" وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير " (67) قال المفسرون، أي آمنت بالكتب السماوية التي نزلها الله على رسله. وأمرت أن أعدل بينكم أي أسوي بينكم. فلا أقدم قويا على ضعيف ولا غني على فقير ولا كبير على صغير ولا أفضل أبيض على أسود ولا عربي على عجمي ولا هاشميا أو قرشيا على غيره، فالدعوة متوجهة إلى الجميع والناس قبال الشرع الإلهي سواء.
فقوله: (آمنت بما أنزل الله من كتاب) تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها وقوله: (وأمرت لأعدل بينكم) تسوية بين الناس من حيث الدعوة وما جاء به الشرع وقوله: (الله ربنا وربكم) يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى وفليس لهم أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه ويتفاضلوا بالأرباب، بل الله هو رب الجميع، وهم جميعا عباده المملوكون له المدبرون بأمره وقوله: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) يشير إلى أن الأعمال وإن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيئة ومن حيث الجزاء. ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها. فلكل امرئ ما عمل. فلا ينتفع أحد بعمل آخر. ولا يتضرر بعمل غيره وقوله: (لا حجة بيننا وبينكم) أي لا خصومة بيننا وبينكم بتفاوت الدرجات.
لأن ربنا واحد. ونحن لأننا جميعا عباده ولكل نفس ما عملت، فلا حجة في البين. أي لا خصومة حتى نتخذ لها حجة (68).
هذا هو شرع النبي الأعظم الذي أذاع معسكر الإنحراف على الغوغاء والرعاع على امتداد الزمان أنه بدأ بالسيف وكان القهر عنوانه، هذا هو محمد
____________
(66) الميزان: 404 / 15.
(67) سورة الشورى، الآية: 15.
(68) الميزان: 34 / 18.
لقد جاء ليقول: " أمرت " ولم يرفع سيفا إلا بأمر وذلك بعد أن خرج عليه أصحاب المخالب والأنياب يريدون إطفاء نور الله. ولكن أبي الله إلا أن يتم نوره. لقد أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيله في مكة في قوله تعالى:
" قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين * قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ " (69) قال المفسرون: أمره الله أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه. هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم وسبيل واضح قيم. لا تخلف فيه ولا اختلاف.
دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة أحسن القيام، لكونه مبنيا على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا. مائلا عن التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين. وأمره تعالى أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه. كما أنه مأمور بذلك. ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول. فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه ويطابق فعله قوله. فقال له سبحانه قل:
إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ومحياي بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وأفعال وتروك. ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره وهي الجهات التي ترجع منه الحياة. جعلتها كلها لله رب العالمين. من غير أن أشرك به فيها أحدا. فأنا عبد في جميع شؤوني: في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه. لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له. ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له. فإنه رب العالمين. يملك لكل ويدبر أمرهم. وقد أمرت بهذا النحو من العبودية. وأنا أول المسلمين به فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة (70).
فهل في سبيل رسول الله إكراه كما أشاعت جماهير الطمس على طريق القهقري؟ " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله
____________
(69) سورة الأنعام، الآيات: 161 - 164.
(70) الميزان: 394 / 7.
3 - هدم انحراف بلادة الفكر والوجدان:
طالب النبي صلى الله عليه وآله وسلم معسكر الانحراف بالنظر في الكون.
ليعلموا أن النظام القائم في الكون يدل على توحيد الله تعالى. فالتدبير السائد على جميع أنحائه متواصل. وجميع أجزائه مسخرة لنظام واحد. تلى عليه الصلاة والسلام عليهم في مكة قوله تعالى: " قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * كذلك الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون * قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون * قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " (73) قال المفسرون: قل لهم يا محمد من يرزقكم من السماء بالأمطار والثلوج ونحوه. ومن الأرض بإنباتها نباتا وتربيتها الحيوان ومنها يرتزق الإنسان. وبركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني. أمن يملك السمع والأبصار منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق. فهو تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم للإنسان أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها. فالإنسان إنما يشخص ويميز ما يريده. مما لا يريده بأعمال السمع والبصر واللمس والذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده. ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها. فالحواس هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي. وإنما خص الله السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرها. والله تعالى هو الذي يملكهما ويتصرف فيهما
____________
(71) (سورة الأنفال، الآيتان: 22 - 23.
