة وهو يصارع الغرق، ولكن القرآن تخطى الفراعنة الصغار فلم يصف حالهم مع الموج، لأنهم صغار أتباع لكل ناعق! أما فرعون فلقد وقف عنده القرآن ليصف موقفه مع الغرق في مشهد وحركة، ففرعون هو صاحب التاج الأكبر والجوزة الأعظم! وهو مؤسس فقه الإستحواز ومؤصل عقدة الامتلاك، وهو سيد كل طريق مسدود يبصر فيه بالجنود ويبصر بالعبيد ولا يدخل إليه إلا كل محني الظهر. يقول تعالى في مشهد فرعون وهو يصارع الأمواج: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال أمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) (223) يقول المفسرون: أي آمنت بأنه - وقد وصف الله - بالذي آمنت به بنو إسرائيل. ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم. وهو مجاوزة البحر والأمان من الغرق، ولذلك أيضا جمع بين الإيمان والإسلام. ليزيل بذلك أثر ما كان يصر عليه من المعصية. فالإيمان كان من أجل مصلحة، وهذا النوع من الإيمان لا ينفع صاحبه حين البأس. قال تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) (224) إنها سنة الله في عباده أن لا تقبل

____________

(220) سورة الدخان، الآية: 29.

(221) الميزان: 141 / 18.

(222) ابن كثير: 142 / 4.

(223) الميزان: 117 / 10.

(224) سورة غافر، الآيتان: 84 - 85.

الصفحة 246
توبة بعد رؤية البأس (225) لهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال:

(آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) (226) قال المفسرون: آلآن:

أي أتؤمن بالله الآن وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان العذاب ومجئ الموت من كل مكان، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين، وأفنيت أيامك في معصيته. ولم تقدم التوبة لوقتها. فماذا ينفعك الإيمان بعد فوت وقته. وهذا هو الذي كان موسى وهارون سألاه ربهما. أن يأخذه بعذاب أليم ويسد سبيله إلى الإيمان. إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإيمان ولا تغني عنه التوبة شيئا (227).

إن التجارة لها ميدانها، وحساب الربح والخسارة له موائده، أما التجارة في العقيدة والبيع والشراء في آيات الله فكل هذه جرائم لا يفلت مرتكبها من تحت السماء! ولقد تاجر فرعون في حياته بكل شئ، وعندما ضربه الموج لم يجد في جعبته إلا أوراق الإيمان والإسلام، ولكن هيهات هيهات، لقد امتلأت بزته الحربية بالماء وغاصت به في الأوحال، وبعد حين دفعه الموج إلى الضفة التي بلغها يوما وهو مزهو بالنصر، بعد أن راوده الأمل في اللحوق بموسى، لقد قذف به البحر إلى الشاطئ ليكون عبرة لنهاية طريق. وهو الذي التقط يوما صندوقا قذف به البحر إلى الشاطئ ليكون الذي بداخله آية لجميع الظالمين: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) (228) لقد قذف اليم في أول الرحلة صندوقا به موسى. وقذف اليم في آخر الرحلة الفرعون! قذفه لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة، فبعد مصرع الفرعون قال تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) (229) قال المفسرون: لم يقل سبحانه: (ننجيك) وإنما قال: (ننجيك ببدنك) ومعناه ننجي بدنك. وتنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن، فقده بدنه بغشيان العذاب وهو النفس التي تسمى أيضا

____________

(225) الميزان: 357 / 17، ابن كثير: 430 / 2.

(226) سورة يونس، الآية: 91.

(227) الميزان: 118 / 10.

(228) سورة القصص، الآية: 8.

(229) سورة يونس، الآية: 92.

الصفحة 247
روحا، وهذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله ويأخذها حين موتها كما قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) (230) وهذه النفس هي التي يخبر عنها الإنسان بقوله: (أنا) وهي التي بها تتحقق للإنسان إنسانيته. وهي التي تدرك وتريد وتفعل الأفعال الإنسانية بواسطة البدن، بما له من القوى والأعضاء المادية.

