لقد جلس معسكر الانحراف في المكان الذي اختاره لنفسه. المكان الذي يكون فيه أضل من البهيمة. وذلك بعد أن صادر سمعه وبصره وفؤاده وألقى بنفسه في أحضان الشيطان يقول تعالى: (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) (181) قال المفسرون: وليست ولايتهم وتصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة والغرور. فإذا افتتن واغتر بهم تصرفوا بما شاؤوا وكما أرادوا (182) لقد دعاهم الرسول الأعظم إلى الطهر والنقاء وسعادة الدارين. ولكنهم تعاملوا مع الدعوة كتجار فاعتبروها سلعة كل منهم يحسب مكسبه منها في حالة الاقتراب أو الابتعاد عنها. وفي جميع الحالات يتحرك التجار وفقا لسنة الآباء القومية.
وفاتهم أن العقيدة لا تصلح للتجارة ولا تخضع لأكياس النقود.
2 - استعجال العذاب:
على أرض مكة تعالت أصوات طوابير الانحراف وأخذوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانهالت سياطهم وعصيهم على ظهور الضعفاء من الذين آمنوا. وتقدم سادة خيام الانحراف ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بالعذاب إن كان من الصادقين. آخذين في ذلك بسنة آبائهم في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين. كانوا يستعجلون أي عذاب. سواء أكان عذاب في الدنيا أم عذاب الآخرة. يقول تعالى: (وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) (183) قال المفسرون: أي امطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما. وإنما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر. لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن وعذاب
____________
(180) الميزان: 247 / 8.
(181) سورة الأعراف، الآية: 27.
(182) الميزان: 71 / 8.
(183) سورة الأنفال، الآية: 32.
إئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. وقال تعالى في استعجالهم للعذاب (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسبه) (186) واستعجالهم للعذاب يدل على كمال جهلهم وفساد فهمهم. لأن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا. واستعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم. لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا. والمراد بالأجل المسمى في الآية هو الذي قضاه الله تعالى لبني آدم. حين أهبط آدم إلى الأرض فقال: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (187) وقال: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (188) وهذا العذاب الذي يحول بينه وبينهم الأجل المسمى. هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة. كما قال تعالى:
(وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا) (189). ولا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال وإنظار (190). قال تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) (191).
وأمام استعجالهم للعذاب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم بما أجاب به أنبياء الله أقوامهم حين طالبوهم بالعذاب قال تعالى: (قل إن أدري
____________
(184) الميزان: 67 / 9.
(185) سورة العنكبوت، الآيتان: 53 - 54.
(186) سورة هود، الآية: 8.
(187) سورة البقرة، الآية: 36.
(188) سورة الأعراف، الآية: 34.
(189) سورة الكهف، الآية: 58.
(190) الميزان: 141 / 16.
(191) سورة الإسراء، الآية: 59.
وهو القضاء بينهم في الدنيا. والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل...) الآية. وقول البعض إن السؤال عن عذاب يوم القيامة. أو أن السائلين بعض المشركين من الأمم السابقة لا يلتفت إليه (195).
فقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. في معنى قولنا: أي وقت يفي ربك بما وعدك. أو يأتي بما أوعدنا به إنه يقضي بيننا وبينك. فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك. فيصفوا لكم الجو. ويكون لكم الأرض وتخلصون من شرنا؟
فهل عجل لكم ذلك؟ وذلك إن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء. كما تدل على استعجالهم الآيات التالية في السورة. وهذا نظير قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) (196). لقن سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدأهم في الحواب ببيان. إنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها. ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله أن
____________
(192) سورة الجن، الآية 25.
(193) سورة النعام، الآيتان: 134 - 135.
(194) سورة يونس، الآيات: 48 - 53.
(195) الميزان: 72 / 10.
(196) سورة الحجر، الآية: 7.
وأما الثاني: أعني ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك. بالإشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة. وهي أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه. فهو آتيهم لا محالة. وإذا آتاهم لم يخبط في وقوعه موقعة ولا ساعة. وهو قوله تعالى: (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي وأنتم أمة من الأمم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم فإذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.
فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه. ظهر لهم أن لكل أمة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التي لكل واحد من أفرادها. ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها. ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغي والثواب والعقاب نصيبها. وهي مما اعتنى بها التدبير الإلهي. نظير الفرد من الإنسان.
ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ. ويفصح عنه الآثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية. وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح وعاد قوم هود. وثمود قوم صالح. وكلدة قوم إبراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم. فهؤلاء أمم منقرضة. سكنت أجراسهم.
وخمدت أنفاسهم. ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك. ولم يعذبوا إلا بعدما جاءتهم رسلهم بالبينات. ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذي جاءهم. فمنهم من آمن و منهم من كذب به وهم الأكثرون.
فهذا يدلهم على أن هذه الأمة. - وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضي الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الأمم وإن الله لبالمرصاد. وعلى الباحث المتدبر. أن يتنبه لأن الله سبحانه وإن بدأ في وعيده بالمشركين. غير أنه تعالى هدد في آياته المجرمين فتعلق الوعيد بهم.
ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم. فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم. أن أمتهم
وربما تعدى المتعدي فعطف عذاب الآخرة على عذاب الدنيا. فذكر أن الأمة مغفور لها محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاؤوا. فقد أسدل الله عليهم حجاب الأمن. ولا في الآخرة إلا المغفرة والجنة؟! ولا يبقى على هذا للملة والشريعة. إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. تعالى عما يقولون علوا كبيرا. فهذا كله من العراض عن ذكر الله وهجر كتابه. وقال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. أما قوله تعالى: (قل أرأيتم أن آتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) فإنهم لما استعجلوا آية العذاب قال تعالى ملقنا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل أرأيتم) وأخبروني (إن آتاكم عذابه بياتا) ليلا (أو نهارا) فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله (ماذا يستعجل منه) من العذاب (المجرمون) أي ماذا تستعجلون منه. وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا آتاكم. ثم وبخهم على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الإيمان فيه. وهو حين نزول العذاب فقال تعالى: (أثم إذا ما وقع) العذاب (آمنتم به) أي بالقرآن أو بالدين أو بالله. " الآية " أي أتؤمنون به في هذا (الآن) والوقت (وقد كنتم به تستعجلون) وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره وبالإستهزاء به..
وقوله تعالى: (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) الأشبه أن تكون الآية متصلة بقوله تعالى: (لكل أمة أجل) الخ. فتكون الآية الأولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكهم إياهم.
والآية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الآخرة. ولا تجزون إلا أعمالكم التي كنتم تكسبونها وذنوبكم التي
____________
(197) سورة النساء، الآية: 123.
لقد استعجلوا العذاب ولله في خلقه شؤون يقول تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) (199) إن العذاب قادم. أما كيف ومتى فهذا في علم الله (فإما نذهبن بك إنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون * فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) (200) (قل رب إما تريني ما يوعدون * رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) (201) اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين. اللهم باعد بيننا وبين القوم الظالمين وصلى الله على نبيك وآله وسلم. لقد استعجلوا العذاب كما أخبر الله تعالى في كتابه في آيات نزلت بمكة واستعجلوه أيضا في آيات نزلت بالمدينة وسيكون لنا حديث آخر مع استعجال العذاب في موضعه بإذن الله تعالى.
3 - الخروج من مكة:
لم يدخر معسكر الانحراف جهدا من أجل الصد عن سبيل الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحث المؤمنين به على الصبر. في مواجهه جحافل الليل المغير تحت قيادة الجبابرة الذين ورثوا من قوم نوح تحقير عباد الله.