(72) سورة الفرقان، الآية: 44.
(73) سورة يونس، الآيات: 31 - 35.
كخلق الإنسان الحي والحيوان الحي والنبات الحي من التراب الميت وبالعكس. وكخروج الإنسان العاق الصالح من الإنسان الذي لا عقل له ولا صلاح وبالعكس وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. ومن يدبر الأمر في جميع خلقه؟ (فسيقولون الله) اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان وغيره ولأن الوثنيين يعتقدون ذلك. أمر الله نبيه أن يوبخهم أولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة. ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: (فقل أفلا تتقون) ثم قال: (فذلكم الله ربكم الحق) وقد وصف الله بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده: (فماذا بعد الحق الضلال) لأنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقه. فإن الهدى في اتباعه وعبادته. لأن الهدى مع الحق لا غير. وعلى هذا فلا يبقى عند غيره. الذي هو الباطل إلا الضلال. ثم تمم الآية بقوله: (فأنى تصرفون) أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.
وقوله بعد ذلك: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) الإشارة بقوله: (كذلك) إلى ما تحصل من الآية السابقة. أن المشركين صرفوا عن الحق. وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال. إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. ومعنى قوله: (كذلك حقت كلمة ربك) أن الكلمة الإلهية والقضاء الحتمي الذي قضى به في الفاسقين - وهو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت وثبتت في الخارج وأخذت مصداقها وهو أنهم صرفوا عن الحق فوقعوا في الضلال. أي إنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا.
وإنما قضينا ذلك. لأنهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما.
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) لأن الذي بيده كل شئ ثم يعيده يستحق أن يعبده الناس. اتقاء من يوم لقائه. ليأمن من أليم عذابه. وينال عظيم ثوابه يوم القيامة. والله تعالى له ذلك
والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق. ومن الحق. ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه. أو يهدي إلى غيره. لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري. وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية. فافتتح بسؤالهم عن شركائكم. هل فيهم شركاءهم. هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ ومن الواضح أن لا جواب للمشركين في ذلك. لأن شركاءهم سواء أكانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان والأصنام. أم كانوا من الأحياء كالملائكة وأرباب الأنواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما. لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وإذا لم يكن للمشركين جواب في ذلك. أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب بإثباتها لله فقال: (قل الله يهدي للحق) فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شئ إلى مقاصده التكوينية والأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: " ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " (74) وقوله: " الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " (75) وهو الذي يهدي الإنسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنة والمغفرة بإذنه. بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. وأمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس.. وإذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق. وأن الله سبحانه يهدي إلى سألهم بقوله: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا يهدى) أن يقضوا في الترجيح بين أتباعه تعالى وأتباع شركائهم. وهو تعالى يهدي إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم. ومن المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدى أي لا تباعه تعالى على أتباعهم. والمشركون يحكمون بالعكس.
ولذلك لامهم ووبخهم بقوله: " فما لكم كيف تحكمون " (76).
____________
(74) سورة طه، الآية: 50.
(75) سورة الأعلى، الآيتان: 2 - 3.
(76) الميزان 57 / 10.
4 - هدم الانحراف السلفي:
لقد وضع معسكر الانحراف قاعدة اتباع الآباء " قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " (77) وعلى هذه القاعدة شقوا طريقهم وقالوا: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون " (78) وعندما جاءتهم رسل الله قالوا: " تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا " (79) وباختصار كان طريق السلف الضال من أخطر الطرق على الفطرة. فتحت راياته تهود الفطرة أو تنصرها أو يتم توثينها بصورة من الصور. ومعسكر الانحراف استغل هذه القاعدة حتى في ارتكابه للفواحش يقول تعالى: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون " (80) وعلى أرضية آباء الضلال أقام معسكر الانحراف خيامه وقام فقهاء كل خيمة بالالتفاف حول عجل من العجول لا يعرفون لهم طريقا إلا به. إذا قلت قال الله. قالوا وماذا عن العجل وإذا قلت هذا سبيل رسول الله قالوا: وأين موضع العجل في هذا السبيل؟
____________
(77) سورة لقمان، الآية: 21.