وليس للبدن إلا أنه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادية، ولمكان الاتحاد الذي بينها وبين البدن، يسمى باسمها البدن، وإلا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم. وناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن مدى الحياة، والتبدل الطبيعي، الذي يطرأ عليه حينا بعد حين. حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر. فلو كان زيد مثلا هو البدن الذي ولدته أمه يوم ولدته، والاسم له، لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعا والاسم لغيره حتما، فهذه وأمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الإنسان بنفسه دون بدنه. والأسماء للنفوس لا للأبدان، يدركها الإنسان ويعرفها إجمالا، وإن كان ربما أنكرها في مقام التفصيل، وبالجملة فالآية (اليوم ننجيك ببدنك) كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان، وأن الأسماء للنفوس دون الأبدان. إلا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتحاد. فمعنى (ننجيك ببدنك) نخرج بدنك من اليم وننجيه. وهو نوع من تنجيتك. لما بين النفس والبدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا بنحو على الآخر.. وهذا بوجه نظير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم) (231) فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الإنسان دون الإنسان التام فليست نسبة الإعادة إلى الإنسان إلا لما بين نفسه وبدنه من الاتحاد. وقد ذكر بعضهم أن مفاد قوله: (ننجيك) أن يكون فرعون خارجا من اليم حيا، وقال البعض الآخر. إن المراد بالبدن الدرع وكان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه، والحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه. فلم يقل: (ننجيك) وإنما قال (ننجيك ببدنك) ومعناه ننجي بدنك والباء للآلية أو السببية. والعناية هي الاتحاد الذي بين النفس والبدن. وقال البعض:

____________

(230) سورة الزمر، الآية: 42.

(231) سورة طه، الآية: 55.

الصفحة 248
(ننجيك ببدنك) بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض وهذا لا يفي بدفع الإشكال من أصله. فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم. وهو غير فرعون قطعا وإلا كان حيا سالما. ولا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية الاتحاد الذي بين الإنسان وبدنه، ولو صححت هذه العناية إطلاق اسم الإنسان على بدنه من غير نفس، لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الإنسان من جهة وقوع التنجية ببدنه. وخاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي للبدن، دون التي للإنسان المستتبع لحفظ حياته وسلامته نفسا وبدنا والقرينة هي قوله: (ببدنك) (232).

* مشهد من حياة النار:

دفعت الأمواج بالبدن ليكون للأجيال عبرة وليعلموا أن الله تعالى هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شئ (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون (233) لقد ذهب فرعون وقومه، بعد أن خطوا على جبين الرحلة البشرية خطوطا عديدة للانحراف، كانوا هم أئمتها وفقهاؤها. ولقد حذر الله تعالى عباده من هذه الخطوط ومن هؤلاء الأدلة. قال تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) (234) قال المفسرون الدعوة إلى النار، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي، ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار. تصييرهم سابقين يقتدي بهم اللاحقون وقال تعالى:

(وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) (235) قال المفسرون: فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي، لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم، فالآية في معنى قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (236).

____________

(232) الميزان 190 / 10.

(233) ابن كثير: 431 / 2.

(234) سورة القصص، الآية: 41.

(235) سورة القصص، الآية: 42.

(236) سورة العنكبوت، الآية: 13.

الصفحة 249
وفرعون دليل القوم في الدنيا.. هو نفسه سيكون دليل أتباعه يوم القيامة يقول تعالى: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) (237) قال المفسرون:

يقدم قومه: فإنهم اتبعوا أمره. فكان إماما لهم من أئمة الضلال. (فأوردهم النار) أي يقدمهم فيوردهم النار (وبئس الورد المورود) والورد هو الماء الذي يرده العطاش من الحيوان والإنسان للشرب. والورود أصله قصد الماء، وقد يستعمل في غيره، وفي هذا استعارة لطيفة، بتشبيه الغاية التي يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة، بالماء الذي يقصده العطشان، وسعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله والجنة. لكن قوم فرعون لما غووا باتباع أمر فرعون، وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقية، تبدلت غايتهم إلى النار، فكانت النار هي الورد الذي يردونه، وبئس الورد المورود، لأن الورد هو الذي يجمد لهيب الصدر ويروي العطشان، فإذا تبدل إلى عذاب النار. فبئس الورد المورود (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) أي هم اتبعوا أمر فرعون. فأتبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا، وإبعاد من رحمته وطرد من ساحة قربه، وبئس الرفد رفدهم يوم القيامة، وهو النار التي يسجرون فيها (238).

