الصفحة 306
بحار الفتن التي أدلى فيها سلفهم كل واحد منهم بدلوه المحمل بالشذوذ والانحراف. ولكن أصحاب الأيدي الخفية أولئك الذين يعملون من قديم من أجل تأصيل الشذوذ عملوا بكل جهد من أجل أن تسير مسيرة الفساد في اتجاه الدجال. ولأن الإسلام لا يكره أحد على اتباعه. تركهم الله في طريقهم. وختم على قلوبهم بعد أن مهدوا لأنفسهم ودخلوا بأقدامهم تحت عذاب الطمس.

(رابعا) عذاب الطمس:

إن الإنسان سيد أعماله. وبداية الضلال من الإنسان نفسه. فليس للشيطان أية سلطة على الناس. ولا يتمكن من إكراه الناس على المعصية. إن الشيطان يزن الأعمال فقط. ويدعوا الناس إلى الضلال فقط. وعندما يلبي الإنسان الدعوة. يضله الله عقابا لسوء اختياره. ومعنى إضلال الله للعبد، أن الله يقطع رحمته منه فينحرف باختياره. بني إسرائيل شهدوا أكثر من آية مع أنبيائهم. ووضعهم الله تحت ضربات الغزاة كي يتوبوا ويستغفروا. لكنهم وهم في سبي الغزاة حرفوا التوراة وشكلوا جهازا دينيا يسهر على مصالح المسيح الدجال. وواصلوا الانحراف حتى إنهم أحكموا القبضة على الأنبياء فقتلوهم.

وأحكموا القبضة على دعوة عيسى بعد أن رفعه الله. فربطوها بالتوراة والتوراة لا تعلم عنها شيئا. وظلت القافة تسارع بالفساد في الأرض باختيارها حتى جاءهم الإنذار الإلهي القاصم. قال تعالى:

(يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) (141) قال المفسرون: روي أن هناك من أسلم عندما سمع هذه الآية.

وقال: " يا رب أسلمت " مخافة أن تصيبه هذه الآية. وقيل في طمس الوجوه الكثير. فمن قائل: طمسها أن تعمى. ومن قائل: جعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى. وقيل: ترد على أدبارها أي تمنع عن الحق (142) وقال صاحب الميزان: تعرضت الآية لليهود أو طائفة منهم. فإنهم بإزاء ما خانوا الله

____________

(141) سورة النساء، الآية: 47.

(142) ابن كثير: 505 / 1.

الصفحة 307
ورسوله وأفسدوا صالح دينهم. ابتلوا بلعن من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق الإيمان إلا قليلا. فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيد قوله: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) ودعاهم الله إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم. وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم. لو تمردوا واستكبروا. من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه. وطمس الوجوه. محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية. مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة. وهذا المحو ليس هو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها. بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها. فإذا كانت الوجوه تقتصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فإن كانت الوجوه المطموسة لا تقصد إلا خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى. وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة. كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه. لم ينل إلا شرا وفسادا. وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا (143).

أما قوله تعالى: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) فآيات أصحاب السبت هي التي تخبر عن مسخهم قردة وقد ألقينا عليهم بعض الضوء عند حديثنا عن القرية التي أصبحت أمام أمر الله ثلاث فرق. وقال المفسرون: " أو " في قوله: (أو نلعنهم) على ظاهرها من إفادة الترديد. والفرق بين عيدين:

أن الأول الذي هو الطمس، يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها. والثاني الذي هو اللعن كلعن أصحاب السبت.

يوجب تغيير المقصد. بغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة. فهؤلاء إن تمردوا عن امتثال ولم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان لهم إحدى سخطتين: إما طمس الوجوه. وإما اللعن. ولكن الآية تدل على أن السخطة لا تعمهم جميعا حيث قال تعالى: (وجوها) فأتى بالجمع المنكر.

ولو كان المراد الجميع لم ينكر. ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها نكتة هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد، وهو إبعاد للجماعة بشر، لا يلحق إلا ببعضهم.

كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار والتخويف،

____________

(143) الميزان: 367 / 4.

الصفحة 308
لأن وصفهم على إبهامه، يقبل الانطباق على كل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب. وفي قوله تعالى: (أو نلعنهم) حيث أرجع فيه ضمير (هم) الموضوع الأولي العقل إلى قوله: (وجوها) كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا. بأن المراد بالوجوه. الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وودها على أدبار تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به البعض ويقوي ذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري. بحيث لا يشاهد حقا إلا أعراض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به. هذا نوع من التصرف الإلهي. مقتا ونقمة. نظير ما يدل عليه قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لو يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) (144).

فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس، يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل، إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية: (آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم..).. ومن الممكن أن يقال: إن المراد به تقليب أفئدتهم، وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله وآياته. ثم إن الدين الحق. لما كان هو الصراط المستقيم. الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه. وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد. والسقوط في مهابط الهلاك، كما قال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا) (145) وقال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم) (146) ولازم هذه الحقيقة، أن طمس الوجوه

____________

(144) سورة الأنعام، الآية: 110.

(145) سورة الروم، الآية: 41.

(146) سورة الأعراف، الآية: 96.

الصفحة 309
عن المعارف الحقة الدينية، طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها، فالمحروم من سعادة الدين، محروم من سعادة الدنيا. من استقرار الحال وتمهد الأمن وكل ما يطيب به العيش.

وآية الطمس ختمها الله بقوله: (وكان أمر الله مفعولا) أي أن الأمر لا محالة واقع (147) فأمره سبحانه لا يخالف ولا يمانع (148).

باختصار عالم الطمس هو سير القطار بلا رجعة والله غني عن العالمين، وفي عالم الطمس لن يفلحوا أبدا حتى ولو رفعوا أعلامهم على القمر وعلى جميع صناديق النقد الدولية. عالم الطمس كلما ازداد أصحابه تقدما تأخروا لأنهم يسيرون عكس اتجاه الفطرة ونحو المسيح الدجال، وتحت أقدامه يقفون يشكون الفقر والحاجة فيغذي أهواءهم. إن مربع الشمس يعيش داخل مربع الضلالة.

فالضلالة هي التي تغذي قافلة الطمس. ومن كان غذاؤه من الضلالة فلا أمل في شفائه (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) (149) قال المفسرون:

من كان في الضلالة، تدل على استمرارهم في الضلالة، لا مجرد تحقيق ضلالة ما بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد بما منه ضلالته، كالزخارف الدنيوية.

فينصرف عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة فيظهر له الحق عند ذلك. ولن ينتفع به. قال تعالى: (حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) (150) وهذا دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام. والمراد به أن ينصرف عن الحق بالاشتغال بزهرة الحياة. فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به. كما قال تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده) (151) وقال:

(يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت

____________

(147) الميزان: 370 / 4.

(148) ابن كثير 208 / 1.

(149) سورة مريم، الآية: 75.

(150) سورة مريم، الآية: 75.

(151) سورة غافر، الآية: 85.

الصفحة 310
في إيمانها خيرا) (152).

(خامسا): الخلاصة:

إن الذين يعبدون أصناما من دون الله ويسيرون وراء أهوائهم في الحقيقة يدعون الشيطان العاري من كل خير، ويسيرون في اتجاه طاعة، لأن الشيطان أخذ على عاتقه أن يظلهم بالاشتغال بعبادة غير الله. واقتراف المعاصي وأن يغرينهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم.

وما يهمهم من أمرهم. وأن يأمرهم بتحريم ما أحل الله وتغيير خلقه مثل الإخصاء واللواط والسحاق والخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف. والظالمين من أهل الكتاب اشتغلوا بهذا كله. لقد اشتغلوا بآمال وأماني أرض المعاد.

وجعلوا هذه الآمال عامودا فقريا لحركتهم. ولأنهم بظلمهم اتبعوا الأهواء وأعرضوا عن التعقل الصيح أضلهم الله، ولم يأذن سبحانه لناصر ينصرهم بالهداية ولا منقذ ينقذهم من الضلال، فأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة (ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) (153).

إن قافلة بني إسرائيل التي بدأت مع موسى عليه السلام على أرض مصر.

اضطهدت في سبيل الله (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) * (154) قال المفسرون: كأنه يقول: ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم. كلمة حية ثابتة، فإن عملتم بها، كان المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها. ولا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا. ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد. بل ليمتحنكم بهذا الملك. ويبتليكم بهذا التسليط والاستخلاف. فينظر كيف تعملون (155).

____________

(152) سورة الأنعام، الآية: 158.

(153) سورة النساء، الآية: 119.

(154) سورة الأعراف، الآيتان: 128 - 129.

(155) الميزان: 225 / 8.