(78) سورة الزخرف، الآية: 22.
(79) سورة إبراهيم، الآية: 10.
(80) سورة الأعراف، الآية: 28.
لقد أخبرهم القرآن في أكثر من موضع بأنهم كانوا وآباؤهم في ضلال مبين.
وأخبرهم أن آباء هم وأبناءهم لا يدرون أيهم أقرب لهم نفعا (81). وأن الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة والبنوة والأخوة وسائر أقسام القرابة - فبين الإيمان وموادة أهل المحاداة تضاد لا يجتمعان لذلك (82).
ولكن الحلف السلفي ظل متمسكا بمنطق آبائه الذي لا يخدم إلا مخططات الشيطان من أجل هدم الإنسان. وكما أن تمسكهم بأعلام الآباء يخدم الشيطان. إلا أنه في الوقت ذاته يحقق لهم السير في الحياة وفقا لأهوائهم التي تستقيم مع معطيات كل عصر. فهم يعربدون لتغذية أهواءهم الحاضرة تحت مظلة سنة الآباء الماضية. وفي صدر الرسالة المحمدية حاول الإنحراف السلفي أن يحاصر الرسالة بأدوات حاضرهم لحساب ماضيهم. فبدأوا بالتشكيك في الرسالة تارة والدخول من باب القضاء والقدر تارة أخرى.
ويخبر الله تعالى بأن فصائل الإنحراف قد قالوا: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبد من دونه من شئ نحن. لا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ) ثم صرف الله الخطاب عنهم لسقوط فهمهم وقال لنبيه: (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين * ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (83) قال المفسرون: فكأنهم يقولون: لو كانت الرسالة حقة. وكان كما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام والأوثان والنهي عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها. نواهي لله سبحانه. كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره. وأن لا نحرم من دونه شيئا.
ولو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا. لم نعبد ولم نحرم. لاستحالة
____________
(81) سورة النساء، الآية: 11.
(82) سورة المجادلة، الآية: 22.
(83) سورة النحل، الآيتان: 35 - 36.
هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم. أن عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه. وبالجملة عامة أعمالهم. لم تتعلق بها مشيئة من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة. وقوله تعالى: (كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. يأمره أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا. ولا يعتني بما لفقوه من الحجة فإنها داحضة والحجة التامة عليهم بالبلاغ. فقوله: (كذلك فعل الذين من قبلهم) أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء. سلك الذين من قبلهم. فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرم الله. ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا: (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا..) وقوله: (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم. فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين. وليس من وظيفتهم أن يلجئوا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه. ولا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن المراد. ولا أمره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الإيمان. ويضطروا العاصي على الطاعة.
فإنما الرسول بشر مثلهم. الرسالة التي بعث بها إنذار وتبشير. وهي مجموعة قوانين اجتماعية. أوحاها إليه الله. فيها صلاح الناس في دنيا هم وآخرتهم. صورتها صورة الأوامر والنواهي المولوية. وحقيقتها الإنذار والتبشير قال تعالى: " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك " (84) فهذا ما أمر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغهم. وقد أمر به نوحا ومن بعده من الرسل عليهم السلام أن يبلغوه أممهم (85) ولقد بعث الله تعالى في كل أمة رس. ل. وما كانت حقيقة بعث الرسول إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت ومن الدليل على ذلك آثار الأمم الماضية الظالمة التي
____________
(84) سورة الأنعام، الآية: 50.
(85) الميزان: 241 / 12.