والنار التي وعد الله بها فرعون ومن اتبعه يوم القيامة. لن تكون بعيدة عنهم قبل يوم القيامة، فهم يعرضون عليها في عالم البرزخ جزاء لهم لما قدمته أيديهم وخطته على جبين الرحلة البشرية. يقول تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب * وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) (239) قال المفسرون: الآية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار، ثم إدخالا فيها، والإدخال أشد من العرض. وثانيا في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الإدخال وهو عذاب البرزخ - عالم متوسط بين

____________

(237) سورة هود، الآيتان: 98 - 99.

(238) الميزان: 382 / 10.

(239) سورة غافر، الآيات: 45 - 48.

الصفحة 250
الموت والبعث - وثالثا أن التعذيب في البرزخ ويوم تقوم الساعة بشئ واحد، وهو نار الآخرة، لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد وأهل الآخرة بدخولها.

والمعنى: وحاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار، أو.. واذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار، فيقول الضعفاء منهم. للذين استكبروا. إنا كنا في الدنيا لكم تبعا. وكان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج وتنصرونا في الشدائد ولا شدة أشد مما نحن فيه. فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار. وإن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض. وهذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم ومتبوعيهم من دون الله. يظهر منهم ذلك يوم القيامة. وهم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا، والأمر يومئذ لله. فيقول مستكبروهم: إن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل، فالأسباب ساقطة عن التأثير، وقد طاحت منا ما كنا نتوهمه لأنفسنا في الدنيا من القوة والقدرة، فحالنا وحالكم ونحن جميعا في النار واحدة، ولسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب ومما قيل في الآية: إن الضمير في قوله: (يتحاجون) لمطلق الكفار من أهل النار.. بعيد. والقول بأن الضمير لقريش أبعد (240).

لقد انتهت الرحلة بالنار، نار في عالم البرزخ ونار يوم القيامة، كما انتهت بلعن في الدنيا، وفي الآخرة هم من المقبوحين. لقد انتهت الرحلة في الدنيا بالغرق وتدمير ما يعرشون ويوم القيامة بئس الرفد المرفود. إن فرعون وقومه إنتاج حقيقي لعالم الانحراف بجميع رموزه وأعلامه، لقد حملت الدولة الفرعونية شذوذ وانحراف قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وأهل مدين ففرعون إمام دولة له مجموعة عمل قادرة على التأثير، ولديه الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن ينفذ بها سياسته التي دق الكفر أوتادها على امتداد زمن طويل، ولأن فرعون مدخل للصد عن سبيل الله ومدخل إلى النار أفاض القرآن في قصته وحذر تعالى الإنسانية كلها من طرق وخطوط فرعون فقال تعالى: (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) (241) قال المفسرون: إن في حديث موسى وقصته لعبرة لمن كان له خشية، وكان من غريزته أن يخشى الشقاء والعذاب والإنسان من

____________

(240) الميزان: 336 / 17.

(241) سورة النازعات، الآية: 26.

الصفحة 251
غريزته ذلك. ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيما على طريق الفطرة (242) وقال تعالى: (فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين) (243) جعلهم سلفا للآخرين لتقدمهم عليهم في دخول النار، وجعلهم مثلا لهم لكونهم مما يعتبر به الآخرون لو اعتبروا واتعظوا، ففرعون مجموعة من الجرائم ساعده قومه على ارتكابها، تحت شعار الحفاظ على سنة الآباء، التي لا يستفيد منها سوى فرعون وطابور كهنته الذين يطبخون له الفتوى التي يريد! لقد أجرى فرعون الدماء على جذوع النخل وفي البيوت وفي القصور وجحد بآيات الله وكل ذلك من أجل حماية شذوذه وامتلك فرعون الكثير، ولكن هيهات هيهات. لقد انهالت على السهل أعاصير الشتاء فدمرت ما كانوا يعرشون، وقلب البحر الهائج سطحه، وهبط فرعون وقومه إلى الجحيم ليصبحوا عبرة لأصحاب المداخل المسدودة الذين يدونون أوراق الفقه الواحد، الذي يعبر عن وجهة نظر فرعونية.. قادرة على امتصاص جميع الأهواء وصهرها في قالب ذهبي واحد!

____________

(242) الميزان: 189 / 20.

(243) سورة الزخرف، الآية: 56.