الصفحة 311
وانطلقت المسيرة الإسرائيلية تحمل الهدى للعالمين. وبينما هي تسير ظهر أصحاب العجل والبقرة. وأصحب الكنوز وصاحب النبأ. وطابور النفاق الطويل وصناع الأهواء والأصنام. ولم يكن في ذاكرة هؤلاء قول موسى: (فينظر كيف تعملون) وتطورت مسيرة الانحراف لتنتج في النهاية كتبا وإن كانت لا تخلو من حق إلا أنها في خطوطها العرضية لا تحمل إلا ملامح سماوية باهتة وهذه الكتب وقف وراءها فقهاء السوء يدعون الناس لطريق الطمس، حيث علوم فقه التحقير الذي وضعه قوم نوح وعلى طريقه استؤصلوا، وعلوم فقه الغطرسة الذي وضعته عاد وعلى طريقه جاءتهم الرياح، وعلوم فقه الجحود الذي وضعته ثمود وعلى سبيله جاءتهم الصيحة، وعلوم فقه اللواط الذي وضعه قوم لوط وعلى طريقه ضربتهم حجارة من سجيل منضود، وعلوم فقه اللصوصية الذي دونه أهل مدين وأصحاب الأيكة وعلى طريقه ضربتهم الصيحة، وجاءتهم الظلة. لقد عمل فقهاء الانحراف داخل الحي الإسرائيلي من أجل تغليب الشذوذ ورفع رايات الأهواء على امتداد طريق الانحراف، وتم توفير القنابل الذرية لحماية هذا الطريق.

ولكن نهاية الطريق قد أخبرنا الله عنها (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) (156) " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون * إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " (157).

____________

(156) سورة النور، الآية: 39.

(157) سورة العنكبوت، الآيات: 41 - 43.

الصفحة 312

الصفحة 313

النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم

(قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعا)

سورة الأعراف، الآية: 158


الصفحة 314

الصفحة 315

* النبي الخاتم صلى الله عليه وآله والقافلة البشرية

{ الحجة البالغة }

مقدمة:

قبل البعثة المحمدية، كانت القافلة البشرية تعيش أحط أدوارها، فالقرن السادس الميلادي كان قد طفح بعرق الإنحراف ووصف بأنه كان من أشد القرون ظلاما. حيث ادعى الجبابرة في رقع كثيرة من العالم الحق الإلهي وعلى هذا ملأوا العالم ظلماء وخرجوا يبحثون بمخالبهم وأنيابهم عن فريسة من نبي الإنسان ليقتلوه أو يسبوه خلال حروبهم. التي أشعلوها من أجل مزيد من الشهوات والأهواء. قبل البعثة خرج أصحاب بيوت العنكبوت التي ليس لها من آثار البيت إلا اسمه بعد أن وجدوا أن البيت لا يدفع حرا ولا بردا ولا يقي من مكروه! خرجوا ليبحثوا عن بيوت أخرى وكلما انتهوا إلى بيت وجروه كبيوتهم!

وهكذا دارت جحافل الظلام في حلقة مفرغة. من بيت سوء! ومن أولياء ليس لهم من الولاية إلا الاسم فقط لا ينفعون ولا يضرون ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا. إلى أولياء لم يتخصصوا إلا في بناء بيوت كبيوت العنكبوت!

كانت الوثنية قد رفعت أعلامها على بلاد الروم واليونان والهند والفرس ومصر وسوريا وغير ذلك من البلاد. وتحت ظل الوثنية أطيح بسنة العدل الإجتماعي، وأنت الفطرة تحت أحمال غليظة، وقام فقهاء الانحراف بتقديم ثقافة تفقد الإنسان رشده وقوة تمييزه بين الخير والشر. فلم يعرف في عالمهم

