والأساس الذي أقامه الإسلام لبناء هذا المجتمع يقوم على التوحيد. ولبنات هذا الصرح العظيم تتكون من الأخلاق الفاضلة. وذلك لأن المعارف الحقيقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما يصلح أخلاقه. فالشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم تنطلق بالأخلاق وبوقود التوحيد بصائر للناس يميزون بها أي الطرق يسلكونها لتؤدي بهم إلى الحياة الكريمة في الدنيا والآخرة. وفي مكة وفي الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي على معسكرات الانحراف بخلع ثياب الأهواء وإلقاء أعلام سلف الضلال. كان عليه الصلاة والسلام يتلو آيات البناء ومن هذه الآيات قوله تعالى:
" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظم لعلكم تذكرون * وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون " إلى قوله تعالى: " ولا تتخذوا إيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم " (127) قال المفسرون: قوله تعالى:
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب. أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني. لما أن صلاح المجتمع العام. أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه.
ولأن سعادة الفرد مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه. وما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد. أحاط به الشقاء من كل جانب. أهتم الإسلام في إصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره. وبذل الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما أمكن فيها ذلك. كل ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته.
فقوله: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) العدل هو المساواة في المكافأة. إن خيرا فخير. وإن شرا فشر. والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه (
____________
(127) سورة النحل، الآيتان: 90 - 91.
وهو أن يعامل كل أفراد المجتمع بما يستحقه. ويوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه. وهذا أمر من الله بخصلة اجتماعية متوجه إلى الأفراد المكلفين.
بمعنى أن الله سبحانه يأمر كل واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل. ولازم ذلك. أن يتعلق الأمر بالمجموع أيضا. فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة بما أنها تتولى أمر المجتمع وتدبره. والإحسان من حيث السياق كسابق. فالمراد به الإحسان إلى الغير. والإحسان على ما فيه من صلاح حال من أذلته الفاقة وما فيه من نشر الرحمة وإيجاد المحبة. يعود محمود أثره إلى نفس المحسن. بدوران الثروة في المجتمع وجلب الأمن. وقوله: (وإيتاء ذي القربى) أي إعطاء المال لذوي القرابة. وهو من أفراد الإحسان. خص بالذكر. ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير. الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير. ومن المعلوم أن المجتمعات المدينة الكبيرة، إنما ابتدأت من مجتمع بيتي. عقده الزواج ثم بسطة التوالد والتناسل.
ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة. ولم يزل يتزايد ويتكاثر. حتى عادت أمة عظيمة (128).
وقوله: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) الفحشاء ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال. والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أو إثمها. كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلامية. والبغي المراد به في الآية التعدي على الغير ظلما. وهذه الثلاثة: الفحشاء. المنكر. البغي. إذا أصابت مجتمع من المجتمعات ظهر الفعل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله.
فينقطع بعضها من بعض. ويبطل الالتئام بينها. وتفسد بذلك النظم. ويخل المجتمع في الحقيقة. وإن كان على ساقه. وفي ذلك هلاك سعادة الأفراد.
فالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. أمر بحسب المعنى. باتحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه. وتتلاءم أعماله. لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا، ولا يشاهد بعضهم من بعض إلا الجميل الذي يعرفونه، لا فحشاء ولا منكرا، وعند
____________
(128) الميزان: 330 / 12.
ثم أمر سبحانه بالوفاء بالعهد وعدم نقص اليمين بعد أن جعلوا الله عليهم كفيلا. لأن نقص اليمين إهانة وإرزاء بساحة العزة والكرامة. مضافا إلى ما في نقص اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال.
ثم أمر سبحانه أن لا يتخذوا أيمانهم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة. يطيبون بها نفوس الناس ثم يخونون ويخدعونهم بنقضها. لأن من يفعل ذلك تزل قدمه بعد الثبوت. ويذوق العذاب بما صد عن سبيل الله بإعراضه وامتناعه عن السنة الفطرية التي فطر الله الناس عليها. ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق والاستقامة ورعاية العهود والمواثيق والإيمان والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب والزور والغرور فمعنى الآية: ولا تتخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه ونقض ما أبرمتموه، وفيه إعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة وبالجملة الافساد في الأرض بعد إصلاحها ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في حياتكم ولكم عذاب عظيم في الآخرة (130) فمن هنا يبدأ المجتمع الصالح ولقد جهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله التي تدعو لإقامة المجتمع. الصالح ولكن أبناء الانحراف كانوا يريدون كونا آخر يسير وفقا لأهوائهم. وراحوا يحللون ويحرمون وفقا لمقاييس فقهاء الجمود والصد. وعلى طريق الطمس رفعوا أصواتهم بأن الإسلام دين جمود لأنه لا يساير جماهيرهم وما جماهيرهم إلا جماهير الغدر والكذب والخيانة والفساد في الأرض. لقد حرم آباؤهم من قبل ما لم يحرمه الله فتلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ردا عليهم وفي نفس الوقت كان رده لبنة من لبنات المجتمع الصالح قال له
____________
(129) الميزان: 333 / 12.