الصفحة 252

الصفحة 253

انحرافات بني إسرائيل

(وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم)

سورة البقرة، الآية: 88


الصفحة 254

الصفحة 255

* الحمار يحمل أسفارا

الطريق إلى المسيح الدجال

مقدمة:

أثناء حكم يوسف عليه السلام لمصر. جاء بنو إسرائيل وأقاموا فيها، وسار فيهم يوسف بشريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وأرسى قواعد التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله وحده لا شريك له في نفوسهم، وبعد رحيل يوسف عليه السلام هبت عواصف الفراعنة تحمل الوثنية وتطرحها على أرض مصر من جديد (1). ويرى هذا لدى قوله تعالى: (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاء كم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) (2) وعلى امتداد الثقافة الفرعونية تأثرت الروح الإسرائيلية بالوثنية الفرعونية ومنها عبادة عجل أبيس الذي اعتقدوا أن روح الآلهة تسكنه! وتحت الراية الفرعونية شرب بنو إسرائيل من وعاء المادية حتى أصبحت المادية أصل أصيل داخل نفوسهم. وهذه المادية هي التي جعلتهم يحكمون في الله سبحانه بما يعقلون من أوصاف الماديات، ورغم أن شعب بني إسرائيل أجرى حياته في ظل الفرعونية وفيما بعد على المادة إلا أن عصبيتهم

____________

(1) تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع.

(2) سورة غافر، الآية: 34.

الصفحة 256
القومية كانت تحتفظ لهم بدين آبائهم بصورة من الصور. وعلى الرغم من أن الكثرة منهم كانوا يجرون في حياتهم على أصالة الحس ولا يعنون بما وراء الحس، إلا أن عصبيتهم القومية كانت تعتني بما وراء الحس اعتناء تشريفيا من غير أصالة.

وعندما بعث موسى عليه السلام لم يؤمن به إلا القلة إيمانا حقيقيا، أما الكثرة فكانوا يؤمنون به إيمانا قوميا عاموده الفقري إنجاز المصالح. وبعد خروج بني إسرائيل من مصر إلى سيناء، بوأهم الله المبوأ الطيب الذي يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من مسكن وهواء وماء. فسيناء صحراء جرداء لا شجر فيها ولا سكن والشمس فيها شديدة، ولكن يطيب لهم المكان، ساق الله إليهم الغمام ليظلهم ويقيهم وهج الشمس، وأرسل لهم سبحانه الرياح تحمل لهم المن والسلوى، وأمر سبحانه موسى أن يضرب بعصاه الحجر، فلما ضربه انبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء، وبالجملة أصبحوا وهم مع رسول الله موسى عليه السلام أحرارا يملكون أنفسهم ويعملون بكل حرية وكرامة ويعبدون إله الخلق. ولكن شعب بني إسرائيل لم يشكر النعمة التي أنعمها الله عليه. فلقد كانت الكثرة إلى الكفر أسبق. والناقضون لعهد الله فيهم أكثر، فبعد أن ملوا من العيش في سيناء، طلب القوم من موسى عليه السلام سعة العيش، وقالوا له: لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض. فقال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ند خلها حتى يخرجوا منها. فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.

قال المفسرون: توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار.

والحق أن المراد مصر من الأمصار (3) فموسى عليه السلام حينما أراد الإنتقال بهم إلى إحدى المدن وإلى مصر من الأمصار من بلاد الشام امتنعوا عليه (4)، وقالوا لا قدرة لنا على مقاومتهم وقتالهم فلما رغبهم بوعظه ونصائحه، وببيان آياته التي أجراها الله على يديه، وعلموا منه الجد في لزوم دخول تلك البلاد، وسكنى تلك الأرض المقدسة (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت

____________

(3) ابن كثير: 102 / 1.

(4) كتاب الأنباء: ص 322.