الصفحة 316
الحسن من القبيح. وكيف يعرف من ألقى مقياس المعرفة الفطرية وراء ظهره وانطلق مسرعا إلى عالم الضلال الذي لا يفلج من سار على طريقه أبدا. فتحت رايات الوثنية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية. كان الإنسان أرخص شيئا على أرضها. كانوا يدفعون بالرقيق إلى حلبات المصارعة كي يصارع إنسان مثله حتى الموت أو يصارع السباع! وكل هذا من أجل أن يدخلوا السرور على شريف من أشرف القوم بع عناء يوم عمل. كانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف. والمؤامرات والمجاملات الزائدة والقبائح والعادات السيئة. كان هم الجميع هو اكتساب المال من أي وجه. فهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الأفراد وهناك من احترف قطع الطرق لسرقة الشعوب. أما أوروبا فكانت تعيش في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية وكانت بعيدة عن قافلة الحضارة التي شيدها الناس من حولهم. كان لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعلم. وكانت أجسامهم قذرة ورؤوسهم مملوءة بالأوهام. وكان الرهبان هناك يبحثون في أن المرأة حيوان أم إنسان؟ ولها روح خالدة أم ليس لها روح خالدة. وأن لها حق الملكية والبيع والشراء أم ليس لها شئ من ذلك. ويقول روبرت برفلوت: لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر. وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا. وكانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم. لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت.. وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها الحضارة وبلغت أوجها في الماضي كإيطاليا وفرنسا. فريسة الدمار والفوضى والخراب (1) أما الهند فكانت قبل عصر البعثة المحمدية قد احترفت صنع الآلهة وذكر صاحب كتاب الهندوكية السائدة. بأنهم ألحقوا بالديانة الهندوكية عددا من الآلهة قد بلغ (330 مليون) إله!! وفي ظل هذه الآلهة رتعت عقائد التثليث والتجسد والحلول وجميع معالم الانحراف. وفي بلاد فارس أقيمت للناس المعابد العديدة! وفي بلاد العراق أقيمت المعابد للكواكب والأوثان! أما العرب فقد انغمسوا في الوثنية بأبشبع أشكالها، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل لكل بيت صنم خاص، وكان في جوف

____________

(1) السيرة النبوية / الندوى: ص 9.

الصفحة 317
الكعبة وفنائها ثلاثمائة وستون صنما، وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر من أي جنس مان، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجن والكواكب. وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله! وأن الجن شركاء الله!

واعتقدوا أن هؤلاء لهم مشاركة في تدبير الكون! وقدرة ذاتية على النفع والضرر والإيجاد والإفناء! فآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم (2) وعلى أرض العرب وبالتحديد في مكة كان العديد من علماء أهل الكتاب يقيمون فيها أو حولها انتظارا لظهور النبي الموصوف عندهم في كتبهم والذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم نظرا لدقة الوصف الذي وصفه لهم الأحبار والرهبان الذين أؤتمنوا على ما أخفاه من الكتاب.

وبالجملة كانت القافلة البشرية في حاجة إلى مشعل هداية بعد أن سقطت أطروحات الأصنام في الأوحال العميقة. مشعل هداية يهدي إلى صراط الله المستقيم، وجاء النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن جفت الحكمة وجف العلم من آنية أهل الكتاب.

أولا: وجاء النور الهادي:

1 - من صفاته عند أهل الكتاب:

كان عليه السلام أميا، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب. قال القرطبي في تفسيره: (جاء في التوراة أن الله قال لموسى بن عمران) " إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك. اجعل كلامي على فيه. فمن عصاه انتقمت منه " فمن إخوة بني إسرائيل؟ فلا محالة أنهم العرب أو الروم. فأما الروم فلم يكن منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى بزمان، فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة. فلم يبق إلا العرب. فهو إذن محمد عليه السلام. وقد قال في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب " إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته " فكني عن بني إسرائيل بأخوة إسماعيل. كما كني عن العرب بأخوة بني إسرائيل في قوله: " إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبي مثلك " ويدل ذلك أيضا قوله:

____________

(2) السيرة النبوية / الندوى: ص 11.

الصفحة 318
" اجعل كلامي على فيه " وتلقيناه من فلق فيه (3) واليهود يطلقون على أي أمة غير أمتهم لقب " الأمة الأمية " وفي ذلك يقول تعالى: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) (4). فالنبي الأمي ليس من الحي الإسرائيلي. وإما هو من بني إسماعيل. ووصفه بالأمي لا ينطبق إلا عليه. لأن المسيح ابن مريم عليه السلام كان قارئا وكاتبا. ففي إنجيل لوقا " وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ " (لوقا 4 / 16) وفي إنجيل " وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب " (يوحنا 8 / 6) وكان عليه السلام رسولا إلى بني إسرائيل. البشارات بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل صنف فيها كتب كثيرة.