ومن عاد الاستكبار بغير الحق. كان معسكر الانحراف يضرب بالسيف وبالحجر وبلسانه. والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يدافع عن نفسه وعن المؤمنين إلا بالكلمة الطيبة وبالوحي. وظلت جحافل الليل تكيد للإسلام. ولكن كيدهم في كل مرة كان يذهب كما تذهب رغوة جوفاء في خلاء واسع عريض. وتحداهم النبي الأعظم كما تحدى هود عليه السلام قومه أن يكيدوا له. لقد سخر منهم ومن قوتهم لأنهم باطل لا يستند إلا على باطل. وعلى أسماعهم تلى قوله تعالى:
(قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون * إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو
____________
(198) الميزان: 75 / 10.
(199) سورة الشعراء، الآيات: 204 - 207.
(200) سورة الزخرف، الآيات: 41 - 43.
(201) سورة المؤمنون، الآيتان: 93 - 94.
وأنا من الصالحين فينصرني ولا محالة. وأما أربابكم الذين تدعون من دونه. فلا يستطيعون نصركم ولا نصر أنفسهم. ولا يسمعون ولا يبصرون فلا قدرة لهم ولا علم (203) وأمام هذا التحدي عجز طابور الانحراف في مكة على إحداث أي ضرر في الدعوة أو الداعية رغم محاولاتهم العديدة. يقول تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (204) قال المفسرون: أذكر أو ليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك. أن يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة: إما أن يحبسوك وإما أن يقتلوك وإما أن يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. والترديد في الآية بين الحبس والقتل والإخراج. بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل أنه كان بينهم شورى. تشاور فيها مع بعضهم بعضا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وما كان يهمهم ويهتمون به من إطفاء نور دعوته (205).
لقد أرادوا أن تخرج هداية الله من بينهم. والله تعالى لا يريد أن تخرج هدايته إلا بعد أن تبلغ حجته عليهم مداها. فكان ما أراد الله ورد الله كيدهم في نحورهم. وبعد أن أقامت الدعوة حجتها عليهم أمر تعالى رسوله بالخروج من مكة مهاجرا هو والذين آمنوا معه.. ليقف الذين مكروا من قبل لإخراج الرسول على أرضية إخراج الرسل. تلك الأرضية التي ينال من يقف عليها عذاب الخزي في الحياة الدنيا والآخرة. يقول تعالى في الطابور الذي أخرج الرسول (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) (206)
____________
(202) سورة الأعراف، الآيات: 195 - 197.
(203) الميزان: 378 / 8.
(204) سورة الأنفال، الآية: 30.
(205) الميزان: 67 / 9.
(206) سورة محمد، الآية: 13.
(أهلكناهم) وفي الآية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وتهديد لأهل مكة وتحقير لأمرهم. فلقد أخبر سبحانه. أنه أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم (207) وفي الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم وكانوا أشد قوة من هؤلاء.
فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة (208) وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج بعد أن رفض معسكر الانحراف الهدى. فإن تلاميذ هذا المعسكر قاموا بوضوح الإسلام في صورة المعتدي من يومه الأول. لم يتبين التلاميذ أن طلائع النهار قد تركوا وراء ظهورهم الأرض والأموال وتركوا جحافل الليل تمتع بما تريد. ولم يفهم التلاميذ أن الله كان يمكن أن يخزي أعداء دينه ويمكن لرسوله في مكة. ولكنه تعالى لم يفعل ذلك لأن صراطه المستقيم يقوم على أن لا إكراه في الدين. لقد رفضوا الدين وعندما أقيمت عليهم الحجة أخرج الرسول من باب الإخراج وليس من باب الخروج. لم يفهم التلاميذ ذلك لأنهم يسيرون في طريق الطمس وطريق القهقري الذي يتجه إلى الآباء وليس فيه علم يرى. بل أهواء يلوكها ذئاب الطابور الأول ثم تتلقفها كلاب الطابور الأخير.
خامسا: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة:
1 - الدعوة في المدينة:
هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بعد أن أخرجه الذين كفروا من مكة بغير حق. وفي المدينة قام ببناء مسجده بعد أن آخا بين المهاجرين والأنصار بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. فلقد قامت المؤاخاة بتذويب جميع الفوارق بين الإنسان وأخيه الإنسان. في المدينة بدأ النبي صلى الله عليه وآله
____________
(207) الميزان 232 / 18.