(130) الميزان: 338 / 12.
وهذه المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإنساني. وهي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات. وتترقى وتنزل على حسب تقدم المدنية والحضارة. ولو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات. انهدم الاجتماع. وتلاشت أجزاءه من حينه، لأن معنى بطلانها، ارتفاع الحسن والقبيح، والحب والبغض، والإرداة والكراهة، ولا مصداق للاجتماع الإنساني عندئذ. وقوله: (والطيبات من الرزق) الطيب هو الملائم للطبع. وهي الأنواع المختلفة مما يرتزق به الإنسان بالتغذي منه. أو مطلق ما يستمد به في حياته وبقائه. كأنواع الطعام والشراب والمنكح والمسكن ونحوها. وقد جهز الله سبحانه الإنسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق. ويستدعي تناولها بأنواع من
____________
(131) سورة الأعراف، الآيتان: 32 - 33.
وبناء حياة الإنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان. فلا يسعد الإنسان في حياته من الرزق. إلا بما يلائم طباع قواه وأدواته التي جهز بها.
ويساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به. وما جهز بشئ ولا ركب من جزء، إلا لحاجة له إليه، فلو تعدى في شئ مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا.
اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم. فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم. ولا يزال يستعمل ويفرط حتى يعتاد بها. فلا تؤثر فيه. فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة. وأهمها الفكر السالم الحر، والتعدي عن طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شئ آخر. لا هو مخلوق لهذا العالم ولا هذا العالم مخلوق له.
وأي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون. ويسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة. وينال غاية غير غايته. وهو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة والشره. ويصور له الخيال بآخر ما يقدر وأقصى ما يمكن.
والله تعالى يذكر في هذه الآية. أن هناك زينة أخرجها لعباده وأظهرها وبينها لهم من طريق الالهام الفطري ولا تلهم الفطرة إلا بشئ قامت حاجة الإنسان إليه. ولا دليل على إباحة عمل من الأعمال وسلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه. بحسب الوجود والطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه. وهو الرابط بين الإنسان المحتاج وبين ما يحتاج إليه. بما أودع في نفسه من القوى والأدوات الباعثة له إليه. بحسب الخلقة والتكوين. والفطرة تقضي بالوسط العدل في الزينة وطيبات الرزق. لأن التعدي إلى أحد جانبي الافراط والتفريط.
فيه تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط. فما ظهر فساد في البر والبحر إلا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة أو الرزق (132). إن الاسراف فساد وقال تعالى في صدر الآية التي نحن بصددها: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا
____________
(132) الميزان: 80، 81 / 8.
أما قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) قال المفسرون: بعد أن بين الزينة والرزق الطيب. بين ما حرم الله. والفواحش هي المعاصي البالغة قبحا وشناعة. كالزنا واللواط ونحوهما. والإثم هو الذنب الذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه وماله وعرضه ونفسه ونحو ذلك. والبغي هو طلب الإنسان ما ليس له بحق. كأنواع الظلم والتعدي على الناس والاستيلاء غير المشروع عليهم. ولما كان صدر الآية إباحة الزينة وطيبات الرزق ويمكن أن يكون في هذا داعيا في نفس السامع. إلى أن يحصل على ما حرمه الله. ألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك. ولا يشذ عما ذكره شئ من المحرمات الدينية. وفي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الأفعال وهي الثلاثة الأول. وما يرجع إلى الأقوال والاعتقادات وهو الأخيران. والقسم الأول منه: ما يرجع إلى الناس وهو البغي بغير الحق. ومنه غيره وهو أما ذو قبح وشناعة فالفاحشة وأما غيره فالإثم. والقسم الثاني: إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه (133).
ما أعظم الرسالة الخاتمة. بثلاث آيات من سورة النحل وآيتين من سورة الأعراف وضعت قوائم المجتمع الصالح فما بالك بباقي آيات القرآن الكريم. وما ذكرناه من الآيات مكي فما بالك بالآيات التي أقامت دولة في المدينة. ومنها قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما
____________
(133) الميزان: 86 / 8.