إن أصحاب العقول الفارغة يستمعون إلى نداء النبي وهو يبلغ عن ربه ومطالبته لهم بأن يجتنبوا عبادة العجول مع أشكالها فيقولون لو كان النهي صحيحا ما شاء الله أن نعبد غيرها. فإن قلت لقد شاء الله وأرسل لكم رسولا ليزيل من عقولكم بصمات سلفكم الضال ومعه المعجزة التي تثبت رسالته إليكم. هرولوا إلى مظلات السلف وقالوا كما قال الذين من قبلهم إن هذا إلا خلق الأولين وما سمعنا بهذا من قبل يكفينا ما دونه فقهاء الآباء وإنا على آثارهم مقتدون. هكذا لا يسمع الصم الدعاء. وإذا كان هذا الفريق قد حاول الالتفات حول الرسالة. فإن الفريق الأقذر منه هو الذي حاول الدخول من باب القضاء والقدر يقول تعالى: " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ وكذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون * قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " (87) إنه فريق فقهاء الجدل الذي ينام في حاضره تحت مظلة سلفه الضال. ولكي يخدم سنة آبائه القومية. يفتح لأهوائه العنان، قال ببساطة:
هب أننا مشركون. ألم يشأ الله لنا ذلك لماذا نلام على الشرك. قال المفسرون:
وهي حجة داحضة باطلة. فالذين من قبلهم قالوا بهذا ولو كان قولهم صحيحا ما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم. (قل هل عند كم من علم) أي بأن ما تفعلوه هو بأمر الله (فتخرجوه لنا) أي فتظهره لنا (إن أنتم إلا تخرصون) والخيال. والمراد بالظن هنا. الإعتقاد الفاسد. (وإن أنتم إلا تخرصون) تكذبون على الله فيما ادعيتموه (88) وقال صاحب الميزان: الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة. ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها. وإنما يركنون فيها إلى الظن
____________
(86) الميزان: 245 / 12.
(87) سورة الأنعام، الآيتان: 148 - 149.
(88) ابن كثير: 186 /.
بإمضاء من الله سبحانه. لا بأس في ذلك.
فحجتهم: أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك والتحريم.
لكنا مضطرين على ترك الشرك والتحريم. فإذا لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك والتحريم فلا بأس بهذا الشرك والتحريم. كانت هذه حجتهم. وهذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة. إنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك. لم يوقعهم موقع الاضطرار والإجبار وفهم مختارون في الشرك والكف عنه. والتحريم وتركه. فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به ورفض الافتراض. فلله الحجة البالغة ولا حجة لهم في ذلك. إلا اتباع الظن والتخمين.
وقوله تعالى: (قل فلله الحجة البلغة فلو شاء لهداكم أجمعين) كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم: (لو شاء الله ما أشر كنا) إلخ والفاء الثانية للتعليل. فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها. والمعنى: أن نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم واتباعكم الظن وخرصكم في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك. وترك الافتراء عليه. وأن الحجة إنما هي لله عليكم. فإنه لو شاء لهداكم أجمعين. أجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم. وإذا لم يجبركم على ذلك. وأبقاكم على الاختيار. فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك والتحريم. وبعبارة أخرى: يتفرغ على حجتكم. أن الحجة عليكم. لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان. فهداكم أجمعين. ولم يفعل بل جعلكم مختارين. يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه (89).
وهكذا أخرج فقهاء الإنحراف كل ما في جعبتهم لمواجهة الدعوة الإسلامية في مكة. أرادوا أن يحاصروا الدعوة فزجوا باسم الله في عمليات الصد عن سبيل الله. ولكن حجج الله كانت لهم بالمرصاد. وقلد دخل من باب القضاء والقدر العديد من حملة المعاول التي تهدم الفطرة. وكم مارس فقهاء الانحراف من عمليات التمييع التي نسجت في النهاية شباك التغييب حول الفطرة الأمر الذي أدى
____________
(89) الميزان: 317 / 7.