(208) ابن كثير: 175 / 4.
ونهى عن الاضلال عن سبيل الله والحكم بغير ما أنزل الله. ونهى عن النفاق والظلم إشاعة الفواحش. ونهى عن الغيبة والنميمة والاشتغال بالملاهي. ونهى عن الفتنة وعن التجسس على المسلمين ومحاربة المؤمنين وإيذائهم ونهى عن الرياء وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دون عذر.
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم للنفس الدواء الشافي لها من أمراض الانحراف وكان يرفع عن الفطرة الأحمال الغليظة التي وضعها معسكر الانحراف من خلال ثقافته وتربيته. وبعد أن خاطب النبي كل فرد في أعماق نفسه ودعاه إلى سعادة الحياة وطيب العيش تحت مظلة التوحيد. نادى عليه الصلاة والسلام بالوحدة واعتنى بأمر الاجتماع قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (209) وقال: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) (210) لقد اهتم الإسلام من يومه الأول بالاجتماع. وجعله موضوعا
____________
(209) سورة آل عمران، الآية: 103.
(210) سورة النعام، الآية: 159.
2 - الصد عن سبيل الله:
لم تكف أجهزة ومؤسسات الصد عن سبيل الله عن الكيد للدعوة الإسلامية بعد الهجرة. بل قامت هذه الأجهزة باستعمال أسلحة جديدة للقضاء على دعوة الحق. منها سلاح أهل الكتاب وسلاح النفاق. ولم تكف قريش يوما واحدا عن التحرش بأهل الإسلام من أجل جرهم إلى معركة حربية نظرا لما كانوا يعتقدون بأن المسلمين أمة جديدة لم يشتد ساعدها وعليهم ببتر هذا الساعد قبل أن يشتد ويطيح بخيام الانحراف التي تغذي الأهواء. وأسلحة الصد التي استخدمها معسكر الانحراف كثيرة نكتفي منها بثلاثة:
1 - الصد بالسلاح:
بعد الهجرة بدأت أجهزة الصد في مكة ترصد كل من قال الله ربي. فإذا أوقع في أيديهم إما أن يقتل وإما أن يخرجوه من الديار. كما بدأوا يتحرشون بأهل المدينة فتارة يقطعون طرقهم وتارة يبثون عليهم ما يفتن الناس في دينهم. وبعد أن قطع جبابرة الظلام شوطا كبيرا في هذا المجال. أمر الله تعالى بالحرب. وقال لرسوله في آيات كريمة: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) (211) قال المفسرون: أذن - من جانب الله - للذين يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا - من جانب المشركين - وإن الله على نصرهم لقدير. ثم بين تعالى كونهم مظلومين. وهو أنهم أخرجوا من ديارهم وقد أخرجهم المشركون من
____________
(211) سورة الحج، الآيتان: 39 - 40.
والحرب في الإسلام غيرها تحت أي راية أخرى ففي الإسلام الله هو الذي يأمر والله هو الذي يحدد الأهداف والله هو الذي ينصر من التزم بتعاليمه. أما الرايات الأخرى فالتاريخ يشهد أن القديم كان يحارب من أجل الأهواء والحديث يحارب من أجل الأهواء. أهواء الفرد أو القبيلة أو الحزب والجميع في خدمة أهواء بني إسرائيل الذين ينقبون في الطين عن ميراث مزعوم. والحرب في الإسلام تنطلق من قاعدة واحدة يقول تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (213) قال المفسرون: كون القتال في سبيل الله. لأن الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد. فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم. فالقتال في السلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة وقوله تعالى: (ولا تعتدوا) الاعتداء هو الخروج عن الحد. والنهي عن الاعتداء، مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتدى. كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق. والابتداء بالقتال. وقتل النساء والصبيان. وغير ذلك مما تبينه السنة النبوية (214) فحروب الإسلام لا اعتداء فيها. لأن الذين يقومون بها يقومون من أجل من الدفاع عن الفطرة. الفطرة لا تقبل الاعتداء ولأنهم يدافعون عن الفطرة طالبهم الله تعالى بأن يعدوا لأعدائهم الذين يريدون هدم الفطرة. ما استطاعوا ليرهبوا به عدو الله الذي هو عدوهم.