2 - من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم:

  • اختصه الله بعموم الدعوة للناس كافة قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (5) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (6). قال المفسرون: إن في مدلول الآية حجة على التوحيد. وذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية، التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم وسيرهم إلى غايات وجودهم، فعموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم. وهو رسول الله تعالى لا رسول غيره. دليل على أن الربوبية منحصرة في الله تعالى. فلو كان هناك رب غيره ولجاءهم رسوله. ولم يعم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عمتهم. واحتاجوا معه إلى غيره. ويؤيده ما في ذيل الآية من قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه. أمس بجهل الناس من كونه صلى الله عليه وآله وسلم رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا ونذيرا. فمفاد الآية: لا يمكنهم أن يروك شريكا له. والحال أنا لم نرسلك إلا كافة لجميع الناس بشيرا ونذيرا. ولو كان لهم إله غيرنا، لم يسع لنا أن نرسلك إليهم وهم

    ____________

    (3) البشارة نبي الإسلام / أحمد حجازي السقا: ص 226 / 1 ط دار البيان.

    (4) سورة آل عمران، الآية: 75.

    (5) سورة الأعراف، الآية: 158.

    (6) سورة سبأ، الآية: 28.

    الصفحة 319
    عباد لإله آخر. والله أعلم (7).

    ونزول القرآن الكريم على رسول الله بلسان عربي، لا ينافي عموم دعوته لعامة البشر، لأن دعوته كانت مرتبة على مراحل، فأول ما دعى دعى الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم، ثم كان يدعو بعد ذلك سرا مدة، ثم أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (8). ثم أمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) (9) ثم أمر بدعوة الناس عامة كما يشير إليه قوله تعالى:

    (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (10) وقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) (11) والدليل على عموم الدعوة. إنه كان من المؤمنين به سلمان وكان فارسيا، وبلال وكان حبشيا، وصهيب وكان روميا، وفي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا سابق العرب. وصهيب سابق الروم. وسلمان سابق الفرس. وبلال سابق الحبشة) (12) " وبعد استقرار الدعوة أخذ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك في إيران ومصر والحبشة والروم. وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بعثت إلى الأحمر والأسود) (13) وقال: (أنا رسول من أدركت حيا ومن يولد بعد) (14) وقال: (ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار) (15) وقال: (أنا النبي الأمي الصادق الزكي. الويل كل الويل لمن كذبني وتولى عني وقاتلني...) (16) وقال: (إن الله بعثني بتمام

    ____________

    (7) الميزان: 377 / 16.

    (8) سورة الشعراء، الآية: 214.

    (9) سورة الحجر، الآية: 94.

    (10) سورة الأعراف، الآية: 158.

    (11) سورة الأنعام، الآية: 19.

    (12) رواه الحاكم (كنز العمال 644 / 11).

    (13) رواه ابن سعد (كنز العمال 445 / 11) (14) رواه ابن سعد (كنز العمال 404 / 11).

    (15) رواه الحاكم (كنز العمال 453 / 11).

    (16)(رواه ابن سعد (كنز العمال 403 / 11).

    الصفحة 320
    مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأعمال) (17) وقال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) (18) وقال: (أنا رحمة مهداة) (19) وقال: (إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ودينكم واحد ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أخمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى) (20).

  • ومن خصائصه أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضا مطلقا لا شرط فيه ولا استثناء قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (21) وآيات القرآن في هذا المقام عديدة. كما جعل الله أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرط في حب الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (22) قال المفسرون: إن حب الشئ يقتضي حب جميع ما يتعلق به.

    ويوجب الخضوع والتسلم لكل ما هو في جانبه. والله سبحانه هو الله الواحد الأحد، الذي يعتمد عليه كل ما شئ في جميع شؤون وجوده ويبغي إليه الوسيلة ويصير إليه كل ما دق وجل. فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين بدين التوحيد وطريق الإسلام، وهذا هو الذين الذي ينسب إليه سفرائه. ويدعو إليه أنبيائه ورسله. وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه.

    وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة، كما يختم بصادعه صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء عليهم السلام، وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، طريقة الإخلاص على ما أمره الله تعالى حيث قال: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله حتى بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحانه الله

    ____________

    (17) رواه الطبراني في الأوسط (كنز 425 / 11).

    (18) رواه ابن سعد والحاكم (كنز 425 / 11).

    (19) رواه ابن سعد الحاكم (كنز 425 / 11).

    (20) رواه ابن النجار (كنز 484 / 11).

    (21) سورة النساء، الآيتان: 13 - 14.