ولكن الإسلام جاء بما تستقيم عليه الفطرة لتغمر الحجة جميع العقلاء والأغبياء وقد قال تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " (90) ويقول: " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة " (91) يقول صاحب الميزان (92): إن التشريع ليس مبنيا على أساس الجبر في الأفعال. فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم أولا. وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا. والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير وشر اختيارا. كما أن ما ينسبه القرآن إلى الله تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوب إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألوان النقص والقبح والمنكر. فإن جميع هذه المعاني راجعة في النهاية إلى الاضلال وشعبه وأنواعه. ليس كل إضلال حتى إضلال البدوي وعلى سبيل الإغفال المنسوب إليه ولا لائق بجنابه تعالى. بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال
____________
(90) سورة النساء، الآية: 165.
(91) سورة الأنفال، الآية: 42.
(92) الميزان: 95 / 1.
" فلما زاغوا أراغ الله قلوبهم " (94) وقال: " كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب " (95).
إن معسكر الانحراف دخل من الباب الذي ترفضه الفطرة متاجرين بخلق أفعال العباد كي يحافظوا على شذوذ القديم ويعبرون به إلى المستقبل كي يزدحم طريق الطمس. وقيما سئل أبو الحسن عليه السلام عن أفعال العباد، أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها. وقد قال سبحانه: " إن الله برئ من المشركين " ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم. وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم (96) وقيل لأبي عبد الله هل فوض الله الأمر إلى العباد؟ قال: الله أكرم من أن يفوض إليهم. قيل: أأجبر الله العباد على أفعالهم؟ قال: الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه (97) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله. ومن زعم أن أخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه " (98) وروي عن الرضا (ع) أنه قال: " إن الله عز وجل لم يطع بإكراه. ولم يعص بغلبة. ولم يهمل العباد في ملكه. هو المالك لما ملكهم. والقادر على ما أقدرهم عليه.
فإن أمر العباد بطاعته. لم يكن الله منها صادا. ولا منها مانعا. وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل. وإن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال عليه السلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه " (99).
وكما تاجر فقهاء الانحراف بقضية الإجبار تاجروا أيضا بلافتة الحسنة والسيئة. وحاولوا وضع رداء التمييع عليها كي تواصل القافلة مسيرها في ظلمة
____________
(93) سورة البقرة، الآية: 26.
(94) سورة الصف، الآية: 5.
(95) سورة غافر، الآية: 34.
(96) الميزان: 101 / 1.
(97) الميزان: 103 / 1.
(98) الميزان: 103 / 1.
(99) الميزان: 99 / 1.
والسيئات هي الأمور التي تسوء الإنسان كالمرض والذلة والمسكنة والفتنة. وكل ذلك يعود إلى الإنسان إليه سبحانه. يقول تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم " (100) لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات بنظر كلي آخر إليه تعالى. كما قال سبحانه: " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " (101) وقال في الميزان: وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم نسي الحقيقة الباهرة التي أبانها بقوله: " الله خالق كل شئ (102) وقوله: " الذي أحسن كل شئ خلقه " (103) فعد سبحانه كل شئ مخلوقا حسنا في نفسه. وقد قال جل شأنه: (وما كان ربك نسيا) (104) وقال: " لا يضل ربي ولا نسي " (105) فمعنى قوله (ما أصابك من حسنة) (الآية) أن ما أصابك من حسنة - وكل ما أصابك حسنة - فمن الله. وما أصابك من سيئة فهي سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيار ها السيئ. واستدعتها كذلك من
____________
(100) سورة الأنفال، الآية: 53.
(101) سورة النساء، الآيتان: 78 - 79.
(102) سورة الزمر، الآية: 62.
(103) سورة السجدة، الآية: 7.
(104) سورة مريم، الآية: 64.
(105) سورة طه، الآية: 52.