____________
(212) الميزان: 384 / 14.
(213) سورة البقرة، الآية: 190.
(214) الميزان: 61 / 2.
ومجموع الأمور الستة دستورا حربيا جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية
____________
(215) سورة الأنفال، الآية: 60.
(216) سورة الأنفال، الآيات: 45 - 47.
فأي حرب دفعت راية إسلامية ولم تلتزم في انطلاقها بقانون عدم الاعتداء ولم تأخذ بالأسباب لإعداد ما استطاعت من قوة ولم تلتزم بهذه الأمور الستة هي حرب للأهواء فيها نصيب كبير. ولا تصب نتائجها إلا في وعاء الفتنة والإسلام برئ من كل من ارتكب تحت لافتته الجرائم يريد بها الحياة الدنيا. وبرئ من كل اتهام اتهمه به طابور الانحراف الذي ليس عنده علم يرى. بل ظلمات بعضها فوق بعض. والإسلام كما أوضحنا لم يبدأ بقتال. فالقرآن الكريم في مكة أمر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله سبحانه وتعالى.
ثم نزلت آيات القتال بعد أن خرجت طوابير الانحراف شاهرة أسلحتها. فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم (218) ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب (219) ومنها آيات القتال مع المشركين عامة وهم غير أهل الكتاب (220).
و آيات القتال هي آيات الدفاع عن الفطرة. فالإسلام هو دين التوحيد بناه الله تعالى على أساس الفطرة. ومن أجل هذا فهو القيم على إصلاح الإنسانية فإقامة الإسلام والتحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة. لأنه وحده يمثل الدفاع عن حق الإنسانية في حياتها. فإذا كان في الشرك بالله هلاك الإنسانية وموت الفطرة. فكذلك كانت معارك الإسلام إعادة لحياة الإنسانية وإحيائها بعد الموات ولما كان الإسلام دينا عالميا لا بد أن تصل دعوته إلى بني الإنسان. ولأن العرب هم الطريق إلى العجم والعجم لا يؤمن حتى يؤمن العرب. ولأن العرب لا تؤمن حتى تؤمن قريش. كان لا بد من كسر شوكة قريش التي خرجت بها لتصد عن سبيل الله. و الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في جميع معاركه كان
____________
(217) الميزان: 96 / 9.
(218) سورة الحج، الآية: 40.
(219) سورة التوبة، الآية: 39.
(220) سورة التوبة، الآية: 31.
قاتلوا من كفر بالله. ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيتم عدوكم فادعوهم إلى إحدى ثلاث. فإن أجابوكم إلى واحدة فاقبلوا منهم واكففوا عنهم:
أدعوهم إلى الدخول في الإسلام. فإن فعلوا فاقبلوا منهم واكففوا. ثم أدعوهم إلى التحول إلى دار المهاجرين. فإن فعلوا. فاخبروهم أن لهم. ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية. فإن فعلوا فاقبلوا منهم واكففوا عنهم. فإن أبوا فاستعينوا بالله وقاتلوهم " والرسول الاكرام صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ معركة قط إلا بعد أن يقيم الحجة. ولم يبدأ بحرب قط من دائرة الاعتداء. وفي حربه مع قريش لم يلجأ إلى السلاح في بداية الأمر وإنما رد اعتدائهم بمحاربتهم اقتصاديا بعد الهجرة. فسد عليهم طرق التجارة. رجاء أن يفيئوا إلى أمر الله تعالى. لكن قريش تمادت في الاعتداء.
فكان في السيف دواء. كان السيف ضرورة لا بد منها. لإفساح الطريق أمام الكلمة التي تقيم الحجة على الناس.