الصفحة 257
وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون * قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) (5). لقد طالبهم رسولهم بالقتال، والإنسان ذو الفطرة النقية يحب الاستشهاد تحت قيادة نبي الله ورسوله. ولكن القوم لم يرتفعوا إلى هذا الفهم نظرا لأنهم لا يعنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة ولا حقيقة، ومن أجل هذا قاموا بأعمال تثبت أنهم أكثر أمم الأرض لجاجا وخصاما وأبعدهم عن الانقياد للحق، لأنهم يتمادون في الجهالة والضلالة ولا يأبون عن أنواع الظلم وإن عظمت، وعن نقض المواثيق وإن غلظت. والقرآن الكريم سجل لهم العديد من مواقف الكفر والجحود وبأنهم كفروا النعمة وفرقوا الكلمة واختلفوا في الحق، ولم يكن اختلافهم عن عذر الجهل، وإنما اختلفوا عن علم. وشعب بني إسرائيل لم يعبد كله العجل. ولا كلهم عصوا الأنبياء ولا كلهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم، وإنما نسبت المعاصي إلى الكل رغم أنها صادرة عن البعض، لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، وينسب فعل بعضهم إلى الآخرين. لمكان الوحدة الموجودة فيهم، وكما رأينا قبل ذلك أن الذي عقر ناقة صالح كان فردا واحدا ولكن الله تعالى نسب عملية العقر إلى ثمود كلها لأنهم قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض.

* 1 - بصمات الانحراف على وجه شعب إسرائيل:

لقد فضل الله تعالى بني إسرائيل على العالمين، لأن فيهم أنبياء بني إسرائيل، فوجود النبوة هو العمود الفقري للتفضيل وليس وجود الشعب، قال تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) (6) قال المفسرون:

____________

(5) سورة المائدة، الآيتان: 24 - 25.

(6) سورة الأنعام، الآيات: 83 - 88.

الصفحة 258
قوله: (وكلا فضلنا على العالمين) فالعالم هو الجماعة من الناس. كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم. ومعنى تفضيلهم على العالمين، تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم. لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة. وأما غيرهم من الناس فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم. ويمكن أن يكون المراد. تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس. سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم. فإن الهداية الإلهية من غير واسطة. نعمة يتقدم بها. تلبس بها على من لم يتلبس.

وقد شملت المذكورين من الأنبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.

فالمجتمع الحاصل من الأنبياء الملتف حولهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي (7).

فالذين حول دائرة النبوة، مهديون إلى صراط مستقيم وفي أمن إلهي من خطرات السير وعثرات الطريق. أما الذين يسيرون على طريق يفرقون فيه بين رسل الله، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أو يفرقون فيه بين أحكام الله وشرائعه، فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، أو يركبون الطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنساني، فهذه الطرق هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه، لأن أصحابها انحرفوا عن دائرة الأنبياء التي هي شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الأهواء. فبني إسرائيل فضلهم الله على العالمين لأنهم الأرضية لأنبياء بني إسرائيل. فبدون الأنبياء ما ذكر اسم بني إسرائيل. وبني إسرائيل بدون الدين الحق. لا قيمة لهم ولا وزن. ولذا نرى أنهم عندما طالبوا موسى بأن يجعل لهم آلهة من دون الله، ردهم عليه السلام إلى دائرة التفضيل التي لا تستند إلا على الدين الحق. يقول تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وبطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين * وإذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب....) (8) الآية قال المفسرون: كانت نفوسهم قد تأثرت بالعبادات

____________

(7): الميزان: 243 / 7.

(8) سورة الأعراف، الآيات: 138 - 141.

الصفحة 259
المصرية. لذلك كانوا يتصورون أن الله سبحانه جسم من الأجسام! وكلما كان موسى عليه السلام يقرب لهم الحق من أذهانهم حولوه إلى أشكال وتماثيل..

لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم، فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها! فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا وهو غير الله ربكم، وإذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة. فقالوا: فكيف نعبده ولا نراه. ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده - كما يقول عبدة الأصنام - فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته. فإنه فضلكم جملي سائر الأمم بآياته الباهرة ودينه الحق. وإنجائكم من فرعون وعمله.

فكما ترى. دفعهم موسى عليه السلام بألطف بيان وأوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل (9) لقد ردهم عليه السلام إليه بصفته رسول الله الذي على يديه شاهدوا المعجزات وبصفته أعلم الناس بدين الله الحق لأن الله فضله على العالمين، وبردهم إليه أد خلهم في دائرة التفضيل. وهم داخل هذه الدائرة ما داموا في ظلال الأنبياء. فإذا كذبوا الأنبياء أو قتلوهم، فلا مكان لهم على الصراط المستقيم ولو رفعوا آلاف الرايات التي تحمل في ظاهرها رموز الصراط المستقيم، وبني إسرائيل تاجروا بالاسم على امتداد فترة طويلة من تاريخهم، وذلك بعد أن قفزوا بعيدا خارج دائرة الأنبياء. لقد تمردوا على موسى وهارون عليهما السلام. يقول تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) (10) قال المفسرون: أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة (11) ولم يقف الأمر عند موسى، بل تمردوا على جميع أنبياء الشجرة الإسرائيلية، حتى لعنهم داوود وعيسى ابن مريم عليهم السلام. يقول تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (12) قال المفسرون: إخبار

____________

(9) الميزان: 235 / 8.