فإن للمجتمع الإنساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك، فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده. ويؤاخذ متأخر وهم بسيئات المتقدمين. وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا. فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه. وأصيب المسلمون بما أصيبوا. هو صلى الله عليه وآله وسلم نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله ورسوله. كان ذلك مصيبة سيئة صابته بما كسبت أيدي مجتمعه وهو فيهم كموسى عليه السلام فقد أصاب بني إسرائيل عذاب التيه في الصحراء بما كسبت أيديهم كان موسى عليه السلام فيهم - وإن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله. وفي طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة. فإنما هي نعمة رافعة الدرجات. وكذا كل ما ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا يرى إلا الحق. وأن ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه...
والله تعالى يذكر في آياته، أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية. ولا يهتدي إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " (106) وقال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكي منكم من أحد أبدا " (107) ويتبين بهاتين الآيتين وما تقدم من معنى آخر.
لكون الحسنات لله عز اسمه. وهو أن الإنسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه. فالحسنات كلها لله والسيئات للإنسان. وبه يظهر معنى قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له. والخلق والحسن لا ينفكان. وله
____________
(106) سورة طه، الآية: 50.
(107) سورة النور، الآية: 21.
ثانيا: هدم الأهواء الشيطانية:
بعد أن طرح فقهاء الشيطان فكر اللافكر وعلم اللاعلم من داخل باب القضاء والقدر والحسنة والسيئة. حاصروا الفطرة بعلوم الأهواء التي تتميز بأنها لا غاية لها ولا هدف إلا الصب في نهاية المطاف داخل الوعاء الشيطاني. والإسلام في مكة بعد أن قام بتصحيح النظر في الكون ودل الإنسان على الطريق المستقيم مبينا له أنه ليس حصاة ملقاة على قارعة الطريق تحركها الأقدام والرياح حيث تريد. خاطب رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان في أعماقه. كي يأخذ الإنسان بأسباب النجاة ويحطم الأصنام الراسخة في نفسه. لقد أخبرهم بأن اتباع الأهواء فيه تحقير منهم للكون وإذا كان الأقدمون قد حقروا وانتقصوا من الإنسان. فإن أبناءهم قاموا بتوسيع رقعة التحقير لتشمل الكون كله وذلك لأن اتباعهم للهوى يقتضي بأن يأتيهم الله بتشريع يلائم الأهواء وفي هذا مفسدة للتدبير السائد في الكون قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل آتيناهم بذكر هم فهم عن ذكر هم معرضون " (109) قال المفسرون: إن الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام. وله في نوعيته غاية هي سعادته. وقد خط له طريق إلى سعادته وكماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نطير غيره من الأنواع الموجودة.
وقد جهزه الكون العام وخلقته الخاصة به من القوي والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها. وهي الإعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.
____________
(108) الميزان: 15 / 5.
(109) سورة المؤمنون، الآية: 71.
ولكن طابور الأهواء في معسكر الانحراف وقف على حطام حججه التي حطمها الإسلام له. أمسك بذيول آبائه ليكمل مسيرة الانحراف حتى نهايتها. وبعد قيام الحجة عليه أوصى تعالى إلى رسوله: " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين " (112) قال المفسرون: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ما يوحي إليه من الدين وأن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الحق. ويظهر من الآية. أن كل حكم عملي لم يستند
____________
(110) سورة الروم، الآية: 3.
(111) الميزان: 47 / 15.
(112) سورة الجاثية، الآيتان: 18 - 19.
إن الله ولي الذين يتبعون دينه لأنهم متقون والله وليهم. والذين يتبعون أهواء الجهلة. ليس هو تعالى وليا لهم. بل بعضهم أولياء بعض لأنهم ظالمون.
حتى يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا. وتسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق (113) لما يستفاد من قوله تعالى: (أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وبالآخرة هم كافرون (114).
فأهل الأهواء بجميع أنواعها وألوانها يربطهم جميعا رباط واحد. ويسرون في اتجاه واحد يحدده طريق الطمس الذي يسير القردة عليه أدلة لمن خلفهم.