وعندما أهلكت الحروب المتعاقبة قريش. اضطروا إلى المعاهدة على ترك القتال. وبعد توفيق معاهدة الحديبية بين المسلمين وقريش. وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجالا لنشر الدعوة الإسلامية. فكتب إلى ملوك العرب والعجم والأساقفة وشيوخ القبائل يدعوهم إلى الله سبحانه. وبث عليه الصلاة والسلام الدعاة في اليمن والبحرين واليمامة وبلاد غسان. وأسلم جمع من العرب والعجم خلال هذه الهدنة. بعد أن علموا أن ما قالته قريش في محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصد عن دعوته ما هو إلا كذب وبهتان وأن مرماه الشريف حقن الدماء وصلة الأرحام ودعوته هي توحيد الله الواحد القهار. وإذا كانت قريش هم أول من رفع السلاح للصد عن سبيل الله فإن اليهود بعد الهجرة لم تكن أيديهم بعيدة عن السلاح. فلقد قاموا بتوجيه معسكر الانحراف نحو السلاح وباركوا خطواته. وروت السيرة الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة وأسلم أكثر الأوس والخزرج. تقبل اليهود فكرة المهادنة بينهم وبين المسلمين والتعاون المشترك لمصلحة الطرفين. وتعاهدوا مع النبي وكتب السيرة تحتوي على نصوص هذه المعاهدة التي وضعها النبي بينه وبين يهود المدينة وجوارها. ولكن اتجاه الإسلام وأهدافه التي تقوم على التآخي والعدالة والمساواة
كما تظاهر فريق منهم بالإسلام وأبطنوا الكفر والنفاق. وبدأ أكثر اليهود يستغلون المناسبات لإثارة الفتن ويسألون النبي عن أشياء بقصد تعجيزه والسخرية منه أحيانا. كما بدأوا يعملون من أجل إحداث فجوات بين المسلمين أنفسهم وانضم إلى اليهود جماعة من المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام وأسروا النفاق (221) وبدأ الكيد اليهودي يتسع شيئا فشيئا. وزجوا بنصارى نجران في ساحة الفتن فراحوا يبشرون بعقيدة المسيح الإله. وكان اليهود يطمعون في إشعال نار الحرب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الملك الذين يقولون بعقيدة المسيح الإله أو المسيح ابن الإله. وعلى الرغم من أن الوحي كان يفضح سياسات اليهود. إلا أنهم كانوا يتمادون في طغيانهم. ونقضوا عهودهم ومواثيقهم التي أبرموها مع رسول الله و اصطفوا أمام الدعوة على خندق واحد. الأمر الذي جعل السيف ضرورة لإفساح الطرق أمام الكلمة الحق التي تقيم الحجة على الناس أجمعين.
وتحركت قوات الإسلام لرد الاعتداء ودكت حصون اليهود في بني قريظة وخيبر. وبني إسرائيل يعلمون أن القتال في سبيل الله إذا حدث. فهو ضرورة تحتمها الفطرة ولأنهم ضد الفطرة. كان لا بد من حملهم على الكف عن الصد. لأن عملهم يفتح الأبواب لضربات الكون و فناء البشر. ومن أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام. من حمل السلاح دفاعا عن الفطرة. وكتب بني إسرائيل تشهد بذلك.
والقرآن يذكر طرفا من هذا. يقول تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير
____________
(221) سيرة المصطفى / هاشم معروف ط دار التعارف.
لقد أزاحت طلائع الإسلام اليهود من الطريق عندما صدوا عن سبيل الله.
فراح تلاميذ اليهود يصفون الإسلام بالبربرية والوحشية ويصفون دعوته بأنها من أجل الامتلاك! إمتلاك أي شئ يغذي الأهواء. والتقط القردة في كل مكان ما قاله تلاميذ اليهود. وراحوا يصفون سيف الفطرة بالعدوان. في الوقت الذي يشيدون فيه بسيف عزرا الذي يبحث عن أرض الميعاد. تلك الأرض التي لا وجود لها إلا في عالم الطمس والقهقري.