    (22) سورة آل عمران، الآية: 31

    الصفحة 321
    وما أنا من المشركين) (23) فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك، فسبيله دعوة وإخلاص، واتباعه واقتفاء أثره، إنما في ذلك صفة من اتبعه.

    ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له صلى الله عليه وآله وسلم هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعا) (24) وذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) (25) ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراط المستقيم فقال: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) (26) فتبين بذلك كله أن الإسلام - وهو الشريعة المشرعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحياة - هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، وهو دين الحب. ومن جميع ما تقدم يظهر معنى الآية (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فالمراد والله أعلم: إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب، الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن. أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب، وعند ذلك تجدون ما تريدون. وهذه هو الحب الذي يبتغيه محب بحبه (27).

  • ومن خصائصه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن من تقدمه من الأنبياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم كقول نوح عليه السلام: (يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين) (28) وقول هود عليه

    ____________

    (23) سورة يوسف، الآية: 108.

    (24) سورة الجاثية، الآية: 18.

    (25) سورة آل عمران، الآية: 20.

    (26) سورة الأنعام، الآية: 153.

    (27) الميزان: 159 / 3.

    (28) سورة الأعراف، الآية: 61.

    الصفحة 322
    السلام: (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين) (29) وغير ذلك، أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد تولى تعالى تنزيهه عما نسبه إليه أعداؤه والرد عليهم فقال تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) (30) وقال تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) (31) وقال: (ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى) (32).

  • ومن خصائصه أن كتابه معجز، ومحفوظ، يسره الله تعالى للذكر ليفهمه العامي والخاصي والأفهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه قال تعالى:

    (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (33) قال المفسرون: والمعنى لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به. فهل من متذكر فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه الدين الحق. والقرآن لا انحراف فيه في جميع الأحوال. ولا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير. ووصف القرآن بالحكيم دليل على عدم وجود نقطة ضعف أو لهو الحديث فيه. جميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة فيه تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد. قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (34) قال المفسرون: أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) (35) وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفة بالقيام كما قال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (36) وقال: (فأقم وجهك للدين القيم) (37) وذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنيا هم وآخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم وليس إلا لكونه موافقا لما

    ____________

    (29) سورة الأعراف، الآية: 67.

    (30) سورة يس، الآية: 69.

    (31) سورة القلم، الآية: 2.

    (32) سورة النجم، الآيتان: 2 - 3.

    (33) سورة القمر، الآية: 22.

    (34) سورة الإسراء، الآية: 9.

    (35) سورة الأنعام، الآية: 161.

    (36) سورة الروم، الآية: 30.

    (37) سورة الروم، الآية: 43.

    الصفحة 323
    تقتضيه الفطرة الإنسانية (38).

    والقرآن الكريم لا يجد الباطل طريقا إليه قال تعالى: (وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون) (39) قال المفسرون: لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به. إنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والأخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله.

    والقرآن حق لا سبيل للباطل إليه. فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد (ما يستطيعون) أي وما يقدرون على التنزل به، لأنه كتاب سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون) أي أن الشياطين عن سمع الأخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في الملأ الأعلى معزولون. حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمعوا (40) والله تعالى تحدى بالقرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثله فقال: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (41) وعندما عجزوا أن يأتوا بمثله تحدى أن يأتوا بعشر سور من مثله قال تعالى: (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)(42) وعندما عجزوا تحدى أن يأتوا بسورة واحدة قال تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) (43) قال المفسرون: في الآيات ظاهرة في دوام التحدي، وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغة اليوم. فلا ترى أثرا منهم. والقرآن باق على إعجازة متحد بنفسه كما كان (44).

  • ومن خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله جعل أهل بيته عليهم السلام طرفا أصيلا مع القرآن وأنهم والقرآن لن يفترقا حتى يرد عليه الحوض ففي

    ____________

    (38) الميزان: 47 / 13.

    (39) سورة الشعراء، الآيات 210 - 212.

    (40) الميزان: 328 / 15.

    (41) سورة الإسراء، الآية: 88 (42) سورة هود، الآية: 13.

    (43) سورة البقرة، الآية: 23.

    (44) الميزان: 201 / 13.

    الصفحة 324
    الحديث: (ذ إني تارك فيكم الثقلين أحداهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (45) وأن الله تعالى طهر أهله بيته الذين ارتبطوا بالقرآن تطهيرا قال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (46) كما أجب الله تعالى مودة قرابة رسول الله في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (47) وسيأتي الحديث عن أهل البيت فيما بعد مفصلا. وخصائص النبي الأعظم عديدة نكتفي بما أوردناه منها.