قال في الميزان: ومن شواهد أنها شرائع عامة، أنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام... على أن المتأمل فيها يعطى أن الدين الإلهي لا يتم أمره ولا يستقيم حاله بدون شئ منها. وإن بلغ من الاجمال والبساطة ما بلغ. وبلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ (135).
فماذا كان موقف طابور الانحراف والصد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة؟ ماذا فعلوا عندما كان يزيح أصنام التوثين من دائرة الفكر والوجدان كي يتدبروا في خلق السماوات والأرض بحرية الإنسان. وماذا فعلوا وهو يدلهم على الطريق الحق الذي لم يبصره سلفهم الغير صالح؟ هذا السلف الذي عكف على الفقه الشيطاني ليضع تعاريف لا تنتج إلا الإنسان المشوه روحيا. إن طابور الانحراف واجه الرسالة الخاتمة بكل قواه للصد عن سبيل الله.
6 - الصد عن سبيل الله:
أولا: طرح قضية البشر الرسول:
لقد شكك الذين رفضوا الهدى في الرسول وفي القرآن وأثاروا قضية آبائهم التي ترفض البشر الرسول. يقول تعالى: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) ثم يطيب الله تعالى خاطر رسوله بعد الذي قالوه فيقول سبحانه: (أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) (136) قال المفسرون:
____________
(134) سورة الأنعام، الآيات: 151 - 153.
(135) الميزان: 373 / 7.
(136) سورة الفرقان، الآيات: 7 - 10.
فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا. ليتصل الانذار وتبليغ الرسالة بالغيب وسط الملك و (أو يلقى إليه كنز) أي إن لم ينزل إليه ملك. واستقل بالرسالة وهو بشر. فليلق إليه من السماء كنز. حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية. و يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به. ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة (أو تكون له جنة يأكل منها) وإن لم يلق إليه كنز. فليكن له جنة يأكل منها. ولا يحتاج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.
(وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) المراد بالظالمين هم المقترحون السابقوا الذكر - كما قيل - وقولهم: (إن تتبعون) خطاب منهم للمؤمنين. تعبيرا لهم وإغواء عن طريق الحق. ومرادهم بالرجل المسحور النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يريدون أنه مسحور. سحره بعض السحرة. فصار يخيل إليه أنه رسول. يأتيه ملك بالرسالة والكتاب. وقوله تعالى: (أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) محصلة: أنظر كيف وصفوك.
فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق. كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة. لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة! ولا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش. وكقولهم: إنه رجل مسحور (فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق. ولا يرجى لهم معه ركوبها ثانيا. وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا. ومن سمى كتاب الله بالأساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل
(تبارك الذي إن شاء جل لك..) وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا.
ولا يصلحون لأن يخاطبوا. لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه. النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه. ولم يدع أن له قدرة غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه. أعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه. وإنما ذكر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا. قادر على أعظم مما يقترحونه. فإن شاء جعل له خيرا من تلك جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل له قصورا، لا يبلغ وصفها واصف، وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه.
وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة. وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الانذار ويعينه على التبليغ. فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه. وقد أجاب تعالى في مواضع بأجوبة مختلفة (137) منها: (وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) (138) إن الله لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم. فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري. وهم لابسون على أنفسهم معه يتشككون. فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري. الذي هو في صورة رجل. ليبدلوا بذلك شكهم يقينا. وإذا صار الملك على هذا النعت - ولا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئا.
____________
(137) الميزان: 186 / 15.
(138) سورة الأنعام، الآيتان: 8 - 9.
فإنزال الملك رسولا. لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على
____________
(139) سورة الإنسان، الآية: 3.
(140) سورة النجم، الآيات: 39 - 41.
(141) سورة الشورى، الآية: 20.
(142) سورة الشعراء، الآيتان: 3 - 4.
(143) سورة الصف، الآية: 5.
(أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) (145) قال المفسرون: مرادهم أن الرسالة منزلة شريفة إلهية لا ينبغي أن يتلبس به إلا رجل شريف في نفسه عظيم في قومه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في نظرهم فاقد لهذه الخصلة. فلو كان القرآن الذي جاء به وحيا نازلا من الله، فلو نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة. فرد الله تعالى قولهم. ومحصله: أن قولهم هذا تحكم ظاهر ينبغي أن يتعجب منه.
فإنهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون ويرتزقون وهي رحمة منا. لا قدر لها ولا منزلة عندنا. وليس إلا متاعا زائلا. نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيئتهم. فكيف يقسمون النبوة التي هي
____________
(144) سورة إبراهيم، الآيتان: 9 - 10.
(145) سورة الزخرف، الآيتان، 31 - 32.
وإذ كانت حياته حياة شعورية. فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين والسنن. ولا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره وشره. فإن العقل يعينه ويهديه إلى الاختلاف. فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف والقوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته وكماله. وهو شعور الوحي. الإنسان المتلبس به هو النبي (146) لم يفهم حملة أعلام السلف أن الذي يصلح لتلقي الوحي من الله هو الرسول، وأما غيره فهم محرومون من ذلك لعدم استعدادهم لذلك.
ثانيا: دفاعهم عن تيار السلف:
خرج معسكر الانحراف من أجل الدفاع عن حجارته وأهوائه ومنهج شيطانه يقول تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا ساحر مبين) ثم يطيب الله خاطر رسوله فيقول: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير * وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير * قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد * قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شئ شهيد) (147) قال المفسرون: خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم، وتحريض لهم عليه
____________
(146) الميزان: 206 / 15.
(147) سورة سبأ، الآيات: 43 - 47
وتنتصبوا لوجه الله. متفرقين حتى يصفوا فكركم ويستقيم رأيكم اثنين اثنين.
وواحدا واحدا. وتتفكروا في أمري. فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي. وصدق وأمانة. ليس في جنة. ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد يوم القيامة. فأنا ناصح لكم غير خائن (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم...) كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة. فإنه إذا وهبهم كل ما سألهم من أجر.
فليس له عليهم أجر مسؤول. ولازمه أن لا يسألهم. وهذا تطييب لنفوسهم. أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه. ثم تمم القول بقوله: (إن أجري إلا على الله وهو على كل شئ شهيد) لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية. فدفعه. بأن لعملي أجر. لكنه على الله لا عليكم وهو يشهد عملي وهو على كل شئ شهيد (148).
لقد أرادوا تهييج العامة والغوغاء، فأمرهم الإسلام بالتفرق وتجنب التجمع والغوغاء. فإن الغوغاء لا شعور لها ولا فكر. وكثير ما تميت الحق وتحيي
____________
(148) الميزان: 389 / 16.
لقد أمسكوا بذيول السلف بكل قوة ورددوا مقولاتهم التي أرادوا بها التعجيز. (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) قال المفسرون: أمره الله تعالى أن يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم مكابرتهم فيما لا
____________
(149) سورة الإسراء، الآيات: 90 - 96.
(150) سورة سبأ، الآية: 9. والآية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا.
(151) الميزان: 202 / 13.
المجيب لما سألوه. فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا.
بل قالوا: (لن نؤمن لك حتى تفجر) (أو تكون لك...) (أو تأتي بالله) إن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر. فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية.
المحيطة حتى بالمحال الذاتي. وإن أدوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة.
فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد. ويوجد كل ما شاؤوا.
وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعي لنفسه ذلك. فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح. ولذلك أمره تعالى أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا. من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب. فالمقام صالح لذلك. وثانيا. إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام (هل كنت إلا بشرا رسولا) وهو يؤيد كون قوله: (سبحان ربي) واقعا موقع التعجب. أي: إن كنتم اقترحتم على هذه المور وطلبتموها مني بما أنا محمد. فإنما أنا بشر ولا قدرة للبشر على شئ من هذه الأمور. وإن كنتم اقترحتموها لأني رسول ادعي الرسالة. فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.
قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله " بشرا " و " رسولا " دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم. أما قوله: " بشرا " فليرد به اقتراحهم عيه أن يأتي بهذه لآيات عن قدرته في نفسه. وأما قوله: " بشرا " فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه مكتسبة من ربه (152).
____________
(152) الميزان: 205 / 13.
ثالثا: وجاءتهم كلمة العذاب:
بعد أن بين لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة الأمر وأنه لا يملك إلا ما يأذن فيه ربه أمره ربه جل وعلا أن يبلغهم أن الأمر بينه وبينهم إلى ربه يحكم فيه بما يشاء (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) قال المفسرون: لما احتج عليهم بما احتج. وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به.
ويقترحون عليه بأمور جزافية أخرى. ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل.
أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله. فهو شهيد بما وقع منه ومنهم. فقد بلغ ما أرسل به ودعا واحتج وأعذر. وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا والآية في معنى إعلام قطع المحاجة. وترك المخاصمة ورد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض (153) (ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه) (154) قال المفسرون: إن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه. والله لا يهدي هؤلاء. فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا (155).