2 - الصد بتراث الآباء
في المدينة تاجر الانحراف بما بين أيديه من تراث الآباء. فاليهود راحوا يدعون أنهم أبناء إبراهيم وأن دينهم هو الدين الأحق. والنصارى الذين يقولون بألوهية المسيح ادعوا أن إبراهيم معهم وفي معسكرهم النصراني والمشركين وقفوا بين هؤلاء وهؤلاء. واستقروا في نهاية المطاف على قلوب اليهود وما تحتويه وبالجملة: لم تقف حملات التشكيك بعد الهجرة ففي الآيات المدنية شككوا في القرآن وفي الرسول بنفس الحجج التي نسفها لهم الوحي في مكة. والجديد في الأمر أن حججهم في المدينة كانت عليها بصمات أهل الكتاب مما يدل أن أهل الكتاب في هذه الآونة كانوا يتحركون ويبثون ثقافتهم على الأسماع بانتظام يقول تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم...) (223) قال المفسرون: الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب. ويدل عليه المقابلة التي في الآية السابقة على هذه الآية وهي قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ) إلى قوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) أن أهل الكتاب ألحقهم الله بقولهم بالمشركين والكفار من العرب وألحق المشركين والكفار بهم. فمن قبل اقتراح اليهود بمثل هذه الأقاويل على نبي الله موسى عليه السلام. فهم والكفار متشابهون في أفكارهم وآرائهم يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس. تشابهت
____________
(222) سورة آل عمران، الآية: 146.
(223) سورة البقرة، الآية: 118.
وإذا كان المشركون قد التقطوا من اليهود أهواء آبائهم الأوائل وصدوا بها عن سبيل الله. فأن النصارى الذين أمسكوا بذيل بولس تاجروا أيضا ببضاعة بولس في عهد المدينة المنورة. والجدير بالذكر أن أهل الكتاب في العهد المكي كانوا يتحركون بصورة تكاد تكون خفية. أما في أيام المدينة فلقد برزوا كعضو مؤثر في عالم الصد عن السبيل وهذا يبدو واضحا في عدد الآيات التي كشفت حقدهم وحسدهم وعنادهم ففي المدينة فضحهم الوحي أما في مكة فكان الوحي يقص عليهم قصصهم ويبين لهم كثيرا مما اختلفوا فيه لعلهم يتوبوا إلى الله. وفي عهد المدينة خرجت من نجران قافلة ترفع لافتة المسيح الإله وسارت بهذه اللافتة على أرض التوحيد. وقص الوحي عليهم القول الحق في المسيح عليه السلام.
ولكنهم أبو إلا أن يمسكوا بتراث الآباء الذين يتقدمهم بولس. وأمام هذا الاصرار تلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (225) قال المفسرون:
" الآيات نازلة في الإحتجاج ومتعرضة بشأن وفد نصارى نجران ". ومعنى الآية:
إن مثل عيسى عند الله. أي وصفه الحاصل عنده تعالى. أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده. إن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم.
وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكوينا بشريا من غير أب.
فالبيان بحسب الأحقية منحل إلى حجتين. تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الألوهية عند المسيح عليه السلام:
إحداهما: أن عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه - خلقه بشر وإن فقد الأب. ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا.
وثانيهما: إن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى خلقه أن يقال بألوهيته بوجه. لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه. فوجب أن لا
____________
(224) الميزان: 263 / 1.
(225) سورة آل عمران، الآية: 59.