(10) سورة الصف، الآية: 5.

(11) ابن كثير: 359 / 4. (12) سورة المائدة، الآيات: 78 - 79.

الصفحة 260
بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، وفيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات. بأنهم ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم. وذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم واستمرارهم على الاعتداء.

لقد قطع بنو إسرائيل شوطا طويلا في عالم الانحراف. فحرفوا الكلم عن مواضعه. وكفروا بآيات الله. وقتلوا الأنبياء بغير حق. وقالوا قلوبنا غلف. وبعد هذا يقولون. إن الله فضلهم على العالمين! إن الشذوذ الذي دق قوم نوح أوتاده انتهى آخر الأمر إلى سلة بني إسرائيل! بمعنى أن الانحراف الذي وضعه قوم نوح، ضرب الله أصحابه بالغرق ليكونوا عبرة لمن يأتي بعدهم.. أما الانحراف نفسه فإن طرحه على الأجيال في كل زمان، مهمة شيطانية.. فالشيطان يلتقط الانحراف بعد التجربة الإنسانية الأولى. ثم يزينه بما يستقيم مع جيل آخر. وبعد انتهاء الجيل يقوم بتعديل الانحراف بعد التجربة الإنسانية الثانية. ليلقيه على جيل ثالث. وهكذا. فمن كان له عبرة في السلف وتذكر ضربات الطوفان والرياح والصيحة وغير ذلك.. ابتعد بفطرته النقية عن مصادر الشذوذ الملون والانحراف المغلف بأغلفة براقة! أما الذين تربعت عبادة العجول على عقولهم، فإن في سلالهم تتجمع جميع الانحرافات ابتداء من قابيل قاتل أخيه وانتهاء بآخر انحراف وآخر شذوذ. وبنو إسرائيل استحوذوا على جميع الانحرافات ثم قاموا بنشرها على صفحة العالم للصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على أديان اخترقوها وقاموا بتوجيهها نحو أهدافهم وأيضا على منظمات وجمعيات تحمل لافتات براقة ظاهرها الرحمة والعدل وباطنها العذاب الأليم. ونحن سنوجز هنا انحرافات الأوائل التي استقرت في السلال الإسرائيلية بعد أن قام تلاميذ الشيطان بتحويرها وتهذيبها وتجميلها حتى استقرت في الصورة الأخيرة.

1 - بصمة انحراف قوم نوح:

كما ذكرنا من قبل أن قوم نوح عبدوا الأصنام، ورفضوا بشرية الرسول، وأطاحوا بسنة العدل الاجتماعي فقسموا البشر إلى أقوياء وضعفاء، فالأقوياء هم الأشراف. والضعفاء هم الأراذل، وبنو إسرائيل لم يخرجوا قيد أنملة عن هذا، لقد عبدوا العجل واتبعوا الأهواء، وسنتكلم عن هذا في موضعه، أما رفضهم للرسول البشر.. فلقد رفعوا هذه اللافتة في وجه نبي الله الخاتم محمد صلى الله

الصفحة 261
عليه وآله وسلم. يقول تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) (13) قال المفسرون: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وعليه فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب. والطائفتين ترجعان إلى أصل واحد. وهو شعب إسرائيل، بعث إليهم موسى وعيسى عليهما السلام، ودعوة عيسى انتشرت بعد رفعه في غير بني إسرائيل، وما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى عليه السلام (14). لقد سألوا رسول الله أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوب من الله إلى فلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به (15). وهذا السؤال بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن. لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة، وإنما يلغو ويهذو بما قدمت له أيدي الأهواء. من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس (16).