لقد دخل أبناء الانحراف داخل عباءة آبائهم. لم يتبعوا النور الذي يهدي إلى صراط الله. واتبعوا طابور العمي الذي لا يهدي إلى الظلام والضلال.
كان النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو عليهم آيات ربه فما يزيدهم إلا نفورا. تحداهم بالقرآن وطالبهم أن يأتوا بمثله ولن يأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لهم وأعضادا يمدونهم. لكنهم هربوا من أمام المعجزة وطالبوا بالأنهار والحدائق وغير ذلك هربوا من أمام المعجزة كما هرب آباؤهم من قبل. وعندما طالبوا بما طالب به الأوائل في طابور الانحراف تلى عليهم الرسول الأعظم قول ربه: (قل لا أقول لكن عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني
____________
(153) الميزان: 208 / 15.
(154) سورة السراء، الآية: 97.
(155) الميزان: 209 / 15.
وسارت قافلة الظلام تشق طريقها في غبار الضلال (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (158)! وبينما هم يقولون ذلك يقول تعالى لرسوله: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) (159) وقال: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون) (160) وقال: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا) (161) وقال: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) (162) لقد طيب الله تعالى خاطر رسوله وخاصة في السور المكية لشدة الأمر عليه وأخبره بأنه سبحانه نزل الذكر عليه وأنه تعالى يحفظه. فلا يضيق صدره بما يقولون فإن ما يقولوه دأب المجرمين من الأمم الإنسانية. وأن حال دعوته بالذكر المنزل عليه، تشبه حال الرسالة من قبله، فكلما أرسل الله من قبله رسولا، قابلوا الرسالة بالصد والاستهزاء. وهؤلاء المجرمين، لو فتح الله عليهم بابا من السماء، ويسر لهم الدخول في عالمها. فداموا فيه عروجا بعد عروج، حتى يتكرر لهم مشاهدة ما
____________
(156) سورة الأنعام، الآية: 50.
(157) الميزان: 97 / 7.
(158) سورة الحجر، الآية: 6.
(159) سورة القلم، الآية: 2.
(160) سورة الأنعام، الآية: 10.
(161) سورة الأنعام، الآيتان: 33 - 34.
(162) سورة الطور، الآية: 48.
____________
(163) سورة الحجر، الآيتان: 14 - 15.
(164) سورة يس، الآيات: 3 - 10.
(165) تفسير ابن كثير: 564 / 3.
(166) تفسير ابن كثير: 564 / 3.
لازمه الانكباب على الدنيا والإعراض عن الآخرة بالمرة ورسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى: (ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وإن الله لا يهدي القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون) (171) فيطبع الله على قلوبهم. ومن آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) (172) بما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: فهم لا يؤمنون) للتقريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم (173) وقوله تعالى: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) قال المفسرون: أي قد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الانذار ولا يتأثرون
____________
(167) سورة ص، الآيتان: 84 - 85.
(168) سورة الحجر، الآيتان: 42 - 43. (169) سورة الصافات، الآيات: 30 - 32.
(170) سورة الزمر، الآيتان: 71 - 72. (171) سورة النحل، الآيات: 106 - 108.
(172) سورة يونس، الآية: 96.
(173) الميزان: 64 / 17.
لقد طالبهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن ينظروا في الكون نظر المتدبر البصير كي يحطموا الأصنام بأنفسهم تلك الأصنام القابعة على طريق عقولهم ووجدانهم ولكنهم أبوا إلا طريق الآباء يقول تعالى: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (177) فأهل هذه الآية هم الذين تعاموا عن آيات الله في الكون وأمسكوا ذيول سلفهم على طريق الانحراف. والله تعالى كتب على نفسه أن يصرف عن آياته كل من يعرض عن سبيل الهدى قال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وأن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) (178) قال المفسرون: أي سأضع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق. وقال سفيان: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي. وقال ابن جرير: هذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة (179) وقال في الميزان: الآية تقييد التكبر في الأرض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق. كتقييد البغي في الأرض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز. ويراد به الدلالة على وجه الذم. وأن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق وقوله: (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) أي اعتنائهم الشديد ومراقبتهم الدقيقة على
____________
(174) ابن كثير: 565 / 3.
(175) الميزان: 72 / 17.
(176) سورة الأنفال، الآية: 42.
(177) سورة يوسف، الآيتان: 105 - 106.
(178) سورة الأعراف، الآية: 146.