ولم ينصت حملة التراث للحجة الدامغة. ولم يكن هناك من سبيل إلا وضعهم أمام الموت. بمعنى أن يقف الأطراف ويتلاعنوا ليأخذ الله تعالى الظالم منهم وعلى هذا فالذي على الحق ليس له أن يخاف لأن الردع الإلهي إذا جاء سيأخذ خصمه. وكانت المبادرة بوضع الأطراف أمام الموت مبادرة إسلامية. قال الله تعالى لرسوله: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (227) قال المفسرون: المباهلة والملاعنة. وإن كانت في الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى. إلا أنها عمت الدعوة وشملت الأبناء والنساء. ليكون ذلك أدل على اطمئنان الداعي بصدق دعواه. وأنه على الحق. فالمجئ بالأبناء و النساء فيه أن قلب الإنسان يميل إليهم ويحبهم ويشفق عليهم. ويركب الأهوال والمخاطر في سبيل حمايتهم. ولذلك قدم البناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم. فالمجئ بالأولاد والأحباب فيه تحدي للباطل وبأن الحق واثق من النصر. والنصارى بقبولهم هذا التحدي فإنما يضعون الحاضر والمستقبل فداء الماضي لا يعرفون عنه من كتبهم شيئا وهم في شك مريب من أحداثه. باختصار كان قدومهم بالأطفال والنساء من أجل الدفاع عن تراث الآباء خسارة كبيرة لهم وعندما وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة للمباهلة. جاء رحال النصارى. وكان طرف المحجة عند رسول الله هو قوله: إن الله لا إله غيره وأن المسيح عيسى عبده ورسوله. أما الطرف الآخر من المحجة فكان عند النصارى وهو قولهم: إن عيسى هو الله. أو أنه ابن الله. أو أن الله ثالث ثلاثة. ولقد اتفقت الروايات وأصحاب التفاسير والتاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (228). وأخرج ابن
____________
(226) الميزان: 212 / 3.
(227) سورة آل عمران، الآية: 61.
(228) الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي ورواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل. وأورده ابن جرير في تفسيره وابن كثير (تفسير ابن كثير: 370 / 1.
ودعا النصارى ليلا عنهم. فقال شاب منهم ويحكم أليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا. فانتهوا. وفي رواية أخرى قال لهم أسقف نجران: يا معشر النصارى إني أرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها. فلا تباهلوا فتهلكوا فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك.
وفي رواية قال كبيرهم: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال النبي: وما هو؟
قال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح. فمهما حكمت فينا فهو جائز. فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية (229) وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران. ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير.
ولاضطرم عليهم الوادي نارا. ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر (230).
ثم دعا الإسلام أهل الكتاب إلى كلمة سواء. كلمة عدل يستوي فيها الإنسان صاحب الفطرة السوية وهي أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ولا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا شئ بل يفرد الجميع العبادة لله وحده لا شريك له. فإن رفض أهل الكتاب هذا فهم في طريقهم إلى عالم الطمس لا محالة. وفي حالة الرفض ينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم. إذ لا حجة على الحق وأهله. وأخبرهم الإسلام أن تمسكهم بإبراهيم وطريقته وهم في طريق القهقري لا يدل إلا على الغباء لأن العقل يحكم أن الطهر والنقاء لا مكان له في عالم الرجس والشياطين يقول تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من
____________
(229) الميزان: 234 / 3.
(230) الميزان: 232 / 3.
والخلاصة 6 لقد تاجر الانحراف بالطهر والنقاء. فاليهود قالوا كان إبراهيم يهوديا. أما النصارى فنصرت إبراهيم. وقد جهلوا أن دين الله واحد. وهو الإسلام لله. واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل والأنبياء عليهم السلام بمنزلة بناة هذا البنيان. لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنا عليه من هذا البنيان. لكل منهم موقعه فيما وضعه من جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للإسلام. وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية. هو اسم شعبة من شعب كمال ومراتب تمامه. أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا. بل يكون مسلما حنيفا متلبسا باسم الإسلام. الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما.
والأصل لا تنتسب إلى فرعه. بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه (232).
إن المتاجرة بورقة إبراهيم عليه السلام. كان الهدف منها الوقوف في وجه النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أعلن من يومه الأول أنه على خطى أبيه إبراهيم عليه السلام. لقد رفعوا الأوراق أمام العامة يقولون فيها أنهم الأحق بإبراهيم. وعندئذ قام القرآن بتعريتهم. كي يعلم الخاص والعام. أن المتاجرة
____________
(231) سورة آل عمران، الآيات: 65 - 67.