ولم يطلبوا خطاب السماء فقط. وإنما طالبوا أيضا بآية على الأرض يقول تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاء كم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين * فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) (17) قال المفسرون: كذب الله تعالى هؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. وأخبر على لسان رسوله. بأنه قد جاءهم رسل من قبل محمد بالحجج والبراهين وبنار تأكل القرابين. فلماذا قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلوهم. أمثال زكريا ويحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم. ثم أخبر الله تعالى رسوله بأن لا يوهنه تكذيب هؤلاء له. فله أسوة بمن قبله من الرسل الذين كذبوا مع ما جاؤوا به من البينات.

____________

(13) سورة النساء، الآية: 153.

(14) الميزان: 129 / 5.

(15) ابن كثير: 572 / 1.

(16) الميزان 130 / 5.

(17) سورة آل عمران، الآيتان: 183 - 184.


الصفحة 262
وبنو إسرائيل الذين يرفعون لافتة التفضيل على العالمين. قالوا لمحمد رسول الله قاله فرعون لموسى عليه السلام لقد وصف فرعون آيات موسى بالسحر. وبنو إسرائيل لم يفعلوا أكثر من هذا. يقول تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) (18) قال المفسرون: ملخص دعوة عيسى عليه السلام (أني رسول الله إليكم) أشار بهذا إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله. (مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول...) فقوله: (مصدقا لما بين يدي من التوراة) بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة. ولا تناقض شريعتها بل تصدقها، ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا. والنسخ بيان انتهاء أمر الحكم وليس بإبطال. ولذا جمع عليه السلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها في قوله: (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) (19) ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله. (قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون) (20).

وقوله: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته عليه السلام. وقد أشار إلى الشطر الأول بقوله: (مصدقا لما بين يدي من التوراة) ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه، ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته. هو انفتاح باب الرحمة الإلهية على الناس، فيه سعادة دنياهم وعقباهم، من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما... فماذا فعل بنو إسرائيل في الرسول الذي بعثه الله ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وبين لهم بعض ما يختلفون فيه؟ وماذا كان موقفهم من النبي أحمد صلى الله عليه وآله الذي بشر به عيسى والذي يجدونه مكتوبا عند هم في التوراة والإنجيل؟ لقد كان موقفهم من

____________

(18) سورة الصف، الآية: 6.

(19) سورة آل عمران، الآية 50.

(20) سورة الزخرف، الآية: 63.

الصفحة 263
عيسى أنهم كذبوه. وحاصروه. فرفعه الله إليه. أما موقفهم من أحمد صلى الله عليه وآله فكان هو نفس موقف فرعون من موسى (قالوا هذا سحر مبين).

أليس في هذا بصمات كفار قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون، لقد رفضوا بشرية الرسول بما يستقيم مع أهوائهم. فطالبوا بكتاب من السماء وقربان تأكله النار وعندما شاهدوا المعجزة أمام عيونهم بعد ما شاهدوا معالمها على صفحات كتبهم قالوا: هذا سحر مبين. وبعد أن رفضوا القمة على امتداد عصورهم، بدأوا يرفضون القاعدة وفقا لفقه كفار قوم نوح الذين صنفوا البشرية إلى قسمين. أشراف وأراذل! فهذا الفقه سار بشذوذه على امتداد المسيرة البشرية، واستقر في النهاية داخل سلة بني إسرائيل، فادعوا أنهم شعب الله المختار! وأنهم أولياء الله وأحباؤه، وباقي البشر بالنسبة لهم مجرد حيوانات آدمية تكد من أجلهم، وتحمل على ظهورها أحجار هيكلهم، ولقد أطاح القرآن الكريم بتصنيفهم للبشر، وتحداهم بأن يتمنوا الموت أمام رسول الله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (قل يا أيها الذين لا هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) (21) قال المفسرون: ومحصل المعنى. قل لليهود مخاطبا لهم. يا أيها الذين تهودوا، إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس، إن كنتم صادقين في دعواكم. فتمنوا الموت، لأن الولي يحب لقاء وليه، ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة، ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت، وعلى هذا فهو يحب الموت ويتمنى أن يحل به، ليدخل دار الكرامة، ويتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة. وقد علل سبحانه عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم، وهو كناية عن الظلم والفسوق، ومعنى الآية (ولا يتمنونه أبدأ) أي ولا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم، فكانوا ظالمين والله عليم بالظالمين، يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه، لا ولاية بينه وبينهم ولا محبة، والآيتان مع معنى قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدأ بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * (22) إن ادعاء

____________

(21) سورة الجمعة، الآية: 6 - 7.