    3 - من صفاته عليه الصلاة والسلام:

    قال الحسين بن على عليهما السلام قال: سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر أطول من المربوع (48) وأقصر من المشذب (49). عظيم الهامة ". إلى أن قال: " أزهر اللون واسع الجبين. أزج الحواجب سوابغ في غير قرن وبينهما عرق يدره القضب له نور يعلوه يحسبه من يتأمله أشم " إلى أن قال: " إذا مشى كأنما ينحط من صبب. وإذا التفت التفت جمعيا. خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء. جل نظره الملاحظة. يبدأ من لقيه بالسلام " وما أوردناه من الصفات يوجد بتمامه في تفاسير أهل الكتاب. ثم قال الحسن فقلت له: صف لي منطقه. فقال: كان صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلم في غير حاجة.. يتكلم بجوامع الكلم فصلا فصلا لا فضول فيه ولا تقصير. دمثا ليس بالجافي ولا بالمهين... " وعن الحسين عليه السلام قال سألت أبي عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " كان يجلس

    ____________

    (45) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 186 / 1).

    (46) سورة الأحزاب، الآية: 33.

    (47) سورة الشورى، الآية: 23.

    (48) المربوع: الذين بين الطويل والقصير.

    (49) المشذب: الذي لا كثير لحم على بدنه.

    الصفحة 325
    ولا يقوم إلا على ذكر. لا يوطن الأماكن وينهى عن إبطانها (50) إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أجدا أكرم عليه منه. من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أبا، وكانوا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة. لا ترفع فيه الأصوات. ولا يؤمن فيه الحرم (51). ولا تثنى فلتاته (52) متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. قال الحسين عليه السلام فقلت: كيف كانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جلسائه؟ فقال:

    كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر (53). سهل الحلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (54) ولا فحاش ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عمالا يشتهي فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمنيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره. ولا يطلب عثراته ولا عوراته. ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه. وإذا تكلم أطرق جلساؤه كان على رؤوسهم الطير. فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم انصتوا له حتى يفرغ حديثهم عنده حديث أوليتهم (55)، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه. حتى إن كان أصحابه يستجلبونهم (56). ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (57). ولا يقطع على أحد (*)

    ____________

    (50) أي لا يعين لنفسه مجلسا خاصا بين الجلساء حذرا من القصور.

    (51) أي لا تعاب عنده حرمات الناس.

    (52) أي إذا وقعت فيه عثرة من أحد جلسائه بينها لهم ليحذروا من الوقوع فيها ثانيا.

    (53) البشر: بشاشة الوجه.

    (54) الصخاب: الشديد الصياح.

    (55) أي كانوا يتكلمون عنده الواحد بعد الآخر بالتناوب من غير أن يداخل أحدهم كلام الآخر.

    (56) أي يريدون جلبهم عنه وتخليصه منهم.

    (57) أي في مقابل نعمة أنعمها على أحدهم وهو الشكر الممدوح.


    الصفحة 326
    كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام (58).

    قال الحسين: فسألت أبي عن سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كان سكوته على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكير.

    فأما التقدير، ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى وجمع له الحلم والصبر. فكان لا يغضبه شئ ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه. واجتهاده الرأي في صلاح أمته. القيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة (59) وما أوردناه ما هو إلا بعض من صفات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي وصفه الله بأنه على خلق عظيم. وصاحب هذه الخلق العظيم هو الذي قدر الله تعالى أن تكون هداية البشرية على يديه بما أنه خاتم الأنبياء والرسل. فهو صلى الله عليه وآله وسلم الذي يشير إلى قوافل الضلال والإنحراف بمصباح الهدى كي يخرجهم من الظلمات إلى النور، فمن استجاب فقد فاز، ومن أمسك بذيول آباء الضلال والانحراف فقد هلك والله غني عن العالمين.