وهم ما سلكوا هذا الطريق إلا بعد أن رفضوا الطريق الحق. قال تعالى لرسوله:
" أرأيت من تخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثر هم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا " (115) قال المفسرون: المراد باتخاذ الهوى إلها: طاعته واتباعه من دون الله. وقد أكثر الله سبحانه في كتابه ذم اتباع الهوى. وعد طاعة الشئ عبادة له في قوله: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدون " (116) وقوله: (أفأنت تكون عليه وكيلا) أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد. فليس في مقدرتك ذلك. وقد أضله
____________
(113) الميزان: 167 / 18.
(114) سورة الأعراف، الآيتان: 44 - 45.
(115) سورة الفرقان، الآيتان: 43 - 44.
(116) سورة يس، الآيتان: 60 - 61.
ثم يقول الله تعالى لرسوله: بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد لسماع الحق ليتبعه. أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجوا اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم (إن هم إلا كالأنعام) أي أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون. أي أنهم ليسوا إلا كالأنعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى (بل أضل سبيلا) أي من الأنعام. وذلك أن الأنعام لا تقتحم على ما يضر ها. وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم. وأيضا الأنعام إن ضلت عن سبيل الحق. فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه. وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا (120).
إن طابور الأهواء لم يبنوا شركهم على التعقل. بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم. لقد ظلموا أنفسهم أولا فأدى بهم هذا الظلم إلى ركوب طريق الضلال. يقول تعالى: " بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله " (121) قال المفسرون: كان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا. ولكنه قال: (بل اتبع الذين ظلموا) فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال بعد ذلك في قوله: (فمن يهدي من أضل الله) فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي. قال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين * ويفعل الله ما يشاء) * (122).
إن الرسالة الخاتمة كانت رحمة من الله للعالمين. لقد قامت بتعرية طريق السلف الذي التقط المنهج الشيطاني. في أول الطريق. وقام بتعرية حججهم
____________
(117) سورة القصص، الآية: 56.
(118) سورة فاطر، الآية: 22.
(119) سورة الجاثية، الآية: 23.
(120) الميزان: 224 / 15.
(121) سورة الروم، الآية: 29.
(122) الميزان: 177 / 16.
____________
(123) سورة الكهف، الآية: 29.
(124) الميزان: 304 / 13.
(125) سورة الزمر، الآية الآية: 7.
(126) الميزان: 239 / 17.
وإذا كنا هنا لم نقدم سوى بعض من الآيات المكية فقط. فإننا نقول لمعسكر الانحراف. هل في حجج الإسلام سلب ونهب وإكراه؟ هل وجدتم جمود؟ هل علم معسكر الانحراف نظام أعطى خصومه الحرية الكاملة الإبداء آرائهم وصححها بما يخدم إنسانيتهم أكثر من الإسلام؟ إن الإسلام جاء ليتكلم هو لن يتكلم إلا إذا تكلم الطرف الآخر. وبعد أن يقول الإسلام كلمته يذر الظالمين يخوضوا ويلعبوا حتى يأتيهم اليوم الذي يوعدون. فهل في هذا إكراه وإجبار؟ فإذا كانت الإجابة بلا.. فلماذا قلتم وتقولون وستقولون عن الإسلام بأنه دين للجمود والدماء؟ إن القول الذي تقولون به من ثقافة طريق الطمس والإسلام أسمي من أن ينظر في ثقافة قردية الطمس فهؤلاء لهم يوم حدده الله. وفيه يكون عذاب الاستئصال. ونحن وإياكم في انتظاره. إن الزيت السلفي بدأ في الجفاف على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والذين تاجروا بالأديان أصبحت تجارتهم راكدة. إن الجفاف الأكبر قادم. معه ستقطع حبال الأهواء التي يتدلى فيها أبناء الانحراف. وسيسقطون بينما تكون قوافل الهدى التي على الصراط المستقيم ترتل كتاب ربها بآياته التي قرأها رسولهم أول مرة. والله ولي المتقين.
5 - لبنات المجتمع الصالح:
لقد أيقظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الفكر عند من أراد العودة إلى
الله. وجعل قلوبهم عامرة بذكر الله ولم الدعوة مقتصرة على ضرب الانحراف