(22) سورة البقرة، الآيتان: 94 - 95.


الصفحة 264
الولاية تطوير لأطروحة الأشراف والأراذل.. تلك الأطروحة التي مرت بتجارب عديدة داخل المعامل الشيطانية حق طالت الكبير والصغير، داخل البيت الواحد والشارع الواحد والقرية الواحدة. لقد رفع الأشراف أعلا مهم، وما زالوا يسخرون من الأراذل الذين يجمعون الألواح والدسر. إن ادعاء بني إسرائيل هذا كان مظلة كبرى قاست البشرية من تحتها جرائم لا حصر لها، وحتما سيأتي الطوفان يوما، وليس كل طوفان من ماء. وليس كل سفينة من ألواح ودسر.

2 - بصمة انحراف قوم عاد.

استكبرت عاد قوم هود، ودقت في خيام الانحراف وتد وثقافة (من أشد منا قوة؟)، وهذا الشذوذ ناله التطوير على امتداد المسيرة البشرية، فتلاميذ الشيطان، وفروا لكل منحرف جرعته! أما فيما يتعلق ببني إسرائيل. فلقد امتلأت سلالهم بالذهب وبالمكائد، بالترغيب والترهيب، بالتجويع والتخويف. والقرآن عندما سجل لهم انبهارهم بما عندهم وضعهم في موضع الخزي، فعاد عندما قالوا من أشد منا قوة؟ لم يشيروا إلى الله سبحانه صراحة.

لهذا قال تعالى: (أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة...) (23) أما بنو إسرائيل فلقد طرحوا الفقه بعد تطويره وقالوا إن الله فقير!! وإن يده مغلولة!!! أما هم فأغنياء. يقول تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (24) قال المفسرون:

إنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شئ من أمر الرزق. إما في خصوص المؤمنين، لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه، إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر، وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) (25) فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه. لترويج دينه وإحياء دعوته، وقد رد الله عز

____________

(23) سورة فصلت، الآية: 15.

(24) سورة المائدة، الآية: 64.

(25) سورة البقرة، الآية: 245.

الصفحة 265
وجل عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه (26). ولعنهم. ولعنة الله تعالى لأحد.. إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي. فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه ومن غيره (27).

وفي موضع آخر يقول تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذب الحريق) (28) قال المفسرون: القائلون هم اليهود، بقرينة ما في ذيل الآية من قتلهم الأنبياء وغير ذلك، بأنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم. فليس إلا فقير ونحن أغنياء!!! وقد رد الله عز وجل عليهم ما قابلوه. وأخبر سبحانه أن قولهم هذا ومعاملتهم رسل الله. وقد قارن الله قولهم هذا بقتل الأنبياء: لكونه قولا عظيما.

سيجزيهم الله عليه شر الجزاء.

لقد تمدد فقه عاد آخر الزمان وجاب البحار وحلق في الفضاء وجلس على مقاعد الصفوف الأولى في المحافل الدولية! وتسلل من تحت الأظافر ليتجسس على الناس ويحصي الكلمات حتى في السكون! وجميع ذلك في الظاهر من أجل حقوق الإنسان. أما في الباطن فمن أجل إنسان واحد، يعتقد بأن الله فضله على العالمين وأنه شعب الله المختار، بدون قيد أو شرط -. إنه فقه القوة وبناء الأعمدة والجدران! إنه فقه الغطرسة والاستكبار، وما عاد من الظالمين ببعيد!

3 - بصمة انحراف ثمود:

لقد عقرت ثمود الناقة التي جعلها الله آية لصالح عليه السلام، وإذا كان عقر الحقائق قد شق طريقه وسط المسيرة البشرية، بواسطة تلاميذ الشيطان. فإن فقه العقر عندما وصل إلى سلة بني إسرائيل كان قد ذهب مذهبا بعيدا. فالقوم تخصصوا في قتل الأنبياء. يقول تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) (29)

____________

(26) ابن كثير: 75 / 2.

(27) الميزان: 33 / 6.

(28) سورة آل عمران، الآية 181.

(29) سورة المائدة، الآية: 70.