    ثانيا: الدعوة إلى الهدى:

    1 - معسكرات الانحراف:

    لم يكن طريق الدعوة بالطريق السهل. فالانحراف كان شاسعا وعميقا، وعلى امتداد ليلة ظهرت له مخالب وأنياب تدافع عن الأهواء والشذوذ، فأهل مكة كانوا قد أقسموا قبل إرسال الرسول إليهم، لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم، وعندما جاءهم الرسول النبي الأمي الذي لم يعهدوا فيه إلا كل خلصة كريمة، نسوا ما كانوا قد أقسموا به من قبل وغاصوا في مستنقعات الأوحال على دروب الانحراف. ومن داخل الأوحال قذفوا أتباع الهدى بجميع ما يستقيم مع ثقافة الانحراف. يقول تعالى عن خط الصد في مكة: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما

    ____________

    (58) حتى يجوز: أي يتعدى عن الحق فيقطعه حينئذ بنهي أو قيام.

    (59) الميزان: 306 / 6 وما بعدها.

    الصفحة 327
    زادهم إلا نفورا) (60) قال المفسرون: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يكونوا أهدى من إحدى الأمم التي جاءهم نذير. فلما جاءهم تباعدوا عنه وهربوا! فهذا الخط من خطوط الصد وضع في طريق الدعوة العديد من العراقيل دفاعا عن أهوائه وطريق آبائه. نفورهم واستكبارهم لا يقودهم إلا إلى السنة الجارية في الأمم الماضية، وهي العذاب الإلهي، ولن تجد لسنة الله تبديلا، والله تعالى يبعث الرسل لإقامة الحجة، ولكن لا يكون للناس على الله حجة. وحط الصد في مكة لبس الحجة كاملة وهو يقف على خنادق الإنحراف والشذوذ. يقول تعالى:

    (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) (61).

    فالذي يسمك بحجر ويقف على خندق من خنادق الصد أقيمت عليه الحجة بالدعوة، ولا يبالي الله به في أي واد هلك، ولم يكن حال أهل الكتاب بأحسن من حال كفار قريش، فلقد شاركوهم خطوط الصد ولكن كل حسب طريقته.

    وأهل الكتاب كانوا يستفتحون ويستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلما بعثه الله كفروا به وحسدوه قال تعالى: " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " (62) وأهل الكتاب تصدروا خطوط الصد بعد هجرة الرسول إلى المدينة ولذا كانت آيات القرآن التي نزلت على رسول الله في المدينة لتكشف كيدهم أكثر مما نزل عليه في مكة. وباختصار لقد وقف في وجه الدعوة جميع أبناء الشذوذ والإنحراف الذين استقامت أهواؤهم مع أهواء الظالمين في الأمم الماضية من عهد نوح عليه السلام، ولقد قدمت الدعوة الإسلامية إلى هؤلاء الدواء الشافي من كل داء لنخرجهم من الظلمات إلى النور فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

    ____________

    (60) سورة فاطر، آية: 42.

    (61) سورة الأنعام، الآيات: 155 - 157.

    (62) سورة البقرة، الآية: 89.

    الصفحة 328

    2 - الداعي إلى الله:

    أمام معسكرات الشذوذ وخيام الإنحراف تلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم آيات القرآن الكريم في مكة ومن هذه الآيات قوله تعالى: " قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " (63) قال المفسرون: أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، ولا ذاك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي، فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري، فأنا أخاف ربي وأعبده بإخلاص آمنتم به أو كفرتم (64). عقب ذلك قال: " فاعبدوا ما شئتم " وهذا أمر تهديدي. بمعنى أن عبادتهم لن تنفعهم، لأنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله، حيث يخسرون أنفسهم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة، كما يخسرون أهلم بحملهم على الكفر والشرك، وهذا هو الخسران الحقيقي لأنه لا زوال له ولا انقطاع. وأمام معسكرات الشذوذ وخيام الانحراف تلى الرسول الأعظم: " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلوا هذا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين " (65) قال المفسرون: الدعوة تبشير وإنذار. ولا يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم من أمرها شيئا. وإنما الأمر إلى الله. ومعنى الآيات قل: " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة " - مكة المشرفة - التي حرمها الله ولم يشكر أهلها هذه النعمة. نعمد تحريم بلدهم. بل عبدوا الأصنام! ولكي لا يتوهم كفار مكة أن الله يملك مكة.. فيكون حاله حال سائر الأصنام. جعلوا لكل منها جزء من أجزاء العالم كالسماء والأرض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا قال: (وله كل شئ) إشارة إلى سعة ملكه تعالى وقوله:

    (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدى إليه الخلقة وتهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم.

    ____________

    (63) سورة الزمر، الآيات: 11 - 13.

    (64) الميزان: 237 / 11.

    (65) سورة النمل، الآيات: 90 - 92.